اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

ومعنى قوله : (وَلا تَعْتَدُوا) أي : لا تقتلوا النّساء والصّبيان ، والشيخ الكبير والرّهبان ، ولا من ألقى إليكم السّلم (١) ؛ قاله ابن عبّاس ومجاهد وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ؛ وذلك أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ خرج مع أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ إلى العمرة وكانوا ألفا وأربعمائة ، فنزلوا الحديبية ، وهو موضع كثير الشّجر ، والماء ، فصدّهم المشركون عن دخول البيت الحرام ، فأقام شهرا ، لا يقدر على ذلك ، ثم صالحوه على أن يرجع ذلك العام ، ويرجع إليهم في العام الثّاني ، ويتركون له مكّة ثلاث أيام ، حتّى يطوف ، وينحر الهدي ، ويفعل ما يشاء ، فرضي الرّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه دائما أبدا ـ بذلك ، فلمّا كان العام المقبل ، تجهّز رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، ومجّد ، وعظّم ـ وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا ألّا تفي قريش بما قالوا ، وأن يصدّوهم عن البيت ، وكره أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قتالهم في الشهر الحرام ، وفي الحرم ، فأنزل الله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) يعنى محرمين (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) يعني قريشا (وَلا تَعْتَدُوا) فتبدءوا بالقتال في الحرم محرمين (٢).

فصل في اختلافهم في المراد من قوله «الذين يقاتلونكم»

اختلفوا في المراد بقوله : (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) : إمّا على وجه الدّفع عن الحجّ ، أو على وجه المقاتلة ابتداء.

وقيل : قاتلوا كلّ من فيه أهلية للقتال سوى جنح للسّلم ؛ قال تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال : ٦١].

فإن قيل : هب أنه لا نسخ في الآية ؛ فما السّبب في أنّ الله تبارك وتعالى أمر أوّلا بقتال من يقاتل ، ثمّ في آخر الأمر ، أذن في قتالهم ، سواء قاتلوا ، أو لم يقاتلوا؟

فالجواب : أنّ في أوّل الأمر كان المسلمون قليلين ، وكانت المصلحة تقتضي استعمال الرّفق ، والمجاملة ، فلمّا قوي الإسلام ، وكثر الجمع ، وأقام من أقام منهم على الشّرك بعد ظهور المعجزات ، وتكرّرها عليهم ، وحصل اليأس من إسلامهم ، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق.

قوله تعالى : (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] «حيث» منصوب بقوله : «اقتلوهم»

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٧٠) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس وأخرجه الطبري أيضا (٣ / ٥٦٣) عن عدي بن أرطأة وعن مجاهد مثله.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٧٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٧٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن أبي العالية.

٣٤١

و «ثقفتموهم» في محلّ خفض بالظرف ، و «ثقفتموهم» أي : ظفرتم بهم ، ومنه : «رجل ثقيف» : أي سريع الأخذ لأقرانه ، قال [الوافر]

٩٦٨ ـ فإمّا تثقفوني فاقتلوني

فمن أثقف فليس إلى خلود (١)

وثقف الشّيء ثقافة ، إذا حذقه ، ومنه الثّقافة بالسّيف ، وثقفت الشّيء قوّمته ، ومنه الرماح المثقّفة ؛ قال القائل : [الطويل]

٩٦٩ ـ ذكرتك والخطّيّ يخطر بيننا

وقد نهلت منّا المثقّفة السّمر (٢)

ويقال : ثقف يثقف ثقفا وثقفا ورجل ثقف لقف ، إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور.

قال القرطبي (٣) : وفي هذا دليل على قتل الأسير.

قوله : «من حيث» متعلّق بما قبله ، وقد تصرف في «حيث» بجرّها ب «من» كما جرّت ب «الياء» و «في» وبإضافة «لدى» إليها ، و «أخرجوكم» في محلّ جرّ بإضافتها إليه ، ولم يذكر «للفتنة» ولا «للقتل» ـ وهما مصدران ـ فاعلا ولا مفعولا ؛ إذ المراد إذا وجد هذان ، من أيّ شخص كان بأيّ شخص كان ، وقد تقدّم أنه يجوز حذف الفاعل مع المصدر.

فصل فيما قيل في النسخ بهذه الآية

هذا الخطاب للنّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ وأصحابه يعني اقتلوهم ، حيث أبصرتم مقاتلتهم وتمكّنتم من قتلهم ، حيث كانوا في الحلّ ، أو الحرم ، وفي الشّهر الحرام «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم» وذلك أنّهم أخرجوا المسلمين من مكّة ؛ فقال : أخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم من دياركم ، ويحتمل أنّه أراد : كما أخرجوكم من موضعكم الّذي كنتم فيه وهو «مكّة» ويحتمل أنه أراد كما أخرجوكم من منازلكم ، ففي الآية الأولى : أمر بقتالهم ؛ بشرط إقدامهم على المقاتلة ، وفي هذه الآية : زاد في التكليف ، وأمر بقتالهم ، سواء قاتلوا ، أو لم يقاتلوا ، واستثنى [عنه] المقاتلة عند المسجد الحرام ، ونقل عن مقاتل (٤) أنه قال : إنّ قوله «وقاتلوا في سبيل الله الّذين يقاتلونكم» منسوخ بقوله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [البقرة : ١٩٣] قال ابن الخطيب (٥) :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٢٣٦ ، والدر المصون ١ / ٤٨٠.

(٢) البيت لأبي عطاء السندي. ينظر : الحماسة ١ / ٦٦ ، والمغني ٢ / ٤٢٦ ، وشرح المفصل ٢ / ٦٧ ، والبحر المحيط ٢ / ٦٧ ، والدر المصون ١ / ٤٨٠.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٣٤.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١١.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١١.

٣٤٢

وهذا ضعيف ، فإنّ الآية الأولى دالّة على الأمر بقتال من يقاتلنا ، وهذا الحكم لم ينسخ ، وأمّا أنّها دالّة على المنع من قتال من لم يقاتل ، فهذا غير مسلّم ، مع ما نقل عن الرّبيع بن أنس. وأما قوله : إنّ هذه الآية ، هي قوله تبارك وتعالى (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) منسوخة بقوله تعالى (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فهو خطأ أيضا ؛ لأنّه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، وهذا الحكم غير منسوخ.

قوله (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) فيه وجوه :

أحدها : نقل ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنّ الفتنة هي الكفر (١).

وروي أنّ بعض الصحابة قتل رجلا من الكفّار في الشّهر الحرام ، فعابه المؤمنون على ذلك ، فنزلت هذه الآية الكريمة ، والمعنى (٢) : أنّ كفرهم أشدّ من قتلهم في الحرم والإحرام.

وثانيها : أن الفتنة أصلها عرض الذّهب على النّار ؛ لاستخلاصه من الغشّ ، ثمّ صار اسما لكلّ ما كان سببا للامتحان ؛ تشبيها بهذا الأصل ، والمعنى : أنّ إقدام الكفّار على الكفر ، وعلى تخويف المؤمنين ، وإلجائهم إلى ترك الأهل ، والوطن ؛ هربا من إضلال الكفّار ، فإنّ هذه الفتنة الّتي جعلت للمؤمنين أشدّ من القتل الذي يقتضي التّخليص من غموم الدّنيا وآفاتها.

وثالثها : أنّ الفتنة هي العذاب الدّائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم ؛ فكأنه قيل : اقتلوهم حيث ثقفتموهم ، واعلموا أن وراء ذلك من العذاب ما هو أشدّ منه وإطلاق اسم الفتنة على العذاب جائز ؛ وذلك من باب إطلاق اسم السّبب على المسبّب ، قال تبارك وتعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣] ثم قال عقيبه (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) [الذاريات : ١٤] أي عذابكم (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [البروج : ١٠] أي عذّبوهم وقال (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ١٠] أي : عذابهم كعذابه.

ورابعها : أنّ المراد : «فتنتهم إيّاكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشدّ من قتلكم إيّاهم في الحرم».

وخامسها : أن الردّة أشدّ من أن يقتلوا بحقّ ، والمعنى : أخرجوهم من حيث أخرجوكم ، ولو قتلتم ، فإنّكم إن قتلتم ، وأنتم على الحقّ ، كان ذلك أسهل عليكم من أن ترتدّوا عن دينكم ، أو تتكاسلوا عن طاعة ربّكم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٧١) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٧١) وزاد نسبته لابن أبي حاتم والبيهقي في «دلائل النبوة».

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١١.

٣٤٣

قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ) قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة : «ولا تقاتلوهم حتّى يقاتلوكم ، فإن قاتلوكم» بالألف من القتال ، وقرأها (١) حمزة والكسائيّ من غير ألف من القتل وهو في المصحف بغير ألف ، وإنما كتبت كذلك ؛ للإيجاز ؛ كما كتبوا الرّحمن بغير ألف ، وما أشبه ذلك من حروف المدّ واللّين.

فأما قراءة الجمهور فواضحة ؛ لأنها نهي عن مقدّمات القتل ؛ فدلالتها على النّهي عن القتل بطريق الأولى ، وأمّا قراءة الأخوين ، ففيها تأويلان :

أحدهما : أن يكون المجاز في الفعل ، أي : ولا تقتلوا بعضهم ؛ حتّى يقتلوا بعضكم ؛ ومنه (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ) [آل عمران : ١٤٦] ثم قال «فما وهنوا» أي ما وهن من بقي منهم ، وقال الشاعر : [المتقارب]

٩٧٠ ـ فإن تقتلونا نقتّلكم

وإن تقصدوا لدم نقصد (٢)

أي : فإن تقتلوا بعضنا. يروى أن الأعمش قال لحمزة : أرأيت قراءتك ، إذا صار الرجل مقتولا ، فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟!

قال حمزة : إنّ العرب ، إذا قتل منهم رجل قالوا : قتلنا ، وإذا ضرب منهم رجل ، قالوا ضربنا (٣) وأجمعوا على «فاقتلوهم» أنّه من القتل ، وفيه بشارة بأنّهم ، إذا فعلوا ذلك ، فإنهم متمكّنون منهم بحيث إنكم أمرتم بقتلهم ، لا بقتالهم ؛ لنصرتكم عليهم ، وخذلانهم ؛ وهي تؤيّد قراءة الأخوين ، ويؤيّد قراءة الجمهور : «وقاتلوا في سبيل الله».

و «عند» منصوب بالفعل قبله ، و «حتّى» متعلقة به أيضا غاية له ، بمعنى «إلى» والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» والضمير في «فيه» يعود على «عند» إذ ضمير الظرف لا يتعدّى إليه الفعل إلّا ب «في» ؛ لأنّ الضمير يردّ الأشياء إلى أصولها ، وأصل الظرف على إضمار «في» اللهم إلا أن يتوسّع في الظرف ، فيتعدّى الفعل إلى ضميره من غير «في» ولا يقال : «الظّرف غير المتصرّف لا يتوسّع فيه» ، فيتعدّى إليه الفعل ، فضميره بطريق الأولى ؛ لأنّ ضمير الظّرف ليس حكمه حكم ظاهره ؛ ألا ترى أنّ ضميره يجرّ ب «في» وإن كان ظاهره لا يجوز ذلك فيه ، ولا بدّ من حذف في قوله : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) أي : فإن قاتلوكم فيه ، فاقتلوهم فيه ، فحذف لدلالة السّياق عليه.

__________________

(١) ينظر : السبعة ١٧٩ ، والكشف ١ / ٢٨٠ ، والحجة ٢ / ٢٨٤ ، ٢٨٥ ، والعنوان ٧٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ٩٤ ـ ٩٦ ، وحجة القراءات ١٢٧ ، ١٢٨ ، وشرح شعلة ٢٨٦ ، وإتحاف ١ / ٤٣٣.

(٢) البيت من قصيدة امرىء القيس بن عانس الشهيرة التي مطلعها :

تطاول ليلك بالأثمد

ونام الخليّ ولم ترقد

انظر : ديوانه ١٨٦ ، والبحر المحيط ٢ / ٧٥ ، والدر المصون ١ / ٤٨١.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٢.

٣٤٤

فصل

وهذا بيان بشرط كيفيّة قتالهم في هذه البقعة خاصّة ، وكان من قبل شرطا في كلّ قتال وفي الأشهر الحرم ؛ وقد تمسّك به الحنفيّة في قتل الملتجىء إلى الحرم ، وقالوا : لمّا لم يجز القتل عند المسجد الحرام ؛ بسبب جناية الكفر فبأن لا يجوز القتل في المسجد الحرام بسبب الذّنب الذي هو دون الكفر أولى.

قوله : (كَذلِكَ جَزاءُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنّ الكافر في محلّ رفع بالابتداء ، و «جزاء الكافرين» خبره ، أي : مثل ذلك الجزاء جزاؤهم ، وهذا عند من يرى أن الكاف اسم مطلقا ، وهو مذهب الأخفش.

والثاني : أن يكون «كذلك» خبرا مقدّما ، و «جزاء» مبتدأ مؤخّرا ، والمعنى : جزاء الكافرين مثل ذلك الجزاء ، وهو القتل ، و «جزاء» مصدر مضاف لمفعوله ، أي : جزاء الله الكافرين ، وأجاز أبو البقاء (١) أن يكون «الكافرين» مرفوع المحلّ على أن المصدر مقدّر من فعل مبنيّ للمفعول ، تقديره : كذلك يجزى الكافرون ، وقد تقدّم لنا الخلاف في ذلك.

قوله تعالى (فَإِنِ انْتَهَوْا ، فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : لهم. ومتعلق الانتهاء محذوف أي : عن القتال ، و «انتهى» «افتعل» من النّهي ، وأصل «انتهوا» «انتهيوا» فاستثقلت الضّمة على الياء ؛ فحذفت فالتقى ساكنان ؛ فحذفت الياء ؛ لالتقاء الساكنين ، أو تقول : تحرّكت الياء ، وانفتح ما قبلها ؛ فقلبت ألفا ؛ فالتقى ساكنان ؛ فحذفت الألف ، وبقيت الفتحة تدلّ عليها.

فصل في اختلافهم في متعلّق الانتهاء

هذا البيان لبقاء هذا الشّرط في قتالهم قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ فإن انتهوا عن القتال (٢) ؛ لأنّ المقصود من الإذن في القتال منع الكفّار عن المقاتلة.

وقال الحسن : فإن انتهوا عن الشّرك (٣) ؛ لأنّ الكافر لا ينال المغفرة والرّحمة بترك القتال ، بل بترك الكفر.

فصل في دلالة الآية على قبول التّوبة من كلّ ذنب

دلّت الآية على أنّ التوبة من كلّ ذنب مقبولة ومن قال : إنّ التوبة عن قتل العمد غير مقبولة ، فقد أخطأ ؛ لأنّ الشرك أشدّ من القتل ، فإذا قبل الله توبة الكافر ، فقبول توبة

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٨٥.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٢.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٣.

٣٤٥

القاتل أولى ، وأيضا فقد يكون الكافر قاتلا ، فقد انضمّ إلى كفره قتل العمد والآية دلّت على قبول توبة كلّ كافر ، فدلّ على أنّ توبته ، إذا كان قاتلا مقبولة ؛ قال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].

قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) يجوز في «حتّى» أن تكون بمعنى «كي» وهو الظاهر ، وأن تكون بمعنى «إلى» و «أن» مضمرة بعدها في الحالين ، و «تكون» هنا تامة ، و «فتنة» فاعل بها ، وأمّا (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) فيجوز أن تكون تامّة أيضا ، وهو الظاهر ، ويتعلّق «لله» بها ، وأن تكون ناقصة و «لله» الخبر ؛ فيتعلّق بمحذوف أي : كائنا لله تعالى.

فصل في المراد بالفتنة

قيل : المراد بالفتنة الشّرك والكفر ؛ قالوا : كانت فتنتهم أنّهم كانوا يرهبون أصحاب النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ بمكة ، حتى ذهبوا إلى الحبشة ، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء ؛ حتى ذهبوا إلى المدينة ، وكان غرضهم من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهم ، ويرجعوا كفّارا ، فأنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ هذه الآية (١) ، والمعنى : قاتلوهم حتّى تظهروا عليهم ؛ فلا يفتنوكم عن دينكم ، ولا تقعوا في الشّرك (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي : الطّاعة ، والعبادة لله وحده ؛ لا يعبد شيء دونه ونظيره قوله تعالى (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] قال نافع : جاء رجل إلى ابن عمر في فتنة ابن الزّبير فقال ما يمنعك أن تخرج؟ فقال : يمنعني أنّ الله حرّم دم أخي ؛ ألّا تسمع ما ذكر الله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] قال : يا ابن أخي ولأن أعتبر بهذه الآية ، ولا أقاتل أحبّ لي من أن أعتبر بالآية الأخرى الّتي يقول الله ـ عزوجل ـ فيها (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) [النساء : ٩٣] قال ألم يقل الله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)؟ قال : قد فعلنا على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، ومجّد ، وعظّم ـ إذ كان الإسلام قليلا ، وكان الرّجل يفتن عن دينه ، إما يقتلونه ، أو يعذّبونه ؛ حتى كثر الإسلام ، فلن تكن فتنة وكان الدّين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوهم ، حتّى تكون فتنة ، ويكون الدّين لغير الله (٢).

وعن سعيد بن جبير ، قال : قال رجل لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال : هل تدري ما الفتنة؟! كان محمّد صلوات الله وسلامه عليه يقاتل المشركين وكان الدّخول عليهم فتنة ، وليس قتالكم كقتالهم على الملك.

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» ٥ / ١١٣.

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٣٢) كتاب التفسير باب (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) رقم (٤٥١٣ ، ٤٥١٤) عن نافع.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٧١ ـ ٣٧٢) وزاد نسبته لابن مردويه وأبي الشيخ عن ابن عمر.

٣٤٦

فصل في معاني الفتنة في القرآن

قال أبو العبّاس المقري : ورد لفظ الفتنة في القرآن بإزاء سبعة معان :

الأول : الفتنة : الكفر ؛ قال تعالى (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) [آل عمران : ٧] يعني : طلب الكفر.

الثاني : الفتنة الصرف قال تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) [المائدة : ٤٩].

الثالث : الفتنة : البلاء ؛ قال تعالى (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [العنكبوت : ٣].

الرابع : الفتنة : الإحراق ؛ قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ) [البروج : ١٠] ، أي : حرّقوهم ؛ ومثله (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣].

الخامس : الفتنة الاعتذار قال تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأنعام : ٢٣].

السادس : الفتنة : القتل ، قال تعالى (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء : ١٠١] ، أي : يقتلوكم.

السابع : الفتنة : العذاب ؛ قال تعالى (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ١٠].

قوله (فَإِنِ انْتَهَوْا) ، أي : عن الكفر وأسلموا ، «فلا عدوان» أي : فلا سبيل (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) قاله ابن عبّاس ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص : ٢٨] ، أي : فلا سبيل (١) عليّ ، وقال أهل المعاني العدوان : الظّلم ، أي : فإن أسلموا ، فلا نهب ، ولا أسر ، ولا قتل إلّا على الظالمين الّذين بقوا على الشّرك ؛ قال تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] وسمّى قتل الكفّار عدوانا ، وهو في نفسه حقّ ، لأنّه جزاء عن العدوان ؛ على طريق المجاز ، والمقابلة ؛ لقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [البقرة : ١٩٤] ، (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) [التوبة : ٧٩].

وقيل : معنى الآية الكريمة إن تعرّضتم لهم بعد انتهائهم عن الشّرك والقتال ، كنتم أنتم ظالمين ، فنسلّط عليكم من يعتدي عليكم.

قوله : إلّا على الظّالمين» في محلّ رفع خبر «لا» التبرئة ، ويجوز أن يكون خبرها محذوفا ، تقديره : لا عدوان على أحد ؛ فيكون (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) بدلا على إعادة العامل ، وهذا الجملة ، وإن كانت بصورة النّفي ، فهي في معنى النّهي ؛ لئلا يلزم الخلف في خبره تعالى والعرب إذا بالغت في النهي عن الشيء ، أبرزته في صورة النفي المحض ؛ كأنه ينبغي ألّا يوجد البتة ؛ فدلّوا على هذا المعنى بما ذكرت لك ، وعكسه في الإثبات ،

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٦٣.

٣٤٧

إذا بالغوا في الأمر بالشّيء ، أبرزوه في صورة الخبر ؛ نحو : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) [البقرة : ٢٣٣] على ما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.

فصل قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٩٤)

قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) مبتدأ ، خبره الجارّ بعده ، ولا بدّ من حذف مضاف ، تقديره : انتهاك حرمة الشّهر الحرام بانتهاك حرمة الشهر ، والألف واللام في الشّهر الأوّل والثّاني للعهد ؛ لأنّهما معلومان عند المخاطبين ؛ فإنّ الأول ذو القعدة من سنة سبع ، والثاني من سنة ستّ.

وقرىء (١). «والحرمات» بسكون الراء ، ويعزى للحسن وقد تقدّم عند قوله (فِي ظُلُماتٍ) [البقرة : ١٧] أنّ جمع «فعلة» بشروطها يجوز فيه ثلاثة أوجه : هذان الاثنان ، وفتح العين.

فصل في بيان سبب النّزول

في سبب نزول الآية ثلاثة أوجه :

أحدها : قال ابن عبّاس ومجاهد ، والضّحّاك ـ رضي الله عنهم ـ أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ خرج عام الحديبية للعمرة ، وذلك في ذي القعدة سنة ستّ من الهجرة ، فصدّه أهل مكة عن ذلك ثمّ صالحوه أن ينصرف ، ويعود في العام القابل ؛ ويتركوا له «مكّة» ثلاثة أيّام ؛ حتّى يقضي عمرته فانصرف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ عامه ذلك ، ورجع في العام القابل في ذي القعدة سنة سبع ، ودخل مكّة ، واعتمر ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة يعني إنّك دخلت مكّة في الشهر الحرام ، والقوم كانوا صدّوك في السنة الماضية في هذا الشّهر ؛ فهذا الشهر الحرام ؛ بذلك الشهر الحرام (٢).

وثانيها : قال الحسن : إنّ الكفّار سمعوا أنّ الله تعالى نهى الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عن المقاتلة في الأشهر الحرم ؛ وهو قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧] فأرادوا مقاتلته ، وظنّوا أنّه لا يقاتلهم في الأشهر الحرم ؛ فأنزل الله

__________________

(١) قرأ بها الحسن. انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٦٤ ، والبحر المحيط ٢ / ٧٧ ، والدر المصون ١ / ٤٨١ ، والشواذ ١٢ ، وإتحاف ١ / ٤٣٣.

(٢) تقدم.

٣٤٨

تعالى هذه الآية ؛ لبيان الحكم في هذه الواقعة فقال : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي من استحلّ قتالكم من المشركين من الشّهر الحرام ، فاستحلّوه أنتم فيه (١).

وثالثها : قال بعض المتكلّمين (٢) : هو أنّ الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله ، فكيف يمنعنا عن قتالكم؟ فالشهر الحرام من جانبنا مقابل الشهر الحرام من جانبكم ؛ والحاصل في هذه الوجوه : أنّ حرمة الشّهر الحرام لما لم تمنعهم عن الكفر ، والأفعال القبيحة ، فكيف جعلوه سببا في منع القتال على الكفر والفساد؟!

قوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) الحرمات : جمع حرمة ؛ كظلمات جمع ظلمة ، وحجرات جمع حجرة ، والحرمة ما منع من انتهاكه ، وجمعها ؛ لأنّه أراد حرمة الشّهر الحرام والبلد الحرام ، وحرمة الإحرام. و «القصاص» : المساواة والمماثلة.

والمعنى على الوجه الأوّل في النّزول أنهم لمّا أضاعوا هذه الحرمات في سنة ستّ ، فقد قضيتموها على زعمكم في سنة سبع.

وأما على الثّاني : فالمراد إن أقدموا على مقاتلتكم في الشّهر الحرام ، فقاتلوهم أنتم أيضا فيه.

قال الزّجّاج (٣) : وعلم الله بهذه الآية : أنه ليس على المسلمين : أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء ، بل على سبيل القصاص والمماثلة ، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية الكريمة ، وهو قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ؛ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) وبما بعدها ؛ وهو قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).

وأما على القول الثالث : فقوله (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) يعني : حرمة كلّ واحد من الشهرين كحرمة الآخر ، وهما مثلان ، والقصاص هو المثل ، ولمّا لم يمنعكم حرمة الشّهر من الكفر ، والفتنة ، والقتال ، فكيف يمنعنا عن القتال ؛ فعلى هذا ، فقوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) متّصل بما قبله.

وقيل : هو مقطوع منه ، وهو ابتداء أمر كان في أوّل الإسلام : أن من انتهك حرمتك ، نلت منه بمثل ما اعتدى عليك ، ثم نسخ ذلك بالقتال.

وقالت (٤) طائفة : ما تناولت الآية الكريمة من التعدّي بين أمة محمّد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ والجنايات ونحوها ـ لم ينسخ ، وجاز لمن تعدّي عليه من مال ، أو جرح أن يتعدّى بمثل ما تعدّي به عليه.

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» ٥ / ١١٤.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٤.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٥.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٣٧.

٣٤٩

وقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) يجوز في «من» وجهان :

أحدهما : أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ؛ فتكون الفاء جوابا.

والثاني : أن تكون موصولة ؛ فتكون الفاء زائدة في الخبر ، وقد تقدّم نظيره.

قوله : (بِمِثْلِ مَا اعْتَدى) في الباء قولان :

أحدهما : أن تكون غير زائدة ، بل تكون متعلّقة ب «اعتدوا» والمعنى : بعقوبة مثل جناية اعتدائه.

والثاني : أنها زائدة ، أي : مثل ما اعتدى به ؛ فتكون : إمّا نعتا لمصدر محذوف ، أي : اعتداء مماثلا لاعتدائه ، وإمّا حالا من المصدر المحذوف ، كما هو مذهب سيبويه ـ رحمه‌الله تعالى ـ أي : فاعتدوا الاعتداء مشبها اعتداءه ، و «ما» يجوز أن تكون مصدرية ، فلا تفتقر إلى عائد ، وأن تكون موصولة ؛ فيكون العائد محذوفا ، أي : بمثل ما اعتدى عليكم به ، وجاز حذفه ؛ لأنّ المضاف إلى الموصول قد جرّ بحرف قد جرّ به العائد ، واتّحد المتعلّقان وقد تقدّم معنى تسمية المجازاة بالاعتداء.

فصل في اختلافهم في تسمية المكافأة عدوانا

قال القرطبيّ (١) : اختلف النّاس في المكافأة ، هل تسمّى عدوانا ، أم لا؟ فمن قال : ليس في القرآن مجاز ، قال : المقابلة عدوان ، وهو عدوان مباح ، كما أنّ المجاز في كلام العرب كذب مباح ؛ لأن قوله : [الطويل]

٩٧١ ـ فقالت له العينان سمعا وطاعة

 .......... (٢)

وقوله : [الرجز]

٩٧٢ ـ إمتلأ الحوض وقال قطني (٣)

وقوله : [الرجز]

٩٧٣ ـ شكا إليّ جملي طول السّرى (٤)

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٢) ينظر : القرطبي ٢ / ٢٣٨.

(٣) البيت من الرجز الذي لا يعرف قائله وبعده :

مهلا رويدا قد ملأت بطني

ينظر : شرح المفصل ١ / ٨٢ ، ٢ / ١٣١ ، والخصائص ١ / ٢٣ ، ورصف المباني ص ٣٦٢ ، تخليص الشواهد ص ١١١ ، أمالي المرتضى ٢ / ٣٠٩ ، الإنصاف ص ١٣٠ ، إصلاح المنطق ص ٥٧ ، جواهر الأدب ص ١٥١ ، سمط اللآلي ص ٤٧٥ ، شرح الأشموني ١ / ٥٧ ، كتاب اللامات ص ١٤٠ ، والمقاصد النحوية ١ / ٣٦١ ، ولسان العرب (قطط) ، (قطن) ، والقرطبي ٢ / ٢٣٨.

(٤) ينظر : القرطبي ٢ / ٢٣٨.

٣٥٠

ومعلوم أنّ هذه الأشياء لا تنطق ، وحدّ الكذب الإخبار عن الشّيء بخلاف ما هو به.

ومن قال : في القرآن مجاز : سمّى هذا عدوانا مجازا على طريق المقابلة كقول عمرو بن كلثوم: [الوافر]

٩٧٤ ـ ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا (١)

وقول الآخر : [الطويل]

٩٧٥ ـ ولي فرس للحلم بالحلم ملجم

ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

ومن رام تقويمي فإنّي مقوّم

ومن رام تعويجي فإنّي معوّج (٢)

يريد أكافىء الجاهل والمعوجّ لا أنّه امتدح بالجهل والاعوجاج.

قوله «واتّقوا» قد تقدّم معنى «التّقوى».

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ، أي : بالمعونة ، والنّصرة ، والحفظ ، وهذا من أقوى الدّلائل على أنّه ليس بجسم ، ولا في مكان ؛ إذ لو كان جسما ، لكان في مكان معيّن ؛ فكان إمّا أن يكون مع أحد منهم ، ولم يكن مع الآخر ، أو يكون مع كلّ واحد من المتّقين جزء من أجزائه ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٩٥)

اعلم أنّ تعلّق هذه الآية الكريمة بما قبلها من وجهين :

الأول : أنّه تعالى ، لمّا أمره بالقتال وهو لا يتيسّر إلّا بآلات وأدوات يحتاج فيها إلى المال ، وربّما كان ذو المال عاجزا عن القتال ، وكان الشّجاع القادر على القتال عديم المال فقيرا ، فلهذا أمر الله تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفقراء الّذين يقدرون على القتال (٣).

والثاني : يروى أنّه لمّا نزل قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ، وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) قال رجل من الحاضرين : والله ، يا رسول الله ما لنا زاد ، وليس أحد يطعمنا ؛ فأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم ـ أن ينفقوا في سبيل الله ، وأن يتصدّقوا وألّا يكفّوا أيديهم عن الصّدقة ، ولو بشقّ تمرة تحمل في سبيل الله فيهلكوا ، فنزلت الآية الكريمة على وفق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم ـ (٤).

__________________

(١) تقدم برقم ٢١٤.

(٢) ينظر : القرطبي ٢ / ٢٣٨.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٥.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٥.

٣٥١

واعلم : أنّ الإنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح ؛ فلذلك لا يقال في المضيّع : إنّه منفق ، وإذا قيّد الإنفاق بذكر «سبيل الله» ، فالمراد به في طريق الدّين ؛ لأنّ السّبيل هو الطريق ، وسبيل الله هو دينه ، فكلّ ما أمر الله تعالى به من الإنفاق في دينه ، فهو داخل في الآية الكريمة ، سواء كان في حجّ ، أو عمرة ، أو كان جهادا بالنّفس أو تجهيزا للغير أو كان إنفاقا في صلة الرّحم ، أو في الصّدقات ، أو على القتال ، أو في الزّكاة ، أو الكفّارة ، أو في عمارة السّبيل ، وغير ذلك ، إلّا أنّ الأقرب في هذه الآية الكريمة ذكر الجهاد ، فالمراد هاهنا الإنفاق في الجهاد ؛ لأنّ هذه الآية الكريمة ، إنّما نزلت وقت ذهاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم ـ لعمرة القضاء ، وكانت تلك العمرة لا بدّ من أن تفضي إلى القتال ، إن منعهم المشركون ، فكانت عمرة وجهادا ، فاجتمع فيها المعنيان ؛ فلا جرم ، قال تعالى (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).

قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ).

في هذه الباء ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها زائدة في المفعول به ؛ لأن «ألقى» يتعدّى بنفسه ؛ قال تبارك وتعالى (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) [الشعراء : ٤٥] ، وقال القائل : [الكامل]

٩٧٦ ـ حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثّغور ظلامها (١)

فزيدت الباء في المفعول ، كما زيدت في قوله : [الطويل]

٩٧٧ ـ وألقى بكفّيه الفتى استكانة

من الجوع وهنا ما يمرّ وما يحلو (٢)

وهذا قول أبي عبيدة ، وإليه ميل الزمخشري ، قال : «والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم ، أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم» ، إلا أنه مردود بأنّ زيادة الباء في المفعول به لا تنقاس ، إنما جاءت في الضّرورة ؛ كقوله : [البسيط]

٩٧٨ ـ ..........

سود المحاجر لا يقرأن بالسّور (٣)

الثاني : أنها متعلقة بالفعل غير زائدة ، والمفعول محذوف ، تقديره : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم ، ويكون معناها السّبب ؛ كقولك : لا تفسد حالك برأيك.

الثالث : أن يضمّن «ألقى» معنى ما يتعدّى بالباء ؛ فيعدّى تعديته ، فيكون المفعول به

__________________

(١) البيت للبيد. ينظر : ديوانه ٣١٦ ، والبحر المحيط ٢ / ٧٩ ، والدر المصون ١ / ٤٨٣.

(٢) البيت من شواهد البحر (٢ / ٧٩) الدر المصون (١ / ٤٨٣) ولم نعثر له على قائل إلا أن في ديوان زهير ٨٣ قوله:

وقد كنت من سلمى سنين ثمانيا

على صير أمر ما يمرّ وما يحلو

(٣) تقدم.

٣٥٢

في الحقيقة هو المجرور بالباء ، تقديره : ولا تفضوا بأيديكم إلى التّهلكة ؛ كقولك : أفضيت بجنبي إلى الأرض ، أي : طرحته على الأرض ، ويكون قد عبّر بالأيدي عن الأنفس كقوله : (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ١٠] (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] لأنّ بها البطش والحركة ، وظاهر كلام أبي البقاء (١) فيما حكاه عن المبرّد : أن «ألقى» يتعدّى بالباء أصلا ك «مررت بزيد» ، والأولى حمله على ما ذكرناه.

والهمزة في «ألقى» للجعل على صفة ، نحو : أطردته ، أي : جعلته طريدا ، الهمزة فيه : ليست للتعدية ؛ لأنّ الفعل متعدّ قبلها ، فمعنى «ألقيت الشيء» : جعلته لقى ، فهو «فعل» بمعنى «مفعول» ؛ كما أن الطريد «فعيل» بمعنى «مفعول» ؛ كأنه قيل : لا تجعلوا أنفسكم لقى إلى التّهلكة. والتّهلكة : مصدر بمعنى «الهلاك» ، يقال : هلك يهلك هلكا ، وهلاكا ، وهلكاء ، على وزن فعلاء ، ومهلكا ومهلكة ، مثلّث العين ، وتهلكة ، وقال الزمخشري : «ويجوز أن يقال : أصلها التّهلكة ؛ بكسر اللام ، كالتّجربة ؛ على أنه مصدر من هلّك ـ يعني بتشديد اللام ـ فأبدلت الكسرة ضمّة ؛ كالجوار والجوار» ، وردّ أبو حيّان بأنّ فيه حملا على شاذّ ، ودعوى إبدال ، لا دليل عليها ؛ وذلك أنه أنه جعله تفعلة بالكسر ، مصدر «فعّل» بالتشديد ، ومصدره ، إذا كان صحيحا غير مهموز على «تفعيل» ، و «تفعلة» فيه شاذّ ، وأمّا تنظيره له بالجوار والجوار ، فليس بشيء ، لأنّ الضمّ فيه شاذّ ، فالأولى أن يقال : إنّ الضّمّ أصل غير مبدل من كسر ، وقد حكى سيبويه (٢) ممّا جاء من المصادر على ذلك التّضرّة والتّسرّة.

قال ابن عطيّة : «وقرأ (٣) الخليل التّهلكة ، بكسر اللام ، وهي تفعلة ، من هلّك بتشديد اللام» وهذا يقوّي قول الزمخشري.

وزعم ثعلب والجارزنجي أنّ «تهلكة» لا نظير لها ، وليس كذلك. قال أبو علي : حكى سيبويه التّضرّة والتّسرّة قال : «ولا نعلمه جاء صفة» (٤).

قال ابن الخطيب (٥) ـ رحمه‌الله تعالى ـ إنّي لأتعجّب كثيرا من تكلّفات هؤلاء النّحاة في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنّهم وجدوا نقلا عن أعرابيّ مجهول يكون حجتّهم فيه ، ففرحوا به ، واتخذوه حجّة قويّة ، ودليلا قاطعا ، وقالوا : قد نقل هذا عن العرب ؛ فكيف ، وقد ورد هذا في كلام الله تعالى المشهور له من كلّ واحد من الموافق والمخالف

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٨٥.

(٢) ينظر : الكتاب ٢ / ٣٢٧.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٦٥ ، والدر المصون ١ / ٤٨٣.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٦.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٦.

٣٥٣

بالفصاحة ، وأعجز البلغاء والفصحاء ، وتحدّاه م «بأن يأتوا بمثله» و (بِعَشْرِ سُوَرٍ) و (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ])(١)(وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] وقال : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] وقال في موضع آخر : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] كيف لا يدلّ ذلك على صحّة هذه اللّفظة ، وفصاحتها ، واستقامتها.

والمشهور : أنه لا فرق بين التّهلكة ، والهلاك ، وقال قوم : التّهلكة : ما أمكن التحرّز منه ، والهلاك : ما لا يمكن التحرّز منه ، وقيل : هي نفس الشّيء المهلك ، وقيل : هي ما تضرّ عاقبته.

فصل في اختلافهم في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة

اختلفوا في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التّهلكة.

فقال قوم : إنّه راجع إلى نفس النّفقة (٢).

وقال آخرون : إنّه راجع إلى غيرها (٣) ، فالأوّلون ذكروا وجوها :

أحدها : قال ابن عبّاس ، وحذيفة ، وعطاء ، وعكرمة ، ومجاهد ، والجمهور ، وإليه ذهب البخاريّ ـ رضي الله عنهم ـ ولم يذكروا غيره : ألّا ينفقوا في مهمّات الجهاد أموالهم ؛ فيستولي العدوّ عليهم ، ويهلكهم ؛ فكأنّه قيل : إن كنت من رجال الدّين ، فأنفق مالك في سبيل الله ، وفي طلب مرضاته ، وإن كنت من رجال الدّنيا ، فأنفق مالك في دفع الهلاك ، والضّرر عن نفسك(٤).

وثانيها : أنه تبارك وتعالى لمّا أمر بالإنفاق نهى عن نفقة جميع المال ؛ لأنّ إنفاق الجميع يفضي إلى التّهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، فيكون المراد منه ما ذكره في قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧] ، وقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩].

وقيل : الإلقاء في التّهلكة : هو السّفر إلى الجهاد بغير زاد ، نقله القرطبيّ عن زيد ابن أسلم(٥) ، وقد فعل ذلك قوم ، فانقطعوا في الطّريق.

وأما القائلون : بأنّ المراد منه غير النّفقة ، فذكروا وجوها :

أحدها : أن يخلّوا بالجهاد ، فيتعرّضوا للهلاك الذي هو عذاب النار.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٦.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٦.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٦.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٤٢.

٣٥٤

ثانيها : لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون إلّا قتل أنفسكم ، فإنّ قتل الإنسان نفسه لا يحلّ ، وإنما يجب الاقتحام إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل ، فأمّا إذا كان آيسا من النّكاية ، وكان الأغلب أنّه مقتول ، فليس له الإقدام عليه ، وهذا منقول عن البراء ابن عازب (١) ، ونقل عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال في هذا : هو رجل يتنقّل بين الصفين (٢). وطعن بعضهم في هذا التّأويل ؛ وقال : هذا القتل غير محرم ، واحتجّ بأحاديث :

الأول : روي أنّ رجلا من المهاجرين حمل على صفّ العدوّ ؛ فصاح به الناس ؛ فألقى بيده إلى التّهلكة ؛ فقال أبو أيّوب الأنصاريّ : نحن أعلم بهذه الآية الكريمة ، وإنما نزلت فينا : صحبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنصرناه وشهدنا المشاهد ، فلما قوي الإسلام ؛ وكثر أهله ؛ رجعنا إلى أهالينا ، وأموالنا ، ومصالحنا ؛ فنزلت الآية ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل ، والمال ، وترك الجهاد (٣). فما زال أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله ؛ حتّى كان آخر غزاة غزاها بقسطنطينيّة في زمن معاوية ، فتوفّي هنالك ، ودفن في أصل سور القسطنطينية ، وهم يستسقون به (٤).

وروي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الجنّة ؛ فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله ، إن قتلت صابرا محتسبا؟ فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لك الجنة ؛ فانغمس في العدوّ ؛ فقتلوه بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأنّ رجلا من الأنصار ألقى درعا كان عليه ، حين ذكر رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه دائما أبدا ـ الجنة.

وروي أنّ رجلا من الأنصار تخلّف عن بني معاوية ، فرأى الطير عكوفا على من قتل من أصحابه ؛ فقال لبعض من معه : سأتقدم إلى العدوّ ؛ فيقتلونني ، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ، ففعل ذلك ؛ فذكروا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال فيه قولا حسنا (٥).

وروي أنّ قوما حاصروا حصنا ؛ فقاتل رجل حتى قتل ؛ فقيل : ألقى بيده إلى

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٧.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٧.

(٣) أخرجه أبو داود (٢٥١٢) والترمذي (٤ / ٧٢ ـ ٧٣) والحاكم (٢ / ٢٧٥) والطيالسي في «مسنده» (٥٩٩) والطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٩١ ـ ٥٩٢) وقال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣٧٤١ ـ ٣٧٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والطبراني وأبي يعلى.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٥) انظر : «التفسير الكبير» للفخر الرازي (٥ / ١١٧).

٣٥٥

التّهلكة ، فبلغ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ذلك ؛ فقال : كذبوا قال الله تعالى : (مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(١) [البقرة : ٢٠٧].

ولقائل أن يجيب عن هذه الآية ؛ فيقول : إنّما حرمنا إلقاء النفس في صفّ العدوّ ، إذا لم يتوقع إيقاع النكاية فيهم ، فأما إذا توقع ، فنحن نجوز ذلك ، فلم قلتم إنّه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع؟

الوجه الثالث من تأويل الآية : أن يكون هذا متّصلا بقوله سبحانه : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [البقرة : ١٩٤] أي : فلا تحملنّكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم ، فتهلكوا بترككم القتال ، فإنّكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة(٢).

الوجه الرابع : أنّ المعنى : أنفقوا في سبيل الله ، ولا تقولوا : إنّا نخاف الفقر ، فنهلك إن أنفقنا ، ولا يبقى معنا شيء ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق ، والمراد من هذا الفعل والإلقاء الحكم بذلك ؛ كما يقال جعل فلان فلانا هالكا ، وألقاه في الهلاك ؛ إذا حكم عليه بذلك (٣).

الوجه الخامس : قال محمد بن سيرين ، وعبيدة السّلمانيّ : هو أنّ الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل ؛ فيستهلك في المعاصي ، فذلك هو إلقاء النفس إلى التهلكة (٤) ؛ فحاصله أنّ معناه النّهي عن القنوط من رحمة الله تعالى ؛ لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية ، والإصرار على الذنب (٥).

الوجه السادس : يحتمل أن يكون المراد (أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة ، والإحباط ؛ وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلا يحبط ثوابه ، إما بذكر المنّة ، أو بذكر وجوه الرياء ، والسّمعة ؛ ونظيره قوله تعالى (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٣].

وروي عن عكرمة (٦) : الإلقاء في التهلكة ، قال تبارك وتعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢٦٧].

وقال الطّبريّ : هو عامّ في جميع ما ذكر ، لأن اللفظ يحتمله.

قوله «وأحسنوا» اختلفوا في اشتقاق «المحسن» ، فقيل : مشتقّ من فعل الحسن ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢٤٩٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٣١) وزاد نسبته لوكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن المغيرة بن شعبة.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٧.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٧.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» ٣ / ٥٨٩ عن محمد بن سيرين وعبيدة السلماني.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٧.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٤٢.

٣٥٦

وإنما كثر استعماله في من نفع غيره بنفع حسن ، من حيث إنّ الإحسان حسن في نفسه ، وعلى هذا [التّقدير] فالضرب ، والقتل إذا حسنا ، كان فاعلهما محسنا.

وقيل : مشتقّ من الإحسان ؛ ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسنا ؛ إلّا إذا كان فعله حسنا ، وإحسانا معا ؛ فهذا الاشتقاق إنّما يحصل من مجموع الأمرين.

قال الأصمّ : أحسنوا في فرائض الله (١).

وقيل : أحسنوا في الإنفاق على من يلزمكم نفقته ، والمقصود منه أن يكون ذلك الإنفاق وسطا من غير إسراف ، ولا تقتير ، وهذا أقرب لاتصاله بما قبله ، ويمكن حمل الآية على الجميع.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [تقدم تفسيره].

قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١٩٦)

الحجّ : في اللغة عبارة عن القصد ، وإنما يقال حجّ فلان الشيء ، إذا قصده مرّة بعد أخرى ، وأدام الاختلاف إليه ، و «الحجّة» بكسر الحاء : السّنة ، وإنما قيل لها حجّة ؛ لأن الناس يحجّون في كل سنة ، وفي الشرع : هو اسم لأفعال مخصوصة يشتمل على أركان ، وواجبات ، وسنن.

فالركن : ما لا يحصل التحلّل إلّا بالإتيان به ، والواجب هو الذي إذا تركه يجبر بالدم ، والسّنن : ما لا يجب بتركها شيء ، وكذلك أفعال العمرة.

وقرأ نافع (٢) ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وأبو بكر ، عن عاصم رحمة الله تعالى عليهم : «الحجّ» بفتح الحاء في كلّ القرآن الكريم ، وهي لغة أهل الحجاز ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص ، عن عاصم : بالكسر في كلّ القرآن.

قال الكسائيّ : وهما لغتان بمعنى واحد ؛ كرطل ورطل ، وكسر البيت ، وكسره ، وقيل : بالفتح المصدر ، وبالكسر الاسم.

وقرأ علقمة (٣) ، وإبراهيم النّخعيّ : «وأقيموا الحجّ والعمرة لله» وفي مصحف ابن

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٩٥) عن رجل من الصحابة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٧٥). وقال : وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحق مثله.

(٢) انظر : السبعة ١٧٨ ، الحجة ٢ / ٢٧٨.

(٣) انظر : البحر المحيط ٢ / ٨٠.

٣٥٧

مسعود (١) : «وأتمّوا الحجّ والعمرة إلى البيت» وروي عنه : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ، وفائدة التخصيص بقوله : «لله» ـ هنا ـ أنّ العرب كانت تقصد الحج للاجتماع ، والتظاهر ، وحضور الأسواق ؛ وكلّ ذلك ليس لله فيه طاعة ، ولا قربة ؛ فأمر الله تعالى بالقصد إليه لأداء فرضه ، وقضاء حقّه.

والجمهور على نصب «العمرة» على العطف على ما قبلها ، و «لله» متعلق بأتمّوا ، واللام لام المفعول من أجله. ويجوز أن تتعلّق بمحذوف على أنها حال من الحجّ والعمرة ، تقديره : أتمّوها كائنين لله. وقرأ (٢) علي وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، والشعبيّ : «والعمرة» بالرفع على الابتداء. و «لله» الخبر ، على أنها جملة مستأنفة.

قال ابن عباس ، وعلقمة ، وإبراهيم ، والنخعي : إتمام الحجّ والعمرة : أن يتمّهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما (٣).

وقال سعيد بن جبير ، وطاوس (٤) : تمام الحجّ والعمرة : أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من دويرية أهلك.

ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (٥).

وقال عليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ : تمام الحجّ والعمرة : أن تحرم بهما من دويرية أهلك (٦).

وقال قتادة : تمام العمرة أن تعمر في غير أشهر الحجّ ، فإن فعلها في أشهر الحج ، ثم أقام حتى حجّ ؛ فهي متعة ، وعليه فيها الهدي إن وجده ، أو الصيام إن لم يجد الهدي ، وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلّها بحيث لا يلزمه دم ؛ بسبب قران ، ولا متعة (٧).

وقال الضحاك : إتمامهما : أن تكون النفقة حلالا ، وينتهي عما نهى الله عنه (٨).

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٢ / ٨٠.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ٨٠ ، والدر المصون ١ / ٤٨٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» ٤ / ٧ عن ابن عباس.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٦٥.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٧٦) وعزاه لابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا.

وانظر «كنز العمال» رقم (١١٩٠٧).

(٦) أخرجه البيهقي (٤ / ٣٤١) والطبري في «تفسيره» (٤ / ٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٧٦) وزاد نسبته لوكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عن علي بن أبي طالب موقوفا.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» ٤ / ٩ عن قتادة.

(٨) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٦٥.

٣٥٨

وقال سفيان الثوري : إتمامهما : أن تخرج (١) من أهلك لهما ؛ لا لتجارة ، ولا لحاجة أخرى (٢).

قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الوفد كثير ، والحاجّ قليل (٣).

فصل في اختلافهم في وجوب العمرة

اتّفقت الأمّة على وجوب الحج ، على من استطاع إليه سبيلا ، واختلفوا في وجوب العمرة ؛ فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها ؛ وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن عمر ، ورواه عكرمة عن ابن عباس ، قال : والله إنّ العمرة لقرينة الحجّ (٤) في كتاب الله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وبه قال عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وسعيد بن جبير ، وإليه ذهب الثوريّ ، وأحمد ، والشافعيّ ، فى أصحّ قوليه.

وذهب قوم إلى أنها سنّة ، وهو قول جابر ، وبه قال الشعبيّ ، وإليه ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، رضي الله عنهم أجمعين.

حجة القول الأوّل أدلة منها : قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) والإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملا تاما ؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة : ١٢٤] أي : فعلهنّ على التمام ، والكمال ، وقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] ، أي : فافعلوا الصيام تاما إلى الليل.

فإن قيل يحتمل أن يكون المراد أنكم إذا شرعتم فيهما ، فأتموههما ؛ لأنّها تدلّ على أصل الوجوب ؛ لأنّا إنما استفدنا الوجوب من قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آلعمران : ٩٧] ، لا من هذه الآية ، وكذا قوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] إنّمااستفدنا وجوب الصوم من قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] لا من قوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) والحجّ والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما ، سواء أكانا فرضا ، أو تطوّعا (٥) ، وتقول : الصوم خرج بدليل ، أو تقول : وجب

__________________

(١) في ب : نحج.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٦٦.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٦٦.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٦٦.

(٥) ولا يجب إتمام المندوب بالشروع فيه ، فلا يجب قضاؤه على من تركه بعد شروعه فيه ، إلا الحج والعمرة المندوبان ، خلافا لأبي حنيفة ؛ الذي يرى وجوب إتمامه بحيث لو تركه بعد الشروع فيه ، وجب عليه قضاؤه.

استدل الأوّلون بما يأتي :

ترك إتمام المندوب المبطل لما فعل منه ترك له ، وتركه جائز ، فترك إتمام المندوب المبطل لما فعل منه جائز ؛ وهو المطلوب.

أما الصغرى فمسلّمة.

وأما الكبرى : فلأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكل أمر المتلبس بصوم التطوع إلى نفسه ، وخيّره بين الإتمام ـ

٣٥٩

إتمامه بالشروع ، فيكون الأمر بالإتمام ، مشروطا بالشروع فيهما.

فالجواب : أنّ ما ذكرناه أولى ؛ لأن على تقديركم يحتاج إلى إضمار ، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى إضمار ؛ فكان الاحتمال الذي ذكرناه أولى ، ويدلّ عليه : أنّ أهل التفسير ذكروا أنّ هذه الآية أول آية نزلت في الحجّ ، فحملها على إيجاب الحجّ ، أولى من حملها على وجوب الإتمام بشرط الشّروع.

وأيضا يؤيّده ما ذكرناه من قراءة (١) من قرأ «وأقيموا الحجّ والعمرة لله» وإن كانت شاذّة ، لكنّها تجري مجرى خبر الواحد.

فإن قيل : قراءة عليّ ، وابن مسعود ، والشّعبي : «والعمرة لله» بالرفع يدلّ على أنهم قصدوا إفراد العمرة عن حكم الحجّ ، في الوجوب ؛ فالجواب من وجوه :

أحدها : أنها شاذّة ؛ فلا تعارض المتواترة.

فإن قيل : قد استدللتم أنتم بالشاذّة أيضا؟

قلنا : استدللنا بها حيث هي موافقة ؛ فتكون تقوية للاستدلال ، لا أنّها نفس الدّليل ،

__________________

ـ والإفطار ؛ بقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر» ؛ لأن حمل الصائم في كلامه على المتلبس بالصوم ـ وإن ترتب عليه مجاز في قوله : (صام) أي : دام على صيامه ، إلا أنه مجاز واحد ـ أولى من حمله على مريد الصوم ؛ لما يلزم عليه من مجازين : أحدهما في الصائم ، وثانيهما في من أفطر ، ولا شك أن الحمل على معنى يكون التجوّز فيه قليلا أولى من الحمل على معنى يكون التجوّز فيه أكثر ؛ لأن قليل المجاز يكون أقرب إلى الأصل ، وهو الحقيقة ، بخلاف كثيرة ؛ لبعده عنه ، ويقاس على الصوم باقي المندوبات ، عدا الحج والعمرة ، فلا يتناولهما حكم الآية في قوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) جمعا بين الأدلة.

وإنما وجب إتمام الحج والعمرة المندوبين على من شرع فيهما ؛ لتميزهما عن غيرهما من باقي المندوبات ؛ بمشابهتهما لفرضهما في أن نية نفلهما لا تختلف عن نية فرضهما ؛ إذ هي في كل منهما قصد التلبس ؛ بالحج والعمرة ، وأن الكفارة تجب في كل منهما بالجماع المفسد لهما ، وأنه لا يحصل الخروج منهما بفسادهما ، بل يجب المضي فيهما بعد الفساد ؛ لأن الإحرام شديد التعلّق ، فلا يتأثر بفساده ، بخلاف غيرها من سائر النوافل ، فليس فرضها ونقلها سواء فيما تقدم ؛ إذ النية في النفل غيرها في الفرض ، والكفارة تجب في فرض الصوم دون نفله ، وبفسادها يحصل الخروج منها مطلقا ، ففارق الحج والعمرة المندوبان غيرهما من النوافل ، وألحقا بما هما أكثر شبها به وهو فرض الحج والعمرة ، فوجب إتمامهما كما وجب إتمام فرضهما.

واستدل أبو حنيفة بقوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فقد نهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن إبطال الأعمال بعد الشروع فيها ، وهي عامّة تتناول كل الأعمال ، سواء المفروض منها والمندوب.

ويجاب عن ذلك : بأن الآية وإن كانت عامة ، إلا أنها خصصت بحديث الصيام السابق ، وقيس على الصيام غيره من سائر النوافل ، فتكون خارجة عن حكم الآية ، وإن كانت متناولة لها من حيث اللفظ ؛ جمعا بين الأدلة.

(١) تقدم.

٣٦٠