اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في محاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في محاذاتها ، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة معتبرة.

فإن قيل : الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة ، فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة ، والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائرة إلا أن الدائرة إذا صغرت صغر التّقوّس والانحناء في جميعها ، وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسمها ، بل نرى كل قطعة منها شبيها بالخطّ المستقيم ، فلا جرم صحت الجماعة بصفّ طويل في المشرق والمغرب يزيد طولها على أضعاف البيت ، والكلّ يسمون متوجهين إلى عين الكعبة.

قلنا : هب أن الأمر على ما ذكرتموه ، ولكن القطعة من الدائرة العظيمة ، وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في الحس ، إلا أنها لا بد وأن تكون منحنية في نفسها ؛ لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة ، وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة ، فحينئذ تكون الدّائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتّصل بعضها ببعض ، فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطّا مستقيما ، وكل ذلك محال ، فعلمنا أن كل قطعة من الدائرة الكبيرة فهي في نفسها منحنية ، فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منها مستقبلا لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على خط مستقيم ، بل إذ حصل فيها ذلك الانحناء القليل إلّا أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس ألبتة ، لا يمكن أن يكون في محلّ التكليف ، وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلا بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أو لا؟

فلو كان استقبال عين الكعبة شرطا لكان حصول هذا الشرط مجهولا للكلّ والشّك في حصول الشرط يقتضي الشّك في حصول المشروط ، فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكّا في صحة صلاته ، وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العهدة ألبتة.

وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علما ولا ظنّا ، وهذا كلام بيّن.

الثاني : أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجبا لا سبيل إليه إلّا بالدلالة الهندسية ، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجبا على كل واحد ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب.

فإن قيل : عندنا استقبال عين الجهة واجب ظنّا لا يقينا ، والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقينا لا ظنّا.

قلنا : لو كان استقبال عين الكعبة واجبا لكان القادر على تحصيل اليقين ، لا يجوز له الاكتفاء بالظن ، والقادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية ، فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل ، ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب.

٤١

الثالث : لو كان استقبال العين واجبا إما علما أو ظنّا ، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الأمارات ، وما لا يتأدّى الواجب إلّا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الأمارات فرض عين على كل واحد من المكلفين ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال العين غير واجب.

فصل في وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة

دلّ قوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) على وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة في الصلاة وغيرها ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : «خير المجالس ما استقبل به القبلة» خرج منه الصلاة حال المسايفة ، والخوف ، والمطلوب والخائف والهارب من العدود ، ويبقى فيما عداه على مقتضى الدليل.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) تكرار لقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

فالجواب : أن هذا ليس بتكرار ، وبيانه من وجهين :

أحدهما : أن قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) خطاب مع الرسول ـ عليه‌السلام ـ لا مع الأمة.

وقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) خطاب مع الكل.

وثانيهما : أن المراد بالأولى مخاطبتهم ، وهم ب «المدينة» خاصة ، وقد كان من الجائز لو وقع الاقتصار عليه أن يظن أن هذه القبلة لأهل «المدينة» خاصة ، فبيّن الله تعالى أنهم أينما حصلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة.

[قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

قال السّدّي : هم اليهود خاصة ، والكتاب : التوراة (١).

وقال غيره : أحبار اليهود ، وعلماء النصارى ؛ لعموم اللفظ ، والكتاب التوراة والإنجيل.

فلا بد أن يكون عددا قليلا ؛ لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان](٢).

قوله تعالى : (أَنَّهُ الْحَقُّ) يحتمل أن تكون «أن» واسمها وخبرها سادّة مسدّ المفعولين ل «يعلمون» عند الجمهور ، ومسدّ أحدهما عند الأخفش ، والثاني محذوف على أنها تتعدى لاثنين ، وأن تكون سادّة مسد مفعول واحد على أنها بمعنى العرفان. وفي الضمير ثلاثة أقوال :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٨٣) عن السدّي.

(٢) سقط في ب.

٤٢

أحدها : يعود على التولّي المدلول عليه بقوله : «فولّوا».

والثاني : على الشطر.

والثالث : على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [أي : يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوّته حقّ](١) ويكون على هذا التفاتا من خطابه بقوله : «فلنولّينّك» إلى الغيبة.

[قوله تعالى : (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف على أنه حال من الحق ، أي كائنا من ربهم](٢).

فصل في كيفية معرفة أهل الكتاب

اختلفوا في كيفية معرفتهم فذكروا فيه وجوها :

أحدها : أن قوما من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول ، وخبر القبلة ، وأنه يصلي إلى القبلتين.

وثانيها : أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله ـ تعالى ـ قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام.

وثالثها : أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ظهر عليه من المعجزات ، ومتى علموا نبوته ، فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق ، فكان هذا التحويل حقّا.

قوله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) تقدم معناه.

وقرأ ابن عامر (٣) وحمزة والكسائي «تعملون» بالتاء على الخطاب للمسلمين وهو الظاهر أو ل «للذين» على الالتفات تحريكا لهم وتنشيطا ، والباقون بالغيبة ردّا على الذين أوتوا الكتاب ، أو ردّا على المؤمنين ، ويكون التفاتا من خطابهم بقوله : «وجوهكم ـ كنتم» فإن جعلناه خطابا للمسلمين ، فهو وعد لهم ، وبشارة أي : لا يخفى عليّ جدّكم واجتهادكم في قبول الدين ، فلا أخل بثوابكم.

وإن جعلناه كلاما مع اليهود ، فهو وعيد وتهديد لهم ، ويحتمل أيضا أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم ، وإن لم يعجلها لهم ، كقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) [إبراهيم : ٤٢].

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(١٤٥)

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ) فيه قولان :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) انظر حجة القراءات : ١١٧ ، والعنوان : ٧٢ ، وإتحاف : ٤٢٣ ، وشرح شعلة : ٢٧٩ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٧٣.

٤٣

أحدهما : قول سيبويه وهو أن «اللام» هي الموطّئة للقسم المحذوف ، و «إن» شرطية ، فقد اجتمع شرط وقسم ، وسبق القسم ، فالجواب له إذ لم يتقدمهما ذو خبر (١) ، فلذلك جاء الجواب للقسم ب «ما» النافية وما بعدها ، وحذف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مسده ، ولذلك جاء فعل الشرط ماضيا ؛ لأنه متى حذف الجواب وجب مضيّ فعل الشرط إلا في ضرورة ، و «تبعوا» وإن كان ماضيا لفظا فهو مستقبل معنى أي : ما يتبعون لأن الشرط قيد في الجملة والشرط مستقبل ، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلا ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطا في الماضي.

الثاني : وهو قول الفراء (٢) ، وينقل أيضا عن الأخفش (٣) والزجاج (٤) أن «إن» بمعنى «لو» ، ولذلك كانت «ما» في الجواب ، وجعل «ما تبعوا» جوابا ل «إن» لأنها بمعنى «لو».

أما إذا لم تكن بمعناها ، فلا تجاب ب «ما» وحدها ، بل لا بد من الفاء ، تقول : إن تزرني فما أزورك.

ولا يجيز الفراء : «ما أزورك» بغير فاء.

وقال ابن عطية (٥) : وجاء جواب «لئن» كجواب «لو» ، وهي ضدها في أنّ «لو» تطلب المضي والوقوع ، و «إن» تطلب الاستقبال ؛ لأنهما جميعا يترتب قبلهما القسم ، فالجواب إنما هو للقسم ؛ لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر هذا قول سيبويه.

قال أبو حيان (٦) : هذا فيه تثبيج ، وعدم نصّ على المراد ؛ لأن أوله يقتضي أن الجواب ل «إن» ، وقوله بعد : الجواب للقسم يدل على أنه ليس ل «إن» ، وتعليله بقوله : لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر لا يصلح علة لكون «ما تبعوا» جوابا للقسم ، بل لكونه جوابا ل «إن».

وقوله : «قول سيبويه» ليس في كتاب سيبويه ذلك ، إنما فيه أن «ما تبعوا» جواب القسم ، ووقع فيه الماضي موقع المستقبل.

__________________

(١) مذهب البصريين : إذا اجتمع شرط وقسم ، حذف جواب المتأخر منهما ؛ لدلالة جواب الأول عليه ، إلا إذا تقدم عليهما ذو خبر ، رجّح الشرط مطلقا خلافا لابن مالك ، والفراء في إجازة ذلك ، والأول هو الذي عليه البصريون ، وما استدل به ابن مالك والفراء عندهم من قبيل ضرورة الشعر ، أو اللام من قوله : «لئن» في قول الشاعرة :

لئن كان ما حدثته اليوم صادقا

أصم في نهار القيظ للشمس باديا

زائدة لا موطئة للقسم.

انظر التصريح على التوضيح (٢ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤) ، شرح المفصل : (٧ / ٥٧ ـ ٥٨) شرح ابن عقيل (٢ / ٣٨٢) ، الكتاب : (١ / ٤٥٦) ، البسيط شرح الجمل : (٢ / ٩١٦).

(٢) ينظر معاني القرآن : ١ / ٨٤.

(٣) ينظر معاني القرآن : ١ / ١٥١.

(٤) ينظر معاني القرآن : ١ / ٢٠٥.

(٥) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٢٢.

(٦) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٠٥.

٤٤

قال سيبويه وقالوا : لئن فعلت ما فعل ، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل.

وتلّخص مما تقدم أن قوله : «ما تبعوا» فيه قولان :

أحدهما : أنه جواب للقسم سادّ مسدّ جواب الشرط ، ولذلك لم يقترن بالفاء.

والثاني : أنه جواب ل «إن» إجراء لها مجرى «لو».

وقال أبو البقاء : «ما تبعوا» أي : لا يتبعوا فهو ماض في معنى المستقبل ، ودخلت «ما» حملا على لفظ الماضي ، وحذفت الفاء في الجواب ؛ لأن فعل الشرط ماض.

وقال الفراء : «إن» هنا بمعنى «لو».

وهذا من أبي البقاء يؤذن أن الجواب للشرط وإنما حذفت الفاء لكون فعل الشرط ماضيا ، وهذا منه غير مرض ؛ لأنه خالف البصريين والكوفيين بهذه المقالة.

فصل في المراد بالآية

قال الأصم : المراد من الآية علماؤهم الذين أخبر عنهم في الآية الكريمة المتقدمة بقوله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ١٤٤] ؛ لأن الآية الكريمة لا تتناول العوام ، ولو كان المراد الكل لامتنع الكتمان ؛ لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكتمان ، ولأنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذبا ؛ لأن كثيرا من أهل الكتاب آمن بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتبع قبلته.

وقال آخرون : بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ؛ لأن الذين أوتوا الكتاب صيغة عموم ، فيتناول الكل.

فصل في لفظ «آية»

«الآية» : وزنها «فعلة» أصلها : «أيية» ، فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفا لانفتاح ما قبلها.

والآية : الحجّة والعلامة ، وآية الرجل : شخصه ، وخرج القوم بآيتهم أي : جماعتهم.

وسميت آية القرآن بذلك ؛ لأنها جماعة حروف. وقيل : لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها.

وقيل : لأنها دالّة على انقطاعها عن المخلوقين ، وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى.

فصل في سبب نزول هذه الآية

روي أن يهود «المدينة» ، ونصارى «نجران» قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم ومجد

٤٥

وبجل وعظم : ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.

قال ابن الخطيب : «والأقرب أن هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة ، بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة».

قوله : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ).

«ما» تحتمل الوجهين أعني : كونها حجازية ، أو تميمية : فعلى الأول يكون «أنت» مرفوعا بها ، و «بتابع» في محلّ نصب.

وعلى الثاني يكون مرفوعا بالابتداء ، و «بتابع» في محلّ رفع ، وهذه الجملة معطوفة على جملة الشرط ، وجوابه لا على الجواب وحده ، إذ لا يحل محله ؛ لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيدا في نفي تبعيته قبلتهم ، وهذه الجملة أبلغ في النفي من قوله : (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) من وجوه :

أحدها : كونها اسمية متكرر فيها الاسم ، مؤكد نفيها بالباء.

ووحّد القبلة وإن كانت مثناة : لأن لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة أخرى لأحد وجهين :

إما لاشتراكهما في البطلان صارا قبلة واحدة ، وإما لأجل المقابلة في اللفظ ؛ لأن قبله : (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ).

وقرىء : «بتابع قبلتهم» بالإضافة تخفيفا ؛ لأن اسم الفاعل المستكمل لشروط العمل يجوز فيه الوجهان.

واختلف في هذه الجملة : هل المراد بها النهي أي : لا تتبع قبلتهم ، ومعناه : الدوام على ما أنت عليه ؛ لأنه معصوم من اتباع قبلتهم ، أو الإخبار المحض بنفي الاتّباع ، والمعنى أن هذه القبلة لا تصير منسوخة ، أو قطع رجاء أهل الكتاب أن يعود إلى قبلتهم؟

قولان مشهوران.

قوله : (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ).

قال القفال : هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال.

أما على الحال فمن وجوه :

الأول : أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها.

الثاني : أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة ، فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك ، مع أنهم فيما بينهما مختلفون.

الثالث : أن هذا إبطال لقولهم : إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب ؛ لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث.

٤٦

وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله : (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر ، لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف ، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان ، فلم يثبت عندنا أن أحدا منهم تبع قبلة الآخر ، فالخلف غير لازم.

وإن حملناه على الكل قلنا : إنه عامّ دخله التخصيص.

قوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) كقوله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ).

وقوله : «إنّك» جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف كما تقدم في نظيره.

قال أبو حيان : لا يقال : إنه يكون جوابا لهما لامتناع ذلك لفظا ومعنى.

أما المعنى فلأن الاقتضاء مختلف ، فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه ؛ لأن القسم إنما جيء به توكيدا للجملة المقسم عليها ، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملا ، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه ، فتكون الجملة في موضع جزم ، وعمل الشرط لقوة طلبه له.

وأما اللفظ فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم لم تحتج إلى مزيد رابط ، فإذا كانت جواب شرط احتاجت إلى مزيد رابط وهو الفاء ، ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها ، فلذلك امتنع أن تكون جوابا لهما معا.

فصل في الهوى

الهوى المقصور : هو ما يميل إليه الطبع [وقيل : هو شهوة نتجت عن شبهة ، والممدود هو الجو](١).

اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب.

قال بعضهم : الرسول.

وقال بعضهم : الرسول وغيره.

وقال آخرون : بل غيره ؛ لأنه ـ تعالى ـ عرف أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يفعل ذلك ، فلا يجوز أن يخصّه بهذا الخطاب ، وهذا خطأ من وجوه :

أحدها : أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب ألا ينهاه عنه ، لكان ما علم أن يفعله وجب ألا يأمره به ، وذلك يقتضي ألا يكون النبي مأمورا بشيء ، ولا منهيّا عن شيء ، وإنه بالاتفاق باطل.

وثانيها : لو لا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عنه فلما كان ذلك الاحتراز

__________________

(١) سقط في ب.

٤٧

مشروطا بذلك النهي والتحذير ، فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافيا للنهي والتحذير.

وثالثها : أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذاك في العقل ، فيكون الغرض منه التأكيد ، ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعدما قرّرها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل ، فأي بعد في مثل هذا الغرض هاهنا.

ورابعها : قوله تعالى في حق الملائكة : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩] مع أنه ـ تعالى ـ أخبر عن عصمتهم في قوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [النحل : ٥٠] وقال في حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥].

والإجماع على أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك ، وما مال إليه ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ١] وقال : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧] ، وقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤].

فثبت بما قلنا أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ منهي عن ذلك وأن غيره أيضا منهي عنه ؛ لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواصّ الرسول عليه الصلاة والسلام.

بقي أن يقال : فلم خصه بالنهي دون غيره؟

فنقول فيه وجوه :

أحدها : أن كل من كان نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب منه أقبح ، فكان أولى بالتخصيص.

وثانيها : أن مزيد الحبّ يقتضي التخصيص بمزيد التحذير.

وثالثها : أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم ، فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده ، فإنه يكون منبها بذلك على عظم ذلك الفعل إن ارتكبوه ، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية.

القول الثاني : أن قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) ليس المراد منه إن اتبع أهواءهم في كل الأمور ، فلعله ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم ، مثل ترك المخاشنة في القول والغلظة في الكلام ، طمعا منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في استمالتهم ، فنهاه الله ـ تعالى ـ عن ذلك القدر أيضا ، وآيسه منهم بالكلية على ما قال : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٤].

القول الثالث : أن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره ، وهذا كما أنك إذا عاتبت [إنسانا أساء عبده إلى عبدك فتقول له : لو فعلت مرة أخرى مثل](١) هذا الفعل لعاقبتك عليه عقابا شديدا ، فكان الغرض منه زجر العبد.

__________________

(١) في أ : بأنني عبد إنسان ، فيقول لسيده : إن فعلت.

٤٨

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).

إنه ـ تعالى ـ لم يرد بذلك أنه نفس العلم ، بل المراد الدّلائل والآيات والمعجزات ؛ لأن ذلك من طرق العلم ، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثّر ، والغرض من هذه الاستعارة هو المبالغة [والتعظيم في](١) أمر النبوات والمعجزات بأنه سمّاها باسم العلم ، وذلك ينبّهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة ، ودلّت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشدّ من توجّهه على غيرهم.

[قوله تعالى : (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إنّك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم ، وظلمهم أنفسهم](٢).

و «إذا» حرف جواب وجزاء بنص سيبويه ، وتنصب المضارع بثلاثة شروط :

أن تكون صدرا ، وألا يفصل بينها وبين الفعل بغير الظرف والقسم ، وألا يكون الفعل حالا ، ودخلت هنا بين اسم «إن» وخبرها لتقرير النسبة بينهما وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر ، فلم تتقدم ، لأنه سبق قسم وشرط والجواب هو للقسم ، فلو تقدمت لتوهّم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف ، ولم تتأخر لئلا تفوت مناسبة الفواصل رؤوس الآي.

قال أبو حيان : وتحرير معنى «إذا» صعب اضطراب الناس في معناها ، وفي فهم كلام سيبويه فيها ، وهو أن معناها الجواب والجزاء.

قال : والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام ، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظا أو تقديرا ، وما بعدها في اللفظ أو التقدير ، وإن كان متسببا عما قبلها فهي في ذلك على وجهين :

أحدهما : أن تدلّ على إنشاء الارتباط والشرط ، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها ، مثال ذلك : أزورك فتقول : إذا أزورك ، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطا لفعلك ، وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب ، وبالفعلية في زمان مستقبل ، وفي هذا الوجه تكون عاملة ، ولعملها شروط مذكورة في النحو.

الوجه الثاني : أن تكون مؤكّدة لجواب ارتبط بمقدم ، أو منبّهة على مسبب حصل في الحال ، وهي في الحالين غير عاملة ؛ لأن المؤكدات لا يعتمد عليها والعامل يعتمد عليه ، وذلك ، نحو : «إن تأتني إذا آتك» ، و «والله إذا لأفعلن» فلو أسقطت «إذا» لفهم الارتباط ، ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو : «أزورك» فتقول : «إذا أنا أكرمك» ، وجاز توسطها نحو : «أنا إذا أكرمك» وتأخرها ، وإذا تقرر هذا فجاءت «إذا» في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم ، وإنما

__________________

(١) في أ : في تعظيم.

(٢) سقط في ب.

٤٩

قررت معناها هنا ؛ لأنها كثيرة الدور في القرآن ، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه انتهى كلامه.

واعلم أنها إذا تقدمها عاطف جاز إعمالها وإهمالها ، وهو الأكثر ، وهي مركبة من «همزة وذال ونون» ، وقد شبهت العرب نونها بتنوين المنصوب قلبوها في الوقف ألفا ، وكتبوها في الكتاب على ذلك ، وهذا نهاية القول فيها.

وجاء في هذا المكان «من بعد ما جاءك» وقال قبل هذا : (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ) [لبقرة : ١٢٠] وفي «الرعد» : (بَعْدِ ما جاءَكَ) [الرعد : ٣٧] فلم يأت ب «من» الجارة إلا هنا ، واختص موضعا ب «الذى» ، وموضعين ب «ما» ، فما الحكمة في ذلك؟ والجواب : ما ذكره بعضهم وهو أن «الذي» أخص و «ما» أشد إبهاما ، فحيث أتي ب «الذي» أشير به إلى العلم بصحّة الدين الذي هو الإسلام المانع من ملّتي اليهود والنصارى ، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه ؛ لأنه علم بكل أصول الدين ، وحيث أتي بلفظ «ما» أشير به إلى العلم [بركنين](١) من أركان الدين ، أحدهما : القبلة ، والآخر : بعض الكتاب ؛ لأنه أشار إلى قوله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) [الرعد : ٣٦].

قال : وأما دخول «من» ففائدته ظاهرة ، وهي بيان أول الوقت الذي وجب عليه ـ عليه‌السلام ـ أن يخالف أهل الكتاب في قبلتهم ، والذي يقال في هذا : إنه من باب التنوع في البلاغة.

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(١٤٧)

في (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) : ستة أوجه :

أظهرها : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر قوله : «يعرفونه».

الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين آتيناهم.

الثالث : النصب بإضمار «أعني».

الرابع : الجر على البدل من «الظّالمين».

الخامس : على الصفة للظالمين.

السادس : النصب على البدل من (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) في الآية قبلها.

قوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر ل (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) كما تقدم في أحد الأوجه المذكورة في (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ).

الثاني : أنه نصب على الحال على بقية الأقوال المذكورة.

__________________

(١) في ب : بركن.

٥٠

وفي صاحب الحال وجهان :

أحدهما : المفعول الأول ل «آتيناهم».

والثاني : المفعول الثاني وهو الكتاب ؛ لأن في «يعرفونه» ضميرين يعودان عليهما ، والضمير في «يعرفونه» فيه أقوال :

أحدها : أنه يعود على «الحق» الذي هو التحول ، وهو قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقتادة والربيع وابن زيد.

الثاني : على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم وبجل وعظّم ؛ أي : يعرفونه معرفة جليّة كما يعرفون أبناءهم لا تشتبه أبناؤهم وأبناء غيرهم (١).

روي عن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه سأل عبد الله بن سلام ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : أنا أعلم به مني بابني ، قال : ولم؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي ، وأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبّل عمر رأسه (٢).

وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر ؛ لأن الكلام يدل عليه ، ولا يلتبس على السامع ، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام.

قالوا : وهذا القول أولى من وجوه :

أحدها : أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق ، وأقرب المذكورات العلم في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).

والمراد من ذلك العلم : النبوة ، فكأنه تعالى قال : إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم ، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة.

وثانيها : أن الله ـ تعالى ـ ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل ، وأخبر فيه أن نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم مذكورة في التوراة والإنجيل ، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوّة أولى.

وثالثها : أن المعجزات لا تدلّ أوّل دلالتها إلا على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظّم ، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوّة أولى.

وعلى هذا القول أسئلة.

السؤال الأول : أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من أمر القبلة.

__________________

(١) الأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٧٠) عن قتادة ، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس ؛ كما ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٧١).

٥١

والجواب : أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن اتّباع اليهود والنصارى بقوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٠] أخبر المؤمنين بحاله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في هذه الآية فقال : اعلموا يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمدا ، وما جاء به وصدقه ودعوته وقبلته لا يشكّون فيه كما لا يشكون في أبنائهم.

السؤال الثاني : هذه الآية نظيرها قوله تعالى : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] وقال : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] إلا أنّا نقول : من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم ، وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل : إما أن يكون قد أتى مشتملا على التفصيل التام ، وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخلقة والنّسب والقبيلة ، أو هذا الوصف ما أتى من هذا النوع من التفصيل ، فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين ، من البلد المعين ، من القبيلة المعينة على الصفة المعينة معلوما لأهل المشرق والمغرب ؛ لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب ، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك.

وأما القسم الثاني : فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنا نقول : هب أن التوراة اشتملت على أن رجلا من العرب سيكون نبيّا إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهيا في التفصيل إلى حدّ اليقين ، لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والجواب : أن هذا الإشكال إنما يتوجّه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه ، ونحن لا نقول به ، بل نقول : إنه ادّعى النبوة ، وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبيا صادقا ، فهذا برهان ، والبرهان يفيد اليقين ، فلا جرم كان العلم بنبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أقوى وأظهر من العلم بنبوّة الأبناء ، وأبوة الآباء.

السؤال الثالث : فعلى هذا الوجه الذي قرّرتموه كان العلم بنبوة محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ علما برهانيا ، غير محتمل للغلط.

أما العلم بأن هذا ابني فذلك ليس علما يقينيا ، بل ظن ومحتمل للغلط ، فلم شبه اليقين بالظن؟

والجواب : ليس المراد أن العلم بنبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يشبه العلم بنبوّة الأبناء ، بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم ، فكما أن الأب يعرف شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره فكذا هاهنا ، وعند هذا يستقيم التشبيه ، لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري ، وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة.

السؤال الرابع : لم خص الأبناء بالذكر دون البنات.

٥٢

الجواب : لأن الذكور أعرف وأشهر ، وهم بصحبة الآباء ألزم ، وبقلوبهم ألصق.

والضمير في «يعرفونه» يعود على القرآن الكريم.

وقيل : على العلم.

وقيل : على البيت الحرام.

[ويعود الضمير إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم. وهو رأي الزمخشري ، واختاره الزّجاج وغيره ، وقال أبو حيان : هذا من باب الالتفات من الخطاب في قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ) إلى الغيبة](١).

قوله : (كَما يَعْرِفُونَ) «الكاف» في محل نصب إما على كونها نعتا لمصدر محذوف أي : معرفة كائنة مثل معرفتهم أبناءهم ، أو في موضع نصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المعرفة المحذوف ، التقدير : يعرفونه معرفة مماثلة لعرفانهم ، وهذا مذهب سيبويه وتقدم تحقيق هذا. و «ما» مصدرية لأنه ينسبك منها ومما بعدها مصدر كما تقدم تحقيقه.

قوله تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٤٦].

اعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول ، فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه ، ومنهم من بقي على كفره ، ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق ، وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره ، لا جرم قال الله تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً [مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فوصف البعض بذلك ، ودلّ بقوله](٢) : (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) على سبيل الذّم ، على أنّ كتمان الحقّ في الدين محظور إذا أمكن إظهاره ، واختلفوا في المكتوم ، فقيل : أمر محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقيل : أمر القبلة كما تقدم.

قوله تعالى : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة اسمية في محلّ نصب على الحال من فاعل «يكتمون» ، والأقرب فيها أن تكون حالا مؤكدة ؛ لأن لف ظ «يكتمون الحق» يدل على علمه ، إذ الكتم إخفاء ما يعلم وقيل : متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب ، أي : وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق ، فتكون إذ ذاك حالا مبينة ، وهذا ظاهر في أن كفرهم كان عنادا ، ومثله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤].

قوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده ، وفي الألف واللام حينئذ وجهان :

أحدهما : أن تكون للعهد ، والإشارة إلى الحق الذي عليه الرسول ـ عليه‌السلام ـ أو إلى الحق الذي في قوله : «يكتمون الحقّ» أي : هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك ، وأن تكون للجنس على معنى الحق من الله لا من غيره.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : فبعض الوصف ودل قوله.

٥٣

الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الحق من ربك ، والضمير يعود على الحق المكتوم أي : ما كتموه هو الحق.

الثالث : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره : الحق من ربك يعرفونه ، والجار والمجرور على هذين القولين في محلّ نصب على الحال من «الحقّ» ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر في الوجه الثاني.

وقرأ علي (١) بن أبي طالب : «الحقّ من ربّك» نصبا ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على البدل من الحق المكتوم ، قاله الزمخشري (٢).

الثاني : أن يكون منصوبا بإضمار «الذم» ، ويدل عليه الخطاب بعده في قوله : (فَلا تَكُونَنَّ).

الثالث : أنه يكون منصوبا ب «يعلمون» قبله ، وذكر هذين الوجهين ابن عطية ، وعلى هذا الوجه الأخير يكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر ، أي : وهم يعلمونه كائنا من ربك ، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل نحو : [الخفيف]

٨٣٧ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

 ..........(٣)

والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن نفس الصفة ، فلذلك جاء التنزيل عليه : نحو (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَفَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥] دون : لا تمتر ولا تجهل ونحوه وتقرير ذلك أن قوله : «لا تكن ظالما» نهي عن الكون بهذه الصفة ، والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن تلك الصفة ؛ إذ النهي عن الكون على صفة يدلّ على عموم الأكوان المستقبلة عن تلك الصفة ، والمعنى لا تظلم في كل أكوانك ، أي : في كل فرد فرد من أكوانك فلا يمرّ بك وقت يوجد منك فيه ظلم ، فيصير كأن فيه نصا على سائر الأكوان ، بخلاف: لا تظلم ، فإنه يستلزم الأكوان ، وفرق بين ما يدلّ دلالة بالنص وبين ما يدل دلالة بالاستلزام و «الامتراء» : افتعال من المرية وهي الشك ، ومنه المراء. قال : [الطويل]

٨٣٨ ـ فإيّاك إيّاك المراء فإنّه

إلى الشّرّ دعّاء وللشّرّ جالب (٤)

__________________

(١) انظر الشواذ ص ١٠ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٢٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٦١٠ ، والدر المصون : ١ / ٤٠٤.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٣) تقدم برقم (٥٢٠).

(٤) البيت للفضل بن عبد الرحمن ينظر إنباه الرواة : ٤ / ٧٦ ، وخزانة الأدب : ٣ / ٦٣ ، ومعجم الشعراء : ص ٣١٠ ، وله أو للعرزمي في حماسة البحتري : ص ٢٥٣ ، وينظر أمالي ابن الحاجب : ص ٦٨٦ ، وأوضح المسالك : ٣ / ٣٣٦ ، والخصائص : ٣ / ١٠٢ ، ورصف المباني : ص ١٣٧ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٤٠٩ ، وشرح التصريح : ٢ / ١٢٨ ، وشرح المفصل : ٢ / ٢٥ ، والكتاب : ١ / ٢٧٩ ، وكتاب اللامات : ص ٧٠ ، ولسان العرب : (أيا) ، ومغني اللبيب : ص ٦٧٩ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ١١٣ ، ٣٠٨ ، والمقتضب : ٣ / ٢١٣ ، والدر المصون : ١ / ٤٠٤.

٥٤

و «ماريته» : جادلته وشاكلته فيما يدعيه ، و «افتعل» فيه بمعنى «تفاعل» ، يقال : تماروا في كذا ، وامتروا فيه نحو : تجاوروا ، واجتوروا.

وقال الراغب (١) : المرية : التردّد في الأمر ، وهي أخصّ من الشّك ، والامتراء والمماراة المحاجّة فيما فيه مرية ، وأصله من مريت النّاقة إذا مسحت ضرعها للحلب.

ففرق بين المرية والشّك كما ترى ، وهذا كما تقدم له الفرق بين الرّيب والشّك.

وأنشد الطبري قول الأعشى : [الطويل]

٨٣٩ ـ تدرّ على أسؤق الممتري

ن ركضا إذا ما السّراب ارجحن (٢)

شاهدا على أن الممترين الشاكون.

قال : ووهم في ذلك ؛ لأن أبا عبيدة وغيره قالوا : الممترون في البيت هم الذين يمرّون الخيل بأرجلهم همزا لتجري كأنهم يتحلبون الجري منها.

[فصل فيمن نزلت فيه الآية

قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) قال الحسن : من الذين علموا صحة نبوتك وإن بعضهم عاندوكم (٣).

وقيل : بل يرجع إلى أمر القبلة.

وقيل : بل يرجع إلى صحة نبوته وشرعه ، وهو أقرب ؛ لأن أقرب مذكور إليه قوله : (مِنْ رَبِّكَ) ؛ وظاهره يقتضي النبوة ، فوجب أن يرجع إليه ، ونهيه عن الامتراء لا يدلّ على أنه كان شاكا فيه كما تقدم القول في هذه المسألة](٤).

قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٤٨)

جمهور القراء على تنوين «كلّ» ، وتنوينه للعوض من المضاف إليه ، والجار خبر مقدم ، و «وجهة» مبتدأ مؤخر.

واختلف في المضاف إليه «كل» المحذوف.

فقيل : تقديره : ولكل طائفة من أهل الأديان [يعني : أن الله يفعل ما يعلمه صلاحا ، فالجهات من الله تعالى وهو الذي ولّى وجوه عباده إليها فانقادوا لأمر الله تعالى ، فإن انقيادكم خيرات لكم ، ولا تلتفتوا إلى طعن هؤلاء ، وقولهم : «ما ولّاهم عن قبلتهم أي التي كانوا عليها» فإن الله يجمعهم وإياكم في القيامة](٥).

__________________

(١) ينظر المفردات : ٤٨٦.

(٢) تقدم برقم (٨٣٩).

(٣) انظر التفسير الكبير للفخر الرازي : (٤ / ١١٨).

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

٥٥

وقيل : ولكل أهل موضع من المسلمين وجهته إلى جهة الكعبة يمينا وشمالا ووراء وقدّام [فهي كجهة واحدة ، ولا يخفى على الله نيّاتهم ؛ فهو يحشرهم جميعا ويثيبهم على أعمالهم](١). وفي «وجهة» قولان :

أحدهما : ويعزى للمبرد ، والفارسي ، والمازني في أحد قوليه : أنها اسم المكان المتوجه إليه ، وعلى هذا يكون إثبات «الواو» قياسا إذ هي غير مصدر.

قال سيبويه ولو بنيت «فعلة» من الوعد لقلت : وعدة ، ولو بنيت مصدرا لقلت : عدة.

والثاني : أنه مصدر ، ويعزى للمازني ، وهو ظاهر كلام سيبويه ، فإنه قال بعد ذكر حذف «الواو» من المصادر : «وقد أثبتوا فقالوا : وجهة في الجهة» وعلى هذا يكون إثبات «الواو» شاذّا منبهة على ذلك الأصل المتروك في «عدة» ونحوها ، والظاهر أن الذي سوغ إثبات «الواو» وإن كانت مصدرا أنها مصدر جاءت على حذف الزوائد ؛ إذ الفعل المسموع من هذه المادة توجّه واتّجه ، ومصدرهما التوجه والاتجاه ، ولم يسمع في فعله : «وجه يجه» ك «وعد يعد» ، وكان الموجب لحذف «الواو» من عدة وزنة الحمل على المضارع لوقوع الواو بين ياء وكسرة ، وهنا لم يسمع فيه مضارع يحمل مصدره عليه ، فلذلك قلت : إن «وجهة» مصدر على حذف الزوائد ل «توجه» أو «اتجه» ، وقد ألم أبو البقاء بشيء من هذا.

قال القرطبي : الوجهة وزنها فعلة من المواجهة.

والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد ، والمراد القبلة ، أي : أنهم لا يتبعون قبلتك ، وأنت لا تتبع قبلتهم ، ولكل وجهة : إما بحق ، وإما بهوى.

فصل في لفظ الوجه

قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ الوجه في القرآن الكريم على أربعة أضرب :

الأول : بمعنى الملّة ، قال تبارك وتعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) أي : ملّة.

الثاني : بمعنى الإخلاص في العمل ، قال تعالى : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) [الأنعام : ٧٩] أي : أخلصت عملي ، ومثله : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [النساء : ١٢٢] أي : أخلص عمله لله.

الثالث : بمعنى الرّضا ، قال تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام : ٥٢] أي : رضاه ، ومثله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) [الكهف : ٢٨] الآية الكريمة ، ومثله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) [الروم : ٢٩] أي : رضاه.

__________________

(١) سقط في ب.

٥٦

الرابع : الوجه هو الله تعالى كقوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] ، ومثله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩] ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أي : إلّا إياه.

قوله تعالى : (هُوَ مُوَلِّيها) جملة من مبتدأ وخبر في محلّ رفع ؛ لأنها صفة ل «وجهة» [وهي قراءة الجمهور](١) واختلف في «هو» على قولين :

أحدهما : أنه يعود على لفظ «كلّ» لا على معناها ، ولذلك أفرد [قال القرطبي : ولو كان على المعنى لقال : هم مولوها وجوههم فالهاء والألف مفعول أول](٢). والمفعول الثاني محذوف لفهم المعنى تقديره : هو موليها وجهه أو نفسه ، ويؤيد هذا قراءة ابن عامر (٣) : «مولّاها» على ما لم يسم فاعله.

والثاني : أنه يعود على الله ـ تعالى ـ أي : الله مولّي القبلة إياه ، أي ذلك الفريق.

وقرأ الجمهور : «موليها» على اسم فاعل ، وقد تقدم أنه حذف أحد مفعوليه ، وقرأ ابن عامر ـ ويعزى لابن عباس ـ «مولّاها» على اسم المفعول ، وفيه ضمير مرفوع قائم مقام الفاعل والثاني : هو الضمير المتصل به وهو «ها» العائد على الوجهة.

وقيل : على التولية ذكره أبو البقاء ، وعلى هذه القراءة يتعيّن عود «هو» إلى الفريق ؛ إذ يستحيل في المعنى عوده على الله تعالى. [ولقراءة ابن عامر معنيان :

أحدهما : ما وليته فقد ولّاك ؛ لأن معنى وليته أي : جعلته بحيث يليه ، وإذا صار بحيث يلي ذاك ، فذاك أيضا يلي هذا ، فإذا قد يفيد كل واحد منهما الآخر.

فهو كقوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٣٧] فهذا قول الفراء.

الثاني : «هو مولّيها» أي : قد زينت لك تلك الجهة أي صارت بحيث تتبعها وترضاها](٤).

وقرأ بعضهم (٥) : «ولكلّ وجهة» بالإضافة ، ويعزى لابن عامر ، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال :

أحدها ، وهو قول الطبري : أنها خطأ ، وهذا ليس بشيء ؛ إذ الإقدام على تخطئة ما ثبت عن الأئمة لا يسهل.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) انظر السبعة : ١٧١ ، والكشف : ١ / ٢٦٧ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ٢٣٠ ، والعنوان : ٧٢ ، وحجة القراءات : ١١٧ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٧٤ ، ٧٥ ، وشرح شعلة : ٢٧٨ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤٢٢.

(٤) سقط في ب.

(٥) وقد نسبها في الشواذ ص ١٠ لابن عباس.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٢٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٦١١ ، والدر المصون : ١ / ٤٠٥.

٥٧

[قال ابن عطية : وخطأها الطبري وهي متّجهة أي : فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها ، ولا تعترضوا فيما أمركم من هذه وهذه أي : إنما عليكم الطاعة في الجميع وقدم قوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) على الأمر في قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول.

وذكر أبو عمرو الدّاني هذه القراءة عن ابن عبّاس (١)].

والثاني : وهو قول الزمخشري وأبي البقاء أن «اللام» زائدة في الأصل.

قال الزمخشري : المعنى وكلّ وجهة الله مولّيها ، فزيدت «اللام» لتقدم المفعول ، كقولك : لزيد ضربت ، ولزيد أبوه ضاربه.

قال أبو حيان : وهذا فاسد ؛ لأن العامل إذا تعدّى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور ب «اللام» لا تقول : لزيد ضربته ، ولا : لزيد أنا ضاربه ، لئلا يلزم أحد محذورين ، وهما : إما لأنه يكون العامل قويا ضعيفا. [وذلك أنه من حيث تعدّى للضمير بنفسه يكون قويّا ومن حيث تعدى للظاهر ب «اللام» يكون ضعيفا](٢) ، وإما لأنه يصير المتعدي لواحد متعديا لاثنين ، ولذلك تأول النحويون ما يوهم ذلك وهو قوله : [البسيط]

٨٤٠ ـ هذا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب (٣)

على أن الضمير في «يدرسه» للمصدر أي : يدرس الدرس لا للقرآن ؛ لأن الفعل قد تعدى إليه.

وأما تمثيله بقوله : «لزيد ضربت» ، فليس نظير الآية ؛ لأنه لم يتعدّ في هذا المثال إلى ضميره ، ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الاشتغال ، فتقدر عاملا في : «لكل وجهة» يفسره «موليها» ؛ لأن الاسم المشتغل عنه إذا كان ضميره مجرورا بحرف ينتصب ذلك الاسم بفعل يوافق العامل الظاهر في المعنى ، ولا يجوز جر المشتغل عنه إذا كان ضميره مجرورا بحرف تقول : زيدا مررت به ، أي : لا بست زيدا مررت به ، ولا يجوز : لزيد مررت به.

قال تعالى : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ) [الإنسان : ٣١] ، وقال : [الوافر]

٨٤١ ـ أثعلبة الفوارس أم رياحا

عدلت بهم طهيّة والخشابا (٤)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر خزانة الأدب : ٢ / ٣ ، ٥ / ٢٢٦ ، ٩ / ٤٨ ، ٦١ ، ٥٤٧ ، والدرر : ٤ / ١٧١ ، ورصف المباني : ص ٢٤٧ ، ٣١٥ ، وشرح التصريح : ١ / ٣٢٦ ، وشرح شواهد المغني : ٥٨٧ ، والكتاب : ٣ / ٦٧ ، ولسان العرب (سرق) ، والمقرب : ١ / ١١٥ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٣٣ ، والدر المصون : ١ / ٤٠٦.

(٤) البيت لجرير ينظر ديوانه : ص ٨١٤ ، والكتاب : ١ / ١٠٢ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٢٨٨ ، وشرح التصريح : ١ / ٣٠٠ ، والمقاصد النحوية : ٢ / ٥٣٣ ، وخزانة الأدب : ١١ / ٦٩ ، ولسان العرب (خشب) ، ـ

٥٨

فأتى بالمشتغل عنه منصوبا ، وأما تمثيله بقوله : لزيد أبوه ضاربه ، فتركيب غير عربي.

الثالث : أن «لكلّ وجهة» متعلق بقوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي : فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ، وإنما قدم على العامل للاهتمام به ، كما تقدم المفعول ، كما ذكره ابن عطية.

ولا يجوز أن توجه هذه القراءة على أن «لكل وجهة» في موضع المفعول الثاني ل «مولّيها» ، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو «مولّ» ، وهو «ها» ، وتكون عائدة على الطوائف ، ويكون التقدير : وكلّ وجهة الله مولّي الطوائف أصحاب القبلات ، وزيدت «اللام» في المفعول لتقدمه ، ويكون العامل فرعا ؛ لأن النحويين نصّوا على أنه لا يجوز زيادة «اللام» للتقوية إلا في المتعدي لواحد فقط ، و «مولّ» مما يتعدّى لاثنين ، فامتنع ذلك فيه ، وهذا المانع هو الذي منع من الجواب عن الزمخشري فيما اعترض به أبو حيان عليه من كون الفعل إذا تعدى للظاهر ، فلا يتعدى لضميره ، وهو أنه كان يمكن أن يجاب عنه بأن الضمير المتصل ب «مول» ليس بضمير المفعول ، بل ضمير المصدر وهو التّولية ، ويكون المفعول الأول محذوفا والتقدير : الله مولي التولية كلّ وجهة أصحابها ، فلما قدم المفعول على العامل قوي ب «اللام» لو لا أنهم نصوا على المنع من زيادتها في المتعدي لاثنين وثلاثة.

قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) «الخيرات» منصوبة على إسقاط حرف الجر ، التقدير : إلى الخيرات ، كقول الراعي : [الطويل]

٨٤٢ ـ ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل

سواكم فإنّي مهتد غير مائل (١)

أي : إلى سواكم ، وذلك لأن «استبق» : إما بمعنى سبق المجرد ، أو بمعنى : تسابق [لا جائز أن يكون بمعنى : سبق ؛ لأن المعنى ليس على اسبقوا الخيرات ، فبقي أن يكون بمعنى : تسابق](٢) ولا يتعدى بنفسه.

و «الخيرات» جمع : خيرة ، وفيها احتمالان :

أحدهما : أن تكون مخففة من «خيّرة» بالتشديد بوزن «فيعلة» نحو : ميت في ميّت.

والثاني : أن تكون غير مخففة ، بل تثبت على «فعلة» بوزن «جفنة» ، يقال : رجل خير وامرأة خير ، وعلى كلا التقديرين فليسا للتفضيل.

والسبق : الوصول إلى الشيء أولا ، وأصله التقدم في السير ، ثم تجوز به في كل ما تقدم.

__________________

ـ (طها) ، وجمهرة اللغة : ص ٢٩٠ ، والأزهية : ص ١١٤ ، وأمالي المرتضى : ٢ / ٥٧ ، وأوضح المسالك : ٢ / ١٦٦ ، والرد على النحاة : ص ١٠٥ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٩٠ ، والدر المصون : ١ / ٤٠٦.

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦١٢ ، الدر المصون : ١ / ٤٠٧.

(٢) سقط في أ.

٥٩

فصل في المسابقة إلى الصلاة

من قال : إنّ الصلاة في أول الوقت أفضل استدل (١) بقوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) ؛ قال : لأن الصلاة خير لقوله عليه الصلاة والسلام «خير أعمالكم الصّلاة» (٢) وظاهر الأمر بالسبق للوجوب ، فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب.

وأيضا قوله تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الحديد : ٢١] ومعناه : إلى ما يوجب المغفرة ، والصلاة مما يوجب المغفرة ، فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة.

وأيضا قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة : ١٠ ـ ١١].

والمراد منه : السابقون في الطاعات ، والصلاة من الطاعات ، وأيضا أنه مدح الأنبياء المقدمين بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) [الأنبياء : ٩٠] ، والصلاة من الخيرات ، كما بيّنا.

وأيضا أنه تعالى ذم إبليس في ترك المسارعة فقال : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢].

وأيضا قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) [البقرة : ٢٣٨] والمحافظة لا تحصل إلا بالتّعجيل ، ليأمن الفوت بالنسيان.

وأيضا قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) [طه : ٨٤] فثبت أن الاستعجال أولى.

وأيضا قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً) [الحديد : ١٠] فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة ، وأيضا ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الصّلاة في أوّل الوقت رضوان الله وفي آخره عفو الله» (٣).

قال الصديق رضي الله عنه : رضوان الله أحب إلينا من عفوه.

قال الشافعي رضي الله عنه : رضوان الله إنما يكون للمحسنين ، والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين.

فإن قيل : هذا احتجاج يقتضي أن يأثم بالتأخير ، وأجمعنا على أنه لا يأثم ، فلم يبق

__________________

(١) في أ : استدلوا.

(٢) أخرجه ابن ماجه (١ / ١٠٢) رقم (٢٧٩) وأحمد (٥ / ٢٨٠) وابن عبد البر في «الاستذكار» (١ / ٢٦٢) والدارمي (١ / ١٦٨) والبيهقي (١ / ٨٢ ، ٤٥٧) والحاكم (١ / ٣٠) والطبراني في «الكبير» (٢ / ٩٨) ، (٧ / ٢٨) وفي «الأوسط» (١ / ١١) ، (٢ / ٨٨) والطيالسي (٤٦ ـ منحة) والخطيب (١ / ٢٩٣).

وذكره الهندي في «كنز العمال» (٥٤٧٤) والمنذري في «الترغيب والترهيب» (١ / ١٦٢) وانظر الدر المنثور (١ / ٢٩٦).

(٣) أخرجه الدارقطني (١ / ٢٤٦) وانظر تلخيص الحبير (١ / ١٨٠).

٦٠