اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

فصل

والمجزي فيها جذعة من الضأن ، أو ثنية من المعز ، أو شرك ستّة في بدنة ، أو بقرة ، ووقت وجوبه بعد الإحرام بالحجّ ؛ لأنّ قوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) يدلّ على أنّه عقيب التّمتع ، ويستحب ذبحه يوم النّحر فلو ذبح بعد الإحرام بالحجّ جاز ؛ لأنّ التمتع قد تحقّق. وعن أبي حنيفة لا يجوز إلّا يوم النّحر ؛ لأنّه نسك عنده.

قوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ؛) يعني : أنّ المتمتع إذا لم يجد الهدي ، فعليه أن يصوم ، وهل الهدي أفضل أم الصّيام؟ قال ابن الخطيب (١) : الظّاهر أنّ المبدل أفضل من البدل ؛ لكنّه تعالى بيّن في هذا البدل أنّه في الكمال والثّواب كالهدي وهو كقوله (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ).

قوله : «فصيام» في رفعه الأوجه الثّلاثة المذكورة في قوله : «ففدية» وقرىء (٢) نصبا ، على تقدير فليصم ، وأضيف المصدر إلى ظرفه معنى ، وهو في اللّفظ مفعول به على السّعة. و «في الحجّ» متعلّق بصيام وقدّر بعضهم مضافا ، أي : في وقت الحجّ.

ومنهم من قدّر مضافين ، أي : وقت أفعال الحجّ ، ومنهم من قدّره ظرف مكان ، أي : مكان الحجّ ويترتّب على ذلك أحكام ، وهي أنّ المتمتّع إذا لم يجد الهدي لا يصحّ صومه ، بعد إحرام العمرة ، وقبل إحرام الحجّ.

وقال أبو حنيفة : يصحّ.

حجّة الأوّل وجوه :

أحدها : أنّه صيام قبل وقته ؛ فلا يجوز كمن صام رمضان قبله ، وكما لو صام السّبعة قبل الرّجوع ، وذلك لأنّ الله تعالى قال : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) ، والمراد إحرام الحج ؛ لأنّ سائر أفعال الحجّ لا تصلح ظرفا للصّوم ، والإحرام يصلح ، فوجب حمله عليه.

وثانيها : أنّ ما قبل الإحرام بالحجّ ليس بوقت للهدي الذي هو أصل ، ولا يكون وقتا لبدله ، كسائر الأصول في الأبدال.

وإذا ثبت ذلك ، فنقول : اتّفقوا على أنّه يجوز بعد الشّروع في الحجّ إلى يوم النّحر ، وثبت أنّه لا يجوز يوم النحر ولا أيّام التّشريق لقوله عليه‌السلام «لا تصوموا في هذه الأيّام» (٣) ، والمستحبّ أن يصوم في أيّام الحج حيث يكون يوم عرفة مفطرا.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٥ / ١٣٢.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ٨٦ ، الدر المصون ١ / ٤٨٧.

(٣) أخرجه أحمد (٢ / ٥١٣ ، ٥٣٥) والدارقطني (٢ / ١٨٧) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٢٤٤) والطبراني في «الكبير» (٣ / ١٧٣) والخطيب في «تاريخ بغداد» (٢٧٨١٤) وأبو نعيم في «تاريخ ـ

٣٨١

وقال بعضهم : يصوم ثلاثة أيّام آخرها يوم عرفة السّابع ، والثّامن ، والتّاسع ، ولو صام ثلاثة أيّام آخرها يوم التّروية ، ويكون قد أحرم بالحجّ قبله جاز ، ولا يجوز يوم النحر ، ولا أيام التّشريق. وهو قول مالك والأوزاعيّ ، وأحمد ، وإسحاق.

فصل

اختلفوا فيمن اعتمر في أشهر الحجّ ، ثمّ رجع إلى بلده ، ثمّ رجع في عامه فقال الجمهور : ليس بمتمتع ، ولا هدي عليه ، ولا صيام. وقال الحسن : هو متمتّع.

وأجمعوا على أنّ الآفاقي إذا قدم معتمرا في أشهر الحج عازما على الإقامة ، ثم أنشأ الحج من عامه فحج ، أنّه متمتع عليه ما على المتمتّع.

قوله : «وسبعة» الجمهور على جرّ «سبعة» عطفا على ثلاثة. وقرأ (١) زيد بن عليّ ، وابن أبي عبلة : «وسبعة» بالنّصب. وفيها تخريجان :

أحدهما : قاله الزّمخشريّ ، وهو : أن يكون عطفا على محلّ «ثلاثة» كأنه قيل : فصيام ثلاثة ، كقوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد : ١٤ ، ١٥] ، يعني : أنّ المضاف إليه المصدر منصوب معنى بدليل ظهور النّصب في «يتيما».

والثاني : أن ينتصب بفعل محذوف تقديره : «فليصوموا» ، قال أبو حيان «وهذا متعيّن ؛ لأنّ العطف على الموضع يشترط فيه وجود المحرز» يعني : على مذهب سيبويه.

قوله : «إذا رجعتم» : منصوب بصيام أيضا ، وهي هنا لمحض الظّرف ، وليس فيها معنى الشّرط. لا يقال : يلزم أن يعمل عامل واحد في ظرفي زمان ، لأنّ ذلك جائز مع العطف والبدل ، وهنا يكون عطف شيئين على شيئين ، فعطف «سبعة» على «ثلاثة» ، وعطف «إذ رجعتم» على «في الحجّ».

وفي قوله : «رجعتم» شيئان :

أحدهما التفات ، والآخر الحمل على المعنى ، أمّا الالتفات : فإنّ قبله «فمن تمتّع فمن لم يجد» ، فجاء بضمير الغيبة عائدا على «من» ، فلو سيق هذا على نظم الأوّل لقيل : «إذا رجع» بضمير الغيبة. وأمّا الحمل فلأنّه أتى بضمير جمع ؛ اعتبارا بمعنى «من» ، ولو راعى اللّفظ لأفرد ، فقال : «رجع».

__________________

ـ أصبهان» (١ / ٦٣) والطبري في «تفسيره» (٤ / ١١٥).

وأورده الهيثمي في «المجمع» (٣ / ٢٠٦) وقال : رواه الطبراني في «الكبير» وفيه ضرار بن صرد وهو ضعيف.

وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٢٤٤٤٠) وعزاه لابن السكن وأبي نعيم عن ابن عباس.

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٧٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٨٧ ، الدر المصون ١ / ٤٨٧.

٣٨٢

فصل

اختلفوا في المراد من الرّجوع ، فقيل : هو الرّجوع إلى الأهل والوطن وقال أبو حنيفة المراد من الرّجوع : هو الفراغ من أعمال الحجّ ، والأخذ في الرّجوع ، ويتفرّع عليه أنّه لو صام السّبعة بعد الفراغ من الحجّ ، وقبل الوصول إلى بيته ، لا تجزيه على الأوّل.

وعن أبي حنيفة : تجزيه.

حجّة الأوّل : أنّه تعالى جعل الرّجوع إلى الوطن شرطا ، وما لم يوجد الشّرط لم يوجد المشروط ، ويؤكّد ذلك أنّه لو مات قبل وصوله إلى الوطن ، لم يلزمه شيء. وروى ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال : «لمّا قدمنا مكّة المشرفة قال النّبيّ ـ عليه‌السلام ـ اجعلوا إهلالكم بالحجّ عمرة إلّا من قلّد الهدي. فطفنا بالبيت ، وبالصّفا ، والمروة ، وأتينا النّساء ، ولبسنا الثّياب ، ثمّ أمرنا عشية التّروية أن نهلّ بالحجّ فإذا فرغنا قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عليكم الهدي ، فإن لم تجدوا ؛ فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ ، وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم» (١) ، وأيضا فإنّ الله ـ تعالى ـ أسقط صوم رمضان عن المسافر ، فصوم التّمتّع أخفّ شأنا منه.

وقوله : «تلك عشرة» مبتدأ وخبر ، والمشار إليه هي السّبعة والثّلاثة ، ومميّز السّبعة والعشرة محذوف للعلم به. وقد أثبت تاء التأنيث في العدد مع حذف التّمييز ، وهو أحسن الاستعمالين ، ويجوز إسقاط التّاء حينئذ ، وفي الحديث : «وأتبعه بستّ من شوّال» (٢) ، وحكى الكسائيّ : «صمنا من الشّهر خمسا».

وفي قوله : «تلك عشرة» ـ مع أنّ المعلوم أنّ الثّلاثة والسّبعة عشرة ـ أقوال كثيرة لأهل المعاني ، منها قول ابن عرفة : «إن العرب إذا ذكرت عددين ، فمذهبهم أن يجملوهما» ، وحسّن هذا القول الزّمخشري بأن قال : «فائدة الفذلكة في كلّ حساب : أن يعلم العدد جملة كما يعلم تفصيلا ، ليحتاط به من جهتين ، فيتأكّد العلم» ، وفي أمثالهم

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٢٨٢) كتاب الحج باب : تفسير قول الله تعالى ذلك لمن لم يكن رقم (١٥٧٢) والبيهقي في «سننه» (٥ / ٢٣) والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٨٨ ـ ٣٨٩).

(٢) أخرجه مسلم (٣ / ١٦٩) كتاب الصيام باب استحباب صوم ستة أيام من شوال رقم (٢٠٤ ـ ١١٦٤) وأبو داود (٢ / ٣٢٤) رقم (٢٤٣٣) والترمذي (١ / ١٤٦) رقم (٧٥٩) وابن ماجه (١ / ٥٤٧) رقم (١٧١٦) والدارمي (٢ / ٢١) وابن أبي شيبة (٢ / ١٨) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٣ / ١١٧ ـ ١١٩) والبيهقي (٤ / ٢٩٢) والطيالسي (٥٩٤) وأحمد (٥ / ٤١٧ ، ٤١٩) من طرق عن عمر بن ثابت الأنصاري عن أبي أيوب مرفوعا.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وأخرجه ابن ماجه (١٧١٥) والطحاوي (٣ / ١١٩ ، ١٢٠) وابن حبان (٩٢٨) ـ موارد ، والبيهقي (٤ / ٢٩٣) وأحمد (٥ / ٢٨٠) عن ثوبان مرفوعا وزاد من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.

٣٨٣

«علمان خير من علم». قال ابن عرفة : «وإنما تفعل العرب ذلك ؛ لأنّها قليلة المعرفة بالحساب» ، وقد جاء : «لا نحسب ، ولا نكتب» ، وورد ذلك في أشعارهم ، قال النّابغة : [الطويل]

٩٨٣ ـ توهّمت آيات لها فعرفتها

لستّة أيّام وذا العام سابع (١)

وقال الفرزدق : [الوافر]

٩٨٤ ـ ثلاث واثنتان فهنّ خمس

وسادسة تميل إلى شمام (٢)

وقال الأعشى : [الوافر]

٩٨٥ ـ ثلاث بالغداة فهنّ حسبي

وستّ حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ريّي

وشرب المرء فوق الرّيّ داء (٣)

وقال آخر : [الوافر]

٩٨٦ ـ فسرت إليهم عشرين شهرا

وأربعة فذلك حجّتان (٤)

وقال عليه‌السلام : «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» ، ثمّ أشار بيديه ثلاثا ، وأمسك إبهامه في الثالثة ، منبها بالإشارة الأولى على الثلاثين ، وبالأخرى على تسعة وعشرين (٥).

ومنها قال المبرد : «فتلك عشرة : ثلاثة في الحجّ وسبعة إذا رجعتم فقدّم وأخّر» ، ومنها قال ابن الباذش : جيء بعشرة توطئة للخبر بعدها ، لا أنّها هي الخبر المستقلّ بفائدة الإسناد كما تقول : زيد رجل صالح» يعني أن المقصود الإخبار بالصّلاح ، وجيء برجل توطئة ، إذ معلوم أنه رجل. ومنها قال الزّجاج (٦) : «جمع العددين لجواز أن يظنّ أنّ عليه ثلاثة أو سبعة» ؛ لأنّ الواو قد تقوم مقام أو ، ومنه : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [النساء : ٣] فأزال احتمال التّخيير ، وهذا إنّما يتمشّى عند الكوفيّين ؛ فإنّهم يقيمون الواو مقام أو. وقال الزمخشريّ : «الواو قد تجيء للإباحة في قولك : «جالس الحسن وابن سيرين» ألا ترى أنّه لو جالسهما معا ، أو أحدهما كان ممتثلا فجمع نفيا لتوهّم الإباحة» قال أبو حيان : «وفيه نظر ، لأنّه لا تتوهّم الإباحة ؛ فإنّ السّياق سياق إيجاب ، فهو ينافي الإباحة ، ولا ينافي

__________________

(١) تقدم برقم ٤٢٢.

(٢) البيت في ديوانه (٨٣٥) ، المشكل (٢٤٣) ، البحر ٢ / ٨٨ ، الموشح (١١٤) مجمع البيان (١ / ٢٩١) ، القرطبي (٢ / ٢٦٧) ، اللسان : عشر ، الدر المصون (١ / ٤٨٨).

(٣) ينظر البيتان في : البحر (٢ / ٨٨) ، القرطبي ٢ / ٢٦٧ ، الدر المصون (١ / ٤٨٨).

(٤) ينظر : اللسان (عشر) ، الدر المصون (١ / ٤٨٨).

(٥) أخرجه البخاري (٤ / ١٥١) كتاب الصوم : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تكتب ولا تحسب حديث (١٩١٣) ومسلم (٢ / ٧٦١) كتاب الصيام : باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال حديث (١٥ / ١٠٨٠) من حديث ابن عمر.

(٦) ينظر : معاني القرآن ١ / ٢٥٨.

٣٨٤

التّخيير ، فإنّ التّخيير يكون في الواجبات ، وقد ذكر النّحويّون الفرق بين التّخيير ، والإباحة».

وقد ذكر ابن الخطيب (١) قول الزّمخشري هذا المتقدّم ، وذكر وجوها أخر :

منها : أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالا من المبدّل ، فبيّن الله تعالى أنّ هذا البدل ليس كذلك ، بل هو كامل في كونه قائما مقام المبدّل ، فيكون الصائم ساكن النّفس إلى حصول الأجر الكامل من عند الله ، وذكر العشرة ليتوصل به إلى قوله «كاملة» ؛ لأنّه لو قال : «تلك كاملة» ؛ لجاز أن يراد به الثّلاثة المفردة عن السّبعة والسّبعة المفردة عن الثّلاثة ، فلا بدّ من ذكر العشرة.

وقوله : «كاملة» يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجه : إمّا أن تكون كاملة في البدل عن الهدي قائمة مقامه لا تنقص عنه ، أو أنّ ثوابها مثل ثواب القادر على الهدي ، أو أنّ حجّ المتمتع الصّائم كاملا كحج من لم يتمتّع.

ومنها أنّ الله تبارك وتعالى لو قال أوجبت عليك صيام عشرة أيّام ، لم يبعد أن يكون دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيّام ، فإنّ تخصيص العام كثير في الشّرع ، فلما قال «تلك عشرة» كان ذلك تنصيصا على أنّ المخصص لم يوجد البتّة ، فيكون أقوى دلالة ، وأبعد من احتمال التّخصيص والنّسخ.

ومنها أنّ التّوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب كقوله (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] ، وقوله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] وفائدة التوكيد أنّ الكلام المعبّر عنه بالعبارات الكثيرة الشّريفة وبالصّفات الكثيرة ، أبعد عن السّهو والنّسيان من الكلام المعبّر عنه بعبارة واحدة ، وكونه معبرا عنه بعبارات كثيرة يدلّ على كونه مشتملا على مصالح عظيمة ، لا يجوز الإخلال بها ، فإذا كان التّوكيد مشتملا على هذه الحكمة كان ذكره هنا دالّا على رعاية هذا العدد في هذا الصّوم ، فإنّه من المهمّات التي لا يجوز إهمالها ألبتّة.

ومنها أنّ هذا الكلام يزيل الإبهام الذي في تصحيف الخطّ ، فإنّ سبعة ، وتسعة متشابهان في الخطّ ، فلمّا قال بعده : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) ؛ أزال هذا الاشتباه.

ومنها : أنّ قوله (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) يحتمل أن يكون المراد : أن يكون الواجب بعد الرّجوع أنّ يكمل صيام سبعة أيّام ، على أنّه يحسب الثّلاثة المتقدّمة منها ، ويكمل عليها أربعة ، فلما قال «تلك عشرة» ؛ أزال هذا الاحتمال.

ومنها : أن هذا خبر ، ومعناه الأمر ، أي : تلك عشرة فأكملوها ولا تنقصوها.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٥ / ١٣٣.

٣٨٥

ومنها : أنّه تعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة بعد الرّجوع ، فليس فيه بيان أنّه طاعة عظيمة كاملة ، فلمّا قال بعده : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) دلّ ذلك على أنّ هذه الطّاعة في غاية الكمال ؛ وذلك لأنّ الصّوم مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال : «الصّوم لي» ، والحجّ أيضا مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، فكما دلّ النّصّ على مزيد اختصاص هاتين العبادتين بالله ـ سبحانه وتعالى ـ ، فالفعل دلّ أيضا على ذلك.

أمّا في الصّوم فلأنّه عبادة لا يطّلع العقل على وجه الحكمة فيها ألبتّة ، وهو مع ذلك شاقّ على النّفس جدّا ، فلا جرم لا يؤتى به إلّا لمحض مرضاة الله ـ تعالى ـ ثمّ إنّ صوم هذه تعني الانقياد له.

وكذا الحجّ عبادة لا يطّلع العقل على وجه الحكمة فيها ألبتّة ، وهو مع ذلك شاقّ جدا ؛ لأنّه يوجب مفارقة الأهل ، والولد والتّباعد عن أكثر اللّذّات ، فلا جرم لا يؤتى به إلّا لمحض مرضاة الله تعالى ، ثمّ إنّ صوم هذه الأيّام العشرة بعضه واقع في زمن الحج ، فيكون جمعا بين شيئين شاقّين جدّا ، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحجّ ، وهو انتقال من شاق إلى شاقّ ، ومعلوم أنّ ذلك سبب لكثرة الثّواب ، وعلوّ الدّرجة ، فلا جرم لمّا أوجب الله ـ تعالى ـ صيام هذه الأيّام العشرة ، شهد سبحانه على أنّها عبادة كاملة في غاية الكمال والعلوّ ، فقال تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) ، أي : وإنها كاملة.

قوله : (ذلِكَ لِمَنْ) «ذلك» مبتدأ ، والجارّ بعده الخبر. وفي اللّام قولان :

أحدهما : أنّها على بابها ، أي : ذلك لازم لمن.

والثاني : أنها بمعنى على ، كقوله : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) [الرعد : ٢٥] ، وقال عليه‌السلام «اشترطي لهم الولاء» (١) ، أي : عليهم ، وقوله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] أي : فعليها ، وذلك إشارة إلى التّمتّع ، والقران للغريب [ولا حاجة إلى هذا. و «من» يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة. و «حاضري» خبر «يكن» ، وحذفت نونه للإضافة].

فصل

قوله : «ذلك» إشارة إلى أمر تقدّم ، وأقرب الأمور المذكورة ، ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله.

وقال بعض العلماء (٢) : لزوم الهدي وبدله للمتمتّع مشروط بألّا يكون من حاضري المسجد الحرام ، فإن كان من أهل الحرم ، فلا يلزمه هدي المتمتّع ، وإنّما لزم الآفاقي ؛

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٣٥٢) والدارقطني (٢ / ٢١٩) والبيهقي (٥ / ٢٢٢) والطبراني في «الكبير» (١١ / ٣٦٣).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٥.

٣٨٦

لأنه كان يجب عليه أن يحرم بالحجّ من الميقات ، فلمّا أحرم بالعمرة من الميقات ، ثم أحرم بالحجّ من غير الميقات ، فقد حصل هناك خلل ، فجبر بالدّم ، بدليل أنّه لو رجع ، فأحرم بالحجّ أيضا من الميقات ، لم يلزمه دم ، والمكيّ ميقاته موضعه ، فلا يقع في حجّه خلل من جهة الإحرام ، فلا هدي عليه.

وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : قوله «ذلك» إشارة إلى الأبعد وهو ذكر التّمتع ، وعنده لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام ، ومن تمتع أو قرن ، كان عليه دم جناية لا يأكل منه.

حجّة القول الأوّل وجوه :

أحدها : قوله تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) عامّ يدخل فيه الحرمي ، وغيره.

وثانيها : أنّ الإشارة يجب عودها إلى أقرب مذكور ، وهو وجوب الهدي ، فإذا خصّ وجوب الهدي بالمتمتع الآفاقي ؛ لزم القطع بأن غير الآفاقي قد يكون أيضا متمتعا.

وثالثها : أنّ الله تعالى شرع القران والمتعة تبيينا لنسخ ما كان عليه أهل الجاهليّة في تحريمهم العمرة في أشهر الحجّ ، والنسخ ثبت في حقّ النّاس كافّة.

حجّة أبي حنيفة : أنّ قوله : «ذلك» كناية ؛ فوجب عودها إلى كلّ ما تقدم ، لأنّه ليس البعض أولى من البعض.

والجواب أنّ عوده إلى الأقرب أولى ، لأنّ القرب سبب للرّجحان ، ومذهبكم أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل مختصّ بالجملة الأخيرة (١) ، وإنّما تميزت تلك

__________________

(١) اختلفوا في هذه المسألة : ومحل الخلاف في الظهور ؛ وهو أن الاستثناء هل هو ظاهر في رجوعه إلى كل الجمل ، ولا يحمل على الجملة الأخيرة إلا بدليل أو بالعكس؟

فذهب أكثر علماء الشافعية ، والمالكية ، والحنابلة إلى أنه ظاهر في رجوعه إلى الجميع ، والعطف يصير المتعدد كالمفرد.

وذهب علماء الحنفيّة إلى أنه ظاهر في رجوعه إلى ما يليه من الجمل ، وهو مختص بالجملة الأخيرة خاصة ، إلا أن يقوم الدليل على التعميم ، واختاره المصنف هنا ، وقال الأصفهاني في القواعد : إنه الأشبه ، ونقله أبو الحسين البصري عن أهل الظاهر وذهب إمام الحرمين ، والغزالي إلى التوقف ، فيجوز أن يصرف إلى الأول ، وإلى المتوسط ، وإلى الأخير ، ولكن في الحال توقف ، والمنع لدليل ، فإن قام دليل على انصرافه لأحدهما ، صرنا إليه ، وقال أبو الحسين بن فارس في كتاب «فقه اللغة» : فإن دلّ الدليل على عوده إلى الجميع ، عاد ؛ كآية المحاربة ، وإن دل على منع ، امتنع ؛ كآية القذف.

وذهب المرتضى إلى أنه مشترك بينهما ، فتوقّف إلى ظهور القرينة. وقال أبو الحسين إن تبيّن استقلال الثانية عن الأولى بالإضراب ، وذلك بأن يختلفا نوعا ، أو اسما ، أو حكما ـ فللأخيرة ، وإلا فللجميع. وقالت الأشعرية : هو موقوف على الدليل.

ومذهب آخر : وهو أن الجمل إن كانت كلها مسوقة لمقصود واحد ، انصرف إلى الجميع ، وإن سيقت لأغراض مختلفة ، اختص بالأخيرة ؛ حكاه ابن برهان في الأوسط عن القاضي عبد الجبار المعتزلي.

والمذهب الأخير : أن الواو إن ظهرت للابتداء ؛ كقوله : أكرم بني تميم والنحاة البصريين إلا البغاة ـ

٣٨٧

الجملة عن سائر الجمل بسبب القرب ، فكذا ها هنا.

فصل

اختلفوا في حاضري المسجد الحرام ، فذهب قوم إلى أنّهم أهل مكّة ، وهو قول مالك ـ رحمه‌الله (١) ـ.

وقال ابن جريج (٢) : أهل عرفة والرجيع وضجنان.

__________________

ـ اختص بالأخير ، وإن ترددت بين العطف والابتداء ، فالوقف ؛ وهو مختار سيف الدين.

ففي آية القذف في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) لم يعد الاستثناء إلى الأولى بالإجماع ؛ لأن الجلد حق الآدمي لا يسقط بالتوبة إلا على رأي الشّعبي ، وهو مذهب شاذّ وقول قديم ، ويعود إلى الأخيرة بالاتفاق. وقال الشافعي : ويعود أيضا إلى الثانية ، فتقبل شهادته إذا تاب التوبة المعتبرة ، ومنع أبو حنيفة عوده إلى الثانية.

واستدلّ الجمهور بأدلة منها : أن الجمل المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة ؛ ولهذا فإنه لا فرق في اللّغة بين قوله : اضرب الجماعة التي منها قتلة وسرّاق وزناة إلا من تاب ، بين قوله : اضرب من قتل ، وسرق ، وزنا ، إلا من تاب ، فوجب اشتراكهما في عود الاستثناء إلى الجميع.

ومنها : أن الإجماع منعقد على أنه لو قال : والله لا أكلت الطعام ، ولا دخلت الدار ، ولا كلمت زيدا ، واستثنى بقوله : إن شاء الله أنه يعود إلى الجميع.

ومنها : أن الاستثناء صالح لأن يعود إلى كل واحدة من الجمل ، وليس البعض أولى من البعض فوجب العود إلى الجميع كالعام. إذا تقرر ذلك ، وثبت لك ما هنالك ، فيمكن القول : إنه لم ينقل عن الشافعي نصّ في هذه المسألة بخصوصها ، وإنما أخذ من مذهبه في مسألة المحدود بالقذف ، والشافعي إنما صار إلى ذلك ؛ لأن ذكر الجمل هناك لم يكن إضرابا عن الجملة المتقدمة ؛ لأن الآيات سيقت لغرض واحد ، وهو الجزاء على تلك الجريمة.

وقال صاحب «المصادر» : الخلاف في هذه المسألة إنما نشأ من اختلافهم في الفروع من المحدود في القذف ، هل تقبل شهادته بعد التوبة أم لا؟ على معنى أنهم اختلفوا في هذه المسألة التي هي فرع ، حداهم هذا الاختلاف الذي هو أصل لذلك الفرع ، لا أنهم ذهبوا فيما هو فرع هذا الأصل إلى مذاهب ، ثم رتّبوا عليه هذا الأصل ، لأن هذا عكس الواجب ؛ من حيث إن الفرع يترتب على أصله ، ويستوي عليه ، لا أن يترتب الأصل على فرعه ، ويستوي عليه ؛ فإن ذلك بمنزلة تسوية الصنجة على مقدار المبتاع ، في أنه غير صحيح ولا مستقيم ؛ إذ الصحيح المستقيم أن يستوي مقدار المبتاع الموزون على الصنجة المعتدلة. انتهى.

ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣١٢ ، البرهان ١ / ٣٨٨ ، المستصفى ٢ / ١٧٤ ، ١٨٠ ، المنخول (١٦٠) ، المحصول ١ / ٣ / ٦٣ ، المعتمد ١ / ٢٦٤ ، التبصرة (١٧٢) ، شرح الكوكب ٣ / ٣١٣ ، ارشاد الفحول (١٥٢) ، شرح العضد ٢ / ١٣٩ ، جمع الجوامع ٢ / ١٧ ، تيسير التحرير ١ / ٣٠٢ ، فواتح الرحموت ١ / ٣٣٢ ، التلويح ٢ / ٣٠٣ ، الإحكام للآمدي ٢ / ٢٧٨ ، أصول السرخسي ١ / ٧٥ ، شرح المنتهى لابن الحاجب (١٩٢) الإبهاج ٢ / ١٦٢ ، نشر البنود ١ / ٢٥٠ ، المسودة (١٥٦) الروضة (١٣٤) (١٣٥) العدة ٢ / ٦٧٨ ، فصول البدائع للفناري ٢ / ١١٨ ، وفتح الغفار ٢ / ١٢٨.

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٥.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧١.

٣٨٨

وقال الشّافعيّ ـ رحمه‌الله ـ : كلّ من كان وطنه من مكّة على أقلّ من مسافة القصر ، فهو من حاضري المسجد الحرام (١).

وقال عكرمة : من كان دون الميقات (٢).

وقيل هم أهل الميقات فما دونه ، وهو قول أصحاب الرّأي (٣).

وقال طاوس : الحرم كلّه (٤) ، وهو قول الشّافعيّ ، وأحمد لقوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) [الإسراء : ١] وإنما أسرى به من الحرم من بيت أمّ هانىء لا من المسجد ، وقال (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٣٣] ، والمراد الحرم ؛ لأن الدّماء لا تراق في البيت ، والمسجد الحرام إنّما وصف بهذا ؛ لأنّ أصل الحرام المنع ، والمحرم : ممنوع من المكاسب ، والمسجد الحرام ممنوع أن يفعل فيه ما منع من فعله.

قال الفرّاء (٥) : يقال حرام ، وحرم مثل : زمان وزمن ، وذكر حضور الأهل ، والمراد حضور المحرم ، لا حضور الأهل ، لأنّ الغالب على الرّجل أنّه يسكن حيث أهله ساكنون فلو خرج المكيّ إلى الآفاق ، وأهله بمكّة ، ثمّ عاد متمتعا ؛ لزمه هدي التمتع ، ولا أثر لحضور أهله في المسجد الحرام.

وقيل المراد بقوله (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ) ، أي يكون أهلا لهذه العبادة.

فصل

ودم القران كدم التّمتّع ، فالمكيّ إذا قرن ، أو تمتع ، فلا هدي عليه.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قوله : يريد فيما فرضه عليكم (٦) ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن تهاون بحدوده.

وقال أبو مسلم (٧) : العقاب والمعاقبة سيّان ، وهو مجازاة المسيء على إساءته ، وهو مشتقّ من العاقبة ، كأنّه يراد عاقبة فعل المسيء ، كقول القائل : لتذوقن ما ذوّقت ، و «شديد العقاب» من باب إضافة الصّفة المشبّهة إلى مرفوعها ، وقد تقدّم أنّ الإضافة لا تكون إلا من نصب ، والنّصب والإضافة أبلغ من الرّفع ؛ لأنّ فيها إسناد الصّفة للموصوف ، ثم ذكر من هي له حقيقة ، والرّفع إنّما فيه إسنادها ، دون إسناد إلى موصوف لمن هي له حقيقة.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧١.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧١.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧١.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧١.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٦.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٦.

(٧) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٦.

٣٨٩

قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(١٩٧)

«الحجّ» مبتدأ ، و «أشهر» خبره ، والمبتدأ والخبر لا بدّ أن يصدقا على ذات واحدة ، و «الحجّ» فعل من الإفعال ، و «أشهر» زمان ، فهما غيران ، فلا بدّ من تأويل ، وفيه ثلاثة احتمالات :

أحدها : أنّه على حذف مضاف من الأوّل ، تقديره : أشهر الحج أشهر معلومات. أي : لا حجّ إلّا في هذه الأشهر ولا يجوز في غيرها ، كما كان يفعله أهل الجاهليّة في غيرها ، كقوله البرد شهران ، أي : وقت البرد شهران.

الثاني : الحذف من الثاني تقديره : الحجّ حجّ أشهر ، فيكون حذف من كل واحد ما أثبت نظيره.

الثالث : أن تجعل الحدث نفس الزّمان مبالغة ، ووجه المجاز كونه حالّا فيه ، فلما اتّسع في الظّرف جعل نفس الحدث ، ونظيره : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] وإذا كان ظرف الزمان نكرة مخبرا به عن حدث ، جاز فيه الرفع والنّصب مطلقا ، أي : سواء كان الحدث مستوعبا للظّرف ، أم لا ، هذا مذهب البصريين.

وأمّا الكوفيّون فقالوا : إن كان الحدث مستوعبا ، فالرّفع فقط نحو : «الصّوم يوم» ، وإن لم يكن مستوعبا ، فهشام يلتزم رفعه أيضا نحو : «ميعادك يوم» والفرّاء يجيز نصبه مثل البصريّين ، وقد نقل عنه أنّه منع نصب «أشهر» ، يعني : في الآية الكريمة ، لأنها نكرة ، فيكون له في المسألة قولان ، وهذه مسألة طويلة.

قال ابن عطيّة : «ومن قدّر الكلام : الحج في أشهر ، فيلزمه مع سقوط حرف الجرّ نصب الأشهر ، ولم يقرأ به أحد» قال أبو حيان رحمه‌الله : ولا يلزم ذلك ؛ لأنّ الرّفع على جهة الاتّساع ، وإن كان أصله الجرّ ب «في».

فصل

أجمع المفسّرون على أنّ شوّالا ، وذا القعدة ، من أشهر الحج ، واختلفوا في ذي الحجّة فقال عروة بن الزّبير : إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك ، وداود.

وقال أبو حنيفة : العشر الأول من ذي الحجّة من أشهر الحجّ ؛ وهو قول ابن عبّاس ، وابن عمر ، والنخعي ، والشعبي ، ومجاهد ، والحسن (١).

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٧.

٣٩٠

وقال الشافعيّ ـ رحمه‌الله ـ : التسعة الأول ، مع ليلة النّحر من أشهر الحج (١).

حجّة الأوّل : أن الأشهر جمع ، وأقلّه ثلاثة (٢) ، وأيضا فإنّ أيّام النّحر يفعل فيها بعض ما يتّصل بالحج : من رمي الجمار ، والذّبح ، والحلق ، وطواف الزّيارة ، والبيتوتة يعني ليالي منى ، وإذا حاضت المرأة ، فقد تؤخّر الطّواف الذي لا بدّ منه إلى انقضاء أيّام بعد العشرة. ومذهب عروة (٣) تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر.

والجواب أنّ لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ؛ بدليل قوله (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤]. وقال ـ عليه‌السلام : «الاثنان فما فوقهما جماعة» (٤). وأيضا فإنّه نزّل بعض الشّهر منزلة كلّه ، فإنّ العرب تسمّي الوقت تامّا بقليله ، وكثيره ، يقال زرتك سنة كذا ، وأتيتك يوم الخميس ، وإنما زاره ، وأتاه في بعضه ، وأيضا فإنّ الجمع ضمّ شيء إلى شيء ، فإذا جاز أن يسمّى الاثنان جماعة ، جاز أن يسمّى الاثنان ، وبعض الثّالث جماعة ، وأمّا رمي الجمار ، فإنما يفعله الإنسان ، وقد حلّ بالحلق والطّواف ، والنّحر ، فكأنه ليس من أعمال الحجّ ، والحائض إذا طافت بعده ، فكأنه في حكم القضاء ، لا في حكم الأداء.

حجّة الثاني : أنّ المفسرين قالوا : إنّ يوم الحجّ الأكبر ، هو يوم النّحر ؛ لأنّ معظم

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٧.

(٢) اختلف العلماء في أقلّ الجمع ، هل هو اثنان أو ثلاثة أو يصار فيه إلى التوقف؟ وليس محلّ الخلاف في المفهوم في لفظ الجمع لغة ـ وهو ضم شيء إلى شيء ـ فإن ذلك في الاثنين والثلاثة وما زاد من غير خلاف ، وإنما محلّ النزاع والخلاف هو في اللفظ الذي هو مسمّى بالجمع ، نحو : الرجال والمسلمين ، لا في لفظ الجمع الذي هو مركب من الجيم ، والميم ، والعين ، فذهب جماعة : إلى أن أقل الجمع ثلاثة ، وإلى هذا ذهب الجمهور من الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة ، وعليه أكثر الصحابة والمتكلمين وأهل اللغة وعزي هذا المذهب إلى عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود.

ينظر : البرهان ١ / ٣٤٨ ، المحصول ١ / ٢ / ٦٠٦ ، اللمع ص ١٥ ، التبصرة ١٢٧ ، الإبهاج ٢ / ١٢٩ ، المعتمد ١ / ٢٤٨ ، العدة ٢ / ٦٤٩ ، المنخول ١٤٨ ، شرح التنقيح ٢٣٣ ، الإحكام للآمدي ٤٠٢ ، روضة الناظر (١٢١) ، جمع الجوامع ١ / ٤١٩ ، شرح الكوكب المنير ٣ / ١٤٤ ، المنتهى لابن الحاجب (٧٧) ، أصول السرخسي ١ / ١٥١ ، كشف الأسرار ٢ / ٢٨ ، فواتح الرحموت ١ / ٢٦٩ ، المسودة ١٤٩ ، نشر البنود ١ / ٢٣٤ ، شرح اللمع ١ / ٣٣٠ ، الوصول لابن برهان ١ / ٣٠٠ ، مفتاح الوصول ٧٣ ، تقريب الوصول (٧٨).

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٧.

(٤) أخرجه ابن ماجه (١ / ٣١٢) رقم (٩٧٢) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١ / ١٨٢) والبيهقي (٣ / ٦٩) والدارقطني (١ / ٢٨٠) والخطيب في «تاريخ بغداد» (٨ / ٤١٥ و ١١ / ٤٥ ـ ٤٦) وابن عدي (٥ / ١٨٩٠) وابن سعد (٧ / ٣٤) وابن عبد البر في «التمهيد» (٦ / ٣١٧).

قال البوصيري في «الزوائد (١ / ٣٣١) : هذا إسناد ضعيف لضعف الربيع ووالده بدر بن عمر.

وقال البيهقي : رواه جماعة عن الربيع بن بدر وهو ضعيف.

٣٩١

أفعال الحج يفعل فيه : من طواف الزيارة ؛ الذي هو ركن في الحج ، والرّمي ، والذّبح ، والحلق ، فدخوله في أيام الحج أولى.

حجّة الشافعي ـ رحمه‌الله تعالى ـ : أنّ الحجّ يفوت بطلوع الفجر يوم النّحر ، والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها.

فصل

قال بعض العلماء : لا يجوز أن يهلّ بالحج قيل أشهر الحج ؛ وهو قول ابن عباس ، وجابر ، وبه قال عطاء ، وطاوس ، ومجاهد (١) ، وإليه ذهب الأوزاعي ، والشافعيّ ، وأحمد في رواية ، وإسحاق.

وقال مالك ، والثوريّ وأبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ يجوز.

حجّة الأول : قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ).

جمع الأشهر جمع تقليل ، على سبيل التّنكير ؛ فلا يتناول الكلّ ، وأكثر الجمع إلى عشرة ، وأدناه إلى ثلاثة ، وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى ، واتفق المفسّرون على أنّ تلك الثّلاثة ، شوّال وذو القعدة ، وبعض ذي الحجّة.

وإذا تقرّر هذا ، وجب ألّا يجوز الإحرام بالحجّ قبل الوقت ؛ لأنّ الإحرام بالعبادة قبل وقت أدائها لا يصحّ ؛ كالصّلاة ، وخطبة الجمعة قبل الوقت.

حجّة الثاني : قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] ، فجعل الأهلّة كلّها مواقيت الحجّ ، وليس مواقيتا للأداء ، فثبت أنها مواقيت لصحّة الإحرام ، ويجوز أن يسمّى الإحرام حجّا ؛ مجازا ، كما سمّي الوقت حجّا في قوله : «الحجّ أشهر» بل هنا أولى ؛ لأن الإحرام أقرب إلى الحج من الوقت. وقد اشتهر بين أكابر الصّحابة أنّهم قالوا : إتمام الحجّ والعمرة أن يحرم بهما من دويرة أهله ، ومن يكن منزله بعيدا يجب أن يكون في المشرق أو في المغرب ، فلا بدّ وأن يحرم بالحج قبل أشهر ، وأيضا فإنّ الإحرام التزام بالحجّ ، فجاز تقديمه على الوقت ؛ كالنّذر.

وأجاب الأوّلون عن قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) بأنّ قوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) أخصّ منها ، وفرّقوا بين النّذر والإحرام : بأنّ الوقت معتبر للأداء ، ولا اتّصال للنذر بالأداء ، بدليل أنّ الأداء لا يتصور إلّا بعقد مبتدأ ، والإحرام مع كونه التزاما ، فهو شروع في الأداء ، وعقد عليه ؛ فلا جرم افتقر إلى الوقت.

فصل

قوله : «معلومات» أي : معلومات عندهم ، مقررة لبيان الشرع ، بخلاف مرادهم

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» ٤ / ١١٥ عن ابن عباس.

٣٩٢

بها. أو معلومات ببيان الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وأنها مؤقتة في أوقات معينة ، لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها ، كما فعلوه في النّسيء.

قوله : «فمن فرض فيهنّ الحجّ».

يجوز في «من» أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة ، كما تقدّم في نظائرها ، و «فيهنّ» متعلّق ب «فرض». والضّمير في «فيهنّ» يعود على «أشهر» وجيء به كضمير الإناث ، لما تقدم من أنّ جمع غير العاقل في القلّة يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح ؛ فلذلك جاء «فيهنّ» دون «فيها» ، وهذا بخلاف قوله : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) [التوبة : ٣٦] لأنه هناك جمع كثرة.

وفرض في اللّغة : ألزم وأوجب ، يقال فرضت عليك كذا ، أي : أوجبته ، وأصل الفرض في اللغة : التّأثير والحزّ والقطع.

قال ابن الأعرابي (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : الفرض الحزّ في القدح ، [وفي الوتد ، وفي غيره] ، وفرضة القوس : الحزّ الذي فيه الوتر ، وفرضة الوتد الحزّ الذي فيه ، ومنه فرض الصلاة ؛ لأنها لازمة للعبد كلزوم الحزّ للقدح ، ففرض ـ ها هنا ـ بمعنى : أوجب ، وقد جاء في القرآن «فرض» بمعنى أبان ؛ قال تعالى (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) [النور : ١] بالتخفيف ، وقوله (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم : ٢].

وهو راجع إلى معنى القطع ؛ لأنّ من قطع شيئا ، فقد أبانه من غيره ، والله تعالى إذا فرض شيئا ، أبانه عن غيره ، ففرض بمعنى : أوجب ، وفرض : بمعنى أبان ؛ كلاهما راجع إلى أصل واحد ؛ ومن ها هنا فرّق بعضهم بين الفرض والواجب (٢) ، فقالوا :

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٨.

(٢) الفرض والواجب لفظان مترادفان عند غير الحنفية ، معناهما واحد : هو الفعل الذي طلبه الشاع طلبا جازما ، سواه كان الطلب بدليل قطعي ؛ كالقرآن ، والسنة المتواترة ، أو كان بدليل ظني ؛ كخبر الآحاد.

أما الحنفية فإنهم يفرقون بين الفرض والواجب.

فالفرض عندهم : هو الفعل الذي طلبه الشارع طلبا جازما بدليل قطعي ؛ كالصلاة ، ومطلق القراءة فيها ؛ والزكاة فإنها مطلوبة طلبا جازما بأدلة قطعية ، هي قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ ـ وَآتُوا الزَّكاةَ) ـ (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ؛) إذ لا شك أنها قطعية الثبوت ، ومثل القرآن في ذلك السنة المتواترة.

والواجب عندهم : هو الفعل الذي طلبه الشارع طلبا جازما بدليل ظني ؛ كخصوص قراءة الفاتحة في الصلاة المدلول على طلبها طلبا جازما بخبر الآحاد ؛ كما في الصحيحين : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.

وعلّلوا هذه التفرقة : بأن الفرض معناه في اللغة : القطع ؛ لأنه مأخوذ من فرض الشيء بمعنى : حزّه ، أي : قطع بعضه ، فالفرض بمعنى المفروض ، أي : المقطوع به ، والذي فرضه الله علينا لا يمكن علمه يقينا ، إلا إذا كان ثابتا بالدّليل القطعي.

والواجب هو السّاقط ؛ لأنه مأخوذ من وجب بمعنى : سقط ؛ يدل له قوله تعالى : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) ـ

٣٩٣

الفرض ما ثبت بدليل قطعيّ ؛ لأن أصله القطع ، وسمّاه بالركن.

__________________

ـ أي : سقطت ، والذي أوجبه الله علينا بدليل ظني لمّا لم يعلم يقينا فرضه ، وتقديره علينا ، كان ساقطا ، أي : غير معدود من القسم الذي يتعلق به العلم ؛ لأنه خاصّ بالمقطوع به ، ومن هنا سمّوا ما ثبت بقطعي ب «الواجب» علما وعملا ، وما ثبت بظني ب «الواجب» عملا فقط.

ولكن يردّ عليهم بأن تخصيص الفرض بالمقطوع به فقط تحكم ؛ لأن الفرض في اللّغة التقدير مطلقا ، سواء كان مقطوعا به أو مظنونا فالتخصيص بأحد القسمين دون الآخر تخصيص بلا دليل ، فلا يكون مقبولا.

وبأنه وردت في اللغة كلمة «وجب» بمعنيين :

الأول : بمعنى : سقط ، ومصدرها حينئذ : الوجبة ، وليس هذا محل النزاع.

الثاني : بمعنى ثبت ؛ ومنه قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إذا وجب المريض فلا تبكين باكية» أي : إذا ثبت واستقر وزال عنه الاضطراب ، فلا تبكين باكية ؛ لأن ذلك علامة اشتغاله بمشاهدة أمر من أمور الآخرة ، فمصدرها حينئذ الوجوب بمعنى : الثبوت ، فيقال : وجب الشيء وجوبا ، أي : ثبت ثبوتا ، سواء كان مقطوعا به أو مظنونا ، فتخصيص الواجب بما ثبت بدليل ظني ؛ لأنه ساقط ، أي : نازل عن اعتباره من قسم المعلوم لا أساس له.

على أن كثرة استعمال أهل اللغة العربية لهذين اللفظين في معنييهما مطلقا ، سواء كان مقطوعا بهما أو مظنونا يرجح ما نقول ، ومن هنا نجد أن الحنفية قد نقضوا أصلهم هذا ، واستعملوا الفرض فيما ثبت بظني ، والواجب فيما ثبت بقطعي ؛ كقولهم : الوتر فرض ، وتعديل الأركان فرض ؛ وكقولهم : الصلاة واجبة ، والزكاة واجبة.

والواقع أن الخلاف بين الحنفية وغيرهم خلاف لفظي وليس حقيقيا ؛ لأنهم جميعا متّفقون على أن ما ثبت بدليل ظني لا يكون في قوة ما ثبت بدليل قطعي ، وأن جاحد الأوّل لا يكفر ، بخلاف جاحد الثاني ؛ كما أنهم متفقون على تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة.

وإنما الخلاف بينهم في التسمية فقط ، فنحن نقول : إن الفرض والواجب لفظان مترادفان اصطلاحا ، نقلا عن معناهما اللغوي إلى معنى واحد ، هو الفعل المطلوب طلبا جازما ، سواء ثبت ذلك بدليل قطعي أو ظني ، والحنفية يخصّون كلا منهما باسم خاص ، ويجعلونه اسما له ، وهذا اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.

ومقتضى كون الخلاف لفظيا : ألّا يكون له أثر في الفروع يترتب على الفرق بين الفرض والواجب ، وهو كذلك.

وما يظن من أن هذا الخلاف حقيقي ؛ لأن له أثرا ظهر في ترك قراءة الفاتحة في الصلاة ؛ حيث قيل بتأثيم التارك ، وعدم فساد صلاته إن أتى بقراءة غيرها ، بخلاف تارك القراءة فيها أصلا ، حيث قيل بتأثيمه وفساد صلاته ـ غير سديد ؛ لأن عدم الفساد عندهم ليس ناشئا من التفرقة بين الفرض والواجب ، وإنما هو ناشىء عن الدليل الذي دلّ المجتهد على الحكم ، وهو ظنية الدليل الذي تسبب عنه أمران : التسمية بالواجب ، وعدم الفساد ، ولا يلزم من سببية شيء ، لأمرين : أن يكون أحدهما سببا للآخر ، والذي كان في مقابلته الدليل القطعي الدالّ على فرضية مطلق القراءة الذي عدل عن الفاتحة إليها ، فقيل بعدم الفساد عملا بظنية دليل الفاتحة ، وقطعية دليل مطلق القراءة.

ينظر : الإحكام للآمدي ١ / ٩٢ ـ ٩٤ ، الإبهاج ١ / ٥٥ ، نهاية السول ١ / ٧٣ ، التمهيد للإسنوي ص (٥٨) ، المحصول ١ / ١ / ١١٧ ، البرهان ١ / ٣٠٨ ، المستصفى ١ / ٤٢ ، المنتهى لابن الحاجب ص (٢٣) ، كشف الأسرار ٢ / ٣٠٠ ، أصول السرخسي ١ / ١٠٠ ، المنخول ص (٧٦) ، فواتح الرحموت ـ

٣٩٤

والواجب ما ثبت بدليل ظنّي ، وجعل الفرض لا يسامح به ، عمدا ولا سهوا ، وليس له جابر ، والواجب ما يجبر ويسامح فيه العباد لسهوة ، قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ «فرض» في القرآن بإزاء خمسة معان :

الأول : فرض بمعنى أوجب ، كهذه الآية الكريمة ، ومثله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) [البقرة : ٢٣٧] أي أوجبتم.

الثاني : فرض بمعنى بيّن ، قال تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم : ٢] ومثله (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) [النور : ١].

الثالث : فرض : بمعنى أحلّ ؛ قال تعالى : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) [الأحزاب : ٣٨] أي أحلّ.

الرابع : فرض : بمعنى أنزل ؛ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ) [القصص : ٨٥] أي : أنزل.

الخامس : الفرض : الفريضة في قسمة المواريث ؛ كما قال تبارك وتعالى : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) [النساء : ١١].

فصل

قوله : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) يدلّ على أنّه لا بدّ للمحرم من فعل يفعله ؛ يصير به محرما وحاجا ، واختلفوا في ذلك الفعل.

فقال الشّافعيّ ، وأحمد : ينعقد الإحرام بمجرد النّية ، من غير حاجة إلى التّلبية.

وقال أبو حنيفة : لا يصحّ الشّروع في الإحرام بمجرد النية ؛ حتى يضمّ إليه التّلبية أو سوق الهدي.

وقال القفّال في تفسيره (١) : يروى عن جماعة من العلماء ؛ أنّ من أشعر هديه أو قلّده ، فقد أحرم ، وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال : إذا قلّد أو أشعر ، فقد أحرم (٢) ، وعن ابن عباس: إذا قلّد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحجّ ، فقد أحرم (٣).

قوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) إمّا جواب الشّرط ، وإمّا زائدة في

__________________

ـ ١ / ٥٨ ، العدة ١ / ١٦٢ ، ٢ / ٣٧٦ ، شرح الكوكب المنير ١ / ٣٥١ ، سلاسل الذهب ص (١١٤) ، البحر المحيط ١ / ١٨١ ، روضة الناظر ص (١٦) ، الحدود للباجي ص (٥٣) مختصر ابن اللحام ص (٥٩) ، ميزان الأصول ١ / ١٢٨ ـ ١٢٩ ، جمع الجوامع ١ / ٨٨ ـ ٨٦.

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٩.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٩.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٩.

٣٩٥

الخبر على حسب القولين المتقدّمين.

وقرأ (١) أبو عمرو وابن كثير : بتنوين «رفث» و «فسوق» ، ورفعهما ، وفتح «جدال».

والباقون : بفتح الثّلاثة.

وأبو جعفر ـ ويروى عن عاصم ـ برفع الثلاثة والتنوين.

والعطاردي بنصب الثلاثة والتنوين.

فأمّا قراءة الرفع ففيها وجهان :

أظهرهما : أنّ «لا» ملغاة ، وما بعدها رفع بالابتداء ، وسوّغ الابتداء بالنكرة ؛ تقدّم النفي عليها ، و «في الحجّ» خبر المبتدأ الثالث ، وحذف خبر الأول ، والثاني ؛ لدلالة خبر الثالث عليهما ، أو يكون «في الحج» خبر الأول ، وحذف خبر الثاني ، والثالث ؛ لدلالة خبر الأول عليهما ، ويجوز أن يكون «في الحج» خبر الثلاثة ، ولا يجوز أن يكون «في الحجّ» خبر الثاني ، وحذف خبر الأول ، والثالث ؛ لقبح مثل هذا التركيب ، ولتأديته إلى الفصل.

والثاني : أن تكون «لا» عاملة عمل ليس ، ولعملها عمل ليس شروط : تنكير الاسم ، وألّا يتقدّم الخبر ، ولا ينتقض النفي ؛ فيكون «رفث» اسمها ، وما بعده عطف عليه ، و «في الحجّ» الخبر على حسب ما تقدّم من التقادير فيما قبله.

وخرّجه ابن عطية بهذا الوجه ، وهو ضعيف ؛ لأنّ إعمال «لا» عمل ليس لم يقم عليه دليل صريح ، وإنما أنشدوا أشياء محتملة ، أنشد سيبويه : [مجزوء الكامل]

٩٨٧ ـ من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح (٢)

__________________

(١) انظر : السبعة ١٨٠ ، والكشف ١ / ٢٨٥ ، وحجة القراءات ١٢٨ ، ١٢٩ ، والحجة ٢ / ٢٨٦ ، وشرح الطيبة ٤ / ٩٦ ، وشرح شعلة ٢٨٧ ، والعنوان ٧٣ ، وإتحاف ١ / ٤٣٣.

(٢) البيت لسعد بن مالك. ينظر : خزانة الأدب ١ / ٤٦٧ ، سيبويه ١ / ٢٨ ، ٣٥٤ ، ٣٥٧ ، ابن يعيش ١ / ١٠٨ ، الإنصاف ـ ٣٦٧ ، ابن الشجري ١ / ٢٣٩ ، ٢٧٢ ، ٣٢٣ ، ٢ / ٢٢٤ ، شرح شواهد المغني ـ ٢٠٨ ، العيني ٢ / ١٥٠ ، الهمع ٢ / ١١٩ ، ١ / ١٢٥ ، الأشموني ١ / ٢٥٤ ، التصريح ١ / ١٩٩ ، المقتضب ٤ / ٣٦٠ ، الجمل للزجاجي ٢٤٢ ، المغني ٢٣٩ ، ٦٣١ ، (٢٠٨) منهج السالك ١ / ٢٥٤ ، الدرر اللوامع ١ / ٩٧ ، شرح اللمع ١ / ٩٢ ، البسيط في شرح جمل الزجاجي ١ / ٥٤٣ ، شرح أبيات المغني ٤ / ٣١٣ ، ٧ / ٣١٩ ، أوضح المسالك رقم ١٠٧ ، شرح شواهد سيبويه للنحاس ٧٧ ، الأصول ١ / ١١١ ، كتاب اللامات ـ ١٠٧ ، شرح أبيات الكتاب لابن السيرافي ٢ / ٨ ، شرح أبيات الجمل لابن سيده ١٣٨ ، الحلل ٣٢٥ ، الفصول والجمل ـ ٢٠٩ ، معاني الحروف للرماني ٨٣ ، شرح الحماسة للمرزوقي ٢ / ٥٠٦ ، الفصول الخمسون ـ ٢٠٩ ، رصف المباني ٢٦٦ ، الأشباه والنظائر ٤ / ١٩٤ ، التمام في تفسير أشعار هذيل ـ ٥٤ شرح ديوان المتنبي ١ / ٩٦.

و «لا» من الحروف غير المختصّة في إعمالها أقوال :

أحدها ـ وهو المشهور ـ : أنها تعمل إلحاقا ب «ليس» كقوله : ـ

٣٩٦

وأنشد غيره : [الطويل]

٩٨٨ ـ تعزّ فلا شيء على الأرض باقيا

ولا وزر ممّا قضى الله واقيا (١)

وقول الآخر : [البسيط]

٩٨٩ ـ أنكرتها بعد أعوام مضين لها

لا الدّار دارا ولا الجيران جيرانا (٢)

وأنشد ابن الشّجري : [الطويل]

٩٩٠ ـ وحلّت سواد القلب لا أنا باغيا

سواها ولا في حبّها متراخيا (٣)

وللكلام على الأبيات موضع غير هذا.

__________________

ـ تعز فلا شيء على الأرض باقيا

ولا وزر مما قضى الله واقيا

الثاني : أنها لا تعمل أصلا ، ويرتفع ما بعدها بالابتداء والخبر ، ولا ينصب أصلا ، وعليه أبو الحسن ، وإنّما لم يقدروها مهملة ، والرفع بالابتداء ؛ لأنها حينئذ واجبة التكرار ، وفيه نظر ؛ لجواز تركه في الشعر.

الثالث : أنها أجريت مجرى «ليس» في رفع الاسم خاصة فترفعه ، ولا تعمل شيئا في الخبر ، وعليه الزجّاج ، واستدلّ بأنه لم يسمع النصب في خبرها ملفوظا به ، مع أنه قد ورد.

وحكمها حكم ـ ما ـ في الشبه والإعمال ، ولها شرائط ثلاثة :

أحدها : أن تدخل على نكرة.

ثانيها : أن يكون الاسم مقدما على الخبر.

ثالثها : ألا يفصل بينها وبين الاسم بغيره ، فتقول : لا رجل منطلقا ؛ كما تقول : ليس زيد منطلقا ، ويجوز أن تزاد الباء في خبرها ؛ لتأكيد النفي ، كما تدخل الباء في خبر «ليس» ـ و «ما» ـ تقول : لا رجل بقائم ؛ كما تقول : ليس زيد بقائم ، ويجوز حذف الخبر منه ، كما في الشاهد : لا براح ، جعل «لا» بمنزلة «ليس» ورفع بها ـ براح ـ والخبر محذوف ، وتقديره : لا براح لي ، ويجوز أن يكون رفع «براح» بالابتداء ، وحذف الخبر وهو رأي أبي العباس المبرّد ، والأوّل أجود ؛ لأنه كان يلزم تكرير «لا» ، كقوله (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) هذا رأي سيبويه في اجرائها مجرى ليس في بعض اللغات.

وحال «لا» أنها في موضع ابتداء ، وأنها لا تعمل في معرفة أبدا ، ولم يعتبر ابن جني هذا الشرط ، فأجاز إعمالها في المعارف ؛ كقوله :

وحلّت سواد القلب لا أنا باغيا

سواها ولا عن حبّها متراخيا

وقيل : يجوز أن يكون «براح» مبتدأ ، وردّ بأن «لا» الداخلة على الجملة الاسمية يجب إعمالها وتكرارها ، فلما لم تتكرر عرف أنها عاملة ، وردّ بأن هذا شعر ؛ فيجوز فيه أن ترد غير عاملة ، ولا مكررة ، وردّ بأن الأصل كون الكلام على غير الضّرروة.

قال ابن مالك : عملها أكثر من عمل «إن» وقال أبو حيان : الصواب عكسه ؛ لأن «إن» قد عملت نثرا ونظما ، و «لا» إعمالها قليل جدا ، بل لم يرد منه صريحا إلا البيت السابق ، والبيت والبيتان لا تبنى عليهما القواعد.

(١) تقدم برقم ٤١٩.

(٢) ينظر : جواهر الأدب ص ٢٤٧ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٥٦ ، والدر المصون ١ / ٤٩٠.

(٣) تقدم برقم ٤٢٠.

٣٩٧

وأمّا من نصب الثلاثة منونة فتخريجها على أن تكون منصوبة على المصدر بأفعال مقدرة من لفظها ، تقديره : فلا يرفث رفثا ، ولا يفسق فسوقا ولا يجادل جدالا ، وحينئذ فلا عمل ل «لا» فيما بعدها ، وإنّما هي نافية للجمل المقدرة ، و «في الحجّ» متعّلق بأيّ المصادر الثّلاثة شئت ، على أنّ المسألة من التنازع ، ويكون هذا دليلا على تنازع أكثر من عاملين ، وقد يمكن أن يقال : إنّ «لا» هذه هي التي للتّبرئة على مذهب من يرى أنّ اسمها معرب منصوب ، وإنما حذف تنوينه ؛ تخفيفا ، فرجع الأصل في هذه القراءة الشاذة كما رجع في قوله : [الوافر]

٩٩١ ـ ألا رجلا جزاه الله خيرا

 .......... (١)

وقد تقدّم تحريره.

وأمّا قراءة الفتح في الثّلاثة فهي «لا» التي للتّبرئة. وهل فتحة الاسم فتحة إعراب أم بناء؟ فيه قولان ، الجمهور على أنّها فتحة بناء ، وإذا بني معها ، فهل المجموع منها ، ومن اسمها في موضع رفع بالابتداء ، وإن كانت عاملة في الاسم النصب على الموضع وما بعدها ، ولا خبر لها؟ أو ليس المجموع في موضع مبتدأ ، بل «لا» عاملة في الاسم النّصب على الموضع ، وما بعدها خبر ل «لا» ؛ لأنّها أجريت مجرى «أنّ» في نصب الاسم ، ورفع الخبر؟ قولان :

الأول : قول سيبويه (٢).

والثاني : قول الأخفش. وعلى هذين المذهبين ، يترتّب الخلاف في قوله : «في الحجّ» ، فعلى مذهب سيبويه : يكون في موضع خبر المبتدأ ، وعلى رأي الأخفش : يكون في موضع خبر «لا» ، وقد تقدّم شيء من هذا أول الكتاب.

وأمّا من رفع الأولين ، وفتح الثالث : فالرفع على ما تقدّم ، وكذلك الفتح ، إلا أنه ينبغي أن ينبّه على شيء : وهو أنّا قلنا بمذهب سيبويه من كون «لا» وما بني معها في موضع المبتدأ ، يكون «في الحج» خبرا عن الجميع ؛ إذ ليس فيه إلّا عطف مبتدأ عى مبتدأ ، وأمّا على مذهب الأخفش ، فلا يجوز أن يكون «في الحجّ» إلا خبرا للمبتدأين ، أو خبرا ل «لا». ولا يجوز أن يكون خبرا للكلّ ؛ لاختلاف الطالب ؛ لأنّ المبتدأ يطلبه خبرا له ، ولا يطلبه خبرا لها.

وإنّما قرىء كذلك ، قال الزمخشري (٣) : «لأنّهما حملا الأوّلين على معنى النّهي ، كأنه قيل : فلا يكوننّ رفث ولا فسوق ، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال ، كأنه قيل : ولا شكّ ولا خلاف في الحجّ» واستدلّ على أنّ المنهيّ عنه هو

__________________

(١) تقدم برقم ١٠٧.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ٣٤٥.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٢٤٣.

٣٩٨

الرفث والفسوق دون الجدال ، بقوله عليه‌السلام : «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق ...» (١) وأنه لم يذكر الجدال.

وهذا الذي ذكره الزمخشريّ سبقه إليه صاحب هذه القراءة ؛ إلّا أنه أفصح عن مراده ، قال أبو عمرو بن العلاء ـ أحد قارئيها ـ : الرفع بمعنى فلا يكون رفث ولا فسوق ؛ أي شيء يخرج من الحجّ ، ثم ابتدأ النفي فقال : «ولا جدال» ، فأبو عمرو لم يجعل النفيين الأوّلين نهيا ، بل تركهما على النّفي الحقيقي.

فمن ثم ، كان في قوله هذا نظر ؛ فإنّ جملة النفي بلا التبرئة ، قد يراد بها النهي أيضا ، وقيل ذلك في قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢]. والذي يظهر في الجواب عن ذلك ، ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال : «وقيل : الحجّة لمن رفعهما أنّ النفي فيهما ليس بعامّ ؛ إذ قد يقع الرفث ، والفسوق في الحجّ من بعض الناس ، بخلاف نفي الجدال في أمر الحجّ ؛ فإنه عامّ ؛ لاستقرار قواعده». قال شهاب الدّين : وهذا يتمشّى على عرف النّحويين ، فإنهم يقولون : «لا» العاملة عمل «ليس» لنفي الوحدة ، والعاملة عمل «إنّ» لنفي الجنس ، قالوا : ولذلك يقال : لا رجل فيها ، بل رجلان ، أو رجال ؛ إذا رفعت ، ولا يحسن ذلك إذا بنيت اسمها أو نصبت بها.

وتوسّط بعضهم فقال : التي للتبرئة نصّ في العموم ، وتلك ليس نصّا.

والظاهر أنّ النكرة في سياق النفي مطلقا للعموم ، وقد تقدّم معنى الرّفث في قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر : هو الجماع (٢) ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار ، وقتادة ، وعكرمة ، والنخعي ، والربيع.

وروي عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : الرّفث : غشيان النساء ، والتّقبيل ، والغمز ، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام (٣).

وقال طاوس (٤) : هو التّعريض للنساء بالجماع ، وذكره بين أيديهنّ.

وقال عطاء : الرّفث : هو قول الرجل للمرأة في حال الإحرام : إذا حللت ، أصبتك (٥).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢٦٤٢) كتاب الحج باب : فضل الحج المبرور رقم (١٥٢١) و (٣ / ٣٢) كتاب المحصر باب قوله تعالى «فَلا رَفَثَ» رقم (١٨١٩) ومسلم كتاب الحج (٤٣٨) وأحمد (٢ / ٢٢٩) والنسائي (٥ / ١١٤) وابن ماجه (٢٨٨٩) والبيهقي (٥ / ٦٧) والطبري في «تفسيره» (١٦١٢) والترمذي (٨١١) وابن خزيمة (٢٥١٤) وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ١٢٦) والحميدي (١٠٠٤) والخطيب «في تاريخ بغداد» (١١ / ٢٢٢).

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٢.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٢.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٢.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٢.

٣٩٩

وقيل الرّفث : الفحش ، والفسق (١) وقد تقدم في قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦].

وقرأ (٢) عبد الله «الرّفوث» وهو مصدر بمعنى الرّفث.

وقوله : (فَلا رَفَثَ) وما في حيّزه في محلّ جزم ، إن كانت «من» شرطية ، ورفع ، إن كانت موصولة ، وعلى كلا التقديرين ، فلا بدّ من رابط يرجع إلى «من» ؛ لأنها إن كانت شرطية ، فقد تقدّم أنه لا بدّ من ضمير يعود على اسم الشرط ، وإن كانت موصولة ، فهي مبتدأ والجملة خبرها ، ولا رابط في اللّفظ ، فلا بدّ من تقديره وفيه احتمالان :

أحدهما : أن تقديره : ولا جدال منه ، ويكون «منه» صفّة ل «جدال» ، فيتعلّق بمحذوف ، فيصير نظير قولهم : «السّمن منوان بدرهم» تقديره : منوان منه.

والثاني : أن يقدّر بعد «الحج» تقديره : ولا جدال في الحجّ منه ، أو : له. ويكون هذا الجارّ في محلّ نصب على الحال من «الحج».

وللكوفيّين في هذا تأويل آخر : وهو أنّ الألف واللام نابت مناب الضمير ، والأصل : في حجّه ، كقوله : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) ثم قال : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤٠ ، ٤١] أي : مأواه.

وكرّر الحجّ ؛ وضعا للظاهر موضع المضمر تفخيما ؛ كقوله : [الخفيف]

٩٩٢ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

 .......... (٣)

وكأنّ نظم الكلام يقتضي : «فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث فيه» ، وحسّن ذلك في الآية الكريمة الفصل بخلاف البيت.

والجدال مصدر «جادل». والجدال : أشدّ الخصام ، مشتقّ من الجدالة ، وهي الأرض ؛ كأن كلّ واحد من المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة.

قال القائل : [الرجز]

٩٩٣ ـ قد أركب الآلة بعد الآله

واترك العاجز بالجداله (٤)

ومنه «الأجدل» للصّقر ؛ لشدّته.

وقال القائل : [الكامل]

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٢.

(٢) تقدمت هذه القراءة.

(٣) تقدم برقم ٥٢٠.

(٤) البيت للعجاج. ينظر : ملحق ديوانه ٢ / ٣١٥ ، واللسان (أول) ، (جدل) وأدب الكاتب ٤٥ ، والدر المصون ١ / ٤٩٢.

٤٠٠