اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

ضدّه ، فبهذا الاعتبار كانت عدّة مناه ، ثم جاء آخرها صريح النهي ، وهو : «ولا تباشروهنّ» فأطلق على الكل «حدودا» ؛ تغليبا للمنطوق به ، واعتبارا بتلك المناهي الّتي تضمّنتها الأوامر ، فقيل فيها حدود ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل ؛ لأنّ المأمور به لا يقال فيه «فلا تقربوها».

وقال أبو مسلم الأصفهانيّ (١) : «لا تقربوها» أي : لا تتعرّضوا لها بالتغيير ؛ لقوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء : ٣٤].

قال أبو البقاء (٢) : دخول الفاء هنا عاطفة على شيء محذوف ، تقديره : «تنبّهوا فلا تقربوها» ، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدة كالتي في قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠] على أحد القولين ؛ لأنه كان ينبغي أن ينتصب «حدود الله» على الاشتغال ؛ لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهي ، نحو : «زيدا فاضربه ، وعمرا فلا تهنه» فلمّا أجمعت القرّاء هنا على الرفع ، علمنا أن هذه الجملة التي هي «فلا تقربوها» منقطعة عمّا قبلها ، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن.

والحدود : جمع حدّ ، وهو المنع ، ومنه قيل للبوّاب : حدّاد ، لأنّه يمنع من العبور قال اللّيث ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وحدّ الشيء منتهاه ومنقطعه ، ولهذا يقال : الحدّ مانع جامع ، أي : يمنع غير المحدود الدّخول في المحدود.

وقال الأزهريّ : ومنه يقال للمحروم ، محدود ؛ لأنّه ممنوع عن الرّزق ، وحدود الله ما يمنع مخالفتها ، وسمّي الحديد حديدا ؛ لما فيه من المنع ، وكذلك : إحداد المرأة ؛ لأنّها تمتنع من الزينة.

والنّهيّ عن القربان أبلغ من النّهي عن الالتباس بالشيء ؛ فلذلك جاءت الآية الكريمة.

وقال هنا : (فَلا تَقْرَبُوها) وفي مواضع أخر : (فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩] ومثله (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩] (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) [النساء : ١٤] لأنه غلّب هنا جهة النهي ؛ إذ هو المعقّب بقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) وما كان منهيّا عن فعله ، كان النهيّ عن قربانه أبلغ ، وأمّا الآيات الأخر ، فجاء (فَلا تَعْتَدُوها) عقيب بيان أحكام ذكرت قبل ؛ كالطلاق ، والعدّة ، والإيلاء ، والحيض ، والمواريث ؛ فناسب أن ينهى عن التعدّي فيها ، وهو مجاوزة الحدّ الذي حدّه الله تعالى فيها.

قال السّدّيّ : المراد بحدود الله شروط الله (٣) وقال شهر بن حوشب : فرائض الله (٤).

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩٩.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٨٣.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٤٧) عن السدي.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٩.

٣٢١

قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ) الكاف في محلّ نصب : إمّا نعتا لمصدر محذوف ، أي : بيانا مثل هذا البيان.

فإنّه لما بيّن أحكام الصّوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بيانا شافيا وافيا ـ قال بعده : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) أي مثل هذا البيان الوافي الواضح.

أو حالا من المصدر المحذوف ؛ كما هو مذهب سيبويه.

قال أبو مسلم (١) : أراد بالآيات الفرائض الّتي بيّنها ؛ كما قال سبحانه (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) [النور : ١] ثم فسّر الآيات بقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) [النور : ٢] إلى سائر ما بيّنه من أحكام الزّنا ، فكأنه تعالى قال : كذلك يبيّن الله آياته للنّاس ما شرعه لهم ؛ ليتّقوه ، فينجوا من عذاب الله.

قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٨)

قوله : (بَيْنَكُمْ :) في هذا الظرف وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق ب «تأكلوا» بمعنى : لا تتناقلوها فيما بينكم بالأكل.

والثاني : أنه متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من «أموالكم» أي : لا تأكلوها كائنة بينكم ، وقدّره أبو البقاء (٢) أيضا بكائنة بينكم ، أو دائرة بينكم ؛ وهو في المعنى كقوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) [البقرة : ٢٨٢] ، وفي تقدير «دائرة» ـ وهو كون مقيّد ـ نظر ، إلّا أن يقال : دلّت الحال عليه.

قوله : «بالباطل» فيه وجهان :

أحدهما : تعلّقه بالفعل ، أي : لا تأخذوها بالسبب الباطل.

الثاني : أن يكون حالا ؛ فيتعلّق بمحذوف ، ولكن في صاحبها احتمالان :

أحدهما : أنه المال ؛ كأنّ المعنى : لا تأكلوها ملتبسة بالباطل.

والثاني : أن يكون الضمير في «تأكلوا» كأنّ المعنى : لا تأكلوها مبطلين ، أي : ملتبسين بالباطل.

فصل في سبب نزول الآية

قيل : نزلت هذه الآية في امرىء القيس بن عابس الكندي ، ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرميّ عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرضا ، فقال : إنه غلبني عليها ، فقال النّبيّ ـ صلوات الله وسلامه عليه دائما أبدا ـ للحضرميّ : «ألك بيّنة»؟ قال : لا ؛ قال : «فلك يمينه» فانطلق

__________________

(١) ينظر تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩٩.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٨٤.

٣٢٢

ليحلف ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أما إن يحلف على ماله ، ليأكله ظلما ، ليلقينّ الله ، وهو عنه معرض» فأنزل الله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي : لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل (١) ، أي : من غير الوجه الذي أباحه الله ، و «الباطل» في اللغة الذّاهب الزائل ، يقال : بطل الشّيء بطولا وبطلانا ، فهو باطل ، وجمع الباطل : بواطل ، وأباطيل جمع أبطولة ، يقال : بطل الأجير يبطل بطالة ، إذا تعطّل ، وتبطّل : اتّبع اللهو ، وأبطل فلان ، إذا جاء بالباطل ، وقوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) [فصلت : ٤٢] قال قتادة (٢) : هو إبليس ؛ لا يزيد في القرآن ، ولا ينقص ، وقوله عزوجل (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) [الشورى : ٢٤] يعني : الشّرك ، والبطلة : السّحرة.

قوله : «لا تأكلوا» ليس المراد منه الأكل خاصّة ؛ لأنّ غير الأكل من التصرّفات ؛ كالأكل في هذا الباب ، لكنّه لمّا كان المقصود الأعظم من المال ، إنّما هو الأكل ، وصار العرف فيمن أنفق ماله ، أن يقال : أكله ؛ فلهذا عبّر عنه بالأكل.

فصل فيما يحل ويحرم من الأموال

قال الغزاليّ ـ رحمه‌الله تعالى ـ في كتاب «الإحياء» : المال إنّما يحرم إما لمعنى في عينه ، أو لخلل في جهة اكتسابه :

فالقسم الأول : الحرام لمعنى في عينه.

اعلم أنّ الأموال : إمّا أن تكون من المعادن ، أو من النبات ، أو من الحيوانات.

أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شيء منها ، إلّا من حيث يضر بالأكل وبعضها ما يجري مجرى السّمّ.

وأما النبات : فلا يحرم منه إلّا ما يزيل الحياة ، أو الصّحّة ، أو العقل.

فمزيل الحياة : كالسّموم ، ومزيل الصّحّة : الأدوية في غير وقتها ، ومزيل العقل : الخمر ، والبنج ، وسائر المسكرات.

وأما الحيوانات : فتقسم إلى ما يؤكل ، وإلى ما لا يؤكل.

وما يؤكل : إنّما يحلّ ، إذا ذكّي ذكاته الشّرعيّة ، ثم إذا ذكّيت ، فلا تحلّ جميع أجزائها ، بل يحرم منها الدّم ، والفرث.

القسم الثاني : ما يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه ، فنقول :

أخذ المال : إما أن يكون باختيار المالك أو بغير اختياره ؛ كالإرث ، والذي باختياره : إما أن يكون مأخوذا بأمر مالكه ، وإمّا أن يكون قهرا ، أو بالتّراضي.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في «الدر المنثور» (١ / ٣٦٧).

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٢٦.

٣٢٣

والمأخوذ قهرا : إما أن يكون لسقوط عصمة المالك ؛ كالغنائم ، أو باستحقاق الأخذ ؛ كزكاة الممتنعين ، والنفقات الواجبة عليهم.

والمأخوذ تراضيا : إما أن يؤخذ بعوض ، كالبيع ، والصّداق ، والأجرة ، وإما أن يؤخذ بغير عوض ؛ كالهبة ، والوصيّة.

فحصل من هذا التّقسيم أقسام ستة :

الأول : ما يؤخذ من غير ملك ؛ كنيل المعادن ، وإحياء الموات ، والاصطياد ، والاحتطاب ، والاستقاء من الأنهار ، والاحتشاش ؛ فهذا حلال ، لا يكون المأخوذ مختصّا بذي حرمة من الآدميّين.

الثاني : المأخوذ قهرا ممّن لا حرمة له ، وهو الفيء ، والغنيمة وسائر أموال الكفّار والمحاربين ، فذلك حلال للمسلمين ، إذا أخرجوا منه الخمس ، وقسّموه بين المستحقّين بالعدل ، ولم يأخذوه ممّن كان له حرمة بأمان ، أو عهد.

الثالث : ما يؤخذ قهرا باستحقاق عند امتناع من هو عليه فيؤخذ دون عطائه ؛ وذلك حلال ؛ إذا تمّ سبب الاستحقاق ، وتمّ وصف المستحقّ ، واقتصر على قدر المستحقّ.

الرابع : ما يؤخذ تراضيا بمعاوضة ، فهو حلال ، إذا روعي شرط العوضين ، وشرط العاقدين ، وشرط اللّفظين ، أعني : الإيجاب والقبول عند من يشترطهما ، مع ما قيّد الشّرع به من اجتناب الشّروط المفسدة.

الخامس : ما يؤخذ بالرّضا من غير عوض ؛ كما في الهبة ، والوصيّة ، والصّدقة ، إذا روعي شرط المعقود عليه ، وشرط العاقدين ، ولم يؤدّ إلى ضرر.

السادس : ما يحصل بغير اختياره ؛ كالميراث ، وهو حلال ، إذا كان المورّث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه الحلال ، ثم كان ذلك بعد قضاء الدّين ، وتنفيذ الوصايا ، وتعديل القسمة من الورثة ، وإخراج الزّكاة ، والحجّ والكفّارة الواجبة ، فهذه مجامع مداخل الحلال ، وكلّ ما كان بخلاف ذلك كان حراما.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : المال : إما أن يكون له ، أو لغيره.

فإن كان لغيره : كانت حرمته لأجل الوجوه السّتّة المذكورة ، وإن كان له ، فأكله بالحرام : إما بأن يصرفه في شرب الخمر ، أو الزّنا ، أو اللّواط ، أو القمار ، أو الشّرب المحرّم ؛ وكلّ هذه الأقسام داخلة تحت قوله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ، وَتُدْلُوا بِها).

قوله : (وَتُدْلُوا بِها) في «تدلوا» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مجزوم عطفا على ما قبله ؛ ويؤيّده قراءة أبيّ : «ولا تدلوا» بإعادة لا الناهية.

٣٢٤

والثاني : أنه منصوب على الصّرف ، وقد تقدّم معنى ذلك ، وأنه مذهب الكوفيّين ، وأنه لم يثبت بدليل.

والثالث : أنه منصوب بإضمار «أن» في جواب النهي ، وهذا مذهب الأخفش (١) ، وجوّزه ابن عطيّة والزّمخشريّ ، ومكّيّ ، وأبو البقاء (٢) ، قال أبو حيّان : «وأمّا إعراب الأخفش ، وتجويز الزمخشريّ ذلك هنا ، فتلك مسألة : «لا تأكل السّمك ، وتشرب اللّبن» قال النحويّون : إذا نصب ، كان الكلام نهيا عن الجمع بينهما ، وهذا المعنى : لا يصحّ في الآية لوجهين :

أحدهما : أنّ النهي عن الجمع لا يستلزم النّهي عن كلّ واحد منهما على انفراده ، والنّهي عن كلّ واحد منهما يستلزم النّهي عن الجمع بينهما ؛ لأن الجمع بينهما حصول كلّ واحد منهما ، وكلّ واحد منهما منهيّ عنه ضرورة ؛ إلا ترى أنّ أكل المال بالباطل حرام ، سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرّمات؟

والثاني ـ وهو أقوى ـ : أنّ قوله «لتأكلوا» علّة لما قبلها ، فلو كان النهي عن الجمع ، لم تصحّ العلّة له ؛ لأنّه مركّب من شيئين ، لا تصحّ العلّة أن تترتّب على وجودهما ، بل إنما تترتّب على وجود أحدهما ، وهو الإدلاء بالأموال إلى الحكام».

والإدلاء مأخوذ من إدلاء الدّلو ، وهو إرساله إلى البئر ؛ للاستقاء ؛ يقال : «أدلى دلوه» إذا أرسلها ، ودلاها : إذا أخرجها ، ثم جعل كلّ إلقاء قول أو فعل إدلاء ؛ ومنه يقال للمحتجّ أدلى بحجّته ، كأنه يرسلها ، ليصل إلى مراده ؛ كإدلاء المستقي الدلو ؛ ليصل إلى مطلوبه من الماء ، وفلان يدلي إلى الميّت بقرابة ، أو رحم ؛ إذا كان منتسبا ، فيطلب الميراث بتلك النّسبة.

و «بها» متعلّق ب «تدلوا» وفي الباء قولان :

أحدهما : أنها للتعدية ، أي لترسلوا بها إلى الحكّام.

والثاني : أنّها للسبب ؛ بمعنى أن المراد بالإدلاء الإسراع بالخصومة في الأموال ؛ إمّا لعدم بيّنة عليها ، أو بكونها أمانة ؛ كمال الأيتام ، والضمير في «بها» : الظاهر أنه للأموال ، وقيل : إنه لشهادة الزّور ؛ لدلالة السّياق عليها ، وليس بشيء.

و «من أموال» في محلّ نصب صفة ل «فريقا» أي : فريقا كائنا من أموال النّاس.

قوله : «بالإثم» تحتمل هذه الباء : أن تكون للسّبب ، فتتعلّق بقوله : «لتأكلوا» وأن تكون للمصاحبة ، فتكون حالا من الفاعل في «لتأكلوا» وتتعلق بمحذوف أي : لتأكلوا ملتبسين بالإثم.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للأخفش ١ / ١٦٠.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٨٤.

٣٢٥

فصل في سبب تسمية الرشوة بالإدلاء

في تسمية الرّشوة (١) بالإدلاء وجهان :

__________________

(١) الرشوة عند الشافعية : قال ابن الرفعة في «كفاية النبيه شرح التنبيه» عند قوله : ولا يجوز للقاضي أن يرتشي : لما روى أبو بكر بن المنذر ، عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : «لعن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الراشي والمرتشي» ، أخرجه ابن ماجه ، وروى ثوبان عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لعن الله الراشي والمرتشي الذي يمشي بينهما» وروى أنس نحوه ؛ ولأنه إن أخذ ليحكم بغير الحق حرام ، والأخذ عليه حرام.

وإن أخذ على إيقاف الحكم ، فهو يلزمه الحكم لمن وجب له ، فتركه حرام ، وإن أخذ على أن يحكم بالحق ، فليس له أن يأخذ الرزق على ذلك من الإمام ، فليس له أن يأخذ عليه عوضا آخر.

أما دفع الرشا فهو يجوز ، قال الأصحاب ، كما حكاه أبو الطيب الماوردي ، وابن الصباغ : ـ إن كان يطلب بها دفع الحكم بغير الحق ، أو إيقاف الحكم بالحق ، حرم عليه ، وإن كان يطلب بها وصولا إلى حقه ، لم يحرم عليه ، وإن كان حراما على غيره ، كما لا يحرم أن يفك الأسير بماله. قال في «المرشد» : ويحمل لعنة الراشي والمرتشي على ما إذا قصد بها إيقاف الحكم بالباطل ، ولذلك قال الله تعالى : (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ،) والمتوسط بينهما هو تابع لموكله منهما ، فإن توكّل عنهما ، كان فعله حراما ، وهذا الكلام من الأصحاب يدل على أن الرشوة تكون لطلب حق ، ولطلب باطل.

وقد حكي عن ابن كج أنه قال : الرشوة عطية ، بشرط أن يحكم له بغير حق ، والهدية عطية مطلقة ، وكلام الماوردي يخالفه ؛ فإنه قال : الرشوة ما تقدمت الحاجة ، والهدية ما تأخّرت ، والذي حكاه الغزالي ـ رحمه‌الله تعالى ـ في الإحياء منطبق على الأول ؛ فإنه قال : المال إن بذل لغرض أجل فهو قربة وصدقة ؛ وإن بذل لغرض مال في مقابلته ، فهو هبة بثواب مشروط ، أو متوقع ؛ وإن كان لغرض عمل محرم أو واجب متعين ، فهو رشوة ؛ وإن كان مباحا فإجارة أو جعالة ؛ وإن كان للتقرب والتودد للمبذول له ، فإن كان لمجرد نفسه ، فهدية وإن كان ليتوسل بجاهه إلى أغراض ومقاصد ، فإن كان جاهه بعلم أو صلاح أو نسب ، فهدية ، وإن كان بالقضاء والعمل بولاية ، فرشوة.

قال القاضي أبو الطيب ـ رحمه‌الله تعالى ـ في تعليقه ، وكذا الشيخ أبو حامد : إن تحريم أخذ الرشوة على الحاكم إذا كان له رزق من بيت المال ، فأمّا إذا لم يكن له رزق ، أي : وكان ممّن يجوز أن يفرض قال للمتحاكمين : لست أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا عليه ؛ فإنه حينئذ يحلّ له ذلك ، وعلى ذلك جرى الجرجاني ـ رحمه‌الله ـ في «التحرير» قال ابن الصباغ : ويجوز مثل ذلك ؛ لأنه لم يذكر أنه طلبه من أحدهما.

والرشوة عند الحنفية ، قال في فتاوى قاضيخان : وإذا ارتشى ولد القاضي ، أو كاتبه ، أو بعض أعوانه ؛ ليعين الراشي عند القاضي ، ففعل ؛ إن لم يعلم القاضي بذلك ، نفذ قضاؤه ، وكان على المرتشي ردّ ما قبض ، وإن علم بذلك القاضي ، كان قضاؤه مردودا.

وإذا تقلّد القضاء بالرشوة ، لا يصير قاضيا ، وتكون الرّشوة حراما على الراشي ، وعلى الآخذ ، ثم الرّشوة على وجوه أربع :

منها : ما هو حرام من الجانبين أحدها هذه. والثاني : إذا دفع الرشوة إلى القاضي ؛ ليقضي له ، وهذه الرشوة حرام من الجانبين ، سواء كان القضاء بحق أو بغير حق.

ومنها : إذا دفع الرشوة لخوف على نفسه أو ماله ، وهذه الرشوة حرام على الآخذ ، وغير حرام على ـ

٣٢٦

أحدهما : أن الرّشوة تقرّب البعيد من الحاجة ؛ كما أنّ الدّلو المملوء يصل من

__________________

ـ الدافع ؛ وكذا إذا طمع في ماله ، فرشاه ببعض ماله. ومنها : إذا دفع الرشوة ليسوي أمره عند السلطان ، فأحلّ له الدفع ، ولا يحلّ للآخذ أن يأخذها ، فإن أراد أن يحل للآخذ ، يستأجر الآخذ يوما إلى الليل بما يريد أن يدفع ، فإنه تجوز هذه الإجارة ، ثم المستأجر إن شاء استعمله في هذا العمل ، وإن شاء استعمله في عمل غيره ، هذا إذا أعطى الرشوة أولا ليسوّي أمره عند السلطان ، وإن طلب منه أن يسوّي أمره ولم يذكر الرشوة ؛ ثم أعطاه بعدما سوّى ، اختلفوا فيه : قال بعضهم : لا يحلّ له أن يأخذ. وقال بعضهم : يحل ، وهو الصحيح ؛ لأنه يراه مجازاة الإحسان فيحل له ؛ كما لو جمعوا للإمام والمؤذن شيئا ، وأعطوه من غير شرط ـ كان حسنا.

وقال في «الفتاوى البزازية» : القاضي لا يقبل هدية الأجنبي والقريب ، إلا من كان يهدي قبله ، وإن زاد ، يرد الزيادة إلا أن تكون خصومة ، فلا يقبل منه أيضا ، فإن قبل وأمكنه الرد ، رد ، وإلا وضع في بيت المال ؛ وكذا في كل موضع ليس له القبول ، وإن كان يتأذى به المعطي ، أخذه ورد عليه قيمته ، فإن قضى ثم ارتشى أو عكس ، لا ينفذ ، وإن تاب ورد المأخوذ ، فهو على قضائه ، لأنه بالفسق لا ينعزل.

والهدايا ثلاث : حلال من الجانبين للتودد ، وحرام منهما ؛ وهو الإهداء للإعانة على الظلم ، وحرام من جانب وهو الإهداء لكشف الظلم عنه ؛ فهو حرام على الآخذ حلال للمعطي.

والرشوة عند المالكية : فقال في «مختصر خليل» وشرحه لتلميذه بهرام : وحرم ، يعني : طلب القضاء لجاهل وقاصد دنيا ؛ لأن الجاهل ربما أداه جهله إلى مخالفة ما هو متفق عليه ، والوقوع في الأمور المعضلة ، وطالب الدنيا ربما أداه ذلك إلى الحيف ؛ لتحصيل غرضه الفاسد.

قال : ولا يحضر ، يعني القاضي في الولائم إلا وليمة النكاح خاصة ، ثم إن شاء أكل أو ترك من غير كراهة ، وإن كانت الوليمة لغير النكاح ، فأجيز له الحضور ، وكره إلا ما كان من جهة ولده ، أو والده ونحو ذلك.

وفي «النوادر» عن أشهب : لا بأس أن يجيب الدعوة العامة وليمة ، أو صنيعا عاما لفرح ، فأما أن يدعى مع عامة لغير فرح ، فلا يجيب ، وكأنه دعي خاصة ، إذ لعله إنما صنع ذلك لأجل القاضي ؛ وكذا ليس له قبول هدية ، ولو كافأ عليها أضعافها ، وحمل الأشياخ قول ابن حبيب : لم يختلف العلماء في كراهة قبول الهدية ، وهو مذهب مالك ، وأهل السنة ، على المنع ، وسواء كان المهدي ممّن له عند القاضي خصومة ، أو لا ، وقاله مطر ، وابن الماجشون.

وقال ابن عبد الحكم : له أن يقبل ممن لا خصومة له عنده. وقال أشهب : لا يقبلها من غير من يخاصم عنده ، إلا أن يكافأه عليها من قريب ، كولده ، وأخيه ، وعمه ، وابن عمه ، وخاله ، وخالته ، وعمته ، وبنتها ، ومن لا يدخل عليه به ظنه الشدة الداخلة والمنافية بينهما ، وكذلك ذكر محمد بن سحنون عن أبيه ، ونحوه في «الموازنة» وفي هدية من اعتادها قبل الولاية قولان : يريد جواز قبول القاضي الهدية ممّن كانت عادته ذلك قبل الولاية ، وعدم جوازه ، والجواز لابن عبد الحكم ، وقال مطرف وعبد الملك : لا ينبغي ذلك ، وهو محتمل للمنع والكراهية.

وقال العلامة جلال الدين عبد الله بن شاش في كتابه «عقد الجواهر الثمينة في آداب القاضي» : ولا يقبل الهدية ممّن له خصومة ، ولا ممّن ليس له خصومة ، ولو كان ممّن يقبلها منه قبل الحكم ، أو كافأ عليها أضعافها ، إلا من ولده ، أو والده ، ومن أشبههم من خاصة القرابة ، فإن قبلها ، فهو سحت. انتهى.

والرشوة عند الحنابلة : فقال في «شرح الإقناع» العلامة الشيخ منصور البهوتي ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ويحرم على القاضي قبول رشوة بتثليث الراء ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : «لعن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الراشي والمرتشي». قال الترمذي : حسن صحيح ، ورواه أبو بكر في «زاد المسافر» وزاد الرائش ، ـ

٣٢٧

البعيد إلى القريب بواسطة الرّشاء ، فالمقصود البعيد يصير قريبا ، بسبب الرّشوة.

والثاني : أن الحاكم بسبب أخذ الرّشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبّت ؛ كمضيّ الدّلو في الرّشاء ، ثم المفسّرون ذكروا وجوها (١)؟

أحدها : قال ابن عبّاس ، والحسن ـ رضي الله عنهما ـ وقتادة : المراد منه الودائع ، وما لا يقوم عليه البيّنة (٢).

وثانيها : أن المراد هو مال اليتيم في يد الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحكم ، ليبقى لهم بعضه (٣).

وثالثها : قال الكلبيّ : المراد بالإدلاء إلى الحكّام : هو شهادة الزّور (٤).

ورابعها : قال الحسن : هو أن يحلف ؛ ليذهب حقّه (٥) ؛ كما تقدّم في سبب النّزول.

وخامسها : وهو أن يدفع إلى الحاكم رشوة (٦) ، وهذا أقرب إلى الظاهر ، ولا يبعد حمل اللفظ على الكلّ ؛ لأنها بأسرها أكل للمال بالباطل.

__________________

ـ وهو السفير بينهما ، وهي ، أي : الرشوة : ما يعطى بعد طلبه لها ، ويحرم بذلها من الراشي ليحكم له بباطل ، أو يدفع عنه حقه.

وإن رشاه ليدفع عنه ظلمه ، ويجريه على واجبه ـ فلا بأس به في حقه ، قال عطاء وجابر بن زيد ، والحسن : لا بأس أن يصانع عن نفسه ؛ ولأنه يستفيد ماله كما يستفيد الرجل أسيره ، ويحرم قبوله ، أي : القاضي هدية ؛ لما روى أبو سعيد قال : بعث النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ رجلا من الأزد يقال : ابن اللتبية على الصدقة ، فقال : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقام النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ ، فحمد الله ـ تعالى ـ ، وأثنى عليه ، ثم قال : «ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول : هذا لكم وهذا أهدى إليّ ، ألا جلس في بيت أبيه ، فينظر أهدي إليه أم لا ، والذي نفس محمد بيده ، لا نبعث أحدا منكم فيأخذ شيئا ، إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر ، ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطية ، فقال : اللهم بلغت ثلاثا» وقال كعب الأحبار : قرأت فيما أنزل الله ـ تعالى ـ على أنبيائه : الهدية تفقا عين الحكم ، بخلاف مفت ، فلا يحرم عليه قبول الهدية ، وهي أي : الهدية : الدفع إليه ابتداء من غير طلب ، وظاهره أنه يحرم على القاضي قبول الهدية ، ولو كان القاضي في غير عمله ؛ لعموم الخبر ، إلا ممّن كان يهدي إليه قبل ولايته ، إن لم يكن له أي : المهدي حكومة ؛ لأن التهمة منتفية ؛ لأن المنع إنما كان من أجل الاستمالة ، أو من أجل الحكومة ، وكلاهما منتف ، أو كانت الهدية من ذي رحم محرم منه ، أي : من الحاكم ؛ لأنه لا يصح له أن يحكم له ، هذا واضح في عمودي نسبه ، دون من عداهم من أقاربه ، مع أنه يحتمل أن يهدي ؛ لئلا يحكم عليه.

ينظر : تحقيقنا في كتاب «تحقيق القضية في الفرق بين الرشوة والهدية».

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٠١.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٣ / ٥٥٠) عن ابن عباس وذكره الرازي في «تفسيره» (٥ / ١٠١).

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٠١.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٠١.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٠١.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٠١.

٣٢٨

وقوله «فريقا» أي : طائفة من أموال النّاس ، والمراد «بالإثم» الظلم ، وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ «الإثم» هنا هو اليمين الكاذبة (١).

فصل في الفسق بأخذ ما يطلق عليه اسم مال

قال القرطبيّ (٢) : اتّفق أهل السّنّة على أنّ من أخذ ما وقع عليه اسم مال ، قلّ أو كثر ، فإنّه يفسّق بذلك ، وأنه يحرم عليه أخذه ؛ خلافا لبشر بن المعتمر ، ومن تابعه من المعتزلة ؛ حيث قالوا : إنّ المكلّف لا يفسّق إلّا بأخذ مائتي درهم ، ولا يفسّق بدون ذلك. وقال ابن الجبّائيّ : لا يفسّق إلّا بأخذ عشرة دراهم ، ولا يفسّق بما دونها.

وقال أبو الهذيل : يفسّق بأخذ خمسة دراهم ، فما فوقه ، ولا يفسّق بما دونها ، وهذا كلّه مردود بالقرآن ، والسّنّة ، وباتفاق علماء الأمّة بقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» (٣).

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل «لتأكلوا» وذلك على رأي من يجيز تعدّد الحال ، وأمّا من لا يجيز ذلك ، فيجعل «بالإثم» غير حال.

والمعنى : وأنتم تعلمون أنّكم مبطلون ، ولا شكّ أن الإقدام على القبيح ، مع العلم بقبحه أقبح ، وصاحبه بالتّوبيخ أحقّ ، وروي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : اختصم رجلان إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عالم بالخصومة ، وجاهل بها ، فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعالم ، فقال من قضي عليه : يا رسول الله ، والّذي لا إله إلّا هو ، إنّي محقّ بحقّ فقال : إن شئت أعاوده ، فعاوده ، فقضى للعالم ، فقال المقضيّ عليه مثل ما قال أوّلا ، ثمّ عاوده ثالثا ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اقتطع حقّ امرىء مسلم بخصومته ، فإنّما اقتطع قطعة من النّار» فقال العالم المقضيّ له : يا رسول الله ، إنّ الحقّ حقّه ، فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «من اقتطع بخصومته وجدله حقّ غيره ، فليتبوّأ مقعده من النّار» (٤).

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٦٠.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٢٧.

(٣) أخرجه البخاري (٧ / ١٨٢) كتاب الأضاحي باب من قال الأضحى يوم النحر (٥٥٥٠) ومسلم كتاب القيامة (٢٩ ، ٣٠ ، ٣١) وأحمد (٥ / ٤٠) والبيهقي (٥ / ١٦٦ ، ٨ / ١٩) والطبراني في «الكبير» (٥ / ٣١٦) وابن خزيمة (٢٨٠٩) وأبو نعيم في «الحلية» (٤ / ٣٤٣) وابن سعد (٢ / ١ / ١٣٢) وابن عبد البرّ في «التمهيد» (١٠ / ٢٣١) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٤ / ١٥٩) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٧ / ٨٥) وابن عساكر (٦ / ٥٨) والبغوي في تفسيره (٣ / ٩١) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٣٩ ، ٤٤٢).

(٤) أخرجه مسلم كتاب الإيمان رقم (٢١٨) والنسائي (٨ / ٢٤٦) وأبو عوانة (١ / ٣٢) وأحمد (٥ / ٢٦٠) والبيهقي (١٠ / ١٧٩) والطبراني في «الكبير» (١ / ٢٤٦) والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣٧٠) والطحاوي في «مشكل الآثار» (١ / ١٨٦) وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» رقم (٤٦٣٥٣ ، ٤٦٣٧٣).

وانظر : تفسير القرطبي (٤ / ١٢٠) ، (٥ / ١٥٩) ، (٦ / ٢٦٨).

٣٢٩

وعن أمّ سلمة زوج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، ومجّد ، وعظّم : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّما أنا بشر مثلكم ، وإنّكم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه ، فلا يأخذنّه ؛ فإنّما أقطع له قطعة من النّار (١).

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١٨٩)

نقل عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال : ما كان قوم أقلّ سؤالا من أمّة محمّد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ دائما وأبدا ـ سألوه عن أربعة عشر حرفا ، فأجيبوا (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : ثمانية منها في سورة البقرة أولها : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة : ١٨٦]. وثانيها : هذه الآية ، ثم الباقية بعد في سورة البقرة. فالمجموع ثمانية في هذه السّورة ، والتّاسع : في المائدة ، قوله تبارك وتعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) [المائدة : ٤] والعاشر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) [الأنفال : ١] والحادي عشر : في بني إسرائيل (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) [الإسراء : ٨٥] والثاني عشر في الكهف (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) [الكهف : ٨٣] والثالث عشر في طه (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) [طه : ١٠٥] والرابع عشر في النّازعات (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) [النازعات : ٤٢].

ولهذه الأسئلة ترتيب عجيب : آيتان :

الأول : منها في شرح المبدأ ، وهو قول تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) وهذا سؤال عن الذّات.

والثاني : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) وهذا سؤال عن حقيقة الخلّاقيّة ، والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه.

والآيتان الأخيرتان في شرح المعاد ، وهو قوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) [طه : ١٠٥] و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) [النازعات : ٤٢].

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٢٣٦) كتاب المظالم باب إثم من خاصم (٢٤٥٨) و (٩ / ١٣٢) كتاب الأحكام باب موعظة الإمام (٧١٦٩) ومسلم كتاب الأقضية رقم ٥ وأبو داود رقم (٣٥٨٣) وابن ماجه (٢٣١٧) والنسائي (١٢٥٦) وأحمد (٦ / ٣٢٠) والبيهقي (١٠ / ١٤٩) والبغوي في «تفسيره» (١ / ١٦٦) والبخاري في «الأدب المفرد» (٢٥٩) وابن أبي شيبة (٧ / ٢٣٥) من حديث أم سلمة.

وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه (٢ / ٧٧٧) رقم (٢٣١٨) من طريق ابن أبي شيبة (١٤ / ٢٦٩). قال الوصيري في «الزوائد» (٢ / ٢١٤) : إسناده صحيح ورجال رجال الصحيح.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٠٢.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٠٢.

٣٣٠

ونظير هذا أنّه ورد في القرآن الكريم سورتان : أوّلهما (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فالأولى : هي السّورة الرابعة من النّصف الأوّل ؛ فإن الأولى هي «الفاتحة» ثم «البقرة» ثم «آل عمران» ثم «النّساء» وهي مشتملة على شرح المبدأ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [النساء : ١] والسّورة الثّانية : هي الرابعة أيضا من النّصف الثاني ؛ فإن أوله «مريم» ثم «طه» ثم «الأنبياء» ثم «الحجّ» وهذه مشتملة على شرح الميعاد (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفيّة ، وحكم مطويّة [لا يعرفها إلّا الخواصّ من عبيده].

فصل في اختلافهم في السائل عن الأهلّة

روي عن معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنم الأنصاريين قالا : يا رسول الله ، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ، ثمّ يزيد ؛ حتّى يمتلىء ويستوي ، ثمّ لا يزال ينقص حتّى يعود كما بدأ ، لا يكون على حالة واحدة ؛ كالشّمس ، فنزلت هذه الآية (١).

وروي أنّ معاذ بن جبل قال : إنّ اليهود سألوه (٢) عن الأهلّة.

واعلم أنّ قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) ليس فيه بيان أنّهم عن أيّ شيء سألوا ، إلّا أنّ الجواب كالدّالّ على موضع السّؤال ؛ لأنّه قوله : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) يدلّ على أنّ سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغيّر حال الأهلّة في الزيادة والنّقصان.

قوله تعالى : (عَنِ الْأَهِلَّةِ :) متعلّق بالسؤال قبله ، يقال : «سأل به وعنه» بمعنى ، والضمير في «يسألونك» ضمير جماعة.

فإن كانت القصّة كما روي عن معاذ : أنّ اليهود سألوه ، فلا كلام ، وإن كانت القصّة أنّ السائل اثنان ؛ كما روي أن معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنم ، سألوا ، فيحتمل ذلك وجهين :

أحدهما : أن يقال : إن أقلّ الجمع اثنان.

والثاني : من نسبة الشيء إلى جمع ، وإن لم يصدر إلّا من واحد منهم أو اثنين ، وهو كثير في كلامهم.

فصل

قال الزّجّاج ـ رحمه‌الله ـ : «هلال» يجمع في أقلّ العدد على «أفعلة» نحو : مثال

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٦٧) وقال : وأخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس فذكره. وذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٥ / ١٠٢ ـ ١٠٣).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٠٣.

٣٣١

وأمثلة ، وحمار وأحمرة ، وفي أكثر العدد يجمع على «فعل» نحو حمر ، لأنهم كرهوا في التضعيف «فعل» ، نحو هلل وخلل ، فاقتصروا على جمع أدنى العدد.

والجمهور على إظهار نون «عن» قبل لام «الأهلّة» وورش على أصله من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وقرىء (١) شاذّا : «علّ هلّة» ؛ وتوجيهها : أنه نقل حركة همزة «أهلّة» إلى لام التّعريف ، وأدغم نون «عن» في لام التعريف ؛ لسقوط همزة الوصل في الدّرج ، وفي ذلك اعتداد بحركة الهمزة المنقولة ، وهي لغة من يقول : «لحمر» من غير همزة وصل.

وإنما جمع الهلال ، وإن كان مفردا ؛ اعتبارا باختلاف أزمانه ؛ قالوا من حيث كونه هلالا في شهر غير كونه هلالا في آخر ، والهلال : هذا الكوكب المعروف.

واختلف اللّغويّون : إلى متى يسمّى هلالا؟

فقال الجمهور : يقال له : «هلال» لليلتين ، وقيل : لثلاث ، ثم يكون «قمرا» وقال أبو الهيثم (٢) : يقال له : «هلال» لليلتين من أوّل الشهر ، وليلتين من آخره ، وما بينهما «قمر». وقال الأصمعيّ : يقال له «هلال» إلى أن يحجّر ، وتحجيره : أن يستدير له ؛ كالخيط الرقيق» ، ويقال له : «بدر» من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة ، وقيل : «يسمّى «هلالا» إلى أن يبهر ضوءه سواد اللّيل ، وذلك إنما يكون في سبع ليال».

واعلم أنّ الشّهر ينقسم عشرة أقسام ، كلّ قسم : ثلاث ليال ، ولكلّ ثلاث ليال اسم ، فالثلاثة الأولى : تسمّى غرر ، والثانية نقل ، والثالثة تسع ، والرابعة عشر ، والخامسة بيض والسادسة درع ، والسابعة ظلم ، والثامنة مسادس والتاسعة فرادى والعاشرة محاق.

والهلال : يكون اسما لهذا الكوكب ، ويكون مصدرا ؛ يقال : هلّ الشّهر هلالا ، ويقال : أهلّ الهلال ، واستهلّ مبنيّا للمفعول وأهللناه واستهللناه ، وقيل : يقال : أهلّ واستهلّ الهلال للفاعل ؛ وأنشد : [الوافر]

٩٦٤ ـ وشهر مستهلّ بعد شهر

وحول بعده حول جديد (٣)

وسمّي هذا الكوكب هلالا ؛ لارتفاع الأصوات عند رؤيته ، وقيل : لأنه من البيان ، والظهور ، أي : لظهوره وقت رؤيته بعد خفائه ، ولذلك يقال : تهلّل وجهه : ظهر فيه بشر وسرور ، وإن لم يكن رفع صوته ، ومنه قول تأبّط شرّا : [الكامل]

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٢ / ٦٩ ، الدر المصون ١ / ٤٧٨.

(٢) أبو الهيثم الرازي كان إماما لغويا ، أدرك العلماء وأخذ عنهم ، وتصدر بالريّ للإفادة ـ مات سنة ست وسبعين ومائتين. ينظر : البغية ٢ / ٣٢٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٦٦ ، واللسان «هلل» والدر المصون ١ / ٤٧٩.

٣٣٢

٩٦٥ ـ وإذا نظرت إلى أسرّة وجهه

برقت كبرق العارض المتهلّل (١)

وقد تقدم أنّ الإهلال : الصّراخ عند قوله (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة : ١٧٢].

«وفعال» المضعّف يطّرد في تكسيره «أفعلة» كأهلّة ، وشذّ فيه فعل ؛ كقوله : عنن ، وحجج ، في عنان ، وحجاج.

وقدّر بعضهم مضافا قبل «الأهلّة» أي : عن حكم اختلاف الأهلّة ، لأنّ السؤال عن ذاتها غير مفيد ؛ ولذلك أجيبوا بقوله : «قل : هي مواقيت للنّاس والحجّ» وقيل : إنهم لمّا سألوا عن شيء قليل الجدوى ، أجيبوا بما فيه فائدة ، وعدل عن سؤالهم ، إذ لا فائدة فيه ، وعلى هذا ، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف.

و «للنّاس» متعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «مواقيت» أي : مواقيت كائنة للنّاس. ولا يجوز تعلّقه بنفس المواقيت ؛ لما فيها من معنى النقل ؛ إذ لا معنى لذلك. والمواقيت : جمع ميقات ؛ رجعت الواو إلى أصلها ؛ إذ الأصل : موقات من الوقت ، وإنّما قلبت ياء ؛ لكسر ما قبلها ، فلمّا زال موجبه في الجمع ، ردّت واوا ، ولا ينصرف ؛ لأنه بزنة منتهى الجموع.

فإن قيل : لم صرفت قوارير؟ قيل لأنّها فاصلة وقعت في رأس الآية الكريمة فنوّن ، ليجري على طريقة الآيات كما تنوّن القوافي في مثل قوله : [الوافر]

٩٦٦ ـ أقلّي اللّوم ، عاذل ، والعتابن

 .......... (٢)

و «الميقات» : منتهى الوقت ؛ قال تبارك وتعالى (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ) [الأعراف :١٤٢] والهلال : ميقات الشّهر ؛ أي : منتهاه ، ومواضع الإحرام : مواقيت الحجّ ؛ لأنّها مواضع ينتهى إليها ، وقيل : الميقات : الوقت ؛ كالميعاد بمعنى الوعد.

فصل في تخصيص المواقيت بالهلال دون الشمس

فإن قيل : لم خصّ المواقيت بالأهلّة وأشهرها دون الشمس وأشهرها؟

__________________

(١) البيت لأبي كبير الهذلي. ينظر : ديوان الهذليين ٢ / ٩٤ ، القرطبي ٢ / ٣٤٢ ، والدر المصون ١ / ٤٧٩.

(٢) هذا صدر بيت لجرير وعجزه :

وقولي إن أصبت لقد أصابن

ينظر : ديوانه ٨١٣ ، وخزانة الأدب ١ / ٦٩ ، ٣٣٨ ، ٣ / ١٥١ ، والخصائص ٢ / ٩٦ ، وشرح أبيات سيبويه ، وسر صناعة الإعراب ص ٤٧١ ، ٤٧٩ ، ٤٨٠ ، والدرر ٥ / ١٧٦ ، ٦ / ٢٣٣ ، ٣٠٩ ، وشرح الأشموني ١ / ١٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٦٢ ، والكتاب ٤ / ٢٠٥ ، ٢٠٨ ، والمقاصد النحوية ١ / ٩١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٨٠ ، ٢١٢ ، والإنصاف ص ٢٥٥ ، وجواهر الأدب ١٣٩ ، ١٤١ ، وأوضح المسالك ١ / ١٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ٤٣٢ ، ١١ / ٣٧٤ ، ورصف المباني ص ٢٩ ، ٣٥٣ ، وشرح ابن عقيل ١٧ ، وشرح عمدة الحافظ ٩٨ ، وشرح المفصل ٤ / ١٥ ، ١٤٥ ، ٧ / ٩ ، ولسان العرب (خنا) والمنصف ١ / ٢٢٤ ، ٢ / ٧٩.

٣٣٣

فالجواب : أنّ الأهلّة وأشهرها ، إنّما جعلت مواقيت للنّاس ، دون الشمس وأشهرها ؛ لأنّ الأشهر الهلاليّة يعرفها كلّ أحد من الخاصّ والعام برؤية الهلال ومحاقه ؛ ولذلك علّقت الأحكام الشّرعيّة بالشّهور العربيّة ، كصوم رمضان ، وأشهر الحجّ ، وهي شوّال ، وذو القعدة وذو الحجّة. والأشهر المنذورة ، والكفّارات ، وحول الزّكاة وأشهر الإجارات والمداينات والسلم ، وأشهر الإيلاء ، وأشهر العدد ، ومدّة الرّضاع وما تتحمّله العاقلة في ثلاث سنين ، وغير ذلك ؛ بخلاف الشّمس ، وأشهرها ؛ فإن الشّمس لا يتغيّر شكلها بزيادة ، ولا نقص ، ولا يعرف أوّله وآخره ، ولا تختلف رؤيتها ، وكذلك أشهرها لا يعرف أوّلها وآخرها ، إلّا الخواصّ من الحسّاب ، وليس لها مواقيت غير الفصول الأربعة ؛ وهي الصّيف ، والشّتاء ، والرّبيع ، والخريف ؛ ولذلك لا يتعلّق به حكم شرعيّ ؛ فلذلك جعلت الأهلّة وأشهرها مواقيت للنّاس ، دون الشّمس.

فصل

اعلم أنّ الله سبحانه ذكر وجه الحكمة في خلق الأهلّة ؛ فقال تعالى : (قُلْ : هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) وذكر هذا المعنى في آية أخرى ، وهي قوله تعالى : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥] واعلم أنّ تقدير الزمان بالشّهور فيه منافع دينية ، ودنيوية.

فالدينية : كالصّوم ، والحجّ ، وعدّة المتوفّى عنها زوجها ، والنذور المتعلّقة بالأوقات ، وقضاء الصّوم في أيام لا تعلم إلّا بالأهلّة.

والدنيويّة : كالمداينات ، والإجارات ، والمواعيد ، ولمدّة الحمل والرّضاع.

قوله : «والحجّ» عطف على «النّاس» قالوا : تقديره : ومواقيت الحجّ ؛ فحذف الثاني ؛ اكتفاء بالأوّل.

وقيل : فيه إضمار ، تقديره : وللحجّ كقوله (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) [البقرة : ٢٣٣] أي : لأولادكم.

ولمّا كان الحجّ من أعظم ما تطلب مواقيته وأشهره بالأهلّة ، أفرد بالذّكر.

قال تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [البقرة : ١٩٧].

فإن قيل : الصّوم أيضا يطلب هلاله ؛ قال عليه الصّلاة والسّلام ـ : «صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته» (١).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٦٣) كتاب الصوم باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأيتم ـ الخ برقم (١٩٠٩) ومسلم (٣ / ١٢٤) والنسائي (١ / ٣٠١) والطحاوي في «مشكل الآثار» (١ / ٢٠٩) والبيهقي (٤ / ٢٠٥ ، ٢٠٦) والطيالسي في مسنده (٣٤٨١) وأحمد (٢ / ٤١٥ ، ٤٣٠ ، ٤٥٤ ، ٤٥٦ ، ٤٦٩) من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة مرفوعا. ـ

٣٣٤

قلنا : نعم ، ولكنّ الصوم قد يسقط فعله عن الحائض ، والنّفساء ، والمسافر ، ويوقعون قضاءه في غيره من الأشهر ؛ بخلاف الحجّ ؛ فإنّه إذا لم يصحّ فعله في وقته ، لا يقضى في غيره من الأشهر.

واحتجّ مالك ـ رحمه‌الله تعالى ـ وأبو حنيفة بهذه الآية على أنّ الإحرام بالحجّ في غير أشهر يصحّ ، فإن الله تعالى جعل الأهلّة كلها ظرفا لذلك.

قال القفّال : إفراد الحجّ بالذّكر إنّما كان لبيان أن الحجّ مقصور على الأشهر التي عيّنها الله تعالى لفرضه ؛ وأنه لا يجوز نقل الحجّ من تلك الأشهر إلى شهر آخر ؛ كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء ؛ فأفرد بالذّكر ، وكأنه تخصيص بعد تعميم ؛ إذ قوله تعالى (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) ليس المعنى لذوات الناس ، بل لا بدّ من مضاف ، أي : مواقيت لمقاصد النّاس المحتاج فيها للتأقيت ، ففي الحقيقة ليس معطوفا على الناس ، بل على المضاف المحذوف الذي ناب «النّاس» منابه في الإعراب.

وقرأ الجمهور «الحج» بالفتح في جميع القرآن الكريم إلا حمزة والكسائيّ وحفصا عن عاصم ، فقرءوا (١)(حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] بالكسر ، وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن ، وهل هما بمعنى واحد ، أو مختلفان؟ قال سيبويه (٢) : «هما مصدران» ؛ فالمفتوح كالرّدّ والشّدّ ، والمكسور كالذّكر ، وقيل : بالفتح : مصدر ، وبالكسر : اسم.

فصل في الرد على أهل الظّاهر

قال القرطبيّ (٣) : هذه الآية الكريمة تردّ على أهل الظّاهر ، ومن وافقهم في أنّ المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة ؛ واحتجّوا بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ، عامل أهل خيبر على شطر الزّرع والنّخل بما بدا لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ من غير توقيت ، وقال : وهذا لا دليل فيه ؛ لأنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قال لليهود : «أقرّكم ما أقرّكم الله» (٤)

__________________

ـ وأخرجه مسلم (٣ / ١٢٥) والنسائي (١ / ٣٠٢) وابن الجارود في «المنتقى» (٣٩٥) والدارقطني (٢٢٩) وأحمد (٢ / ٢٦٣) والطيالسي (٢٣٠٦) من طرق عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا.

وأخرجه الترمذي (١ / ١٣٣) وأحمد (٢ / ٢٥٩) من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(١) انظر : السبعة ١٧٨ ، والحجة ٢ / ٢٧٨.

(٢) ينظر : الكتاب ٢ / ٢١٦.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٢٨.

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ٢١١) كتاب الجزية والموادعة باب إخراج اليهود. ومالك في «الموطأ» (٧٠٣) والشافعي (١١٧٦ ، ١٣٣٥ ـ بدائع) وفي «مسنده» (٩٥ ، ٢٢٢) وابن عبد البر في «التمهيد» (٦ / ٤٤٨).

٣٣٥

وهذا يدلّ على أنّ ذلك مخصوص به ، وأنّه كان في ذلك ينتظر القضاء من ربّه ، وليس كذلك غيره.

قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا) كقوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا) [البقرة : ١٧٧] وقد تقدم ؛ إلا أنه لم يختلف هنا في رفع «البرّ» ؛ لأنّ زيادة الباء في الثاني عيّنت كونه خبرا ، وقد تقدّم لنا أنّها قد تزاد في الاسم.

وقرأ (١) أبو عمرو ، وحفص ، وورش «البيوت» و «بيوت» و «الغيوب» و «شيوخا» بضمّ أوّلها ؛ وهو الأصل ، وقرأ الباقون بالكسر ؛ لأجل الياء ، وكذلك في تصغيره ، ولا يبالى بالخروج من كسر إلى ضم ؛ لأنّ الضمة في الياء ، والياء بمنزلة كسرتين ؛ فكانت الكسرة التي في الباء كأنها وليت كسرة ، قاله أبو البقاء (٢) ـ رحمه‌الله ـ.

و «من» في قوله : (مِنْ ظُهُورِها) و (مِنْ أَبْوابِها) متعلقة بالإتيان ، ومعناها ابتداء الغاية ، والضمير في «ظهورها» و «أبوابها» للبيوت ، وجيء به كضمير المؤنثة الواحدة ؛ لأنه يجوز فيه ذلك.

وقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) [البقرة : ١٧٧] يعني : تقديره : برّ من آمن كما مضى ؛ ولمّا تقدّم جملتان خبريتان ، وهما : (وَلَيْسَ الْبِرُّ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) عطف عليهما جملتان أمريتان ، الأولى للأولى ، والثانية للثانية ، وهما : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ) وفي التصريح بالمفعول في قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) دلالة على أنه محذوف من اتّقى ، أي اتّقى الله.

فصل في سبب نزول الآية

قال الحسن ، والأصمّ : كان الرّجل في الجاهليّة ، إذا همّ بشيء ، فتعسّر عليه مطلوبه ، لم يدخل بيته من بابه ، بل يأتيه من خلفه ، ويبقى على هذه الحالة حولا كاملا ، فنهاهم الله (٣) ؛ لأنّهم كانوا يفعلونه تطيّرا ، وعلى هذا : تأويل الآية الكريمة «ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها» على وجه التطيّر «ولكنّ البرّ من يتّقي الله ، ولم يتّق غيره ، ولم يخف شيئا ممّا كان يتطيّر به ، بل توكّل على الله تعالى ، واتّقاه» ثمّ قال : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : لتفوزوا بالخير في الدّين والدّنيا ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ـ ٣] (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق : ٤] وتحقيقه : أن من رجع خائبا يقال : ما أفلح ، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أنّ الواجب عليكم أن تتّقوا الله ؛ حتّى تصيروا مفلحين ، وقد وردت

__________________

(١) انظر : حجة القراءات ١٢٧ ، والحجة ٢ / ٢٨٠ ـ ٢٨٢ ، والعنوان ٧٣ ، وشرح شعلة ٢٨٦ ، وشرح الطيبة ٤ / ٩٣ ، ٩٤ ، وإتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٣٢.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٨٤.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٦٩) وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن.

٣٣٦

الأخبار بالنّهي عن التّطيّر ، قال : «لا عدوى ولا طيرة» (١) وقال : «من ردّه عن سفر تطيّر ، فقد أشرك» (٢) و «كان يكره الطّيرة ، ويحبّ الفأل الحسن» (٣) وقد عاب الله قوما تطيّروا بموسى ومن معه ، فقالوا : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) [النمل : ٤٧].

وقال المفسّرون : سبب نزول الآية الكريمة : كان الناس في أوّل الإسلام ، إذا أحرم الرّجل منهم ، فإن كان من أهل المدن ، نقب نقبا في ظهر بيته يدخل منه ، ويخرج ، أو يتّخذ سلّما يصعد منه إلى سطح داره ، ثم ينحدر ، وإن كان من أهل الوبر ، خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يخرج ولا يدخل من الباب ؛ حتى يحلّ من إحرامه ، ويرون ذلك برّا إلا أن يكون من الحمس ، وهم قريش ، وكنانة ، وخزاعة ، وخيثم ، وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو نصر بن معاوية ، وهولاء سمّوا حمسا ؛ لتشديدهم في دينهم ، والحماسة الشّدّة.

قال العجّاج : [الرجز]

٩٦٧ ـ وكم قطعنا من قفاف حمس (٤)

وهؤلاء متى أحرموا ، لم يدخلوا بيوتهم ألبتّة ، ولا يستظلّون الوبر ، ولا يأكلون السمن ، والأقط (٥) ، ثم إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ، دخل ، وهو محرم ، بيتا لبعض الأنصار ، فاتّبعه رجل محرم من الأنصار ، يقال له رفاعة ابن تابوت ، فدخل على أثره من الباب ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام دائما وأبدا ـ : «تنحّ عنّي» فقال : ولم ، يا رسول الله؟ قال : دخلت الباب ، وأنت محرم ، فقال : رأيتك دخلت ، فدخلت على أثرك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، شرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ،

__________________

(١) أخرجه البخاري (٧ / ٢٣٤) كتاب الطب باب الجذام (٥٧٠٧) وأطرافه رقم (٥٧١٧ ، ٥٧٥٣ ، ٥٧٥٦ ، ٥٧٥٧ ، ٥٧٧٠ ، ٥٧٧٢ ، ٥٧٧٦) ومسلم رقم (١٧٤٧) وأبو داود (كتاب الطب باب ٢٤ ، وباب ٨٦) والترمذي (٢١٤٣) وابن ماجه (٣٥٣٥) وأحمد (١ / ١٧٤ ، ٢ / ١٥٣ ، ٣ / ١٣٠ ، ١٧٣) والبيهقي (٧ / ٢١٦ ، ٨ / ١٣٩) وابن أبي شيبة (٩ / ٤٠ ، ٤١ ، ٤٥) والحميدي (١١١٧) والبخاري في «الأدب المفرد» (٩١٣) وابن أبي عاصم في «السنة» (١ / ١١٩) وأبو نعيم في «الحلية» (١ / ٢٥٠) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٤ / ٣٠٧) وفي «مشكل الآثار» (٢ / ٣٤٢) والطبراني في «الكبير» (١٧ / ٥٤) والبخاري في «التاريخ الصغير» (٢ / ٨١) و «التاريخ الكبير» (١ / ١٣٩) والخطيب (٢ / ٣٠٧) وانظر «كنز العمال» رقم (٢٨٥٩٩ ، ٢٨٦٠٠ ، ٢٨٦٠٣ ، ٢٨٦١١ ، ٢٨٦١٢ ، ٢٨٦٢٢ ، ٢٨٦٢٣).

(٢) أخرجه أحمد (٢ / ٢٢٠) من طريق ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن أبي عبد الرحمن المعافري عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ردته الطيرة عن حاجة فقد أشرك.

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٥ / ١٠٨) وقال : رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات.

(٣) أخرجه أحمد (٢ / ٣٣٢).

(٤) ينظر : القرطبي ٢ / ٢٣٠.

(٥) وهو لبن مجفّف ، يابس ، مستحجر ، يطبخ به. ينظر : النهاية ١ / ٥٧.

٣٣٧

وعظّم : «إنّي أحمس» فقال الرّجل : «إن كنت أحمسيا ، فإني أحمسي ، رضيت بهديك ، وسمتك ، ودينك» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة (١).

قال الزّهريّ : كان ناس من الأنصار ، إذا أهلّوا بالعمرة ، لم يحل بينهم وبين السّماء شيء ، وكان الرّجل يخرج مهلّا بالعمرة ، فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته ؛ فيرجع ، ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السّماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثمّ يقوم في حجرته فيأمر بحاجته ؛ حتى بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم : أهلّ زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة ، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم : «لم فعلت ذلك؟» قال : «لأنّي رأيتك دخلت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم : «إني أحمسي» فقال الأنصاريّ : وأنا أحمسي ، وأنا على دينك ، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة (٢).

فصل في اختلافهم في تفسير الآية

ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه :

أحدها : ـ وهو قول أكثر المفسرين ـ وهو حمل الآية الكريمة على ما قدّمناه في سبب النّزول ، ويصعب نظم الآية الكريمة عليه ؛ فإنّ القوم سألوا عن الحكمة في تغيير لون القمر ، فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك ، وهي قوله : (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) فأيّ تعلّق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر ، وبين هذه القصّة ، فذكروا وجوها :

أحدها : أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لمّا ذكر أنّ الحكمة في اختلاف أحوال الأهلّة جعلها مواقيت للنّاس والحجّ ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبرها في الحجّ ، لا جرم ذكرها الله تعالى.

وثانيها : أنه تعالى إنّما وصل قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ) أن (تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) بقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) ؛ لأنّه إنما اتّفق وقوع القصّتين في وقت واحد ، فنزلت الآية الكريمة فيهما معا في وقت واحد ، ووصل أحد الأمرين بالآخر.

وثالثها : كأنّهم لمّا سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلّة ، فقيل لهم : اتركوا السّؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم ، وارجعوا إلى البحث ، عمّا هو أهمّ لكم ؛ فإنّكم تظنّون أنّ إتيان البيوت من ظهورها برّ ؛ وليس الأمر كذلك.

الوجه الثاني من تفسير الآية : أنّ قوله تعالى : «و (لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٥٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٦٩) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر عن قيس بن جبير النهشلي وذكره الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (٢ / ٢٠٩).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٥٨) عن الزهري وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٦٩).

٣٣٨

ظُهُورِها) مثل ضربه الله تعالى ، وليس المراد ظاهره وتفسيره أنّ الطريق المستقيم هو الطريق المعلوم ، وهو أن يستدلّ بالمعلوم على المظنون ، ولا ينعكس.

وإذا عرف هذا ، فنقول : ثبت بالدلائل أن للعالم صانعا ، مختارا ، حكيما ، وثبت أنّ الحكيم لا يفعل إلّا الصّواب البريء عن العبث والسّفه.

وإذا عرفنا ذلك ، وعرفنا أنّ اختلاف أحوال القمر في النّور من فعله علمنا أنّ فيه حكمة ومصلحة ، لأنّا علمنا أنّ الحكيم لا يفعل إلّا الحكمة ، واستدللنا بالمعلوم على المجهول ، فأمّا أن يستدلّ بعدم علمنا بالحكمة فيه على أنّ فاعله ليس بحكيم ، فهو استدلال باطل ؛ لأنّه استدلال بالمجهول على القدح في المعلوم ، وإذا عرف هذا ، فالمراد من قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) يعني : أنّكم لمّا لم تعلموا الحكمة في اختلاف نور القمر ، صرتم شاكّين في حكمة الخالق ، وقد أتيتم الشيء من غير طريق ه «إنّما البرّ ان تأتوا البيوت من أبوابها» وتستدلّوا بالمعلوم المتيقّن ، وهو حكمة خالقها على هذا المجهول ، وتقطعوا بأنّ فيه حكمة بالغة ، وإن كنتم لا تعلمونها. فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطّريق الصحيح ؛ وإتيانها من أبوابها كناية عن التّمسّك بالطّريق المستقيم ، وهذا طريق مشهور في الكناية ؛ فإنّ من أرشد غيره إلى الصّواب ، يقول له : ينبغي أن تأتي الأمر من بابه ، وفي ضدّه قالوا : ذهب إلى الشيء من غير بابه ، قال تعالى (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [آل عمران : ١٨٧] وقال عزّ من قائل : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) [هود : ٩٢] وهذا تأويل المتكلّمين.

قال ابن الخطيب (١) : ولا يصحّ تفسير هذه الآية ؛ لأنّ الوجه الأوّل يغيّر نسق الترتيب ، وكلام الله تعالى منزّه عن ذلك.

الوجه الثالث : قال أبو مسلم (٢) : إن المراد من هذه الآية ما كانوا يعملونه من النسيء ؛ فإنهم كانوا يخرجون الحجّ عن وقته الّذي عينه الله تعالى لهم ، فيحرّمون الحلال ، ويحلّون الحرام ، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثلا لمخالفة الواجب في الحجّ وشهوره.

قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)(١٩٣)

قوله تعالى : (فِي سَبِيلِ اللهِ) متعلّق ب «قاتلوا» على أحد معنيين : إمّا أن تقدّر

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٥ / ١٠٨.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٠٨.

٣٣٩

مضافا ، أي : في نصرة سبيل الله تعالى ، والمراد بالسبيل : دين الله ، لأنّ السبيل في الأصل هو الطريق ، فتجوّز به عن الدّين ، لمّا كان طريقا إلى الله تعالى روى أبو موسى : أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، ومجّد ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم ـ سئل عمّن يقاتل في سبيل الله تعالى ، فقال : من قاتل ؛ لتكون كلمة الله هي العليا ، ولا يقاتل رياء ولا سمعة ؛ وهو في سبيل الله (١).

وإمّا أن تضمّن «قاتلوا» معنى بالغوا في القتال في نصرة دين الله تعالى ، «و (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) مفعول «قاتلوا».

فصل في سياق الآيات

اعلم ، أنّه لمّا أمر بالتقوى في الآية المتقدّمة أمر في هذه الآية الكريمة بأشدّ أقسام التقوى ، وأشقها على النّفس ، وهو قتل أعداء الله تعالى.

قال الربيع بن أنس : هذه أوّل آية نزلت في القتال ، وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ يقاتل من قاتله ، ويكفّ عن قتال من لم يقاتله إلى أن نزل قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] قاتلوا ، أو لم يقاتلوا (٢) فصارت الآية منسوخة بها.

وقيل : نسخ بقوله : «اقتلوا المشركين» قريب من سبعين آية ، وعلى هذا ، فقوله : (وَلا تَعْتَدُوا) أي : لا تبدءوهم بالقتال ، وروي عن أبي بكر الصّدّيق ـ رضي الله عنه ـ أنّ أوّل آية نزلت في القتال قوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩] والأوّل أكثر(٣).

وقال ابن عبّاس وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهد ـ رضي الله عنهم ـ هذه الآية محكمة غير منسوخة ؛ أمر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، ومجّد ، وعظّم ـ بقتال المقاتلين (٤).

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ٧١) كتاب العلم باب من سأل وهو قائم رقم (١٢٣) ، (٤ / ٧٦) كتاب الجهاد والسير باب : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا رقم (٢٨١٠) ، (٤ / ٩٠) كتاب الخمس باب من قاتل للمغنم رقم (٣١٢٦) ، (٩ / ٢٤٣) كتاب التفسير باب تفسير (ولقد سبقت كلمتنا) رقم (٧٤٥٨) ومسلم كتاب الإمارة رقم (١٤٩ ، ١٥٠ ، ١٥١) والترمذي (١٦٤٦) وأبو داود كتاب الجهاد باب ٢٥ والنسائي (٦ / ٢٣) وابن ماجه (٢ / ٩٣١) رقم (٢٧٨٣) وأحمد (٤ / ٣٩٢ ، ٣٩٧ ، ٤٠٢ ، ٤٠٥ ، ٤١٧) والبيهقي (٩ / ١٦٧ ـ ١٦٨) والحاكم (٢ / ١٠٩) وعبد الرزاق (٩٥٦٧) وأبو نعيم في «الحلية» (٧ / ١٢٨) وانظر الترغيب والترهيب للمنذري (٢ / ٢٩٦) وكنز العمال (١٠٤٩٣).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٦١ ـ ٥٦٢) عن الربيع بن أنس.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٣٢.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٦٢) عن عمر بن عبد العزيز وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٧٠) وعزاه لوكيع وابن أبي شيبة.

٣٤٠