اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

٩٩٤ ـ ..........

يهوي محاربها هويّ الأجدل

والجدل : فتل الحبل ، ومنه زمام مجدول ، أي : محكم الفتل.

فصل

قد تقدّم أنّ الفسق : هو الخروج عن الطّاعة (١) ، واختلف المفسرون فيه ، فحمله أكثر المحقّقين على كلّ المعاصي ، وهذا قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ، وطاوس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والزهري ، والربيع ، والقرظي ، قالوا : لأنّ اللفظ صالح للكلّ ، والنّهي عن الشّيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه ؛ ويؤكده قوله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] ، وقوله : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) [الحجرات : ٧].

وذهب بعضهم إلى أنّ المراد منه بعض أنواعه ، ثم ذكروا وجوها.

أحدها : قال الضحّاك (٢) : المراد التنابز بالألقاب ؛ لقوله تعالى : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [الحجرات : ١١].

والثاني : قال عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي (٣) : المراد السّباب ؛ لقوله ـ عليه‌السلام ـ «سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر» (٤).

الثالث : أنّ المراد منه الإيذاء ، والإفحاش ؛ قال تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) [البقرة : ٢٨٢].

الرابع : قال ابن زيد : هو الذّبح للأصنام (٥) ؛ فإنّهم كانوا في حجّهم يذبحون لأجل الأصنام قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] ، وقوله : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام : ١٤٥].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» ٤ / ١٣٥ ، عن ابن عباس.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٢.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٩٦) وعزاه لابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط عن ابن عمر.

وأخرجه الطبري (٤ / ١٣٨).

(٤) أخرجه البخاري (١ / ٣٣) كتاب الإيمان باب خوف المؤمن (٤٨) و (٩ / ٩٠) كتاب الفتن باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا رقم (٧٠٧٦) ومسلم كتاب الإيمان باب ٢٨ رقم ١١٦ والترمذي (١٩٨٣ ، ٢٦٣٥) والنسائي (٧ / ١٢٢) وابن ماجه (٦٩ ، ٣٩٣٩ ، ٣٩٤٠) وأحمد (١ / ٣٨٥ ، ٤١١ ، ٤٣٣ ، ٤٥٤) والبيهقي (١ / ٢٠٩) ، (٨ / ٢٠) والطبراني في «الكبير» (١ / ١٠٧) ، (١٠ / ١٢٩ ، ١٩٤ ، ١٩٧) والحميدي (١٠٤) وابن عبد البر في «التمهيد» (٤ / ٢٣٦) وأبو عوانة (١ / ٢٤) والطحاوي في «المشكل» (١ / ٣٦٥) والبخاري في «التاريخ الصغير» (١ / ٢٢٩) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٥ / ٢٣) والخطيب في «تاريخ بغداد» (٣ / ٣٩٧) ، (١٠ / ٨٦ ، ١٣ / ١٨٥).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٣٩) عن ابن زيد.

٤٠١

الخامس : قال ابن عمر : هو قتل الصّيد ، وسائر محظورات الإحرام (١).

وأمّا الجدال : فهو «فعال» من المجادلة ، الذي هو الفتل ، يقال : زمام مجدول وجديل ، أي : مفتول ، والجديل : اسم للزّمام ؛ لأنه لا يكون إلّا مفتولا ، وسميت المخاصمة مجادلة لأنّ كلّ واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه. وذكر المفسرون فيه وجوها :

أحدها : قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن : هو الجدال الذي يخاف معه الخروج إلى السّباب ، والتكذيب ، والتجهيل (٢). وهو قول عمرو بن دينار ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والزهريّ ، وعطاء ، وقتادة (٣).

الثاني : قال محمد بن كعب القرظيّ : إنّ قريشا كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم : حجّنا أتمّ. وقال آخرون : بل حجّنا أتم ، فنهاهمّ الله عن ذلك (٤).

الثالث : قال القاسم بن محمد : هو أن يقول بعضهم : الحجّ اليوم ، ويقول بعضهم : الحج غدا (٥) ، وذلك بأنهم أمروا بأن يجعلوا حساب الشهور على الأهلّة ، فكان بعضهم يجعل الشهور على الأهلّة ، وآخرون يجعلونها بالعدد فلهذا السبب ؛ كانوا يختلفون.

الرابع : قال مقاتل ، والقفّال (٦) : هو ما جادلوا فيه النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين أمرهم بنسخ الحج إلى العمرة ، إلّا من قلّد الهدي ، قالوا : كيف نجعلها عمرة ، وقد سمينا الحج؟! فهذا جدالهم (٧).

الخامس : قال مالك في «الموطأ» : الجدال في الحج أنّ قريشا كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح (٨) وغيرهم يقف بعرفات ، وكلّ منهم يزعم أنّ موقفه

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٣٩ ـ ١٤٠).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٤١ ، ١٤٢ ، ١٤٣).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٤٥ ـ ١٤٦).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٤٦) عن القاسم بن محمد.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤١.

(٧) تقدم.

(٨) وهو القرن الذي يقف الإمام عنده بالمزدلفة عن يمين الإمام ، وهو الميقدة ، وهو الموضع الذي كانت توقد في النيران في الجاهلية ، وهو موقف قريش في الجاهلية ؛ إذ كانت لا تقف ب «عرفة» ، وفي كتاب لحن العامة» لأبي منصور : اختلف العلماء في تفسير قولهم : قوس قزح فروي عن ابن عباس ، ـ رضى الله عنه ـ ؛ أنه قال : لا تقولوا : قوس قزح ؛ فإن «قزح» اسم شيطان ، ولكن قولوا : قوس الله.

ينظر : معجم البلدان ٤ / ٣٨٧.

٤٠٢

موقف إبراهيم ، ويقول عليه الصلاة والسلام نحن أصوب ؛ فقال الله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) [الحج : ٦٧ ـ ٦٨] قال مالك : هذا هو الجدال فيما يروى والله أعلم.

السّادس : قال ابن زيد : كانوا يقفون مواقف مختلفة ، فبعضهم يقف بعرفة ، وبعضهم بالمزدلفة ، وبعضهم حجّ في ذي القعدة ، وبعضهم في ذي الحجّة ، وكلّ يقول : ما فعلته هو الصّواب (١) ؛ فقال تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) ، أي : استقرّ أمر الحج على ما فعله الرسول ـ عليه‌السلام ـ فلا اختلاف فيه من بعد ذلك ، وذلك معنى قول النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ألا إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّموات والأرض» (٢).

قال مجاهد : معناه : لا شكّ في الحجّ أنّه في ذي الحجة ، فأبطل الله النّسيء (٣).

قال أهل المعاني (٤) : ظاهر الآية الكريمة نفي ومعناه نهي ، أي لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ولا تجادلوا ؛ كقوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٣] أي : لا ترتابوا.

قال القاضي (٥) : قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) يحتمل أن يكون خبرا ، وأن يكون نهيا ، كقوله (لا رَيْبَ فِيهِ) ، أي : لا ترتابوا فيه ، وظاهر اللفظ للخبر ، فإذا حملناه على الخبر كان معناه : أنّ الحجة لا تثبت مع واحدة من هذه الخلال ، بل تفسد ؛ لأنه كالضدّ لها وهي مانعة من صحّته ، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى ؛ إلّا أن يراد بالرفث ، الجماع [المفسد للحج ، ويحمل الفسوق على الزّنا ؛ لأنه يفسد الحجّ ، ويحمل الجدال على الشّكّ في وجوب الحجّ](٦) ؛ لأن ذلك يكون كفرا ، فلا يصحّ معه الحج ، وإنّما حملنا هذه الألفاظ على هذه المعاني ؛ حتّى يصحّ خبر الله تعالى بأنّ هذه الأشياء لا توجد مع الحج.

فصل

قال ابن العربيّ (٧) : المراد بقوله : «فلا رفث» نفيه مشروعا لا موجودا ، فإنّا نجد

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٤٦) عن ابن زيد.

(٢) أخرجه أحمد (٥ / ٣٧) والطبري في «تفسيره» (١٠ / ٨٨) وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (٢ / ١ / ١٣٣) وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٨٦) وفي «البداية والنهاية» (٥ / ١٩٥).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٤٧) عن مجاهد.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٣.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٢.

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٧٠.

٤٠٣

الرفث فيه حسّا ، وخبر الله تعالى لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا ؛ كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] أي : مشروعا لا حسّا ، فإنّا نجد المطلقات لا يتربصن ؛ فعاد النّفي إلى الحكم الشّرعيّ لا إلى الوجود الحسّيّ ؛ وهو كقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٩] إذا قلنا : إنّه وارد في الآدميّين ؛ وهو الصّحيح ، فإنّ معناه لا يمسّه أحد منهم شرعا ، فإن وجد المسّ ، فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدّقيقة فاتت العلماء فقالوا : إنّ الخبر يكون بمعنى النّهي ، وما وجد ذلك قطّ ، ولا يصح أن يوجد ؛ فإنهما مختلفان حقيقة ، ومتضادان وصفا.

فصل

قال ابن الخطيب (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ فإن قيل أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحجّ فاسدا ويجب على صاحبه المضيّ فيه ، وإذا كان الحجّ باقيا معها ، لم يصدق الخبر لأنّ هذه الأشياء لا توجد مع الحج؟

قلنا المراد من الآية الكريمة حصول المضادة بين هذه الأشياء ، وبين الحجة المأمور بها ابتداء ، وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء ؛ بدليل أنّه يجب قضاؤها ، والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضيّ فيها شيء آخر سوى تلك الحجة المأمور بها ابتداء ، وأمّا الجدال الحاصل بسبب الشّكّ في وجوب الحج ، فظاهره أنّه لا يبقى معه عمل الحج ؛ لأنّ ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام ، فثبت أنّا إذا حملنا اللفظ على الخبر ، وجب حمل الرّفث والفسوق والجدال على ما ذكرنا ، وأمّا إذا حملناه على النّهي ، وهو في الحقيقة عدول عن الظّاهر ، فقد يصحّ أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته ، وقول الفحش ، وأن يراد بالفسق جميع أنواعه ، وبالجدال جميع أنواعه ؛ لأنّ اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام ، فيكون النهي عنها نهيا عن جميع أقسامها.

فإن قيل : ما الحكمة في أنّ الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة : وهي الرّفث ، والفسوق ، والجدال في الحج ، من غير زيادة ولا نقص؟

فالجواب : لأنه ثبت في العلوم العقلية أنّ للإنسان أربع قوّى : قوّة شهوانية بهيميّة ، وقوّة غضبيّة سبعيّة ، وقوّة وهميّة شيطانيّة ، وقوة عقلية ملكيّة ، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاث ، أعني : الشهوانية والغضبية والوهمية.

فقوله : (فَلا رَفَثَ) إشارة إلى قهر القوة الشهوانية.

وقوله : (وَلا فُسُوقَ) إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب المعصية والتمرد.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٢.

٤٠٤

وقوله : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) إشارة إلى قهر القوة الوهمية ، التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحكامه ، وأسمائه ، وهي الباعثة على منازعة الناس ، ومماراتهم ، والمخاصمة معهم في كل شيء ، فلمّا كان سبب الشّرّ محصورا في هذه الأمور الثلاثة ؛ لا جرم لم يذكر معها غيرها.

فصل

من الناس من عاب الاستدلال ، والبحث ، والنّظر ، والجدال ؛ واحتجّ بقوله تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) ، وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال ، ولو كان الجدال في الدين طاعة ، لما نهي عنه في الحج ، بل على ذلك التقدير ، يكون الاشتغال بالجدال ضمّ طاعة إلى طاعة ، فيكون أولى بالترغيب فيه. وأيضا قال تبارك وتعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف : ٥٨] ، عابهم بكونهم من أهل الجدل ، فدلّ على أن الجدل مذموم ، وقال تبارك وتعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : ٤٦] فنهى عن المنازعة.

وأمّا جمهور المتكلّمين فقالوا : الجدال في الدين طاعة عظيمة ؛ لقوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، وحكى قول الكفّار لنوح ـ عليه‌السلام ـ (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) [هود : ٣٢] ، ومعلوم أنّ ذلك الجدال إنما كان لتقرير أصول الدين ، فيحمل الجدال المذموم على الجدل في تقرير الباطل ، وطلب المال ، والجاه ، والجدال الممدوح على الجدل في تقرير الحقّ ، ودعوة الخلق إلى سبيل الله ، والذّبّ عن دين الله.

قوله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) تقدّم الكلام على نظيرتها ، وهي : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) فكلّ ما قيل ثمّ ، يقال هنا. قال أبو البقاء (١) رحمه‌الله «ونزيد هنا وجها آخر : وهو أن يكون «من خير» في محلّ نصب نعتا لمصدر محذوف ، تقديره : وما تفعلوا فعلا كائنا من خير».

و «يعلمه» جزم على جواب الشّرط ، ولا بدّ من مجاز في الكلام : فإمّا أن يكون عبّر بالعلم عن المجازاة على فعل الخير ، كأنّه قيل : يجازيكم ، وإمّا أن تقدّر المجازاة بعد العلم ، أي : فيثيبه عليه.

وفي قوله : (وَما تَفْعَلُوا) التفات ؛ إذ هو خروج من غيبة في قوله : «فمن فرض» وحمل على معنى «من» إذ جمع الضمير ولم يفرده.

وقد خبط بعض المعربين ، فقال : «من خير» متعلّق بتفعلوا ، وهو في موضع

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٨٦.

٤٠٥

نصب ؛ لمصدر محذوف ، تقديره : «وما تفعلوا فعلا من خير» والهاء في «يعلمه» تعود إلى خير. قال شهاب الدّين : وهذا غلط فاحش ؛ لأنّه من حيث علّقه بالفعل قبله كيف يجعله نعت مصدر محذوف؟ ولأنّ جعله الهاء تعود إلى «خير» يلزم منه خلوّ جملة الجواب من ضمير يعود على اسم الشّرط ، وذلك لا يجوز ، أمّا لو كانت أداة الشّرط حرفا ، فلا يشترط فيه ذلك ، فالصواب ما تقدّم. وإنما ذكرت لك هذا لئّلا تراه فتتوهّم صحّته. والهاء عائدة على «ما» الّتي هي اسم الشّرط.

فصل

اعلم أنّ الله تعالى يعلم كلّ شيء وإذا خصّ هنا الخير بأنه يعلمه لفوائد.

أحدها : إذا علمت منك الخير ، ذكرته وشهرته ، وإذا علمت منك الشرّ ، سترته وأخفيته ؛ لتعلم أنّه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا فكيف (١) في العقبى؟

وثانيها : قال بعض المفسرين في قوله : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٥] معناه : لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي ، لفعلت ، فكذا ـ هاهنا ـ كأنّه قيل للعبد : ما تفعله من الشّرّ ، فلو أمكنني أن أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك.

وثالثها : أنّ السّلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع : كلّ ما تتحمله من المشقّة والخدمة في حقّي ، فأنا عالم به ، ومطّلع عليه ، كان هذا وعدا له بالثّواب العظيم ، ولو قال ذلك لعبده المذنب ، كان توعّدا له بالعقاب الشّديد ، ولمّا كان سبحانه أكرم الأكرمين ؛ لا جرم ذكر ما يدلّ على الثّواب ، ولم يذكر ما يدلّ على العقاب.

ورابعها : أنّ جبريل ـ عليه‌السلام ـ لمّا قال : «ما الإحسان»؟ فقال : «الإحسان : أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنّه يراك» ، فهاهنا بيّن للعبد أنّه يراه ، ويعلم ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للربّ من الإحسان ، الذي هو أعلى درجات العبادة ، فإن الخادم متى علم أنّ مخدومه مطّلع عليه ، ليس بغافل عن أحواله ـ كان أحرص على العمل (٢).

فصل

قال القرطبيّ (٣) : هذا شرط وجوابه ، والمعنى أنّ الله يجازيكم على أعمالكم ؛ لأنّ المجازاة إنما تقع من العالم بالشّيء.

وقيل : هو تحريض وحثّ على حسن الكلام مكان الفحش ، وعلى البرّ والتّقوى في الأخلاق مكان الفسوق والجدال.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٣.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٣.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٧٣.

٤٠٦

وقيل : جعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم ؛ حتى لا يوجد ما نهوا عنه.

قوله : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) فيه قولان :

أحدهما : أن المراد تزوّدوا من التّقوى ؛ لقوله (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) فتحقيق [الكلام فيه : أنّ](١) الإنسان له سفران ، سفر في الدنيا ، وسفر من الدّنيا.

فالسّفر في الدنيا ، لا بدّ له من زاد ، وهو الطّعام ، والشّراب ، والمركب ، والمال.

والسّفر من الدنيا لا بدّ له ـ أيضا ـ من زاد ، وهو معرفة الله تعالى ومحبته والإعراض عمّا سواه ، وهذا الزاد خير من الزّاد الأوّل لوجوه :

أحدها : أنّ زاد الدّنيا [يخلصك من عذاب منقطع ، وزاد الآخرة يخلّصك من عذاب دائم ، وزاد الدّنيا](٢) يوصلك إلى لذّة ممزوجة بالآلام ، والبلايا ، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذّات باقية خالصة عن شوائب المضرّة ، وزاد الدنيا يوصلك إلى دنيا منقضية ، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة ، وهي كلّ ساعة من الإقبال ، والقرب ، والوصول غير منقضية وزاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشّهوة والنّفس وزاد الآخرة يوصلك إلى حضرة الجلال والقدس ؛ فلهذا قال : (خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب ، يعني : إن كنتم من أولي الألباب الّذين يعلمون حقائق الأمور فاشتغلوا بتحصيل هذا الزاد ؛ لما فيه من كثرة المنافع ؛ وفي هذا المعنى قال الأعشى : [الطويل]

٩٩٥ ـ إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى

ولا قيت بعد الموت من قد تزوّدا

ندمت على ألّا تكون كمثله

وأنّك لم ترصد كما كان أرصدا (٣)

والقول الثّاني : أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في أناس من أهل اليمن (٤) ، كانوا يحجّون بغير زاد ، ويقولون : إنّا متوكّلون وكانوا يسألون (٥) وربما ظلموا الناس وغصبوهم ؛ فأمرهم الله تعالى أن يتزوّدوا ما يبلغون به ، فإنّ خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السّؤال ، وأنفسكم عن الظلم.

وعن ابن زيد ، أنّ بعض قبائل العرب كانوا يحرّمون الزاد في الحج ، والعمرة (٦) ؛ فنزلت الآية.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الرازي ٥ / ١٤٤.

(٤) بالتحريك ، قيل : سميت «اليمن» ؛ لتيامنهم إليها لما تفرقت العرب من مكة ؛ كما سميت «الشام» لأخذهم الشمال ، والبحر : محيط بأرض اليمن من المشرق إلى الجنوب ، ثم راجعا إلى الغرب ينظر : مراصد الاطلاع ٣ / ١٤٨٣.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٤٤ ، والبغوي ١ / ١٧٣.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٤.

٤٠٧

قال ابن الجوزيّ : قد لبس إبليس على قوم يدعون التوكّل ؛ فخرجوا بلا زاد ، وظنّوا أن هذا هو التوكّل وهم على غاية الخطأ ، قال رجل لأحمد بن حنبل : أريد أن أخرج إلى مكّة المشرفة على التوكّل بغير زاد ، فقال له أحمد : اخرج في غير القافلة. فقال : لا إلّا معهم ، فقال : على جرب النّاس توكلت (١).

وروى محمد بن جرير الطبري عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ، ومعم أزودة رموا به ؛ فنهوا عن ذلك بهذه الآية الكريمة.

قال القاضي : فإن أردنا تصحيح هذا القول ففيه (٢) وجهان :

الأوّل : أنّ القادر على أن يستصحب المال في السفر إذا لم يستصحبه ، عصى الله تعالى في ذلك ، فبهذا الطّريق يصحّ دخوله تحت الآية الكريمة.

والثاني : أن يكون في الكلام حذف ، والمراد تزوّدوا لعاجل سفركم ، وللآجل ؛ فإنّ خير الزاد التقوى. وقيل : المعنى فإنّ خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة ، والحاجة إلى السؤال ، والتكفّف ، وألف «الزّاد» منقلبة عن «واو» لقولهم تزوّد.

قوله : «واتّقوني» أثبت أبو عمر «الياء» في قوله : «واتّقوني» على الأصل ، وحذف الآخرون ؛ للتخفيف ، ودلالة الكسرة عليه ، وفيه تنبيه على كمال عظمة الله وجلاله ؛ وهو كقول الشّاعر : [الرجز]

٩٩٦ ـ أنا أبو النّجم وشعري شعري (٣)

قوله (يا أُولِي الْأَلْبابِ) اعلم أنّ لبّ الشيء ولبابه هو الخالص منه.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٧٣.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ٥ / ١٤٤.

(٣) الرجز لأبي النجم في أمالي المرتضى ١ / ٣٥٠ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٣٩ ، والخصائص ٣ / ٣٣٧ ، والدرر ١ / ١٨٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٦١٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٤٧ ، وشرح المفصل ١ / ٩٨ ، ٩ / ٣ ، والمصنف ١ / ١٠ ، وهمع الهوامع ١ / ٦٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٢٩ ، ٥٩١٢ ، وأمالي الشجري ١ / ٢٢٤ ، والرازي ٥ / ١٤٤

والخبر الذي لا يغاير المبتدأ لفظا يذكر للدلالة على الشهرة ، أو عدم التغيير ؛ كالشاهد الذي معنا (شعري شعري) أي : المشهور المعروف بنفسه ، لا بشيء آخر ؛ كما يقال مثلا : شعري مليح ، وتقول : أنا أنا ما تغيرت عما كنت ، وقد صار البيت مثلا عند العلماء للتأويل المذكور ، فيما ظاهره الاتحاد بين الموضوع والمحمول ، قال صاحب الكشاف عند قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) [الواقعة : ١] المراد : السابقون من عرفت حالهم ، وبلغك وصفهم ؛ كما في (شعري شعري) أي : شعري ما بلغك وصفه ، وحكمت ببراعته ، وفصاحته ، وصحّ إيقاع «أبي النجم» خبرا ؛ لتضمنه نوع وصفية ، واشتهار بالكمال ، والمعنى : أنا ذلك المعروف بالكمال ، وشعري هو الموصوف بالفصاحة.

«وشعري شعري» جملة من مبتدأ وخبر ، وعدم مغايرة إنما هو للدّلالة على الشهرة ، أي : شعري الآن هو شعري المشهور ، المعروف بنفسه لا بشيء آخر.

٤٠٨

قال النّحاس : سمعت أبا إسحاق يقول : قال لي أحمد بن يحيى ثعلب : أتعرف في كلام العرب شيئا من المضاعف جاء على فعل؟ قلت : نعم ، حكى سيبويه عن يونس : لببت تلبّ ؛ فاستحسنه ، وقال : ما أعرف له نظيرا.

واختلفوا فيه فقال بعضهم : إنّه اسم للعقل ؛ لأنه أشرف ما في الإنسان ، وبه تميز عن البهائم ، وقرب من درجة الملائكة.

وقال آخرون : إنّه في الأصل اسم للقلب الذي هو محل للعقل ، والقلب قد يجعل كناية عن العقل ، فقوله : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي : يا أولي العقول ، وإطلاق اسم المحلّ على الحال مجاز مشهور.

فإن قيل : إذا كان لا يصحّ إلّا خطاب العقل ؛ فما فائدة قوله : (يا أُولِي الْأَلْبابِ)؟!

فالجواب : معناه أنّكم لمّا كنتم من أولي الألباب ، تمكنتم من معرفة هذه الأشياء ، والعمل بها ، فكان وجوبها عليكم أثبت ، وإعراضكم عنها أقبح ؛ ولهذا قال الشّاعر : [الوافر]

٩٩٧ ـ ولم أر في عيوب النّاس شيئا

كنقص القادرين على التّمام (١)

وقال تبارك وتعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩] يعني : أنّ الأنعام معذورة بسبب العجز ، وأمّا هؤلاء فقادرون فكان إعراضهم أفحش ، فلا جرم كانوا أضلّ.

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (١٩٨)

قوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) «أن» في محلّ نصب في موضعين عند سيبويه (٢) والفراء (٣) ، وجرّ عند شيخيهما والأخفش ؛ لأنّها على إضمار حرف الجرّ ، أي : في أن ، وهذا الجارّ متعلّق : إمّا بجناح ؛ لما فيه من معنى الفعل وهو الميل والإثم ، وما كان في معناهما ، وإمّا بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «جناح» ، فيكون مرفوع المحلّ ، أي : جناح كائن في كذا.

ونقل أبو البقاء (٤) رحمه‌الله تعالى عن بعضهم ، أنه متعلق ب «ليس» ، واستضعفه. قال شهاب الدّين : بل يحكم بتخطئته ألبتة.

قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) يجوز أن يتعلّق بتبتغوا فيكون مفعولا له ، وأن يكون صفة

__________________

(١) ينظر : الرازي ٥ / ١٤٥.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ١٧.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ١٤٨.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٨٧.

٤٠٩

ل «فضلا» ، فيكون منصوب المحلّ ، متعلّقا بمحذوف. و «من» في الوجهين لابتداء الغاية ، لكن في الوجه الثاني تحتاج إلى حذف مضاف أي : فضلا كائنا من فضول ربكم.

فصل

قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا) يدلّ على أنّ شبهة قامت عندهم في تحريم التجارة من وجوه :

أحدها : أنّه تبارك وتعالى منع الجدال في الحجّ ، والتّجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة في قلّة القيمة وكثرتها ؛ فوجب أن تكون التجارة محرّمة.

ثانيها : أنّ التجارة كانت محرمة في وقت الحج في الجاهلية ، وذلك شيء حسن ؛ لأن المشتغل بالحج مشتغل بخدمة الله تعالى ، فوجب ألّا يشوب هذا العمل بالأطماع الدّنيويّة.

وثالثها : أنّ المسلمين علموا أنّ كثيرا من المباحات صارت محرمة عليهم في الحج : كاللّبس ، والاصطياد ، والطّيب ، والمباشرة ، فغلب على ظنّهم أنّ الحجّ لمّا صار سببا لحرمة اللبس مع الحاجة إليه ، فأولى منه تحريم التجارة ؛ لقلة الاحتياج إليها.

ورابعها : عند الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بالتجارة ؛ قال تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة : ٩] فلهذا السبب ، بيّن الله تعالى ـ هاهنا ـ أنّ التجارة جائزة غير محرّمة.

فإذا عرف هذا ، فذكر المفسّرون في قوله : (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) وجهين :

الأوّل : أنّ المراد هو التجارة ؛ نظيره قوله تعالى : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [المزمل : ٢] وقوله : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] ويدلّ عليه ما روى عطاء عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزّبير أنّهم قرأوا (١) : «أن تبتغوا فضلا من ربّكم في مواسم الحجّ».

وقال ابن عباس : كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيّام الحجّ ، وإذا دخل العشر ، بالغوا في ترك البيع والشّراء بالكلية ، وكانوا يسمّون التاجر في الحج الدّاجّ ، ويقولون : هؤلاء الدّاجّ ، وليسوا بالحاجّ. ومعنى الدّاجّ : المكتسب الملتقط ، وهو مشتقّ من الدّجاجة وبلغوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتنعوا من إغاثة الملهوف والضعيف وإطعام الجائع ؛ فأزال الله هذا الوهم وبيّن أنّه لا جناح في التجارة ، ولما كان ما قبل هذه الآية في أحكام الحج (٢) ، وما بعدها في الحج ، وهو قوله تعالى (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ)

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ١٠٣.

(٢) انظر : التفسير الكبير للفخر الرازي ٥ / ١٤٦.

٤١٠

دلّ ذلك على أنّ هذا الحكم واقع في زمان الحجّ ؛ فلهذا السبب استغني عن ذكره.

وروي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رجلا قال له : إنّا قوم نكري ، وإنّ قوما يزعمون أنّه لا حجّ لنا ، فقال : ألستم تحرمون كما يحرمون ، وتطوفون كما يطوفون ، وترمون كما يرمون؟ قلت : بلى ، قال : أنتم حجّاج (١) ؛ وجاء رجل إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يسأله عمّا سألتني ، فلم يردّ عليه ؛ حتّى نزل قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) فدعاه ، وقال : أنتم حجّاج.

وبالجملة فهذه الآية الكريمة نزلت ردّا على من يقول : لا حجّ للتّاجر ، والأجير ، والجمّال.

وروى عمرو بن دينار ، عن ابن عباس : أنّ عكاظ ، ومجنّة ، وذا المجاز كانت أسواقا في الجاهليّة ، يتّجرون فيها في أيّام الموسم ، وكانت معايشهم منها ، فلمّا جاء الإسلام ، كرهوا أن يتّجروا في الحج بغير إذن ، فسألوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنزلت الآية (٢).

وقال مجاهد : إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بعرفة ، ولا منى ، فنزلت هذه الآية (٣) ، فلهذا حمل أكثر المفسرين الآية على التجارة في أيام الحجّ ، وحمل أبو مسلم (٤) الآية على ما بعد الحج ، قال : والتقدير : واتقوني في كل أفعال الحج ، وبعد ذلك (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) ونظيره قوله تعالى (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠].

قال ابن الخطيب : وهذا القول ضعيف من وجوه ، لأنّ قوله (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) يدلّ على أنّ هذه الإفاضة حصلت بعد ابتغاء الفضل ؛ لأن الفاء للتّعقيب ، وذلك يدلّ على وقوع التجارة في زمان الحج.

وأيضا فحمل الآية على موضع الشبهة ، أولى من حملها على موضع لا شبهة فيه ، ومحلّ الشبهة ، هو التجارة في زمان الحجّ ، وأمّا بعد فراغ الحجّ ، فكلّ أحد يعلم حلّ التجارة.

فإن قيل : وكذلك أيضا كل أحد يعلم أنّ الصلاة إذا قضيت ، يباح البيع والشّراء ؛

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٥٤٠) كتاب المناسك باب الكري رقم (١٧٣٣) وأحمد (٦٤٣٥ ـ شاكر) والطبري (٤ / ١٦٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٠١) وزاد نسبته لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ٢٤٨ ، ٢٦٩) (٨ / ١٣٩) والبيهقي (٤ / ٣٣٣) والطبري في «تفسيره» (٤ / ١٦٩) والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٠٠) وزاد نسبته لسفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٦٤) عن مجاهد.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٦.

٤١١

فلماذا قال : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ).

قلنا لأنه أمر قبله بالسّعي ، ونهى عن البيع ، فقال : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) فنهى عن البيع بعد النّداء ، فلمّا قال بعده : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) ، كأنّه قال : إنّ المانع الذي منعكم من البيع قد زال ؛ فانتشروا في الأرض ، وابتغوا من فضل الله.

وأمّا قياس الحجّ على الصلاة ، فالفرق بينهما : أنّ الصلاة أعمالها متّصلة ، فلا يحلّ في أثنائها التشاغل بغيرها ، وأمّا أعمال الحج ، فهي متفرّقة بعضها عن بعض ، ففي خلالها لا يبقى المرء على الحكم الأول ، فتصير الصلاة عملا واحدا من أعمال الحج ، لا مجموع الأعمال ، وأيضا فقوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) تصريح بأنّ الابتغاء بعد انقضاء الحج.

فإن قيل : حكم الحاج باق في كل تلك الأوقات ؛ بدليل حرمة التطيب (١) واللّبس.

فالجواب : هذا قياس في مقابلة (٢) النص.

القول الثاني : قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر : المراد بقوله تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجّا أعمالا أخر ، تكون موجبة لاستحقاق فضل الله ورحمته مثل إعانة الضّعيف ، وإغاثة الملهوف ، وإطعام الجائع (٣) ، واعترض عليه القاضي : بأنّ هذا واجب ، أو مندوب ، ولا يقال في مثله : لا جناح عليكم فيه ، إنّما يذكر هذا اللفظ في المباحات (٤).

والجواب : لا نسلّم أنّ هذا اللفظ لا يذكر إلّا في المباحات لقوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) [النساء : ١٠١] والقصر مندوب وكما قال تعالى (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] والطواف ركن في الحج ، وإنّما أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أنّ ضمّ سائر الطاعات إلى الحجّ ، يوقع خللا في الحج ، ونقصا ؛ فبيّن الله تعالى بقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أنّ الأمر ليس كذلك.

فصل

اتفقوا على أنّ التجارة إن أوقعت نقصا في الطاعة ، لم تكن مباحة ، وإن لم توقع نقصا في الطاعة ، كانت مباحة ، وتركها أولى ؛ بقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٥] ، والإخلاص هو ألّا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة ، والحاصل أنّ الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرّخص.

__________________

(١) في بي : التغليب.

(٢) في ب : معاملة.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٧.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٧.

٤١٢

قوله : (فَإِذا أَفَضْتُمْ) العامل فيها جوابها ، وهو «فاذكروا» قال أبو البقاء (١) رحمه‌الله «ولا تمنع الفاء من عمل ما بعدها ، فيما قبلها ؛ لأنه شرط».

ومنع أبو حيّان من ذلك بما معناه : أنّ مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر ؛ لأنّ ذلك عرفات ، وهذا المشعر الحرام ، وإذا اختلف المكان ، لزم منه اختلاف الزمان ضرورة ، فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعا عند إنشاء الإفاضة.

قوله : «من عرفات» متعلّق ب «أفضتم» والإفاضة في الأصل : الصبّ ، يقال : فاض الإناء ، إذا امتلأ حتّى ينصبّ عن نواحيه. ورجل فيّاض ، أي : مندفق بالعطاء ؛ قال زهير : [الطويل]

٩٩٨ ـ وأبيض فيّاض يداه غمامة

على معتفيه ما تغبّ فواصله (٢)

وحديث مستفيض ، أي شائع.

ويقال : فاض الماء وأفضته ، ثم يستعمل في الإحرام مجازا. والهمزة في «أفضتم» فيها وجهان :

أحدهما : أنها للتعدية ، فيكون مفعوله محذوفا ، تقديره : أفضتم أنفسكم ، وهذا مذهب الزجاج ، وتبعه الزّمخشريّ (٣) ، وقدّره الزجاج فقال : معناه : دفع بعضكم بعضا والإفاضة : الاندفاع في السّير بكثرة ، ومنه يقال : أفاض البعير بجرته ، إذا وقع بها فألقاها منبثة ، وكذلك أفاض القداح في الميسر ، ومعناه : جمعها ، ثم ألقاها متفرّقة ، وإفاضة الماء من هذا ؛ لأنه إذا صبّ ، تفرّق ، والإفاضة في الحديث ، إنّما هو الاندفاع فيه بإكثار ، وتصرّف في وجوهه ؛ قال تعالى : (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس : ٦١] ، قال بعضهم : وليس كذلك ؛ لما يأتي ، ومنه يقال للناس : فوض ، ومثلهم فوضى ، ويقال : أفاضت العين دمعها. فأصل هذه الكلمة : الدفع للشيء حتى يتفرق ، فقوله تعالى : «أفضتم» ، أي : دفعتم بكثرة ، وأصله : أفضتم أنفسكم ، فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم : دفعوا من موضع كذا ، وصبّوا.

والوجه الثاني : أنّ أفعل هنا ، بمعنى «فعل» المجرد فلا مفعول له. قال أبو حيّان : لأنه لا يحفظ : أفضت زيدا بهذا المعنى الذي شرحناه آنفا وأصل أفضتم : أفيضتم فأعلّ ؛ كنظائره ، بأن نقلت حركة حرف العلّة على السّاكن قبله فتحرّك حرف العلّة في الأصل ، وانفتح ما قبله ؛ فقلب ألفا ، وهو من ذوات الياء من الفيض ، كما تقدّم ، وليس من ذوات الواو من قولهم : فوضى الناس ، وهم أخلاط الناس بلا سائس.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٨٧.

(٢) البيت ينظر ديوانه ص (١١١) الجنى الداني ص (٤٤١) ، اللسان «غيب».

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٢٤٥.

٤١٣

وعرفات اسم مكان مخصوص ، وهل هو مشقّ أو مرتجل؟ قولان :

أحدهما : أنه مرتجل ، وإليه ذهب الزمخشريّ ، قال : «لأنّ العرفة لا تعرف في أسماء الأجناس ؛ إلا أن تكون جمع عارف».

والثّاني : أنه مشتقّ ، واختلف في اشتقاقه ، فقيل : من المعرفة ؛ لأنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لمّا عرّفه جبريل هذه البقعة بالنّعت ، والصّفة ؛ فسمّيت «عرفات» قاله عليّ ، وابن عبّاس وعطاء والسّدّيّ (١).

قال السّدّيّ : لمّا أذّن إبراهيم في الناس بالحجّ ، فأجابوه : بالتّلبية ، وأتاه من أتاه ـ أمره الله أن يخرج إلى عرفات ، ونعتها له ، فخرج ، فلمّا بلغ الشجرة عند العقبة ، استقبله الشيطان ؛ يردّه ؛ فرماه بسبع حصيات ، يكبّر مع كلّ حصاة ، فطار ، فوقع على الجمرة الثّانية ؛ فرماه وكبّر [فطار ، فوقع على الجمرة الثالثة ؛ فرماه وكبّر](٢) ، فلمّا رأى الشّيطان أنّه لا يطيعه ؛ ذهب ، فانطلق إبراهيم حتّى أتى ذا المجاز ، فلمّا نظر إليه ، لم يعرفه ، فجاز فسمّي ذا المجاز ، ثمّ انطلق حتّى وقف بعرفات فعرفها بالنّعت ؛ فسمّي الموقف «عرفة» والموضع «عرفات» ، حتى إذا أمسى ازدلف أي قرب إلى جمع فسمّي المزدلفة (٣).

وقال عطاء : إنّ جبريل ـ عليه‌السلام ـ علّم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ المناسك ، وأوصله إلى عرفات ، وقال له : أعرفت كيف تطوف ، وفي أي موضع تقف؟ قال : نعم (٤).

وقيل : إن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وضع ابنه إسماعيل وأمّه هاجر بمكّة ، ورجع إلى الشّام ولم يلتقيا سنين ، ثم التقيا يوم عرفة بعرفات (٥).

وقال الضّحّاك : إنّ آدم وحوّاء ـ عليهما‌السلام ـ التقيا بعرفة ، فعرف كلّ واحد منهما صاحبه ؛ فسمّي اليوم عرفة والموضع بعرفات ؛ وذلك أنّهما لمّا أهبطا من الجنّة ، وقع آدم بسرنديب ، وحوّاء بجدّة ، وإبليس ببيسان والحية ب «أصفهان» ، فلمّا أمر الله ـ تعالى ـ آدم ـ عليه‌السلام ـ بالحجّ ، لقي حواء بعرفات فتعارفا ، قاله ابن عبّاس (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٧٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٠١) وزاد نسبته لوكيع وابن المنذر.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٧٢ ـ ١٧٣) عن السدي.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٧٤) عن عطاء من قوله وأخرجه الطبري أيضا (٤ / ١٧٣) عن ابن عباس بمعناه.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٨.

(٦) أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» كما في الدر المنثور (١ / ١١٩).

٤١٤

وقيل : إنّ آدم ـ عليه‌السلام ـ علّمه جبريل مناسك الحجّ ، فلمّا وقف بعرفات قال له : أعرفت؟ قال : نعم ، فسمّي عرفات (١).

وقيل : إن الحجاج يتعارفون بعرفات إذا وقفوا (٢).

وقيل : إنّه ـ تبارك وتعالى ـ يتعرّف فيه إلى الحجّاج بالمغفرة والرّحمة (٣).

وروى أبو صالح عن ابن عبّاس ؛ أنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ رأى ليلة التّروية في منامه ، أنّه يؤمر بذبح ولده ، فلما أصبح روّى يومه أجمع ، أي : فكّر أمن الله هذه الرّؤيا أم من الشّيطان؟ فسمّي اليوم يوم التّروية. ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانيا ، فلمّا أصبح عرف أنّ ذلك من الله ، فسمي اليوم عرفة (٤).

[وقيل : مشتقّة من العرف ، وهو الرائحة الطيبة].

قال تعالى : (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) [محمد : ٦] أي : طيّبها لهم ، فيكون المعنى : أن المذنبين لمّا تابوا في عرفات ، فقد تخلّصوا من نجاسات الذّنوب ، واكتسبوا عند الله رائحة طيّبة.

وقيل : أصله من الصّبر : يقال : رجل عارف ؛ إذا كان صابرا خاشعا ؛ قال ذو الرّمّة في ذلك : [الطويل]

٩٩٩ ـ ..........

عروف لما خطّت عليه المقادر (٥)

أي : صبور على قضاء الله ـ تعالى ـ فسمّي بهذا الاسم ؛ لخضوع الحاجّ وتذللهم وصبرهم على الدّعاء ، واحتمال الشّدائد لإقامة هذه العبادة.

وقيل : مشتقّة من الاعتراف ؛ لأن الحاجّ إذا وقف اعترف للحقّ بالربوبيّة والجلال والاستغناء ، ولنفسه بالفقر والذّلّة والمسكنة والحاجة.

وقيل : إنّ آدم وحوّاء ـ عليهما‌السلام ـ لمّا وقفا بعرفات ، قالا : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : «الآن عرفتما (٦) أنفسكما».

وقيل : من العرف ، وهو الارتفاع ، ومنه عرف الدّيك ، وعرفات جمع عرفة في الأصل.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٧٣) عن ابن عباس موقوفا.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٨.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٨.

(٤) ينظر : «التفسير الكبير» للفخر الرازي ٥ / ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٥) عجز بيت وصدره :

إذا خاف شيئا وقرته طبيعة

ينظر : ديوانه (٢٥٧) ، والقرطبي (٢ / ٢٧٦).

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» ١ / ١١٧ بنحوه ، وعزاه للثعلبي في تفسيره من طريق عكرمة عن ابن عباس.

٤١٥

ثم سمّي به بقعة واحدة كقولهم : ثوب أخلاق ، وبرمة أعشار ، وأرض سباسب ، والتّقدير : كان كلّ قطعة من تلك الأرض عرفة ، فسمّي مجموع تلك القطع بعرفات.

والمشهور : أنّ عرفات وعرفة واحد ، وقيل : عرفة اسم اليوم ، وعرفات اسم مكان ، وعرفة هي نعمان الأراك ؛ قال الشّاعر : [الطويل]

١٠٠٠ ـ تزوّدت من نعمان عود أراكة

لهند ولكن من يبلّغه هندا (١)

والتنوين في عرفات وبابه فيه ثلاثة أقوال :

أظهرها : أنه تنوين مقابلة ، يعنون بهذا أنّ تنوين هذا الجمع مقابل لنون جمع الذكور ، فتنوين مسلمات مقابل لنون مسلمين ، ثم جعل كلّ تنوين في جمع الإناث ـ وإن لم يكن لهنّ جمع مذكر ـ كذلك ؛ طردا للباب.

والثاني : أنه تنوين صرف ، وهو ظاهر قول الزمخشريّ ؛ فإنه قال : «فإن قلت : فهلّا منعت الصّرف ، وفيها السببان : التعريف والتأنيث؟ قلت : لا يخلو التأنيث : إما أن يكون بالتاء التي في لفظها ، وإما بتاء مقدّرة ؛ كما هي في «سعاد» ، فالتي في لفظها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنّث ، ولا يصحّ تقدير التاء فيها ؛ لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها ، كما لا تقدّر تاء التأنيث في «بنت» ؛ لأنّ التاء التي هي بدل من الواو ؛ لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث ، فأبت تقديرها» ، فمنع الزمخشريّ أن يكون التأنيث سببا فيها ، فصار التنوين عنده للصّرف.

وأجاب غيره (٢) من عدم امتناع صرفها : بأنّ هذه اللّفظة في الأصل اسم لقطع كثيرة من الأرض ، كلّ واحدة منها تسمى بعرفة ، وعلى هذا التّقدير لم يكن علما ، ثم جعلت علما لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف.

والثالث : أنّ جمع المؤنث ، إن كان له جمع مذكر ؛ كمسلمات ومسلمين ، فالتنوين للمقابلة ، وإلّا فللصّرف ؛ كعرفات.

والمشهور ـ حال التسمية به ـ أن ينوّن ويعرب بالحركتين : الضمة والكسرة ؛ كما لو كان جمعا ، وفيه لغة ثانية : وهو حذف التنوين تخفيفا ، وإعرابه بالكسرة نصبا. والثالثة : أعرابه غير منصرف بالفتحة جرّا ، وحكاها الكوفيّون والأخفش (٣) ، وأنشد قول امرىء القيس : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٢ / ٢٧٥.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٧.

(٣) ما سمي به من هذا الجمع (جمع المؤنث السالم) ؛ كعرفات وأذرعات يجوز فيه ثلاثة أوجه :

١ ـ يعرب على اللغة الفصحى (إعراب جمع المؤنث السالم) بالضمة رفعا ، وبالكسرة جرا ، ونصبا وينون لملاحظة حاله قبل التّسمية به ، ويرون التنوين تنوين المقابلة في مقابلة النون في جمع المذكر السالم ، وعلى هذا لا يحذف التنوين ، ولو وجد في الكلمة ما يقتضي منع صرفها ؛ لأن التنوين الذي ـ

٤١٦

١٠٠١ ـ تنوّرتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عالي (١)

بالفتح.

فصل

اعلم أنّ اليوم الثّامن من ذي الحجّة يسمّى يوم التّروية ، والتّاسع : يوم عرفة ، وقد تقدّم تعليل يوم عرفة ، وأمّا يوم التّروية ففيه قولان :

أحدهما : ما تقدّم من تروّي إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في منامه ، من روّى يروّي تروية ؛ إذا تفكّر وأعمل فكره ورويّته.

وقيل : إن آدم ـ عليه‌السلام ـ أمر ببناء البيت ، فلمّا بناه تفكّر فقال : رب ، إنّ لكلّ عامل أجرا ، فما أجري على هذا العمل؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك. قال : رب زدني ، قال : لأغفرنّ لأولادك إذا طافوا به ، قال : رب زدني ، قال : أغفر لكلّ من استغفر له الطّائفون من موحدي أولادك. قال : حسبي يا ربّ حسبي (٢).

وقيل : إنّ أهل مكّة يخرجون يوم التّروية إلى منى فيروّون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في الغد بعرفات (٣).

الثاني : من رواه بالماء يرويه ؛ إذا سقاه من عطش ، فقيل : إن أهل مكّة كانوا يخفون الماء للحجيح الذين يقصدونهم من الآفاق ، وكان الحاجّ يستريحون في هذا اليوم من مشاقّ السّفر ، ويتسعون في الماء ، ويروون بهائمهم بعد مقامهم بسبب قلّة الماء في الطّريق (٤).

__________________

ـ يحذف عند منع الصرف هو تنوين التمكين ، وهذا تنوين المقابلة.

٢ ـ يعرب على اللغة الفصحى بالضمة رفعا وبالكسرة جرا ونصبا دون تنوين في رواية جماعة ، منهم : المبرد ، والزجاج ؛ فقد لاحظوا فيه أمرين :

أولهما : أنه جمع بحسب أصله ، فنصب بالكسرة نيابة عن الفتحة.

وثانيهما : أنه علم على مؤنث حذفوا تنوينه.

٣ ـ يعرب إعراب الممنوع من الصرف ، فيرفع بالضمة ، ويجر وينصب بالفتحة من غير تنوين ، وهذا ممنوع عند البصريين ، خلافا للكوفيين ، نظروا إلى حالته الحاضرة فقط وهو أنه علم مؤنث ، فجر بالفتحة ، ومنع من الصرف.

ينظر : شرح ابن عقيل ١ / ٧٦ ، حاشية الخضري ، ١ / ٤٧ هامش الأشموني ١ / ٩٤ ، معاني القرآن ١ / ١٦٥.

(١) ينظر : ديوانه ٣١ ، والمقتضب ٣ / ٣٣٣ ، ٤ / ٣٨ ، وابن يعيش ١ / ٤٧ ، ٩ / ٣٤ ، الكتاب ٣ / ٢٣٣ ، والعيني ١ / ١٩٦ ، التصريح ١ / ٨٣ ، والهمع ١ / ٢٢ ، الأشموني ١ / ٩٤ ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٠٣ ، شرح ابن عقيل ١ / ٧٦ ، حاشية الخضري ١ / ٤٧ ، رصف المباني (٣٤٥) الدرر ١ / ٥ ، خزانة الأدب ١ / ٥٦ ، سر صناعة الإعراب ص ٤٩٧ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٣٥٩ ، المقاصد النحوية ١ / ١٩٦ ، وأوضح المسالك ١ / ٦٩ ، والدر المصون ١ / ٤٩٥.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٨.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٨.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي : ٥ / ١٤٨.

٤١٧

وقيل : إنهم يتزوّدون الماء (١) إلى عرفة.

وقيل : إنّ المذنين كالعطاش الّذين وردوا بحار رحمة الله ـ تعالى ـ ، فشربوا منها حتى رووا.

فصل في فضل هذين اليومين

دلّ عليه قوله تعالى : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) [الفجر : ٣] ، قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «الشّفع» ؛ يوم التّروية وعرفة ، والوتر يوم النّحر (٢).

وعن عبادة ؛ أنه ـ عليه‌السلام ـ قال : صيام عشر الأضحى كلّ يوم منها كالشّهر ، ولمن يصوم يوم التّروية سنة ، وبصوم يوم عرفة سنتان (٣).

وروى أنس عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ قال : «من صام يوم التّروية أعطاه الله مثل ثواب عيسى ابن مريم» (٤) ، وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء خمسة منها مختصّة به ، وخمسة يشترك فيها مع غيره ، فالخمسة الأول :

أحدها : عرفة وتقدّم اشتقاقه.

الثاني : يوم إياس الكفّار من دين الإسلام ؛ قال ـ تبارك وتعالى ـ : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) [المائدة : ٣].

قال عمر ، وابن عبّاس : نزلت هذه الآية الكريمة عشيّة عرفة ، والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، وذلك في حجّة الوداع وقد اضمحلّ الكفر وهدم شأن الجاهليّة ، فقال النبيّ ـ عليه‌السلام ـ : «لو يعلم النّاس ما لهم في هذه الآية ، لقّرّت أعينهم» فقال يهوديّ لعمر : لو أنّ هذه الآية نزلت علينا لاتّخذنا ذلك اليوم عيدا ، فقال عمر : أمّا نحن فجعلناه عيدين ؛ كان يوم عرفة ويوم الجمعة (٥) ، ومعنى إياس المشركين بأنّهم يئسوا من قوم محمّد ـ عليه‌السلام ـ أن يرتدّوا [راجعين] إلى دينهم.

الثالث : يوم إكمال الدّين ؛ نزل فيه قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] فلم يأمرهم بعد ذلك بشيء من الشّرائع.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٨.

(٢) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٣ / ٣٥٣) رقم (٣٧٤٧) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٤٦) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم.

(٣) هذا الحديث ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٥ / ١٤٨) عن عبادة بن الصامت.

(٤) الحديث ذكره ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (٢ / ١٦٥) بلفظ : من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه وإن صام يوم عرفة أعطاه الله عزوجل مثل ثواب عيسى ابن مريم.

وعزاه للديلمي في «مسند الفردوس» وقال : وفيه حماد بن عمرو.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٥٨) وعزاه لإسحق بن راهويه في «مسنده» وعبد بن حميد عن أبي العالية قال كانوا عند عمر فذكره.

٤١٨

الرابع : يوم إتمام النّعمة ؛ لقوله فيه : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] وأعظم النّعم نعمة الدّين.

الخامس : يوم الرّضوان ؛ لقوله تعالى في ذلك اليوم : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣].

أما الخمسة الأخر :

فأحدها : يوم الحجّ الأكبر ؛ قال تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) [التوبة : ٣] وهذا الاسم مشترك بينه وبين يوم النّحر ، واختلف فيه الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ والتابعون :

فمنهم من قال : إنّه عرفة ؛ لأنّ فيه الوقوف بعرفة «والحجّ عرفة» فإنّه لو أدركه وفاته سائر مناسك الحجّ ، أجزأ عنها الدّم ؛ فلهذا سمّي بالحجّ الأكبر.

وقال الحسن (١) : سمّي به ؛ لأنه اجتمع فيه الكفّار والمسلمون ، ونودي فيه على ألّا يحجّ بعده مشرك.

وقال ابن سيرين (٢) : إنما سمّي به ؛ لأنّه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلّها ؛ من اليهود والنّصارى وحجّ المسلمين ، ولم يجتمع قبله ولا بعده.

ومنهم من قال : إنّه يوم النّحر ؛ لأن فيه أكثر مناسك الحجّ ، فأمّا الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزىء باللّيل.

وثانيها : الشّفع.

وثالثها : الوتر.

ورابعها : الشّاهد.

وخامسها : المشهود في قوله تعالى : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)(٣) [البروج : ٣].

فصل «في ترتيب أعمال الحج»

من دخل مكّة محرما في ذي الحجّة أو قبله ، فإن كان مفردا أو قارنا طاف طواف القدوم ، وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات وإن كان متمتّعا طاف وسعى وحلق ، وتحلّل من عمرته ، وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات ، وحينئذ يحرم من مكّة بالحجّ ويخرج ، وكذلك من أراد الحجّ من أهل مكّة ، والسّنّة أن يخطب الإمام بمكّة يوم السّابع من ذي الحجّة ، بعد أن يصلّي الظّهر خطبة واحدة ، يأمرهم فيها بالذّهاب غدا بعد صلاة الصّبح إلى منى ، ويعلمهم تلك الأعمال ، ثم يذهبون يوم التّروية وهو اليوم الثّامن من ذي

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٩.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٩.

(٣) انظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٤٩.

٤١٩

الحجّة إلى منى ، بحيث يوافون الظّهر بها ، ويصلّون بها الظّهر والعصر والمغرب والعشاء والصّبح من يوم عرفة ، فإذا طلعت الشّمس على ثبير (١) يتوجّهون إلى عرفات ، فإذا دنوا منها فالسّنّة ألّا يدخلوها ، بل يضرب فيه الإمام بنمرة (٢) ، وهي قريبة من عرفة ، فينزلون هناك حتّى نزول الشّمس ، فيخطب الإمام خطبتين ، يبيّن لهم مناسك الحجّ ، ويحرّضهم على كثرة الدّعاء والتّهليل بالموقف ، فإذا فرغ من الخطبة الأولى ، جلس ثم قام ، وافتتح الخطبة الثّانية والمؤذّنون يأخذون في الأذان معه ، ويخفّف بحيث يكون فراغه من الخطبة ، مع فراغ المؤذّنين من الأذان ، ثم ينزل فيقيم المؤذّنون فيصلّي بهم الظّهر ، ثم يقيمون في الحال ويصلّي بهم العصر ، وهذا الجمع متفق عليه ، فإذا فرغوا من الصّلاة توجّهوا إلى عرفات ، فيقفون عند الصّخرات موقف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويستقبلون القبلة ويذكرون الله ـ تعالى ـ ويدعونه إلى غروب الشّمس.

وهنا الوقوف ركن لا يدرك الحجّ إلّا به ، فمن فاته في وقته وموضعه ، فقد فاته الحجّ ، ووقت الوقوف يدخل بزوال الشّمس من يوم عرفة ، ويمتدّ إلى طلوع الفجر من يوم النّحر ، وذلك نصف يوم وليلة كاملة ، فإذا حضر الحاجّ هناك في هذا الموقف لحظة واحدة من ليل أو نهار ، كفاه.

قال القرطبيّ (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : أجمع أهل العلم على أنّ من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزّوال ، ثم أفاض منها قبل الزّوال أنّه لا يعتدّ بوقوفه ذلك ، وأجمعوا على تمام حجّ من وقف بعرفة بعد الزّوال ، وأفاض نهارا قبل اللّيل إلّا مالك ؛ فإنّه قال : لا بدّ أن

__________________

(١) ثبير : بالفتح ثم الكسر ، وياء ساكنة ، وراء ؛ قال الجمحي ـ وليس بابن سلّام : الأثبرة أربعة : ثبير غينى ، الغين معجمة مقصورة ، وثبير الأعرج ، وثبير آخر ذهب عني اسمه ، وثبير منى ، وقال الأصعمي : ثبير الأعرج هو المشرف ب «مكة» على حق الطارقيين ، قال : وثبير غينى وثبير الأعرج ؛ وهما حراء وثبير ؛ وحكى أبو القاسم محمود بن عمران الثبيران بالتثنية : جبلان مفترقان يصبّ بينهما أفاعية ؛ وهو واد يصبّ من منى ، يقال لأحدهما : ثبير غينى ، وللآخر : ثبير الأعرج ؛ وقال نصر : ثبير من أعظم جبال «مكة» ، بينها وبين عرفة ، سمّي ثبيرا برجل من «هذيل» مات في ذلك الجبل ، فعرف الجبل به ، واسم الرجل ثبير.

وروى أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : لما تجلّى الله ـ تعالى ـ للجبل يوم موسى ، ـ عليه‌السلام ـ ، تشظّى ، فصارت منه ثلاثة أجبل ، فوقعت ب «مكة» ، وثلاثة أجبل وقعت ب «المدينة» فالتي ب «مكة» حراء ، وثبير ، وثور ؛ والتي ب «المدينة» أحد ، وورقان ، ورضوى.

ينظر : معجم البلدان ٢ / ٨٥.

(٢) نمرة : بفتح أوله ، وكسر ثانيه ، أنثى النمر : ناحية ب «عرفة» نزل بها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال عبيد الله بن أقرم : رأيته بالقاع من نمرة. وقيل : الحرم من طريق الطائف على طرف من نمرة على أحد عشر ميلا ، وقيل : نمرة الجبل الذي عليه أنصاب الحرم عن يمينك ، إذا خرجت من المأزمين تريد الموقف. قال الأزرقي : حيث ضرب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حجة الوداع ، وكذلك عائشة.

ينظر : معجم البلدان ٢ / ٣٥٢.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٨٦.

٤٢٠