اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

والثاني : أنه بمعنى الإفعال ، فيكون استفعل وأفعل بمعنى ، وقد جاءت منه ألفاظ ؛ نحو : أقرّ واستقرّ ؛ وأبلّ المريض واستبلّ وأحصد الزّرع واستحصد ، واستثار الشّيء وأثاره ، واستعجله وأعجله ، ومنه استجابه وأجابه ، وإذا كان استفعل بمعنى أفعل ، فقد جاء متعدّيا بنفسه ، وبحرف الجرّ ، إلا أنه لم يرد في القرآن إلّا معدّى بحرف الجرّ نحو : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) [الأنبياء : ٨٤] (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٩٥] ومن تعدّيه بنفسه قول كعب الغنوي : [الطويل]

٩٤٩ ـ وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب (١)

ولقائل أن يقول : يحتمل هذا البيت : أن يكون ممّا حذف منه حرف الجرّ.

واللام لام الأمر ، وفرّق الرّمّانيّ بين أجاب واستجاب : بأنّ «استجاب» لا يكون إلا فيما فيه قبول لما دعي إليه ؛ نحو : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ* فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ،) وأمّا «أجاب» فأعمّ ، لأنه قد يجيب بالمخالفة ، فجعل بينهما عموما وخصوصا.

والجمهور على «يرشدون» بفتح الياء وضمّ الشين ، وماضيه : رشد بالفتح ، وقرأ (٢) أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلاف عنهما بكسر الشين ، وقرىء بفتحها ، وماضيه رشد بالكسر ، وقرىء : «يرشدون» مبنيّا للمفعول ، وقرىء : «يرشدون» بضم الياء وكسر الشين من «أرشد» ، والمفعول على هذا محذوف ، تقديره : يرشدون غيرهم «والرّشد» هو الاهتداء لمصالح الدّين والدّنيا ؛ قال تبارك وتعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء : ٦] وقال (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) [الحجرات : ٧ ـ ٨].

قال القرطبي (٣) : و «الرّشد» خلاف الغيّ ، وقد رشد يرشد رشدا ورشد ـ بالكسر ـ يرشد رشدا لغة فيه وأرشده الله والمراشد : مقاصد الطّرق والطريق الأرشد نحو الأقصد وأمّ راشد كنية للفأرة ، وبنو رشدان بطن من العرب عن الجوهريّ.

وقال الهرويّ : الرّشد والرّشد والرّشاد : الهدى والاستقامة ؛ ومنه قوله تعالى : «يرشدون».

فإن قيل : إجابة العبد لله تعالى إن كانت إجابة بالقلب واللّسان ، فذاك هو الإيمان ، وعلى هذا ، فيكون قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) تكرارا محضا ، وإن كانت إجابة العبد لله تعالى عبارة عن الطاعات كان الإيمان مقدّما على الطاعات ، وكان حقّ النّظم أن يقول : «فليؤمنوا بي وليستجيبوا لي» فلم جاء على العكس.

__________________

(١) تقدم برقم ٢٢٩.

(٢) انظر الشواذ ١٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٥٦ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٤ ، والدر المصون ١ / ٤٧٢.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٠٩.

٣٠١

فالجواب : أن الإيمان عبارة عن صفة القلب ، وهذا يدلّ على أنّ العبد لا يصل إلى نور الإيمان ، إلّا بتقديم الطّاعات والعبادات.

قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٨٧)

قوله تعالى : (لَيْلَةَ الصِّيامِ) منصوب على الظرف ، وفي الناصب له ثلاثة أقوال :

أحدها ـ وهو المشهور عند المعربين ـ : أنه «أحلّ» ، وليس بشيء ؛ لأنّ الإحلال ثابت قبل ذلك الوقت.

الثاني : أنه مقدر مدلول عليه بلفظ «الرّفث» ، تقديره : أحلّ لكم أن ترفثوا ليلة الصّيام ؛ كما خرّجوا قول الشاعر : [الهزج]

٩٥٠ ـ وبعض الحلم عند الجه

ل للذّلّة إذعان (١)

أي : إذعان للذّلّة إذعان ، وإنما لم يجز أن ينتصب بالرّفث ؛ لأنه مصدر مقدّر بموصول ، ومعمول الصلة لا يتقدّم على الموصول ، فلذلك احتجنا إلى إضمار عامل من لفظ المذكور.

الثالث : أنه متعلّق بالرّفث ، وذلك على رأي من يرى الاتساع في الظروف والمجرورات ، وقد تقدّم تحقيقه.

وأضيفت اللّيلة للصيام ؛ اتّساعا ، لأنّ شرط صحته ، وهو النية ، موجودة فيها ، والإضافة تحدث بأدنى ملابسة ، وإلّا فمن حقّ الظّرف المضاف إلى حدث أن يوجد ذلك الحدث في جزء من ذلك الظّرف ، والصوم في اللّيل غير معتبر ، ولكنّ المسوّغ لذلك ما ذكرت لك أو تقول : الليلة : عبارة عمّا بين غروب الشّمس إلى طلوعها ، ولمّا كان الصّيام من طلوع الفجر ، فكان بعضه واقعا في اللّيل فساغ ذلك.

والجمهور على «أحلّ» مبنيّا للمفعول للعلم به ، وهو الله تعالى ، وقرىء (٢) مبنيّا للفاعل ، وفيه حينئذ احتمالان :

__________________

(١) البيت للفند الزماني (شهل بن شيبان) ينظر في خزانة الأدب ٣ / ٤٣١ ، والدرر ٥ / ٢٥٠ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٤٤ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٢٢ ، وأمالي القالي ١ / ٢٦٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦ / ١٤٧ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٣٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ٩٣ ، والدرر المصون ١ / ٤٧٣.

(٢) قرأ بها ابن ميسرة. انظر : الشواذ ١٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٥ ، والدر المصون ١ / ٤٧٣.

٣٠٢

أحدهما : أن يكون من باب الإضمار ؛ لفهم المعنى ، أي أحلّ الله ؛ لأنّ من المعلوم أنه هو المحلّل والمحرّم.

والثاني : أن يكون الضمير عائدا على ما عاد عليه من قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) وهو المتكلّم ، ويكون ذلك التفاتا ، وكذلك في قوله «لكم» التفات من ضمير الغيبة في : «فليستجيبوا ، وليؤمنوا» ، وعدّي «الرّفث» ب «إلى» ، وإنما يتعدّى بالباء ؛ لما ضمّن من معنى الإفضاء من قوله (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢١] كأنه قيل : أحلّ لكم الإفضاء إلى نسائكم بالرّفث. قال الواحديّ (١) : أراد بليلة الصّيام ليالي الصّيام ، فأوقع الواحد موقع الجماعة ؛ ومنه قول العبّاس بن مرداس : [الوافر]

٩٥١ ـ فقلنا أسلموا إنّا أخوكم

فقد برئت من الإحن الصّدور (٢)

قال ابن الخطيب (٣) : وأقول : فيه وجه آخر ، وهو أنّه ليس المراد من «ليلة الصّيام» ليلة واحدة ، بل المراد الإشارة إلى اللّيلة المضافة إلى هذه الحقيقة.

وقرأ عبد الله (٤) «الرّفوث» قال اللّيث وأصل الرّفث قول الفحش ، والرّفث لغة مصدر : رفث يرفث بكسر الفاء وضمها ، إذا تكلم بالفحش ، وأرفث أتى بالرّفث ؛ قال العجاج : [الرجز]

٩٥٢ ـ وربّ أسراب حجيج كظّم

عن اللّغا ورفث التّكلّم (٥)

وقال الزّجّاج : ـ ويروى عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ـ «إنّ الرّفث كلمة جامعة لكلّ ما يريده الرجل من المرأة» ، وقيل : الرّفث : الجماع نفسه ، وأنشد : [الكامل]

٩٥٣ ـ ويرين من أنس الحديث زوانيا

ولهنّ عن رفث الرّجال نفار (٦)

وقول الآخر : [المتقارب]

٩٥٤ ـ فظلنا هنالك في نعمة

وكلّ اللّذاذة غير الرّفث (٧)

ولا دليل ؛ لاحتمال إرادة مقدّمات الجماع ؛ كالمداعبة والقبلة ، وأنشد ابن عبّاس ، وهو محرم : [الرجز]

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٨٩.

(٢) ينظر : ديوانه (٥٢) ولسان العرب (أخا) ، والمقتضب ٢ / ١٧٤ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٧١ ، والخصائص ٢ / ٤٢٢ ، الأشباه والنظائر ٤ / ٢٨٥ ، تذكرة النحاة ص ١٤٤ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٠٧ ، الرازي ٥ / ٧٩.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩٠.

(٤) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٥ ، والدرّ المصون ١ / ٤٧٣.

(٥) ينظر : ديوانه (٤٥٦) ، والخصائص ١ / ٣٣ ، والمحتسب ٢ / ٢٤٧ ، والدر المصون ١ / ٤٧٣.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٣ ، والدر المصون ١ / ٤٧٣.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٤ ، الدر المصون ١ / ٤٧٤.

٣٠٣

٩٥٥ ـ وهنّ يمشين بنا هميسا

إن يصدق الطّير ننك لميسا (١)

فقيل له : رفثت ، فقال : إنّما الرّفث عند النساء.

فثبت أنّ الأصل في الرّفث هو قول الفحش ، ثم جعل ذلك اسما لما يتكلّم به عند النّساء من معاني الإفضاء ، ثم جعل كناية عن الجماع ، وعن توابعه.

فإن قيل : لم كنّى هاهنا عن الجماع بلفظ «الرّفث» الدّالّ على معنى القبح بخلاف قوله (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢١] وقوله تعالى (فَلَمَّا تَغَشَّاها) [الأعراف : ١٨٩] ، وقوله عزوجل : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء : ٤٣] وقوله عزوجل : (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَ) [النساء : ٢٣] ، وقوله عزوجل : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) وقوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٧] وقوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) [النساء : ٢٤] (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) [البقرة : ٢٢٢].

فالجواب : أنّ السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإجابة ؛ كما سمّاه اختيانا لأنفسهم ؛ قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ إنّ الله سبحانه وتعالى حييّ كريم يكنّي ، كلّ ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدّخول والرّفث ، فإنما عنى به الجماع (٢).

فصل في بيان سبب النزول

ذكروا في سبب نزول هذه الآية : أنه كان في أوّل الشّريعة يحلّ الأكل والشّرب والجماع ليلة الصّيام ، ما لم يرقد الرجل ويصلّي العشاء الأخيرة ، فإن فعل أحدهما ، حرم عليه هذه الأشياء إلى اللّيلة الآتية ، فجاء رجل من الأنصار عشيّة ، وقد أجهده الصّوم ، واختلفوا في اسمه ؛ فقال معاذ (٣) : اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة ، وقال عكرمة : أبو قيس بن صرمة (٤) ، وقيل صرمة بن أنس.

فسأله (٥) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم عن سبب ضعفه ، فقال : يا رسول الله ، عملت في النّخل نهاري أجمع ، حتّى أمسيت ، فأتيت أهلي لتطعمني شيئا ، فأبطأت ، فنمت فأيقظوني ، وقد حرم الأكل ؛ فقام عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال : يا رسول الله ، إنّي أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطية ؛ إنّي رجعت إلى أهلي بعد ما صلّيت العشاء ، فوجدت رائحة طيّبة فسوّلت لي نفسي ، فجامعت أهلي ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ،

__________________

(١) ينظر : اللسان «رفث» ، والدرر ١ / ١٩٩ ، الدر المصون ١ / ٤٧٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٤٨٧ ـ ٤٨٨) عن ابن عباس ـ وذكره البغوي في «تفسيره» ١ / ١٥٧.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ٥ / ٨٩.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٧.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٧.

٣٠٤

وكرّم ومجّد وبجّل ، وعظّم : ما كنت جديرا بذلك يا عمر ، فقام رجال ، فاعترفوا بمثله ، فنزل قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ)(١).

فصل

ذهب جمهور المفسّرين إلى أنّه كان في أوّل شرعنا ، إذا أفطر الصّائم ، حلّ له الأكل والشّرب والجماع ، ما لم ينم أو يصلّ العشاء الآخرة ، فإذا فعل أحدهما ، حرم عليه هذه الأشياء ، ثم إنّ الله تعالى ، نسخ ذلك بهذه الآية الكريمة (٢).

وقال أبو مسلم (٣) : هذه الحرمة ما كانت ثابتة في شرعنا ألبتّة ، بل كانت ثابتة في شرع النصارى ، فنسخ الله تعالى بهذه الآية ما كان ثابتا في شرعهم.

واحتجّ الجمهور بوجوه :

أحدها : قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يقتضي تشبيه صومنا بصومهم ، وقد كانت هذه الحرمة ثابتة في صومهم ؛ فوجب أن يكون التشبيه ثابتا في صومنا ، لقصد أن يكون منسوخا بهذه الآية الكريمة.

الثاني : قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ولو كان هذا الحلّ ثابتا لهذه الأمّة من أول الأمر ، لم يكن لقوله : «أحلّ لكم» فائدة.

الثالث : قوله سبحانه : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) ولو كان ذلك حلالا لهم ، لما احتاجوا إلى أن يختانوا أنفسهم.

الرابع : قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ) [ولو لا أنّ ذلك كان محرّما عليهم ، وأنّهم أقدموا على المعصية ؛ بسبب الإقدام على ذلك الفعل ، لما صحّ قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ)].

الخامس : قوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) ولو كان الحلّ ثابتا قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) فائدة.

السادس : ما رويناه في سبب النّزول.

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ الطبري في «تفسيره» (٣ / ٤٦٣ ـ ٤٦٤) وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (١ / ٣٥٧) عن ابن عباس. وأخرجه بلفظ قريب منه أحمد (٤ / ٢٩٥) والبخاري (٤ / ١١١ ـ ١١٢) وأبو داود (٢٣١٤) والترمذي (٤ / ٧١ ـ ٧٢) والنسائي (١ / ٣٥٠) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٥٦) وزاد نسبته لوكيع وعبد بن حميد والنحاس في ناسخه وابن المنذر عن البراء بن عازب.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٨٨.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٨٨.

٣٠٥

وأجاب أبو مسلم (١) عن الأوّل : بأنّ التشبيه يكفي في صدقه المشابهة في أصل الوجوب.

وعن الثّاني : بأنّا لا نسلّم أنّ هذه الحرمة كانت ثابتة في شرع من قبلنا ، فقوله : «أحلّ لكم» معناه : أحلّ لكم ما كان محرّما على غيركم.

وعن الثالث : بأنّ تلك الحرمة كانت ثابتة في شرع عيسى ـ عليه‌السلام ـ ثم إن الله تعالى أوجب الصيام علينا ، ولم ينقل زوال تلك الحرمة ، فكان يخطر ببالهم أنّ تلك الحرمة باقية علينا ، لأنّه لم يوجد في شرعنا ما دلّ على زوالها ، وممّا يزيد هذا الوهم قوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وكان مما كتب على الذين من قبلنا هذه الحرمة ؛ فلهذا كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا ، فشدّدوا وأمسكوا عن هذه الأمور ، فقال تبارك وتعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) فيكون المراد من الآية الكريمة أنه لو لم أبيّن لكم إحلال الأكل والشّرب والمباشرة طوال اللّيل ، لكنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذّاتها ومصلحتها ؛ بالإمساك عن ذلك بعد النّوم ؛ كسنّة النصارى ، وأصل الخيانة : النّقص.

وعن الرابع : أن التوبة من العبد : الرّجوع إلى الله تعالى بالعبادة ، ومن الله سبحانه : الرّجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان ، وأما العفو فهو التجاوز ، فبيّن الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما كان ثقيلا على من قبلنا ، والعفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف ؛ قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرّقيق» (٢) وقال عليه الصّلاة والسّلام : «في أوّل الوقت رضوان الله ، وفي آخره عفو الله» (٣) والمراد منه التخفيف بتأخير الصّلاة إلى آخر الوقت ؛ ويقال أتاني هذا المال عفوا ، أي : سهلا.

وعن الخامس : بأنّهم كانوا بسبب تلك الشّبهة ممتنعين عن المباشرة ، فبيّن الله

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٨٨.

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ١٠١) كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة (١٥٧٤) والترمذي (٣ / ١٦) كتاب الزكاة باب ما جاء في زكاة الذهب والورق (٦٢٠) والنسائي (٥ / ٣٧) رقم (٢٤٧٧) وابن ماجه (١ / ٥٧٠) كتاب الزكاة باب زكاة الورق والذهب (١٧٩٠) وأحمد (١ / ٩٢) والبغوي في «شرح السنة» (٣ / ٣٤٧) وابن خزيمة (٢٢٨٤) والطبراني في «المعجم الصغير» (١ / ٢٣٢) و (٢ / ١٣٠) وذكره الحافظ ابن حجر في «الفتح» (٨ / ٨٨) وفي «تلخيص الحبير» (٢ / ١٤٩).

(٣) أخرجه الترمذي (١ / ٣٢١) كتاب الصلاة : باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل (١٧٢) والدارقطني (١ / ٢٤٦) من طريق يعقوب بن الوليد المدني عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : (الوقت الأول من الصلاة رضوان الله والوقت الآخر عفو الله). وقال الترمذي هذا حديث غريب.

قال الحافظ في «التلخيص» (١ / ١٠٨) : ويعقوب قال أحمد : كان من الكذابين الكبار وكذبه ابن معين وقال النسائي : متروك. وقال ابن حبان كان يضع الحديث وما روى هذا الحديث غيره وقال الحاكم العمل فيه عليه وقال البيهقي : يعقوب كذبه سائر الحفاظ ونسبوه إلى الوضع.

٣٠٦

تعالى ذلك ، وأزال الشّبهة بقوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ).

وعن السادس : بأنّ في الآية الكريمة ما يدلّ على ضعف هذه الرّواية ؛ لأن الرواية أنّ القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وذلك خلاف قوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) ؛ لأنّ ظاهره المباشرة ، لأنّه افتعال من الخيانة.

قوله : (كُنْتُمْ تَخْتانُونَ) في محلّ رفع خبر ل «أنّ». و «تختانون» في محلّ نصب خبر ل «كان».

قال أبو البقاء (١) : و «كنتم» هنا لفظها لفظ الماضي ، ومعناها أيضا ، والمعنى : أنّ الاختيان كان يقع منهم ، فتاب عليهم منه ، وقيل : إنّه أراد الاختيان في الاستقبال ، وذكر «كان» ليحكي بها الحال ؛ كما تقول : إن فعلت ، كنت ظالما» وفي هذا نظر لا يخفى.

و «تختانون» تفتعلون من الخيانة ، وعين الخيانة واو ؛ لقولهم : خان يخون ، وفي الجمع : خونة ، يقال : خان يخون خونا ، وخيانة ، وهي ضدّ الأمانة ، وتخوّنت الشّيء تنقّصته ؛ قال زهير في ذلك البيت : [الوافر]

٩٥٦ ـ بآرزة الفقارة لم يخنها

قطاف في الرّكاب ولا خلاء (٢)

وخان السّيف إذا نبا عن الضّربة ، وخانه الدّهر ، إذا تغيّر حاله إلى الشّرّ ، وخان الرّجل الرّجل ، إذا لم يؤدّ الأمانة ، وناقض العهد خائن ، إذا لم يف ، ومنه قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) [الأنفال : ٥٨] والمدين خائن ؛ لأنّه لم يف بما يليق بدينه ؛ ومنه قوله تعالى : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) [الأنفال : ٢٧] وقال تعالى : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) [الأنفال : ٧١] فسمّيت المعصية بالخيانة.

وقال الزمخشريّ : «والاختيان : من الخيانة ؛ كالاكتساب من الكسب ، فيه زيادة وشدّة» ؛ يعني من حيث إنّ الزيادة في اللفظ تنبىء عن زيادة في المعنى ، كما قدّمه في قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقيل هنا : تختانون أنفسكم ، أي : تتعهّدونها بإتيان النّساء ، وهذا يكون بمعنى التّخويل ، يقال : تخوّنه وتخوّله بالنون واللام ، بمعنى تعهّده ، إلا أنّ النون بدل من اللّام ؛ لأنه باللام أشهر.

و «علم» إن كانت المتعدية لواحد ، تكون بمعنى عرف ، فتكون «أنّ» وما في حيّزها سادّة مسدّ مفعول واحد ، وإن كانت المتعدية لاثنين ، كانت سادة مسدّ المفعولين على رأي سيبويه (٣) ـ رحمه‌الله ـ ومسدّ أحدهما ، والآخر محذوف على مذهب الأخفش.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٨٣.

(٢) ينظر : ديوانه (١٥) والخصائص ٢ / ١٥١ ، واللسان «خلا» والدر المصون ١ / ٤٧٤.

(٣) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ٦٤.

٣٠٧

وقوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) لا محلّ له من الإعراب ؛ لأنه بيان للإحلال ، فهو استئناف وتفسير.

يعني إذا حصلت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة ، قلّ صبركم عنهنّ ، وضعف عليكم اجتنابهنّ ؛ فلذلك رخّص لكم في مباشرتهنّ. وقدّم قوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) على (وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) ؛ تنبيها على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها ؛ ولأنّه هو البادىء بطلب ذلك ، وكنى باللباس عن شدّة المخالطة ؛ كقوله ـ هو النابغة الجعديّ ـ : [المتقارب]

٩٥٧ ـ إذا ما الضّجيع ثنى جيدها

تثنّت عليه فكانت لباسا (١)

وفيها أيضا : [المتقارب]

٩٥٨ ـ لبست أناسا فأفنيتهم

وأفنيت بعد أناس أناسا (٢)

قال القرطبيّ (٣) : وشدّدت النّون من «هنّ» لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكّر.

وورد لفظ «اللّباس» على أربعة أوجه :

الأول : بمعنى السّكن ؛ كهذه الآية.

الثاني : الخلط ؛ قال تبارك وتعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام : ٨٢] ، أي : لم يخلطوا.

الثالث : العمل الصالح ؛ قال تعالى : (وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى) [الأعراف : ٢٦] ، أي : عمل التقوى.

الرابع : اللّباس بعينه ؛ قال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) [الأعراف : ٢٦].

فصل في وجوه تشبيه الزوجين باللّباس

في تشبه الزّوجين باللّباس وجوه :

أحدها : أنه لمّا انضمّ جسد كلّ واحد منهما إلى الآخر ؛ كالثّوب الذي لبس ، سمّي كلّ واحد منهما لباسا.

قال الرّبيع : هنّ فراش لكم ، وأنتم لحاف لهنّ (٤).

__________________

(١) ينظر : ديوانه ٨١ ، القرطبي ٢ / ٢١١ ، الكشاف ١ / ٢٣٠ ، مشكل القرآن ١٤٢ ، والدر المصون ١ / ٤٧٤.

(٢) ينظر : اللسان «لبس» والقرطبي ٢ / ٣١١ ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٤٤٣ (لبس) ، والدر المصون ١ / ٤٧٤.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢١١.

(٤) أخرجه الطبري في تفسيره (٣ / ٤٩١) عن الربيع بن أنس وذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٥ / ٩٠) والقرطبي في «تفسيره» (٢ / ٢١٢).

٣٠٨

وقال ابن زيد : إنّ كلّ واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار النّاس.

وقال أبو عبيدة وغيره : يقال للمرأة : هي لباسك وفراشك وإزارك ، وقيل : اللّباس اسم لما يواري الشّيء ، فيجوز أن يكون كلّ واحد منهما سترا لصاحبه عمّا لا يحلّ ؛ كما ورد في الحديث : «من تزوّج فقد ستر ثلثي دينه».

الثاني : أن كلّ واحد منهما يخصّ نفسه بالآخر ؛ كما يخصّ لباسه بنصيبه.

قال الواحديّ (١) ـ رحمه‌الله ـ : إنما وحّد «اللّباس» بعد قوله تعالى : «هنّ» ؛ لأنه يجري مجرى المصدر ، و «فعال» من مصادر «فاعل» ، وتأويله : وهنّ ملابسات لكم.

فصل في معنى (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ)

قال القرطبيّ (٢) : معنى (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي : يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النّوم في ليالي الصّوم ؛ كقوله تعالى : (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] أي : يقتل بعضكم بعضا ، ويحتمل أن يريد به كلّ واحد منهم في نفسه ؛ بأنه يخونها وسمّاه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه ؛ كما تقدّم.

فصل

قال ابن الخطيب (٣) : إنّه تعالى ذكر هاهنا أنّهم كانوا يختانون أنفسهم ، ولم يبيّن تلك الخيانة فيماذا ، فلا بدّ من حملها على شيء له تعلّق بما تقدّم وما تأخّر ، والذي تقدّم هو ذكر الجماع ، والذي تأخّر هو قوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع وهاهنا قولان :

الأول : علم الله أنّكم كنتم تستترون بالمعصية بالجماع بعد العتمة ، والأكل بعد النّوم ، وترتكبون المحرّم من ذلك وكلّ من عصى الله ، فقد خان نفسه ؛ وعلى هذا القول : يجب أن يقطع بأنّ ذلك وقع من بعضهم ؛ فدلّ على تحريم سابق ، لأنّه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم للعادة والإخبار ، وإذا صحّ وقوعه من بعضهم ، دلّ على تحريم سابق ، ولأبي مسلم أن يقول : قد بيّنّا أنّ الخيانة عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليهم ، فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بما هو أحقّ بطاعة الله ، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو حقّ للنفس ، وهذا أولى ؛ لأنّ الله تعالى لم يقل : علمك [الله] أنّكم كنتم تختانونه [أنفسكم] ، وإنما قال : تختانون أنفسكم ، وكان حمل اللفظ على ما ذكرنا ، إن لم يكن أولى ، فلا أقلّ من التساوي ، وبهذا التقدير : لا يثبت النّسخ (٤).

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩١.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢١٢.

(٣) ينظر : تفسير الفخر ٥ / ٩١.

(٤) ينظر : تفسير الفخر ٥ / ٩١.

٣٠٩

القول الثاني : أنّ المراد (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) لو دامت تلك الحرمة ، فمعناه : أنّ الله يعلم أنّه لو دام ذلك التكليف الشّاقّ ، لوقعوا في الخيانة ، وعلى هذا التقدير : ما وقعت الخيانة ، فيمكن أن يقال : التفسير الأوّل أولى ؛ لأنّ لا حاجة فيه إلى إضمار الشّرط ، وأن يقال : بل الثاني أولى ؛ لأنّه على الأوّل يصير إقدامهم على المعصية سببا لنسخ التكليف ، وعلى الثاني : علم الله أنه لو دام ذلك التكليف ، لحصلت الخيانة ، فنسخ التكليف رحمة من الله على عباده ، حتى لا يقعوا في الخيانة.

وأمّا قوله تعالى (فَتابَ عَلَيْكُمْ) فمعناه على قول أبي مسلم (١) : فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل والتّوسعة عليكم ، وعلى قول مثبتي النّسخ لا بدّ فيه من إضمار ، تقديره : تبتم ، فتاب عليكم ، وقوله (وَعَفا عَنْكُمْ) على قول أبي مسلم (٢) : أوسع عليكم بإباحة الأكل والشّرب والمباشرة في طول اللّيل ، ولفظ «العفو» يستعمل في التوسعة والتخفيف ؛ كما قدّمناه ، وعلى قول مثبتي النّسخ ، لا بد وأن يكون تقديره : عفا عن ذنوبكم ، وهذا مما يقوّي قول أبي مسلم ؛ لأن تفسيره لا يحتاج إلى إضمار ، وتفسير مثبتي النّسخ يحتاج إلى إضمار وتفسير.

قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) قد تقدّم الكلام على «الآن» وفي وقوعه ظرفا للأمر تأويل ، وذلك أنه للزمن الحاضر ، والأمر مستقبل أبدا ، وتأويله ما قاله أبو البقاء (٣) ؛ قال : «والآن : حقيقته الوقت الذي أنت فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منك ، وعلى المستقبل القريب ، تنزيلا للقريب منزلة الحاضر ، وهو المراد هنا ، لأنّ قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) ، أي : فالوقت الذي كان يحرّم عليكم فيه الجماع من اللّيل» ، وقيل : هذا كلام محمول على معناه ، والتقدير : فالآن قد أبحنا لكم مباشرتهنّ ، ودلّ على هذا المحذوف لفظ الأمر ، فالآن على حقيقته. وسمّي الوقاع مباشرة ، لتلاصق البشرتين فيه :

قال ابن العربيّ (٤) : وهذا يدلّ على أنّ سبب الآية جماع عمر ، لا جوع قيس ، لأنه لو كان السّبب جوع قيس ، لقال : «فالآن كلوا» ابتداء به ؛ لأنه المهمّ الذي نزلت الآية لأجله.

وقرأ (٥) ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «واتّبعوا» من «الاتّباع» وتروى عن معاوية بن قرة والحسن البصريّ ، وفسّروا (ما كَتَبَ اللهُ) بليلة القدر ، أي : اتّبعوا ثوابها ، قال الزمخشريّ : «وهو قريب من بدع التّفاسير».

وقرأ الأعمش «وابغوا».

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩٢.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩٢.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٨٣.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢١٢.

(٥) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٥٨ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٧ ، والدر المصون ١ / ٤٧٥.

٣١٠

فصل

دلّت الآية على أنّ الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة (١) ، ومن قال بأنّ مطلق الأمر للوجوب ، قالوا : إنما تركنا الظّاهر هنا للإجماع ، وفي المباشرة قولان :

أحدهما ـ وهو قول الجمهور : أنّها الجماع ، سمّي بهذا الاسم ؛ لتلاصق البشرتين (٢).

والثاني ـ قول الأصمّ : أنه محمول على المباشرات ، ولم يقصره على الجماع ، وهذا هو الأقرب إلى لفظ المباشرة ، لأنها مشتقّة من تلاصق البشرتين ، إلّا أنّهم اتفقوا على أنّ المراد بالمباشرة في هذه الآية الكريمة الجماع ؛ لأنّ السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم ، وأمّا اختلافهم في قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) فحمله بعضهم على كلّ المباشرات ؛ لأنّ المعتكف ، لمّا منع من الجماع ، فلا بدّ وأن يمنع مما دونه.

فصل

في قوله تعالى : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) وجوه :

أحدها : الولد ، أي : لا تباشروا لقضاء الشّهوة وحدها ؛ ولكن لابتغاء ما وضع له النّكاح من التّناسل.

قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «تناكحوا تناسلوا ؛ تكثروا».

والثاني : أنّه نهي عن العزل.

__________________

(١) صيغة الأمر إذا وردت بعد الحظر ، فالأكثرون على أنها تقتضي الوجوب. وقيل : بل الإباحة. قاله القاضي أبو الطيب ، وهو ظاهر المذهب ، وإليه ذهب أكثر من تكلّم في أصول الفقه. واختار إمام الحرمين أنه على الوقف بين الإباحة والوجوب ، مع كونه أبطل الوقف في لفظه ابتداء من غير تقدم حظر. وحكي عن أبي إسحاق الإسفراييني : النهي بعد الأمر على الحظر بالإجماع ، قال : ولست أرى مسلما له ، أمّا أنا فأستحبّ الوقف عليه ، وما أرى المخالفين في الأمر بعد الحظر يسلّمون ذلك ، والخلاف ثابت كما قال الإمام ، وأما حدّ الخلاف : أن تقدم الحظر هل هو قرينة مغيرة للصيغة ، أو لأنها لا يلتفت إليها ، والصيغة باقية الدلالة.

وجزم أبو بكر الصيرفي في كتاب «الأعلام» بأنها للإباحة ، وهذا إنما عرف بدليل من خارج ، ولو كان على ظاهر لفظه ، لاقتضى الوجوب.

ينظر : البرهان ١ / ٢٦٣ ، المعتمد ١ / ٨٢ ، المحصول ١ / ٢ / ١٥٩ ، التبصرة (٣٨) ، العدة ١ / ٢٥٦ ، المستصفى ١ / ٦٨ ، المنخول (١٣١) الإحكام للآمدي ٢ / ١٦٥ (٨) ، اللمع (٨) شرح الكوكب المنير ٣ / ٥٦ ، جمع الجوامع ١ / ٣٧٨ ، شرح العضد ٢ / ٩١ ، روضة الناظر (١٠٢) ، المنتهى لابن الحاجب (٧١) المسودة (١٦) الإبهاج ٢ / ٤٢ ، كشف الأسرار ١ / ١٢٠ ، تيسير التحرير ٢ / ٣٤٥ ، فواتح الرحموت ١ / ٣٧٩ ، أصول السرخسي ١ / ١٩ ، القواعد والفوائد ص ١٦٥ ، التقرير والتحبير ١ / ٣٠٨ ، ميزان الأصول ١ / ٢٢٨.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩٢.

٣١١

الثالث : ابتغوا المحلّ الذي كتبه الله لكم وحلّله ؛ ونظيره (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٢٢].

الرابع : أنه للتأكيد ، تقديره : فالآن باشروهنّ وابتغوا هذه المباشرة التي كتبها الله لكم بعد أن كانت محرّمة عليكم.

الخامس : قال أبو مسلم (١) : فالآن باشروهنّ ، وابتغوا هذه المباشرة التي كان الله كتبها لكم ، وإن كنتم تظنونها محرّمة عليكم.

السادس : أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات ؛ بسبب الحيض والنّفاس والعدّة والرّدّة ؛ فقوله : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يعني : لا تباشروهنّ إلّا في الأوقات المأذون لكم فيها.

السابع : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) إذن في المباشرة ، وقوله : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [يعني : لا تبتغوا هذه المباشرة إلّا من الزّوجة والمملوكة] بقوله (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٦].

الثامن : قال معاذ بن جبل ، وابن عبّاس في رواية أبي الجوزاء : يعني اطلبوا ليلة القدر ، وما كتب الله لكم من الثّواب فيها إن وجدتموها (٢).

وقال ابن عبّاس : ما كتب الله لنا هو القرآن (٣).

قال الزّجّاج : أي : ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه ، وأمرتم به (٤). وقيل : ابتغوا الرخصة والتوسعة (٥).

قال قتادة : وقيل : ابتغوا ما كتب الله لكم من الإملاء والزّوجات (٦).

فصل في معاني «كتب»

في «كتب» وجوه :

أحدها : أنّها هنا بمعنى جعل ؛ كقوله (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] أي: جعل ، وقوله تعالى : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران : ٥٣] ، وقوله سبحانه (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٥٦].

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر ٥ / ٩٣.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٠٧) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس انظر «الدر المنثور» (١ / ٣٥٩).

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢١٢.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢١٢.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢١٢.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٥٩) ، وعزاه لعبد الرزاق عن قتادة.

٣١٢

الثاني : معناه قضى الله لكم ؛ كقوله عزوجل : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) [التوبة : ٥١] ، أي : قضاه.

الثالث : ما كتب الله في اللّوح المحفوظ ممّا هو كائن.

الرابع : ما كتب الله في القرآن من إباحة هذه الأفعال.

قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الفائدة في ذكرهما : أنّه لو اقتصر على قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشّرب ، فذكرهما لتتمّ الدلالة على إباحتهما ، وهذا جواب نازلة قيس ، والأول جواب نازلة عمر ، وبدأ بجواب نازلة عمر ، لأنه المهمّ.

قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) «حتّى» هنا غاية لقوله : «كلوا واشربوا» بمعنى «إلى» ، ويقال : تبيّن الشّيء ، وأبان ، واستبان ، وبان كلّه بمعنّى ، وكلّها تكون متعدية ولازمة ، إلّا «بان» فلازم ليس إلّا ، و «من الخيط» لابتداء الغاية ، وهي ومجرورها في محلّ نصب ب «يتبيّن» ؛ لأنّ المعنى : حتى يباين الخيط الأبيض الأسود.

و «من الفجر» يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون تبعيضية ؛ فتتعلّق أيضا ب «يتبيّن» ؛ لأنّ الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله ، ولا يضرّ تعلّق حرفين بلفظ واحد ؛ لاختلاف معناهما.

والثاني : أن تتعلّق بمحذوف ؛ على أنها حال من الضمير في الأبيض ، أي : الخيط الذي هو أبيض كائنا من الفجر ، وعلى هذا يجوز أن تكون «من» لبيان الجنس ؛ كأنه قيل : الخيط الأبيض الّذي هو الفجر.

والثالث : أن يكون تمييزا ، وهو ليس بشيء ، وإنما بيّن قوله (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) بقوله : (مِنَ الْفَجْرِ) ولم يبيّن الخيط الأسود ؛ فيقول : من اللّيل ؛ اكتفاء بذلك ، وإنما ذكر هذا دون ذاك ؛ لأنّه هو المنوط به الأحكام المذكورة في المباشرة والأكل والشّرب.

وهذا من أحسن التّشبيهات ، حيث شبّه بياض النّهار بخيط أبيض ، وسواد الليل بخيط أسود ، حتى إنه لما ذكر عديّ بن حاتم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه فهم من الآية الكريمة حقيقة الخيط ، تعجّب منه ، وقال : «إنّ وسادك لعريض» ويروى : «إنّك لعريض القفا». وقد روي أنّ بعض الصحابة فعل كفعل عديّ ، ويروى أن بين قوله «الخيط الأبيض من الخيط الأسود» وبين قوله : «من الفجر» عاما كاملا في النزول.

روي عن سهل بن سعد ، قال : أنزلت (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل قوله : «من الفجر» وكان رجال إذا أرادوا الصّوم ، ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض ، والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل حتى يتبيّن له رؤيتهما ، فأنزل الله تعالى (مِنَ الْفَجْرِ) ، فعلموا أنّه إنما عني اللّيل والنّهار ، وسمّي الفجر

٣١٣

خيطا ؛ لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدّا ؛ كالخيط. قال الشّاعر : [البسيط]

٩٥٩ ـ ألخيط الأبيض ضوء الصّبح منفلق

والخيط الأسود جنح اللّيل مكتوم (١)

والخيط في كلامهم عبارة عن اللون ، قاله القرطبيّ (٢) ، وأنشد لأبي دؤاد الإياديّ في ذلك فقال : [المتقارب]

٩٦٠ ـ فلمّا أضاءت له سدفة

ولاح من الصّبح خيط أنارا (٣)

وقد تسمّيه العرب أيضا الصّديع ، ومنه قولهم : انصدع الفجر ؛ قال بشر بن أبي خازم ، أو عمرو بن معديكرب : [الوافر]

٩٦١ ـ ترى السّرحان مفترشا يديه

كأنّ بياض لبّته صديع (٤)

وهذا النوع من باب التشبيه لا من الاستعارة ؛ لأنّ الاستعارة هي أن يطوى فيها ذكر المشبّه ، وهنا قد ذكر وهو قوله : «من الفجر» ، ونظيره قولك : «رأيت أسدا من زيد» ، لو لم تذكر : «من زيد» لكان استعارة ، ولكنّ التشبيه هنا أبلغ ؛ لأنّ الاستعارة لا بدّ فيها من دلالة حالية ، وهنا ليس ثمّ دلالة ، ولذلك مكث بعض الصحابة يحمل ذلك على الحقيقة مدة ، حتّى نزل «من الفجر» فتركت الاستعارة ، وإن كانت أبلغ لما ذكرنا.

فإن قيل : إنّ بياض الصّبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذب ؛ لأنّه مستطيل كشبه الخيط ، وأما الصّبح الصادق ، فهو بياض مستدير مستطيل في الأفق ، فلزم على مقتضى الآية أن يكون أوّل النهار من طلوع الصّبح الكاذب ، وليس كذلك بالإجماع.

فالجواب : أنّ قوله «من الفجر» بيّن أن المراد به الصّبح الصادق ، لا يكون منتشرا ، بل يكون صغيرا دقيقا ، فالصادق أيضا يبدو دقيقا ، ويرفع مستطيلا. والفجر مصدر قولك فجرت الماء أفجره فجرا وفجّرته تفجيرا ، قال الأزهريّ : الفجر أصله الشّقّ ، فعلى هذا هو انشقاق ظلمة اللّيل بنور الصّبح.

فصل

زعم أبو مسلم الأصفهاني (٥) : أنه لا شيء من المفطّرات إلّا أحد هذه الثّلاث ، وما ذكره الفقهاء من تكلّف القيء والحقنة والسّعوط ، فلا يفطر شيء منها.

قال : لأنّ كلّ هذه الأشياء كانت مباحة ثم دلّت هذه الآية الكريمة على حرمة هذه الثلاثة على الصّائم بعد الفجر ، وبقي ما سواها على الإباحة الأصليّة ، والفقهاء قالوا : خصوا هؤلاء بالذّكر ؛ لأنّ النّفس تميل إليهما.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٢ / ٢١٤.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢١٤.

(٣) ينظر : القرطبي ٢ / ٢١٤.

(٤) ينظر : القرطبي ٢ / ٢١٤.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩٤.

٣١٤

فصل في صوم الجنب

مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح ؛ أنّ الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال ، لم يكن له صوم (١) ، وهذه الآية تبطل قولهم ؛ لأنّ المباشرة ، إذا أبيحت إلى انفجار الصّبح ، لم يمكنه الاغتسال إلّا بعد الصّبح.

ويؤيّده ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان يدركه الفجر ، وهو جنب من أهله ، ثم يغتسل ويصوم (٢) ، والله أعلم.

فصل

زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشّرب والجماع بعد الفجر ، وقبل طلوع الشمس ؛ قياسا لأوّل النهار على آخره ؛ فكما أن آخره بغروب الشّمس ، وجب أن يكون أوله بطلوع الشّمس ، قال : إن المراد بالخيط الأبيض ، والخيط الأسود في الآية الكريمة هو اللّيل والنّهار ، قال : ووجه التشبيه ليس إلّا في البياض والسّواد ؛ لأن ظلمة الأفق حال طلوع

__________________

(١) ويندب للصائم أن يغتسل عن حدث أكبر ليلا ، ليكون على طهر من أول الصّوم ، فيؤدي العبادة على طهارة ، ويندب له إن لم يغتسل أن يغسل ما يخشى وصول الماء منه إلى الجوف ؛ كالأذن والدبر.

وإنما كان الغسل من الحدث الأكبر ليلا مندوبا لا واجبا ؛ لما روي عن السيدة «عائشة» و «أم سلمة» ـ رضي الله عنهما ـ ؛ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ، ثمّ يصوم في رمضان».

ولما روي عن السيدة «عائشة» أيضا ؛ أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، تدركني الصّلاة وأنا جنب ، أفأصوم ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنا تدركني الصّلاة وأنا جنب ، وأصوم.

وأما ما روي عن «أبي هريرة» ـ رضي الله عنه ـ ؛ أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «من أصبح جنبا ، فلا صيام له» ، فقيل : إنه ضعيف ، وقيل : هو محمول على من أصبح مجامعا واستدام الجماع إلى ما بعد طلوع الفجر.

وقال «ابن المنذر» : أحسن ما سمعت في حديث «أبي هريرة» ـ أنه منسوخ ؛ لأن الجماع كان محرما في صدر الإسلام على الصائم بعد النّوم في الليل ؛ كالطعام والشراب ، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر ، جاز للجنب الصوم ، إذا أصبح قبل الغسل.

ويؤيّد كلام ابن المنذر قول الله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ).

والرّفث : الجماع ، وقد أحلّه الله ـ تعالى ـ في جميع اللّيل ، ولو في اللّحظة الأخيرة قبل طلوع الفجر ، وهذا يقتضي أن يصبح فاعل ذلك جنبا ، ولا يبطل صومه ، لأنه لو كان يبطل به صومه ، لما أحلّه الله.

ويؤيد دعوى النسح : رجوع «أبي هريرة» عن الفتوى بذلك ؛ كما في رواية «البخاري» : أنه لمّا أخبر بما قالته السّيدة عائشة وأمّ سلمة في الحديث السّابق ، قال : هما أعلم برسول الله ، ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

وقد نقل «النووي» الجمع بين ما قالته السيدة «عائشة» و «أم سلمة» ، وما رواه أبو هريرة ؛ بأنّ ما رواه أبو هريرة محمول على الأفضل ، وما روت السيدة عائشة و «أم سلمة» محمول على بيان الجواز.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٧١) كتاب الصوم باب اغتسال الصائم (١٩٣٠) ومسلم «كتاب الصيام» باب ١٣ رقم (٧٦) والترمذي (٧٧٩) وأحمد (٦ / ٣٨) ، (٦ / ٣٠٨ ، ٣١٣) والبيهقي (٤ / ٢١٤) والحميدي (١٩٩) وعبد الرزاق (٧٣٩٧) وابن أبي شيبة (٣ / ٨١) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ١٠٤) وفي «مشكل الآثار» (١ / ٢٢٩).

٣١٥

الصّبح لا يمكن تشبيهها بالخيط الأسود في الشّكل ألبتة ؛ فثبت أنّ المراد بالخيط الأسود في الآية هو اللّيل والنهار.

ثم لو بحثنا عن حقيقة اللّيل في قوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) لوجدناها عبارة عن زمن غيبة الشّمس ؛ بدليل أنّ الله تعالى سمّاها بعد المغرب ليلا مع بقاء الضّوء فيه ؛ فثبت أنه يكون الأمر في الطّرف الأوّل من النهار كذلك ؛ فيكون قبل طلوع الشمس أيضا ليلا ، وألا يوجد النّهار إلّا عند طلوع الشمس ، وإلّا يلزم أن يكون آخر النّهار على زعمهم غياب الشّفق الأحمر ؛ لأنّه آخر آثار الشمس ؛ كما أن طلوع الفجر هو أوّل طلوع آثار الشّمس ، وإذا بطل هذا ، بطل ذاك ، ومن النّاس من قال : آخر النهار غياب الشّفق ، ولا يجوز الإفطار إلّا عند طلوع الكواكب ، وكلّها مذاهب باطلة.

قوله : «إلى اللّيل» في هذا الجارّ وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بالإتمام ، فهو غاية له.

والثاني : أنه في محلّ نصب على الحال من الصيام ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : كائنا إلى اللّيل ، و «إلى» إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها ، لم يدخل فيه ، والآية من هذا القبيل.

فصل في اختلافهم في ماهيّة اللّيل

اختلفوا في اللّيل ما هو؟ فمنهم : من قاس آخر النهار على أوله ، فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشّمس ؛ كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور النهار بظهور آثار الشّمس.

ثم هؤلاء منهم من اكتفى بزوال الحمرة ، ومنهم من اعتبر ظهور الظّلام التّامّ وظهور الكواكب والحديث يبطل كلّ ذلك ، وهو قوله ـ عليه أفضل الصّلاة والسّلام ـ : «إذا أقبل اللّيل من هاهنا ، وأدبر النّهار من هاهنا وغربت الشّمس فقد أفطر الصّائم» وهذا الحديث مع الآية يدلّ على المنع من الوصال.

فصل

الحنفيّة تمسّكوا بهذه الآية الكريمة في أنّ صوم النّفل يجب إتمامه (١) بقوله تعالى

__________________

(١) من تلبّس بصوم مندوب وغيره ، لا يجب عليه إتمامه ، بل يندب له ، وله قطعه ، ولا قضاء عليه ؛ لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : الصّائم المقطوع أمير نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر.

وروى أبو داود : أن أم هانىء كانت صائمة صوم تطوع فخيرها الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بين أن تفطر بلا قضاء ، وبين أن تتمّ صومها ، لكن يكره الفطر بغير عذر ، أما إذا كان بعذر ؛ كأن طرأ على الصائم سفر ، أو فرض ، أو نحوهما ـ فلا كراهة.

وأما من تلبّس بقضاء صوم واجب ، حرم عليه قطعه ، إن كان القضاء على الفور ، وهو صوم من تعدّى ـ

٣١٦

(أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) والأمر للوجوب فيتناول كلّ صيام.

وأجيبوا بأنّ هذا إنما ورد في بيان أحكام صوم الفرض ؛ بدليل أنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قال : الصائم المتطوّع أمير نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر (١).

وعن أمّ هانىء : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها فدعا بشراب فشرب ، ثمّ ناولها ، فشربت ، فقالت : يا رسول الله ، أما إنّي كنت صائمة ، ولكن كرهت أن أردّ سؤرك ، فقال : إن كان قضاء من رمضان ، فاقضي مكانه ، وإن كان تطوّعا ، فإن شئت فاقضي ، وإن شئت فلا تقضي(٢).

__________________

ـ بالفطر ؛ وكذا إن لم يكن القضاء على الفور في الأصح ؛ بأن لم يكن تعدى بالفطر. وقيل : يجوز له الخروج منه ؛ لأنه متبرّع بالشروع فيه ، فلا يلزمه إتمامه.

(١) أخرجه الترمذي (٣ / ١٠٩) رقم (٧٣٢) وأحمد (٦ / ٣٤١) والبيهقي (٤ / ٢٧٦) والحاكم (١ / ٤٣٩) والدارقطني (٢ / ١٧٥) والعقيلي (١ / ٢٠٦) وقال الترمذي : حديث أم هانىء في إسناده مقال.

(٢) أخرجه الترمذي (٣ / ١٠٩) كتاب الصوم باب ما جاء في إفطار الصائم المتطوع رقم (٧٣١) وأبو داود (٢ / ٣٢٩) كتاب الصوم باب في الرخصة في ذلك رقم (٢٤٥٦) والطيالسي (١ / ١٩١) كتاب الصيام : باب من عليه صوم من رمضان إلخ رقم (٩١٦) وأحمد (٦ / ٣٤١) والبيهقي (٤ / ٢٧٨) كتاب الصيام باب التخيير في القضاء إن كان صومه تطوعا.

وقال الترمذي : حديث أم هانىء في إسناده مقال.

وقال ابن التركماني في «الجوهر النقي» : هذا الحديث اضطرب متنا وسندا : أما اضطراب سنده : فاختلف على سماك فيه ؛ فتارة رواه عن أبي صالح ، وتارة عن جعدة ، وتارة عن هارون.

أما أبو صالح : فهو باذان ، ويقال : باذام ضعّفوه. قال البيهقي في باب «الكسر بالماء» : ضعيف لا يحتج بخبره. وقال في باب «أصل القسامة» : (أبو صالح عن ابن عباس ضعيف) ، وعن الكلبي قال لي أبو صالح : كل ما حدثتك به كذب ، وفي «السنن الكبرى» للنسائي : ضعيف الحديث ، وعن حبيب بن أبي ثابت : كنّا نسمي أبا صالح مولى أم هانىء الدروغزن. قال النسائي : وقد روي أنه قال في مرضه : كل شيء تكلم به فهو كذب ، وفي «الفاصل» للرامهرمزي : الدروغزن بلغته فارس الكتاب ، وأما جعدة فمجهول.

قال البخاري في تاريخه : جعدة من ولد أم هانىء ، عن أبي صالح ، عن أم هانىء ، روى عنه شعبة ، لا يعرف إلا بحديث فيه نظر. وقال النسائي : لم يسمعه جعدة من أم هانىء ، وقد بيّن ذلك البيهقي في الباب الذي قبل هذا ، وأما هارون فمجهول الحال ؛ قاله ابن القطان. واختلف في نسبته : فقيل : ابن أم هانىء ، وقيل : ابن ابن أم هانىء ، وقيل ابن ابنة أم هانىء. وقال الترمذي : حديث أم هانىء في إسناده مقال. وقال النّسائي : اختلف على سماك فيه ، وسماك ليس يعتمد عليه إذا انفرد بالحديث. وقال عبد الحق : هذا أحسن أحاديث أم هانىء ، وإن كان لا يحتج به ، وقد رواه النسائي وغيره من غير طريق سماك ، وليس فيه قوله : فإن شئت فاقضيه وإن شئت فلا تقضيه ، ولم يزد هذا اللفظ عن سماك غير حماد بن سلمة ، وقد قال البيهقي (ساء حفظه في آخر عمره ، فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه ، ويجتنبون ما ينفرد به عن قيس بن سعد وأمثاله). وقال في باب من صلى وفي ثوبه أو فعله أذى : مختلف في عدالته ، وقد روى البيهقي هذا الحديث في الباب الذي قبل هذا ، من رواية حاتم بن أبي صغيرة وأبي عوانة كلاهما عن سماك وليس فيه هذا اللفظ ، وأخرجه النسائي كذلك من رواية أبي ـ

٣١٧

قوله : (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) جملة حالية من فاعل «تباشروهنّ» ، والمعنى : «لا تباشروهنّ» ، وقد نويتم الاعتكاف في المسجد ، وليس المراد النهي عن مباشرتهنّ في المسجد بقيد الاعتكاف ؛ لأنّ ذلك ممنوع منه في غير الاعتكاف أيضا.

والعكوف : الإقامة والملازمة له وهو في الشّرع : لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه ، يقال : عكف بالفتح يعكف بالضم والكسر ، وقد قرىء (١) : (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ) [الأعراف : ١٣٨] بالوجهين ، وقال الفرزدق : [الطويل]

٩٦٢ ـ ترى حولهنّ المعتفين كأنّهم

على صنم في الجاهليّة عكّف (٢)

وقال الطّرمّاح : [الطويل]

٩٦٣ ـ فباتت بنات اللّيل حولي عكّفا

عكوف البواكي بينهنّ صريع (٣)

ويقال : الافتعال منه في الخير ، والانفعال في الشّرّ ، وأمّا الاعتكاف في الشرع : فهو إقامة مخصوصة بشرائط ، والكلام فيه بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية كالكلام في الصلاة ، وقرأ قتادة (٤) : «عكفون» كأنه يقال : عاكف وعكف ؛ نحو : «بارّ وبرّ ورابّ

__________________

ـ الأحوص عن سماك ، وأخرجه الطحاوي كذلك من رواية قيس بن الربيع عن سماك ، ثم ذكر البيهقي حديثا عن الخدري ، وفي آخره : (أفطر وصم يوما مكانه إن شئت) ، قلت : أخرجه الدراقطني من حديث الخدري ، ومن حديث جابر ، وليس فيهما قوله : إن شئت ، وكذا أخرجه البيهقي في أبواب «الوليمة» في كتاب «النكاح» من حديث الخدري. وفي «التلخيص» قال الحافظ (٢ / ٢٢٣) ، كتاب الصيام : باب ذكر الإشارة إلى طرق حديث : «أفطر الحاجم والمحجوم» باختصار النسائي ، من حديث حماد بن سلمة ، عن سماك ، عن هارون بن هانىء بهذا ، ورواه من طرق أخرى وليس فيها قوله : فإن شئت فاقضيه ، رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي ، والدارقطني ، والطبراني ، والبيهقي من طرق عن سماك ، واختلف فيه على سماك.

وقال النسائي : سماك ليس يعتمد عليه إذا انفرد ، وقال البيهقي : في إسناده مقال وقال ابن القطان : هارون لم يعرف اللفظ الذي ذكره الرافعي ، أورده قاسم بن أصبغ في جامعه ، ومما يدلّ على غلط سماك فيه : أنه قال في بعض الروايات عنه : إن ذلك كان يوم الفتح ، وهي عند النسائي والطبراني ؛ ويوم الفتح كان في رمضان ، فكيف يتصوّر قضاء رمضان في رمضان ، والحاكم (١ / ٤٣٩) ، كتاب الصوم : باب صوم التطوع ، وكان بلفظ أم هانىء رضي الله عنها ؛ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان يقول : الصائم المتطوع أمير نفسه ، إن شاء صام وإن شاء أفطر.

قال الذهبي ـ رحمه‌الله تعالى : ـ صحيح ، وما عارض هذا لم يصح ، والبيهقي (٢ / ١٧٤) ، كتاب الصيام : باب الشهادة على رؤية الهلال. قال : مثل قول أبي عوانة قوله : يحيى بن حصدة وهم من الوليد ، وهو ضعيف ، والطحاوي (٢ / ١٠٧) ، كتاب الصوم : باب الرجل يدخل في الصّيام تطوّعا ثم يفطر.

(١) ستأتي في الأعراف ١٣٨.

(٢) ينظر : ديوانه (٥٦١) والبحر المحيط ٢ / ٣٤ ، والدر المصون ١ / ٤٧٦.

(٣) ينظر : ديوانه (٥٦١) ، واللسان «نبو» والطبري ٢ / ٢٢٢ والدر المصون ١ / ٤٧٦.

(٤) وقرأ بها مجاهد.

انظر : الشواذ ١٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٥٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٦٠ ، والدر المصون ١ / ٤٧٦.

٣١٨

وربّ» ، وقرأ (١) الأعمش : «في المسجد» بالإفراد ؛ كأنه يريد الجنس.

فصل

لما بين حكم تحريم المباشرة في الصيام ، كان يجوز أن يظن بأنّ الاعتكاف حاله كحال الصّوم في أنّ الجماع يحرم فيه نهارا أو ليلا.

فصل

لو لمس المعتكف المرأة بغير شهوة ، جاز ؛ لحديث عائشة (٢) ، وإن لمسها بشهوة ، أو قبّلها أو باشرها فيما دون الفرج ، فهو حرام ، وهل يبطل به اعتكافه؟ فيه خلاف.

فصل

اتفقوا على أنّ شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد ، ثم اختلفوا ، فنقل عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال : لا يجوز إلّا في المسجد الحرام ومسجد المدينة.

وقال حذيفة (٣) : يجوز في هذين المسجدين ، وفي مسجد بيت المقدس ؛ لقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد».

وقال الزّهريّ : لا يصحّ إلّا في الجامع (٤).

وقال أبو حنيفة : لا يصحّ إلّا في مسجد له إمام راتب ، ومؤذّن راتب.

وقال الشافعيّ وأحمد : يصحّ في جميع المساجد إلّا أن المسجد الجامع أفضل ؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة ، فإن اعتكف في مسجد غير الجامع ، لاحتاج إلى الخروج إلى الجمعة ، فيشهدها ويرجع مكانه ، ويصحّ اعتكافه ؛ لأنه خرج إلى فرض ، وهو من الشّرائع القديمة.

فصل في الاعتكاف بدون الصوم

يجوز الاعتكاف بغير صوم ، وبالصّوم أفضل ؛ وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ لا يجوز إلّا بالصّوم.

واحتجّ الأوّلون : بأنّ الاعتكاف لو أوجب الصّوم ، لما صحّ في رمضان ؛ لأنّ

__________________

(١) انظر : الشواذ ١٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٥٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٦٠ ونسبها ابن حبان أيضا إلى مجاهد.

وانظر : الدر المصون ١ / ٤٧٦ ، والتخريجات النحوية ٥٤.

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ٣٢٠ ـ ٣٢١) كتاب الاعتكاف باب الحائض ترجل رأس المعتكف رقم (٢٠٢٨) ومسلم (٢٤٤١) كتاب الحيض : باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها (٦ / ٢٩٧) من حديث عائشة.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩٧.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩٧.

٣١٩

الصّوم الذي أوجبه الاعتكاف ، إمّا صوم آخر غير صوم رمضان ، وهو باطل ؛ لأن رمضان لا يصحّ فيه غيره ، وأيضا ما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : يا رسول الله ، إنّي نذرت في الجاهليّة أن أعتكف ليلة ، فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «أوف بنذرك» (١) والصّوم لا يجوز في اللّيل.

فصل

روى مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد أن يعتكف صلّى الفجر ثم دخل معتكفه (٢).

وقال مالك والشافعيّ وأبو حنيفة ـ رضي الله عنهم ـ إذا نذر اعتكاف شهر دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم.

فصل في أقل مدة الاعتكاف

لا تقدير لزمان الاعتكاف فلو نذر اعتكاف ساعة ، انعقد ، ولو نذر الاعتكاف مطلقا ، لخرج من نذره باعتكاف ساعة ؛ كما لو نذر أن يتصدّق مطلقا ، فإنه يتصدق بما شاء من قليل أو كثير ، والأفضل أن يعتكف يوما للخروج من الخلاف ، فإنّ أبا حنيفة لا يجوّز اعتكاف أقلّ من يوم ، بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ، ويخرج بعد غروب الشمس.

فصل

قال القرطبيّ ـ رحمه‌الله تعالى (٣) ـ : إذا أتى المعتكف كبيرة ، بطل اعتكافه ؛ لأنّ الكبيرة ضدّ العبادة ، كما أنّ الحدث ضدّ الطهارة والصّلاة.

قوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) مبتدأ وخبر ، واسم الإشارة أخبر عنه بجمع ، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف ، لأنه شيء واحد ، بل هو إشارة إلى ما تضمّنته آية الصيام من أوّلها إلى هنا ، وآية الصيام قد تضمّنت عدة أوامر ، والأمر بالشّيء نهي عن

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ٣٢١ ـ ٣٢٢) كتاب الاعتكاف باب الاعتكاف ليلا رقم (٢٠٣٢) ومسلم (٢ / ١٢٧٧) كتاب الإيمان باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم رقم (٢٧ ـ ١٦٥٦) وأبو داود (٣٣١٢ ، ٣٣٢٥) والترمذي (١٥٣٩) وابن ماجه (٢١٣٠ ، ٢١٣١) وأحمد (١ / ٣٧) ، (٣ / ٤١٩ ، ٦ / ٣٦٦) والبيهقي (٤ / ٣١٨ ، ١٠ / ٧٦ ـ ٧٧ ، ٨٣ ، ٨٤) وابن الجارود (٩٤١) والبغوي في «شرح السنة» (٣ / ٥٥٥) وابن سعد (٨ / ٢٢٢) وأبو نعيم في «الحلية» (١ / ٤٠ ، ٩ / ٣٩).

(٢) أخرجه مسلم كتاب الاعتكاف باب ٢ رقم (٦) وأبو داود (٢٤٦٤) والترمذي (٧٩١) والنسائي كتاب المساجد باب ١٨ وابن ماجه (١٧٧١) والبيهقي (٤ / ٣١٥) وعبد الرزاق (٨٠٣١) والحميدي في «مسنده» (١٩٥) وابن الجارود في «المنتقى» (٤٠٨).

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٢٤.

٣٢٠