اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

واستدلالكم بالشاذّة ؛ نفس الدليل ، وهو معارض بها ؛ فتساقط الاستدلالان ، وسلمت المتواترة عن المعارض.

وثانيها : أن قوله : (وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) معناها : أنّ العمرة عبادة الله ، وذلك لا ينافي وجوبها.

وثالثها : أنّ في هذه القراءة ضعفا في العربية ؛ لأنّها تقتضي عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية.

الدليل الثاني : قوله تعالى : (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) [التوبة : ٣] ، يدلّ على وجود حجّ أصغر ، وهو العمرة بالاتفاق.

وإذا ثبت أن العمرة حجّ ، فتكون واجبة ؛ لقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧].

الدليل الثالث : ما ورد في الصّحيح : أنّ جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ سأل النبيّ ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عن الإسلام ، فقال : «أن تشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وأن تقيم الصّلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ وتعتمر» (١).

وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرّم ومجّد وبجلّ وعظّم ـ لأبي رزين ، لمّا سأله ، فقال : إنّ أبي شيخ كبير أدرك الإسلام ، ولا يستطيع الحجّ والعمرة ، ولا الظّعنة (٢) ، فقال عليه الصّلاة والسّلام : «حجّ عن أبيك واعتمر» (٣) وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «إنّ الحجّ والعمرة فريضتان ، لا يضرّك بأيهما بدأت» (٤).

__________________

(١) أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب الإيمان والإسلام والإحسان وأبو داود كتاب السنة باب : في القدر رقم (٤٦٩٥) والترمذي كتاب الإيمان باب : ما جاء في وصف جبريل للنبي الإسلام والإيمان (٢٦١٠) والنسائي (٨ / ٩٧) وابن ماجه (٦٣) وابن حبان (١٦٨) وأحمد (١ / ٥٢ ، ٥٣) وابن أبي شيبة (١١ / ٤٤ ـ ٤٥) رقم (١٠٤٧٨) وابن خزيمة (١ / ٣) رقم (١) وابن منده في «الإيمان» رقم (١١ ، ١٣).

والحديث ذكره الحافظ ابن حجر في «الفتح» (٣ / ٥٩٧) وقال : وروى ابن خزيمة وغيره من حديث عمر سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام فوقع فيه (وأن تحج وتعتمر) وإسناده قد أخرجه مسلم لكن لم يسق لفظه.

(٢) الظعنة : السفرة القصيرة. ينظر : المعجم الوسيط ٢ / ٥٨٢ ، والظاعن : المسافر ؛ ينظر تحرير التنبيه (٢٥٨).

(٣) أخرجه الترمذي (٣ / ٢٧٠) رقم (٩٣٠) والنسائي (٥ / ١١١ ، ٣١٧ ، ٨ / ٢٢٩) وابن ماجه رقم (٢٩٠٤ ، ٢٩٠٦ ، ٢٩٠٨) وأحمد (١ / ٢٤٤ ، ٤ / ١٠ ، ١١ ، ١٢ ، ٦ / ٤٢٩) والحاكم (١ / ٤٨١) وابن الجارود في «المنتقى» (٥٠٠) والدارمي (٢ / ٤١) والبيهقي (٤ / ٣٢٩) والطبراني في «الكبير» (١ / ٢٣١ ، ٤ / ٣١ ، ١٨ / ٢٩٦) وفي الصغير (٢ / ١٨) وابن حبان (٩٦١) وابن عبد البر في «التمهيد» (١ / ٣٨٧ ، ٣٨٩) والطحاوي في «المشكل» (٣ / ٢١٩) والدارقطني (٢ / ٢٨٣) وابن خزيمة (٣٠٣٥) والخطيب (٥ / ٢٦٤).

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(٤) أخرجه الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» (١ / ٤٧١) عن زيد بن ثابت مرفوعا.

وقال الحاكم : والصحيح عن زيد بن ثابت قوله ووافقه الذهبي.

٣٦١

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قلت يا رسول الله ، هل على النّساء جهاد؟ فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «عليهنّ جهاد لا قتال فيه : الحجّ والعمرة» (١).

وقال ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ : ليس أحد من خلق الله إلّا وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلا (٢).

وقال الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ : اعتمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرّم ومجّد وبجّل وعظّم قبل الحجّ ، ولو لم تكن العمرة واجبة ، لكان الأشبه أن يبادر إلى الحجّ الواجب.

القول الثالث : في قصة الأعرابيّ حين سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أركان الإسلام ، فعلّمه الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجّ ، فقال الأعرابيّ : هل عليّ غيرها؟ قال : لا إلّا أن تطّوع ، فقال : والله لا أزيد على هذا ، ولا أنقص. فقال عليه الصلاة والسلام : أفلح إن صدق (٣).

وقال عليه الصّلاة والسّلام : «بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، وإقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، وصوم رمضان ، وحجّ البيت» (٤).

وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «صلّوا خمسكم ، وزكّوا أموالكم ، وحجّوا بيتكم ؛ تدخلوا جنّة ربّكم» (٥).

وعن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه سئل عن العمرة : واجبة هي أم لا؟ فقال : «لا ، وأن تعتمر خير لك» (٦).

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٢ / ٩٦٨) رقم (٢٩٠١) وأحمد (٦ / ١٦٥) وابن خزيمة (٣٠٧٤).

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٧٩) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي داود في المصاحف.

وقد أخرجه البخاري (١ / ٤٠٢) باب جهاد النساء وليس فيه ذكر العمرة.

(٢) أخرجه الحاكم (١ / ٤٧١) كتاب المناسك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد الرزاق وعبد بن حميد.

وقال الحاكم : هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

(٣) أخرجه البخاري (١ / ١٩ ـ ٢٠ ، ٤٧٢) ، (٢ / ١٦١) ، (٤ / ٣٣٩) ومسلم (١ / ٣١٠ ـ ٣٢) وأبو عوانه في «صحيحه» (١ / ٣١٠ ـ ٣١١) ومالك في «الموطأ (١ / ١٧٥) رقم ٩٤. وأبو داود (٣٩١) والنسائي (١ / ٧٩) وأحمد (١ / ١٦٢) والبيهقي (٢ / ٤٦٦) بلفظ : (أفلح وأبيه إن صدق).

وأخرجه النسائي : (١ / ٢٨٨) ، (٨ / ١١٩) والبيهقي (١ / ٣٦١ ، ٢ / ٤٦٧) بلفظ أفلح إن صدق.

وأخرجه النسائي (٤ / ١٢١) والدارقطني ص ٨٥ بلفظ إن صدق ليدخلن الجنة.

(٤) تقدم.

(٥) أخرجه أحمد (٥ / ٢٥١ ، ٢٦٢) وابن أبي عاصم في «السنة» (٢ / ٥٠٥).

وانظر : إتحاف السادة المتقين (٤ / ١٨٧).

(٦) أخرجه الترمذي (٣ / ٢٧٠) كتاب الحج باب : ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا (٩٣١) والدارقطني (٢ / ٢٨٥) والبيهقي (٤ / ٣٤٩) والخطيب في «تاريخ بغداد» (٨ / ٣٣) من طريق محمد بن المنكدر عن جابر. ـ

٣٦٢

وعن معاوية الضّرير ، عن أبي صالح الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرّم ومجّد وبجّل وعظّم ـ قال : «الحجّ جهاد ، والعمرة تطوّع» (١).

والجواب من وجوه :

أحدها : أن هذه أخبار آحاد ؛ فلا تعارض القرآن.

وثانيها : أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في السّنة السابعة من الهجرة ، فيحتمل أنّ هذه الأحاديث حين وردت ، لم تكن العمرة واجبة ، ثم نزل بعدها : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، وهذا هو الأقرب لما ذكرناه.

وثالثها : أن قصة الأعرابي ، والحديثين اللذين بعده ، ذكر فيهم الحجّ ، وليس فيها بيان تفصيل الحج ، وقد بينّا أن العمرة حجّ ، فلا تنافي وجوب العمرة ، وأمّا حديث ابن المنكدر ، فرواه الحجاج بن أرطاة ؛ وهو ضعيف.

فصل

واتفقت الأمة على أنّه يجوز أداء الحجّ والعمرة على ثلاثة أوجه : الإفراد ، والتمتع ، والقران.

فالإفراد : أن يحرم بالحجّ منفردا ، ثم بعد الفراغ منه ، يعتمر من أدنى الحلّ.

والتمتع : أن يعتمر في أشهر الحجّ ، فإذا فرغ من العمرة ، يحرم بالحجّ من مكة المشرفة في عامه.

والقران : أن يحرم بالحج والعمرة معا ، أو يحرم بالعمرة ، ثم يدخل عليها الحجّ قبل أن يفتتح الطواف ؛ فيصير قارنا ، ولو أحرم بالحج ، ثم أدخل عليه العمرة ، لم ينعقد إحرامه بالعمرة.

واختلفوا في أيّ هذه الثّلاثة أفضل؟ وتفاصيل هذه الأقوال مذكورة في كتب الفقه.

قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) [البقرة : ١٩٦] قال أحمد بن يحيى (٢) : أصل الحصر ، والإحصار : المنع والحبس (٣).

__________________

ـ والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٧٨) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد.

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وهو قول بعض أهل العلم. قالوا : العمرة ليست واجبة.

(١) أخرجه ابن ماجه (٢ / ٩٩٥) رقم (٢٩٨٩) والبيهقي (١١ / ٤٤٢) والطبراني في «الكبير» (١١ / ٤٤٢) والشافعي في «مسنده» (١١٢) والطبري (٢ / ١٢٣) قال البوصيري في «مصباح الزجاجة» (٣ / ٢٤) : هذا إسناد ضعيف عمر بن قيس المعروف بسندل ضعفه أحمد وابن معين والفلاس وأبو زرعة وأبو حاتم والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم والحسن الراوي عنه ضعيف.

والحديث ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (١ / ٢٨٦) رقم (٨٥٠) وقال : قال أبي : هذا حديث باطل.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٢٤.

(٣) قال الأزهري : قال أهل اللّغة : يقال لمن منعه خوف أو مرض من التّصرّف : أحصر ؛ فهو محصر ، ولمن حبس : حصر ؛ فهو محصور. ـ

٣٦٣

ومنه قيل للملك : الحصير ؛ لأنه ممنوع من الناس.

قال لبيد : [الكامل]

٩٧٩ ـ ..........

جنّ لدى باب الحصير قيام (١)

وهل حصر وأحصر بمعنى ، أو بينهما فرق؟ خلاف. فقال الفراء (٢) ، والزجاج (٣) ، والشيباني (٤) ؛ إنهما بمعنى ، يقالان في المرض ، والعدوّ جميعا ؛ وأنشدوا على ذلك : [الطويل]

٩٨٠ ـ وما هجر ليلى أن تكون تباعدت

عليك ولا أن أحصرتك شغول (٥)

وهو قول أبي عبيدة ، وابن السّكّيت ، وابن قتيبة (٦). وفرّق بعضهم ، فقال الزمخشري ، وثعلب : في فصيح الكلام : يقال : أحصر فلان : إذا منعه أمر من خوف ، أو مرض ، أو عجز ؛ قال تعالى : (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٧٣] ، وحصر : إذا حبسه عدوّ ، أو سجن ، هذا هو الأكثر في كلامهم ، وهما بمعنى المنع في كل شيء ، مثل : صدّه وأصدّه ، وكذلك الفراء والشيباني ، ووافقه ابن عطية أيضا ؛ فإنه قال : والمشهور من اللّغة : أحصر بالمرض ، وحصر بالعدوّ. وعكس ابن فارس في «مجمله» ، فقال : «حصر بالمرض ، وأحصر بالعدوّ» وقال ثعلب : «حصر في الحبس ، أقوى من أحصر» ، ويقال : حصر صدره ، أي : ضاق ؛ ورجل حصر : لا يبوح بسرّه ، قال جرير في ذلك المعنى : [الطويل]

__________________

ـ وقال الفرّاء : يجوز أحصر وحصر في النّوعين. وقال الأزهري : والأوّل هو كلام العرب ، وعليه أهل اللغة.

وقال الجوهري : قال ابن السّكيت : أحصره المرض : إذا منعه السّفر أو حاجة ، وحصره العدوّ : إذا ضيّقوا عليه ، وقال الأخفش : حصرت الرّجل ، وأحصرني مرضي.

وقال أبو عمرو الشيباني : حصرني الشّيء ، وأحصرني : حبسني.

وقال الواحدي : قال الزّجاج : الرّواية عن أهل اللغة لمن منعه خوف أو مرض : أحصر ؛ وللمحبوس : حصر. قال : وقال الزّجاج في موضع آخر وثعلب : أحصر وحصر لغتان.

تحرير التنبيه ص ١٨٢ ، وتهذيب اللغة ٤ / ٢٣٥.

(١) عجز بيت وصدره :

ومقامة غلب الرقاب كأنهم

ينظر : ديوانه (٢٩٠) ، البحر ٢ / ٦٨ ، الدر المصون (١ / ٤٨٥).

(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ١١٨.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ٢٥٦.

(٤) إسحاق بن مرار أبو عمرو الشيباني الكوفي قال الأزهري وكان يعرف بأبي عمرو الأحمر وليس من شيبان ، بل أدب أولادا منهم فنسب إليهم توفي سنة ٢٥٦ ه‍. ينظر : البغية ١ / ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

(٥) البيت لابن ميادة ، ينظر : الكشاف ١ / ٢٣٩ ، اللسان (حصر) ، الدر المصون ١ / ٤٨٤.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٢٤.

٣٦٤

٩٨١ ـ ولقد تكنّفني الوشاة فصادفوا

حصرا بسرّك يا أميم حصورا (١)

والحصير : معروف ؛ لامتناع بعضه ببعض ، وانضمام بعضه إلى بعض ، تشبيها باحتباس الشّيء مع غيره ، والحصر : احتباس البول ، والغائط.

وقيل : إنّ الحصر مختصّ بالمنع الحاصل من جهة العدوّ ؛ وهو مرويّ عن ابن عبّاس ، وابن عمر ، وابن الزّبير ، قالوا : لا حصر إلّا حصر العدوّ ، وهو قول سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيّب (٢) ، وإليه ذهب إسحاق ، وأحمد ، والشافعيّ ـ رحمهم‌الله تعالى ؛ وأكثر أهل اللغة يردّون هذا القول.

وفائدة هذا الخلاف في أنّه : هل يثبت للمحصر بالمرض وغيره من الموانع حكم المحصر بالعدوّ؟

فقال الشافعيّ : لا يثبت ، وقال غيره : يثبت ، والقائلون بأنه يثبت ، قال بعضهم : إنّه ثابت بالنصّ ، وقال آخرون : بالقياس الجلي (٣).

حجّة القائلين بالثبوت : مذهب أهل اللغة ؛ لأن أهل اللغة قائلان :

أحدهما : القائلون بأن الإحصار مختصّ بالحبس الحاصل بسبب المرض ، فتكون الآية الكريمة نصا صريحا فيه.

والثاني : القائلون بأن الإحصار المطلق الحبس ، سواء كان مرض أو عدوّ ؛ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كسر أو عرج ، فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل» (٤).

قال عكرمة : فسألت ابن عباس ، وأبا هريرة ـ رضي الله عنهما ـ عن ذلك ؛

__________________

(١) البيت في ديوانه (٥٧٨) ، ينظر : البحر (٢ / ٦٨) اللسان : حصر ، الدر المصون (١ / ٤٨٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢١ ـ ٢٢).

(٣) القياس الجلي : هو ما قطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع ؛ مثل قياس الأمة على العبد ؛ فإن الفارق بينهما هو الذكورة والأنوثة ، ونحن نقطع بأنّ الشارع لم يفرّق في أحكام العتق بين الذكر والأنثى.

ومثل قياس الضرب على التأفيف ، فالقياس الجليّ يشمل القياس المساوي ، والقياس الأولوي.

ينظر : أصول الفقه لزهير أبو النور ٤ / ٤٥ ، الإحكام للآمدي ٤ / ٣ ، المحصول (٢ / ١٧٣٢) ، إرشاد الفحول (٢٢٢) جمع الجوامع ٢ / ٣٣٨ ، فواتح الرحموت ٢ / ٣٢٠.

(٤) أخرجه الترمذي (٣ / ٢٧٧) كتاب الحج باب ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر أو يعرج (٩٤٠) وأبو داود كتاب المناسك باب الاحصار (١٨٦٢ ، ١٨٦٣) وابن ماجه كتاب المناسك باب المحصر رقم (٣٠٧٧) والنسائي (٥ / ١٩٩) وأحمد (٣ / ٤٥٠) والبيهقي (٥ / ٢٢٠) والحاكم (١ / ٤٨٣) والدارقطني (٢ / ٢٧٨) والدارمي (٢ / ٦١) والطبراني (٣ / ٢٥٣) وابن سعد (٤ / ٢ / ٤٧) والطحاوي في «مشكل الآثار» (١ / ٢٥١ ، ٢٥٢) وأبو نعيم في «الحلية» (١ / ٣٥٨).

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

٣٦٥

فقالا (١) : صدق. فدلّ ظاهر الآية ، والحديث عليه أيضا.

وعلى القول الثّالث : فهو أنّ الإحصار اسم لمنع العدوّ ، فنقول : هذا باطل باتفاق أهل اللغة ، وبتقدير ثبوته ، يقيس المرض على العدوّ بجامع دفع الحرج ، وهو قياس جليّ ظاهر.

وأمّا بتقدير مذهب ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، فلا شكّ أنّ قولهم أقوى ؛ لتقدمهم على هؤلاء الأدباء ، في معرفة اللغة ، ومعرفة تفسير القرآن. والحديث ضعيف ، ويمكن تأويله بأنّه إنّما يحل بالكسر ، والعرج ، إذا كان مشروطا في عقد الإحرام.

كما روي : أنّ ضباعة بنت الزبير كانت وجعة ؛ فقال لها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم : «حجّي واشترطي ، وقولي اللهمّ محلّي حيث حبستني» (٢). ويؤكد هذا القول وجوه :

أحدها : أنّ الإحصار : إفعال من الحصر ، والإفعال تارة يجيء بمعنى التعدية ؛ نحو : ذهب زيد ، وأذهبته أنا ، ويجيء بمعنى : صار ذا كذا ؛ نحو : أغدّ البعير ، أي : صار ذا غدّة ، وأجرب الرجل ، إذا صار ذا إبل جربى ، ويجيء بمعنى : وجدته بصفة كذا ؛ نحو : أحمدت الرجل ، أي وجدته محمودا.

والإحصار لا يمكن أن يكون للتعدية ؛ فوجب إمّا حمله على الصيرورة ، أو على الوجدان ، والمعنى أنّهم صاروا محصورين ووجدوا محصورين.

واتفق أهل اللّغة على أنّ المحصور هو الممنوع بالعدو ، لا بالمرض ، فوجب أن يكون معنى الإحصار : هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدوّ ، وذلك يؤكّد ما قاله الشافعيّ.

وثانيها : أنّ الحصر عبارة عن المنع ، وإنما يقال للإنسان : أنّه ممنوع من فعله ، ومحبوس عن مراده ؛ إذا كان الغير هو فاعل ذلك المنع والحبس.

فالحصر : عبارة عن الكيفية الحاصلة عند اعتدال المزاج ، وسلامة الأعضاء ، وذلك مفقود في حقّ المريض ؛ لأنّه غير قادر على الفعل ألبتة ؛ فلا يحكم عليه بأنه ممنوع ، لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضي.

أمّا إذا كان ممنوعا بالعدو ، ـ فها هنا ـ القدرة حاصلة إلّا أنه تعذّر الفعل ؛ لأجل

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٦٨.

(٢) أخرجه البخاري (٧ / ١٢) كتاب النكاح باب الأكفاء في الدين رقم (٥٠٨٩) ومسلم كتاب الحج (١٠٥ ، ١٠٨) والنسائي (٥ / ١٦٨) وابن ماجه (٢٩٣٨) وأحمد (٦ / ١٦٤ ، ٢٠٢ ، ٤٢٠) والبيهقي (٧ / ١٣٧) والدارقطني (٢ / ٢١٩) وابن حبان (٩٧٣) وابن خزيمة (٢٦٠٢) والشافعي في «مسنده» (١٢٣ ، ٣٨٩) وابن الجارود في «المنتقى» (٤٢٠) والطبراني في «الكبير» (١١ / ٣٦٣).

٣٦٦

مدافعة العدوّ ، فصح ها هنا أن يقال : إنه ممنوع من الفعل ؛ فوجب أن يكون الإحصار حقيقة في العدو ، لا في المرض.

وثالثها : أن قوله : «أحصرتم» أي : حبستم ومنعتم ، والحبس لا بدّ له من حابس ، والمنع لا بدّ له من مانع ؛ لأنّ الحبس ، والمنع فعل ، وإضافة الفعل إلى المرض محال عقلا ، لأن المرض عرض لا يبقى زمانين ، فكيف يكون فاعلا ، وحابسا ، ومانعا.

وأمّا وصف العدوّ بأنه حابس ، ومانع ؛ فهو وصف حقيقيّ ، وحمل الكلام على الحقيقة ، أولى من حمله على المجاز.

ورابعها : أنّ الإحصار مشتق من الحصر ، ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض ؛ فوجب أن يكون خاليا عن المرض قياسا على جميع الألفاظ المشتقة.

وخامسها : أنّه تعالى قال بعده : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ). فعطف عليه المرض ، فلو كان المحصر ، هو المرض ، أو من يكون المرض داخلا فيه ، لكان عطفا للشيء على نفسه.

فإن قيل : إنما خصّ المريض بالذكر ؛ لأنّ له حكما خاصا ، وهو حلق الرأس ، فصار تقدير الآية الكريمة : إن منعتم بمرض ، تحللتم بدم ، وإن تأذّى رأسكم بمرض ، حلقتم ، وكفّرتم.

قلنا : هذا وإن كان حسنا لهذا الغرض ، إلّا أنه مع ذلك يلزم منه عطف الشيء على نفسه ، وحمل المحصر على غير المريض يوجب خلوّ الكلام عن هذا الاستدلال ، فكان أولى.

وسادسها : قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدوّ ، لا في المرض ، فإنّه يقال في المرض : شفي ، وعفي ولا يقال أمن.

فإن قيل : لا نسلّم أنّ لفظ الأمن لا يستعمل إلّا في الخوف ، فإنه يقال : أمن المرض من الهلاك ، وأيضا خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أوّلها.

قلنا : لفظ الأمن إذا كان مطلقا غير مقيّد ، فإنّه لا يفيد إلّا الأمن من العدوّ.

وقوله : خصوص آخر الآية الكريمة لا يقدح في عموم أوّلها.

قلنا : بل يوجب ؛ لأن قوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ليس فيه بيان أنّه حصل الأمن عن ماذا ، فلا بدّ وأن يكون المراد حصول الأمن عن شيء تقدّم ذكره ، وليس إلّا الإحصار ، فكان التقدير: فإذا أمنتم من ذلك الإحصار.

وإذا ثبت أنّ لفظ الأمن لا يطلق إلّا في العدوّ ، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار ، منع العدوّ.

٣٦٧

وسابعها : إجماع المفسرين على أن سبب نزول هذه الآية الكريمة ، أن الكفّار أحصروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية ، واختلف العلماء في الآية النازلة في سببه ؛ هل تتناول غير ذلك السبب؟ إلّا أنهم اتفقوا على أنّه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجا عنه ، فكان الإحصار في هذه الآية الكريمة عبارة عن العدوّ ، وأمّا قياس منع المرض عليه ، فلا يمكن لوجهين :

الأول : أنّ كلمة «إن» شرط ، وحكم الشرط انتفاء المشروط عند انتفائه ظاهرا ، فيقتضي ألّا يثبت الحكم إلّا في الإحصار الذي دلّت الآية عليه ، فلو أثبتنا هذا الحكم في غيره قياسا ، كان ذلك نسخا للنصّ بالقياس ، وهو غير جائز.

الثاني : أنّ الإحرام شرع لازم ، لا يحتمل النسخ قصدا ؛ ألا ترى أنّه لو جامع ، فسد حجّه ولم يخرج من الإحرام ؛ وكذا لو فاته الحجّ حتى لزمه القضاء ، والمريض ليس كالعدوّ ؛ لأن المريض لا يستفيد بتحلّله ورجوعه أمنا من مرضه ، وأمّا المحصر بالعدو ، فإنّه خائف من القتل إذا أقام ، فإذا رجع ، فقد أمن ، وتخلص من خوف القتل ، والله أعلم.

فصل

قال القرطبيّ (١) : «الحاصر لا يخلو من أن يكون كافرا أو مسلما ، فإن كان كافرا ، لم يجز قتاله ، ولو وثق بالظهور عليه ، ويتحلل بموضعه ؛ لقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩١] ولو سأل الكافر جعلا ، لم يجز ؛ لأن ذلك وهن في الإسلام ، وإن كان مسلما لم يجز قتاله بحال ، ووجب التحلل ، فإن طلب جعلا ويتخلّى عن الطريق ، جاز دفعه ، ولم يجز القتال ؛ لما فيه من إتلاف المهج ، وذلك لا يلزم في أداء العبادات ، فإنّ الدّين أسمح ، وأمّا بذل الجعل ، فلما فيه من دفع أعظم الضّررين بالأسهل منهما ، ولأن الحجّ ممّا ينفق فيه المال ، فيعدّ هذا من النّفقة».

فصل

العدوّ الحاصر : لا يخلو إمّا أن يتيقّن بقاؤه ، واستيطانه ، لقوته وكثرته ، أو لا ، فإن كان الأول ، حلّ المحصر مكانه من ساعته ، وإن كان الثاني ، فهو مما يرجى زواله ، فهذا (٢) لا يكون محصورا ؛ حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنّه إن زال العدو ، لا يدرك الحج ؛ فيحلّ حينئذ.

وقال أشهب : من حصر عن (٣) الحج بعدو ، فلا يقطع التّلبية ، حتى يروح الناس إلى عرفة.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٥١.

(٢) في ب : فههنا.

(٣) في ب : خصوص.

٣٦٨

فصل في الإحصار

الإحصار : إنما يكون عن البيت ، أو عن عرفة. فأمّا عن الواجبات التي تجبر بالدم كالرّمي ، والمبيت بمزدلفة ، ونحوها ، فلا إحصار فيها ؛ لأن المحرم يتمكن من إتمام حجّة بجبرها بالدّم ، وإذا إحصر عن طريق ، وله طريق غيرها ، يتمكّن في الوصل إلى مكّة ، ويدرك الحجّ من غير زيادة في النفقة ، أو ميرة لا تجحف به (١) ، فليس بمحصر ، إذا كانت تلك الطّرق أمنا ، [فإن لم تكن أمنا](٢) ، أو كانت زيادة النّفقة تجحف بماله ، فهو محصر.

فصل في قضاء المحصر

إذا أحصر ، فلا قضاء عليه بالإحصار ؛ لأنه إن كان محرما بحجّ الفرض ، أو النّذر ، وكان ذلك في العام الذي وجب عليه الحجّ فيه ، لم يجب القضاء ؛ لأن شروط وجوب الحجّ لم تكمل ؛ لوجود الإحصار ، وإن كان ذلك في العام الثاني ، وجب عليه الحجّ للوجوب السّابق ، لا للإحصار ، وإن كان الحجّ تطوّعا ، فلا قضاء ؛ لأنّه لم يجب عليه ابتداء.

قوله : «فما استيسر» ، «ما» موصولة ، بمعنى : الذي ، ويضعف جعلها نكرة موصوفة ، وفيها ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّها في محل نصب ، أي : فليهد ، أو فلينحر ، وهذا مذهب ثعلب.

والثاني : ويعزى للأخفش (٣) : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره : فعليه ما استيسر.

والثالث : أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالواجب ما استيسر ، واستيسر هنا بمعنى يسر المجرّد كصعب ، واستصعب ، وغني واستغنى ، ويجوز أن يكون بمعنى : تفعّل نحو : تكبّر واستكبر ، وتعظّم واستعظم. وقد تقدّم ذلك.

قوله : «من الهدي» فيه وجهان :

أحدهما : أن تكون «من» تبعيضية ، ويكون محلها النّصب على الحال من الضّمير المستتر في «استيسر» العائد على «ما» ، أي : حال كونه بعض الهدي.

والثاني : أن تكون «من» لبيان الجنس ، فتتعلق بمحذوف أيضا.

وفي الهدي قولان :

أحدهما : أنه. جمع هدية كجدي جمع جدية السّرج.

__________________

(١) في ب : تارة لا يخفف به.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ١٦٢.

٣٦٩

والثاني : أن يكون مصدرا واقعا موقع المفعول ، أي : المهدى ، ولذلك يقع للأفراد والجمع. قال أبو عمرو بن العلاء : لا أعرف لهذه اللّفظة نظيرا.

وقرأ مجاهد (١) والزّهريّ : «الهديّ» بتشديد الياء ، وفيها وجهان :

أحدهما : أن يكون جمع هديّة كمطيّة ومطايا وركيّة وركايا.

قال أحمد بن يحيى (٢) : أهل الحجاز يخفّفون «الهدي» ، وتميم يثقّلونه ؛ قال الشّاعر : [الوافر]

٩٨٢ ـ حلفت بربّ مكّة والمصلّى

وأعناق الهديّ مقلّدات (٣)

ويقال في جمع الهدي : «أهداء».

والثاني : أن يكون فعيلا بمعنى مفعول ، نحو : قتيل بمعنى : مقتول.

فصل

قال القفّال : في الآية الكريمة إضمار ، والتّقدير : فتحلّلتم فما استيسر ، وهو كقوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ) [البقرة : ١٨٤] أي : فأفطر فعدّة ، وفيها إضمار آخر ، هو ما تقدّم ، أي : فليهد أو فلينحر ما استيسر ، فالواجب ما استيسر ، ومعنى الهدي : ما يهدى إلى بيت الله ، عزوجل ، تقربا إليه بمنزلة الهديّة.

قال عليّ وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ والحسن وقتادة : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة ، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس (٤).

فصل

إذا عدم المحصر الهدي ، هل ينتقل إلى البدل؟ فيه خلاف قال أبو حنيفة : لا بدل له ، ويكون الهدي في ذمّته أبدا ؛ لأنه تعالى أوجب على المحصر الهدي على التّعيين ، ولم يثبت له بدلا.

وقال أحمد : له بدل ؛ فعلى الأوّل : هل له أن يتحلّل في الحال ، أو يقيم على إحرامه؟

فقال أبو حنيفة : يقيم على إحرامه ؛ حتى يجده للآية.

__________________

(١) انظر : الشواذ ١٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٦٧ ، ونسبها أيضا إلى الأعرج وأبي حيوة ـ قال : ورويت عن عاصم.

وانظر : البحر المحيط ٢ / ٨٢ ، والدر المصون ١ / ٤٨٥.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٢٦.

(٣) البيت للفرزدق. ينظر : ديوانه (١٠٠) ، اللسان (قلد) ، القرطبي ٢ / ٢٥٢ ، الرازي ٥ / ١٢٦.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٢٦.

٣٧٠

وقال غيره : له أن يتحلّل في الحال للمشقّة ، وهؤلاء قالوا يقوّم الهدي بالدّراهم ، ويشتري بها طعاما ، ويؤدّي ؛ لأنّه أقرب إلى الهدي ، وفيه اختلافات كثيرة ، ثم المحصر إن كان إحرامه بفرض ، قد استقرّ عليه ، فذلك الفرض في ذمّته ، وإن كان حجّ تطوّع ، هل عليه القضاء؟! فيه خلاف : فذهب جماعة إلى أنّه لا قضاء عليه ، وهو قول مالك ، والشّافعي ، وقال مجاهد والشّعبي والنّخعيّ ، وأصحاب الرّأي (١) : عليه القضاء.

قال القرطبيّ (٢) : قال مالك وأصحابه : لا يمنع المحرم الاشتراط في الحجّ ، إذا خاف الحصر بمرض ، أو عدوّ ، وهو قول الثّوريّ ، وأبي حنفية ، وأصحابه ـ رحمهم‌الله ـ والاشتراط أن يقول في إحرامه : إن حبسني حابس فمحلّي حيث حبسني.

وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور لا بأس أن يشترط ، وله شرطه ، وهو قول جماعة من الصّحابة والتابعين ، واحتجّوا بقوله عليه‌السلام لضباعة حين سألته عن كيفيّة الإحرام فقال : «قولي : محلّي حيث حبستني».

فصل

اختلفوا في العمرة ، فأكثر الفقهاء قالوا : حكمها في الإحصار كحكم الحجّ ، وعن ابن سيرين (٣) أنّه لا إحصار فيها ؛ لأنّها غير مؤقّتة ، ويرده قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) عقيب ذكر الحجّ والعمرة ، فيكون عائدا إليهما.

فصل

إذا أراد المحصر التحلّل وذبح ، وجب أن ينوي التّحلل عند الذّبح ، ولا يتحلّل ألبتّة قبل الذّبح.

قوله : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) في الآية حذف ؛ لأنّ الرّجل لا يتحلّل ببلوغ الهدي محلّه ، حتى ينحر ؛ فتقدير الآية الكريمة : حتّى يبلغ الهدي محلّه ، فينحر فإذا نحر فاحلقوا و «محلّه» يجوز أن يكون ظرف مكان ، أو زمان ، ولم يقرأ إلّا بكسر الحاء فيما علمنا إلّا أنّه يجوز لغة فتح حائه ، إذا كان مكانا. وفرّق الكسائيّ بينهما ، فقال : «المكسور هو الإحلال من الإحرام ، والمفتوح هو مكان الحلول من الإحصار».

فصل

قال أبو حنيفة : لا يجوز إراقه دم الإحصار إلّا في الحرم وقال أحمد والشّافعيّ ـ رحمهما‌الله ـ حيث حبس والخلاف مبنيّ على البحث في المحلّ ؛ فقال أبو حنيفة : هو اسم للمكان. وقال غيره: هو اسم للزّمان الذي حصل فيه الحل. وحجّتهم وجوه.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٦٩.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٥٠.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٢٧.

٣٧١

منها : أنّه ـ عليه‌السلام ـ أحصر بالحديبية ونحر فيها ، وليست من الحرم.

قال أصحاب أبي حنيفة : إنّما أحصر في طرف الحديبية ، الّذي أسفل مكّة ، وهو من الحرم.

قال الواقديّ : الحديبية على طرف مكّة على تسعة أميال من مكّة (١).

قال القفّال (٢) ـ رحمه‌الله ـ : الدّليل على [أنّ نحر ذلك الهدي ما وقع في الحرم قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)](٣) [الفتح : ٢٥].

ومنها : أنّ المحصر سواء كان في المحلّ ، أو الحرم ، فهو مأمور بنحر الهدي بقوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، فأوجب على المحصر الهدي سواء كان في الحلّ أو الحرم ، وإذا ثبت ذلك ؛ وجب أن يجوز له الذّبح ، حيث كان قادرا على إراقة الدّم.

ومنها : أنّه تعالى إنّما مكن المحصر من التّحلل بالذّبح ؛ ليتمكن من تخليص نفسه في الحال عند خوف العدوّ ، فلم يجز النّحر إلّا في الحرم وما لم يحصل النّحر لا يحصل له التّحلل في الحال ، وذلك يناقض المقصود من مشروعيّة هذا الحكم ؛ لأن الموصل للنّحر إلى الحرم ، إن كان هو فالخوف باق ، وكيف يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخوف ، وإن كان غيره ، فقد لا يجد ذلك الغير ، فماذا يفعل؟ حجّة أبي حنيفة وجوه :

الأوّل : أنّ المحلّ ـ بكسر الحاء ـ عبارة عن المكان كالمسجد والمجلس ، فقوله : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) يدلّ على أنّه غير بالغ في الحال إلى مكان الحلّ ، وهو عندكم بالغ محلّه في الحال.

وجوابه : أنّ المحلّ عبارة عن الزّمان كمحل الدّين.

الثّاني : أن لفظ «المحلّ» يحتمل الزّمان والمكان إلّا أنّ الله ـ تعالى ـ أزال هذا الاحتمال بقوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٢٣].

وجوابه بأنّ كلّ ما وجب على المحرم في ماله من بدنة ، وجزاء هدي ، فلا يجزي إلّا في الحرم لمساكين أهله إلّا في موضعين :

أحدهما : من ساق هديا ، فعطب في طريقه ذبحه ، وخلّى بين المساكين وبينه.

والثّاني : دم المحصر بالعدوّ فينحر حيث حبس ، فالأدلّة المذكورة في باقي الدّماء فلم قلتم إنّها تتناول هذه الصّورة؟

الثّالث : قالو إنّما سمّي هديا ؛ لأنه جار مجرى الهديّة التي يبعثها العبد إلى ربّه

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٢٧.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٢٧.

(٣) سقط في ب.

٣٧٢

والهديّة لا تكون هديّة إلّا إذا بعثها المهدي إلى دار المهدى إليه ، وهذا المعنى لا يتصّور إلّا بجعل موضع الهدي هو الحرم.

وجوابه : هذا تمسّك بالاسم ، ثم هو محمول على الأصل عند القدرة.

الرابع : أنّ سائر دماء الحجّ سواء كانت قربة ، أو كفّارة ، لا تصحّ إلّا في الحرم ، فكذا هذا.

وجوابه أنّ هذا الدّم إنّما وجب لإزالة الخوف ، وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر ، فلو وجب إرساله إلى الحرم ، لم يحصل هذا المقصود ، وهذا المعنى غير موجود في سائر الدّماء ، فظهر الفرق.

والقائلون بأنّ محلّه الحرم قالوا : إن كان المحصر حاجّا ، فمحله يوم النّحر ، وإن كان معتمرا ، فمحله يوم يبلغ هديه الحرم.

قوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) [البقرة : ١٩٦].

في «منكم» وجهان :

أحدهما : أن يكون في محلّ نصب على الحال من «مريضا» ؛ لأنه في الأصل صفة له ، فلمّا قدّم عليه انتصب حالا. وتكون «من» تبعيضية ، أي : فمن كان مريضا منكم.

والثّاني : أجازه أبو البقاء أن يكون متعلّقا بمريضا.

قال أبو حيان : «وهو لا يكاد يعقل». و «من» يجوز أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة.

قوله : «أو به أذى» يجوز أن يكون هذا من باب عطف المفردات ، وأن يكون من باب عطف الجمل. أما الأول ، فيكون الجارّ والمجرور في قوله : «به» معطوفا على «مريضا» الّذي هو خبر كان ، فيكون في محلّ نصب. ويكون «أذى» مرفوعا به على سبيل الفاعليّة ؛ لأنّ الجارّ إذا اعتمد رفع الفاعل عند الكلّ فيصير التقدير : فمن كان كائنا به أذى من رأسه. وأما الثّاني فيكون «به» خبرا مقدّما ، ومحلّه على هذا رفع ، وفي الوجه الأوّل كان نصبا ، و «أذى» مبتدأ مؤخّر ، وتكون هذه في محلّ نصب ؛ لأنّها عطف على «مريضا» الواقع خبرا لكان ، فهي وإن كانت جملة لفظا ، فهي في محلّ مفرد ؛ إذ المعطوف على المفرد مفرد ، لا يقال : إنه عاد إلى عطف المفردات ، فيتّحد الوجهان لوضوح الفرق. وأجازوا أن يكون «أذى» معطوفا على إضمار «كان» لدلالة «كان» الأولى عليها ، وفي اسم «كان» المحذوفة حينئذ احتمالان :

أحدهما : أن يكون ضمير «من» المتقدّمة ، فيكون «به» خبرا مقدما ، و «أذى» مبتدأ مؤخرا ، والجملة في محلّ نصب خبرا لكان المضمرة.

والثّاني : أن يكون «أذى» اسمها و «به» خبرها ، قدّم على اسمها.

٣٧٣

وأجاز أبو البقاء أن يكون «أو به أذى» معطوفا على «كان» ، وأعرب «به» خبرا مقدّما متعلّقا بالاستقرار ، و «أذى» مبتدأ موخّرا ، والهاء في «به» عائدة على «من». وخطّأه أبو حيان فيه ، قال : لأنّه كان قد قدّم أن «من» شرطية ، وعلى هذا التّقدير يكون خطأ ، لأنّ المعطوف على جملة الشّرط شرط ، والجملة الشّرطية لا تكون إلا فعليّة ، وهذه كما ترى جملة اسميّة على ما قرّره. فكيف تكون معطوفة على جملة الشّرط التي يجب أن تكون فعلية؟ فإن قيل : فإذا جعلنا «من» موصولة ، فهل يصحّ ما قاله من كون «به أذى» معطوفا على «كان»؟ فالجواب أنه لا يصحّ أيضا ؛ لأنّ «من» الموصولة إذا ضمّنت معنى اسم الشّرط لزم أن تكون صلتها جملة فعلية ، أو ما هي في قوّتها. والباء في «به» يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون للإلصاق.

والثاني : أن تكون ظرفية.

والأذى مصدر بمعنى الإيذاء ، وهو الألم يقال آذاه يؤذيه إيذاء وأذى ، فكان الأذى مصدر على حذف الزّوائد ، أو اسم مصدر كالعطاء اسم للإعطاء ، والنّبات للإنبات. قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ «فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه» أي برأسه قروح ، «أو به أذى» ، أي : قمل» (١).

قوله : «من رأسه» فيه وجهان.

أحدهما : أنّه في محلّ رفع ؛ لأنّه صفة لأذى ، أي : أذى كائن من رأسه.

والثّاني : أن يتعلّق بما يتعلّق «به» من الاستقرار ، وعلى كلا التّقديرين تكون «من» لابتداء الغاية.

قوله : «ففدية» في رفعها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون مبتدأ والخبر محذوف ، أي : فعليه فدية.

والثّاني : أن تكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب عليه فدية.

والثّالث : أن تكون فاعل فعل مقدّر ، أي فتجب عليه فدية. وقرىء شاذّا : «ففدية» نصبا ، وهي على إضمار فعل ، أي : فليفد فدية. و «من صيام» في محلّ رفع ، أو نصب على حسب القراءتين صفة ل «فدية» ، فيتعلّق بمحذوف ، و «أو» للتّخيير ، ولا بدّ من حذف فعل قبل الفاء تقديره : فحلق ففدية.

وقرأ الحسن (٢) والزّهريّ «نسك» بسكون السّين ، وهو تخفيف المضموم. وفي النّسك قولان :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» ٤ / ٥٧ ، عن قتادة وعطاء ومجاهد وابن عباس بمعناه.

(٢) انظر : الشواذ ١٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٦٨ ، البحر المحيط ٢ / ٨٤ ، الدر المصون ١ / ٤٨٧.

٣٧٤

أحدهما : أنّه مصدر يقال : نسك ينسك نسكا ونسكا بالضّمّ والإسكان ، كما قرأه الحسن.

والثّاني : أنه جمع نسيكة ، قال ابن الأعرابيّ : «النّسيكة في الأصل سبيكة الفضّة ، وتسمّى العبادة بها ؛ لأنّ العبادة مشبهة سبيكة الفضّة في صفائها وخلوصها من الآثام ويقال للمتعبد «ناسك» ، لأنّه يخلص نفسه من الآثام وصغارها كالسّبيكة المخلصة من الخبث وقيل للذّبيحة «نسيكة» لذلك لأنها أشرف العبادات التي يتقرّب بها إلى الله تعالى.

فصل في سبب نزول الآية

قال ابن عبّاس : نزلت هذه الآية الكريمة في كعب بن عجرة ، قال كعب : مرّ بي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زمن الحديبية ، وكان شعر رأسي كثير القمل والصّئبان ، وهو يتناثر وأنا أطيح ، فرآني فقال ـ عليه‌السلام ـ : «أتؤذيك هوامّ رأسك» قلت : نعم يا رسول الله ، قال : «احلق رأسك» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة (١).

والمقصود منها أنّ المحرم إذا تأذّى بالمرض ، أو بهوامّ رأسه ؛ أبيح له المداوة في الحلق بشرط الفدية ، وهو على التّخيير بين أن يذبح ، أو يصوم ، أو يتصدّق ، فأقلّ النّسك شاة ، وأوسطه بقرة ، وأعلاه بدنة. وأمّا الصّيام ، فليس في الآية كمّيته ، وفيه قولان :

أحدهما : أنّه ثلاثة أيّام ؛ لما روى أبو داود أنّه ـ عليه‌السلام ـ لمّا مرّ بكعب بن عجرة ، ورأى كثرة هوام رأسه ، فقال له : احلق ، ثمّ اذبح شاة نسكا ، أو صم ثلاثة أيّام أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستّة مساكين (٢).

والثّاني : قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ والحسن : الصّيام كصيام المتمتع عشرة أيّام ، والإطعام مثل ذلك في العدد ؛ لأنّ الصّيام والإطعام لمّا كان مجملين في هذا

__________________

(١) أخرجه البخاري (٥ / ٢٧١) كتاب المغازي باب غزوة الحديبية رقم (٤١٩١) ومسلم (٤ / ٢٠ ـ ٢١) ومالك (١ / ٤١٧) رقم (٢٣٧ ، ٢٣٨) والشافعي في «مسنده» رقم (١٠١٥ ، ١٠١٨ ، ١٠١٩) وأبو داود رقم (١٨٥٦ ، ١٨٥٧ ، ١٨٦٠ ، ١٨٦١) والنسائي (٢ / ٢٨) والترمذي (٢ / ١٦١) وابن الجارود في «المنتقى» (٤٥٠) والدارقطني رقم (٢٨٨) والبيهقي (٥ / ٥٥ ، ١٦٩ ، ١٨٥ ، ١٨٧ ، ٢٤٢) والطيالسي في «مسنده» (١٠٦٥) وأحمد (٤ / ٢٤١ ، ٢٤٢ ، ٢٤٣) من طرق عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وأخرجه البخاري (١ / ٤٥٤) ومسلم (٤ / ٢٠ ـ ٢١) والترمذي (٢ / ١٦١) وابن ماجه (٣٠٧٩) والبيهقي (٥ / ٥٥) والطيالسي ١٠٦٢) وأحمد (٤ / ٢٤٢) عن عبد الله بن معقل عن كعب.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(٢) أخرجه أبو داود (١٨٥٨) والبيهقي (٥ / ١٨٥) والدارقطني رقم (٢٨٨) عن كعب بن عجرة.

٣٧٥

الموضع ؛ وجب حمله على المبيّن فيما جاء بعد ذلك ، وهو الّذي يلزم المتمتّع إذا لم يجد الهدي.

فصل

اختلفوا : هل يقدّم الفدية ثمّ يترخّص ، أو يؤخّر الفدية عن الترخّص ، والّذي يقتضيه ظاهر الآية الكريمة ؛ أنّه يؤخر الفدية عن الترخص ، لأن الإقدام على التّرخص كالعلّة في وجوب الفدية ، فكان مقدّما عليه ، وأيضا فقد بينّا أنّ تقدير الآية الكريمة : فحلق فعليه فدية.

فصل

قال بعضهم هذه الآية الكريمة مختصّة بالحصر ؛ وذلك إن قيل أي بلوغ الهدي محلّه ، ربما لحقه مرض ، وأذى في رأسه ، فأذن الله تعالى له في إزالة ذلك المؤذي بشرط أن يفدي.

وقال آخرون : بل الكلام مستأنف في كلّ محرم لحقه مرض ، أو أذى في رأسه ، فاحتاج إلى العلاج والحلق ، فبيّن الله تعالى أنّ له ذلك ، وبين ما يجب عليه من الفدية ، وقد يكون المرض محوجا إلى اللّباس ، من شدّة البرد أو غيره ، وقد يحتاج في الأمراض إلى استعمال الطّيب كثيرا ، وبالجملة فهذا الحكم عامّ في جميع محظورات الإحرام.

فصل

فأمّا من حلق رأسه عامدا من غير عذر ، فقال أبو حنيفة والشّافعيّ يجب عليه الدّم.

وقال مالك : حكمه حكم من فعل ذلك بعذر ؛ لأنّ وجوبه على المعذور تنبيه على وجوبه على غير المعذور.

قال ابن الخطيب (١) : هذا ضعيف ؛ لأنّ قوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) يدل على اشتراط هذا الحكم بهذه الأعذار ، والمشروط بالشيء عدم عند عدم الشّرط.

قوله : «فإذا أمنتم» الفاء عاطفة على ما تقدّم ، و «إذا» منصوبة بالاستقرار المحذوف ؛ لأنّ التّقدير : فعليه ما استيسر ، أي : فاستقرّ عليه ما استيسر.

وقوله : «فمن تمتّع» الفاء جواب الشّرط بإذا ، والفاء في قوله : «فما استيسر» جواب الشّرط الثاني. ولا نعلم خلافا أنّه يقع الشّرط وجوابه جوابا لشرط آخر مع الفاء. وقد تقدّم الكلام على «فما استيسر».

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٠.

٣٧٦

فصل

تقدير الكلام ، فإذا أمنتم الإحصار بالخوف أو المرض ، «فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ» واختلفوا في هذه المتعة : فقال عبد الله بن الزّبير (١) : معناه فمن أحصر حتّى فاته الحجّ ، ولم يتحلّل ، فقدمّ مكّة ، فخرج من إحرامه بعمل عمرة ، أو استمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السّنة المقبلة ، ثم حجّ فيكون متمتعا بذلك الإحلال إلى إحرامه الثّاني في العام القابل (٢) ، وقيل معناه : فإذا أمنتم ، وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ، ولم تقضوا عمرتكم ، وأخرتم العمرة إلى السّنة القابلة ، فاعتمرتم في أشهر الحجّ ، ثم حللتم واستمتعتم بإحلالكم إلى الحجّ ، ثم أحرمتم بالحجّ ، فعليكم ما استيسر من الهدي ، وهو قول علقمة ، وإبراهيم النّخعيّ ، وسعيد بن جبير(٣).

ومعنى التّمتّع : التّلذّذ ، يقال تمتّع بالشّيء ، أي : تلذّذ به ، والمتاع : كلّ شيء يتمتع به ، وأصله من قولهم : «حبل ماتع» أي : طويل ، وكل من طالت صحبته بالشّيء ، فهو متمتّع به ، والتمتع بالعمرة إلى الحجّ هو أن يقدم مكّة معتمرا في أشهر الحجّ وينزع منها ، ثم يقيم بمكّة حلالا ، حتّى ينشىء منها الحجّ من عامه ذلك ، وإنّما سمّي متمتعا لأنّه يكون مستمتعا بمحظورات الحج فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامه بالحجّ ، وهذا التمتع الّذي ليس بمكروه ، بل هو الأفضل عند أحمد ، وإتمام التّمتّع المكروه ، وهو الّذي خطب به عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال : «متعتان كانتا على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما ، متعة النّساء ، ومتعة الحجّ» (٤) ، والمراد بهذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين ، ثمّ يفسخ الحجّ إلى العمرة ، ويتمتّع بها إلى الحجّ ، روي أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أذن لأصحابه في ذلك ثمّ نسخ.

روي عن أبي ذرّ أنّه قال : ما كانت متعة الحج إلّا لي خاصة ، وكان السّبب فيه أنّهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحجّ ، ويعدّونها من أفجر الفجور ، فلما أراد ـ عليه‌السلام ـ إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه ، بأن نقلهم في أشهر الحجّ من الحجّ إلى العمرة ، وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلهذا المعنى كان فسخ الحجّ خاصّا بهم (٥).

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٠.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٨٨) عن عبد الله بن الزبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٨٧) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٠.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٣٠.

(٥) أخرجه ابن ماجه (٣٩٨٤) والنسائي (٢٨٠٨) وأحمد (٣ / ٤٦٩) والحاكم (٣ / ٥١٧) والدارمي (٢ / ٥٠) والطبراني في «الكبير» (١ / ٣٥٧) وابن عبد البر في «التمهيد» (٨ / ٣٥٧).

٣٧٧

قال القرطبيّ (١) : وزعم من صحّح نهي عمر عن التّمتّع : أنّما نهى لينتجع إلى البيت مرّتين أو أكثر في العام حتى يكثر عمارته بكثرة الزّيارة في غير الموسم ، وأراد إدخال الرّفق على أهل الحرم بدخول النّاس ، تحقيقا لدعوة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم : ٣٧].

وقيل : إنّما نهى عنها ؛ لأنّه رأى النّاس مالوا إلى التّمتّع ليسارته ، وخفّته ؛ فخشي أن يضيع الإفراد والقران ، وهما مسنونان.

فصل

التّمتّع لا يحصل إلّا بمحظورات الإحرام لكنّه لما كان بسبب إتيانه بالعمرة سمّاه تمتعا بالعمرة إلى الحجّ.

فصل في شروط وجوب دم التّمتّع

يشترط لوجوب دم التّمتّع خمسة شروط (٢) :

أحدها : أن يقدم العمرة على الحجّ.

والثاني : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ ، فلو أحرم لها قبل أشهر الحجّ ، وأتى بشيء من الطّواف ، ولو شوطا واحدا ، ثم أكمل باقيه في أشهر الحجّ في هذه السّنة ، لم يلزمه الدّم ؛ لأنّه لم يجمع بين النّسكين في أشهر الحجّ.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٥٨.

(٢) ولدم التمتع شروط أربعة : ١ ـ أن تقع عمرة المتمتع في أشهر الحج ، فإذا أحرم ـ بالعمرة قبل أشهر الحج ـ سواء أتمها قبل دخول أشهر الحج أو أتمها فيها ـ فلا يجب عليه الدم ؛ لأنه لم يجمع بين الحج والعمرة في أشهر الحج ، فأشبه المفرد. ٢ ـ أن يحج من عامه ، فإذا اعتمر في أشهر الحجّ ، ثم حج في عام آخر ، أو لم يحجّ أصلا ـ فلا دم عليه ؛ لما روى البيهقي : «كان أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعتمرون في أشهر الحج ، فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك ، لم يهدوا». ٣ ـ أن لا يعود المتمتع بعد فراغه من العمرة إلى الميقات الذي أحرم منه أوّلا ، أو إلى ميقات آخر من مواقيت الحج ؛ ليحرم منه بالحجّ ، فإن عاد المتمتّع إلى الميقات ليحرم منه بالحج ، فلا دم عليه ؛ لأنّ المقتضي للدم هو ربح الميقات ، وقد انتفى بعودة المتمتّع إليه. ٤ ـ ألّا يكون المتمتع من حاضري المسجد الحرام ؛ لقوله تعالى : ذلِكَ لِمَنْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ والمراد بحاضري المسجد الحرام : من بين مساكنهم والحرم أقلّ من مرحلتين ، فإن كان المتمتع من أهل هذه الجهة ، فلا يلزمه الدم ؛ لقربه من الحرم ، والقريب من الشيء يقال له : حاضره ؛ قال تعالى : «وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ» أي : قريبة منه ، والمعنى في ذلك : أنه لم يربح ميقاتا عامّا لأهله ولمن مرّ به.

ووقت وجوب الدم على المتمتع هو وقت إحرامه بالحجّ ، لأنه حينئذ يصير متمتعا بالعمرة إلى الحج ، ويجوز له أن يذبح بعد فراغه من العمرة وقبل الإحرام بالحجّ ، لتقدم أحد سببيه ، والأفضل ذبحه يوم النحر ، ولا آخر لوقته كسائر دماء الجبر.

٣٧٨

وقال أبو حنيفة : إذا أتى بأكثر الطّواف في أشهر الحجّ ، فهو متمتّع ، وإذا أتى بالأكثر قبل أشهر الحجّ فلا.

الثالث : أن يحجّ في هذه السّنة ، فإن حجّ في سنة أخرى لم يلزمه دم ؛ لأنّه لم يوجد مزاحمة الحجّ والعمرة في عام واحد ، ولم يحصل الترفّه بترك أحد السّفرين ، إلّا على قول ابن الزّبير فيما قدّمناه.

الرابع : ألا يكون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، وهو من كان أهله على أقلّ من مسافة القصر ، وهل تعتبر هذه المسافة من مكّة ، أو من الحرم فيه وجهان.

الخامس : أن يحرم بالحجّ من مكّة بعد الفراغ من العمرة ، فلو رجع إلى الميقات ، وأحرم بالحجّ منه ، لا يلزمه دم التّمتّع.

فصل

قال القرطبيّ (١) : التّمتّع بالعمرة إلى الحجّ على أربعة أوجه :

أحدها مجمع عليه ، والثّلاثة مختلف فيها فالمجمع عليه هو المراد بقوله تبارك وتعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، وذلك أن يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ ، ويكون آفاقيّا ، ويفرغ منها ، ويقيم حلالا بمكّة إلى أن يحرم بالحجّ من عامه قبل رجوعه إلى بلده.

ولها ثمانية شروط :

الأول : أن يجمع بين الحجّ والعمرة.

الثاني : في عام واحد.

الثالث : في سفر واحد.

الرابع : في أشهر الحجّ.

الخامس : مقدّما الحج.

السادس : غير مخلط لها بالحجّ.

السابع : وأن تكون العمرة والحج عن شخص واحد.

الثامن : ويكون آفاقيّا.

الوجه الثّاني من وجوه التّمتّع بالعمرة : هو القران ، وهو أن يجمع بينهما في إحرام واحد ، فيهلّ بهما جميعا في أشهر الحجّ ، يتمتع القارن بترك السّفر إلى العمرة مرّة ، وإلى

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٦٠.

٣٧٩

الحجّ أخرى ، ولا يحرم لكلّ واحد من ميقاته ، فيدخل تحت قوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ).

الوجه الثالث الّذي نهى عنه عمر ـ رضي الله عنه ـ : وهو أن يحرم بالحجّ فإذا دخل مكّة فسخ حجّه إلى عمرة ، ثم يحلّ إلى أن يهلّ بالحج يوم التّروية (١) ، فاختلف في ذلك ، فالجمهور على ترك العمل بها.

قال أبو ذرّ كانت المتعة لنا في الحجّ خاصّة (٢).

الوجه الرّابع من التمتع : متعة المحصر ، ومن صدّ عن البيت.

فصل

دم التمتع دم جبران ، فلا يجوز له الأكل منه.

وقال أبو حنيفة دم نسك ، ويأكل منه.

حجّة الأوّل وجوه :

أحدها : أنّ التمتع حصل فيه خلل فيكون دم جبران.

وبيان الخلل أنّ عمر كان ينهى عن المتعة ، فقال له عثمان ـ رضي الله عنهما ـ عمدت إلى رخصة بسبب الحاجة ؛ فدلّ على حصول نقص فيها.

وأيضا سمّاها تمتّعا ، والتمتع التّلذّذ ، ومبنى العبادة على المشقّة.

وأيضا ففي التّمتّع صار السّفر للعمرة ، وكان من حقّه أن يكون للحج ؛ لأنّه الحج الأكبر ، وأيضا حصل التّرفه بالإحلال بينهما ، وأيضا كان من حقّه جعل الميقات للحجّ ، فإنّه الأكبر ، وكل هذه أنواع خلل ، فوجب أن يكون الدّم دم جبران.

وثانيها : أنّ الدّم ليس بنسك أصلي من مناسك الحجّ ، أو العمرة ، كما لو أفردها وكما في حقّ المكّي ، والجمع بين العبادتين لا يوجب الدّم ، بدليل أنّ من جمع الصّلاة ، والصّوم ، والاعتكاف لا يلزمه دم ، وإذا ثبت ذلك فليس الدّم دم نسك ، بل دم جبران.

وثالثها : أنّ هدي التمتع ليس مؤقّتا ، والمناسك كلّها مؤقتة ، فيكون دم جبران.

ورابعها : أنّه يبدّل بالصّوم ، ودم النّسك لا يبدّل بالصّوم.

__________________

(١) نهي عمر عن التمتع أخرجه مسلم (٤ / ٤٦) وأحمد (١ / ٥٠) والبيهقي في «سننه» (٥ / ٢٠) عن أبي موسى أنه كان يفتي بالمتعة فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد ، حتى لقيه بعد فسأله فقال عمر : قد علمت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا معرّسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٦١.

٣٨٠