اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

وقال الأوزاعيّ : السّفر المبيح للفطر هو مسافة القصر ، ومذهب الشافعيّ ومالك ،

__________________

ـ المتراخي نسخ لا تخصيص ، وأن العام قطعيّ الدلالة عندهم ، فإذا كان من الكتاب أو السنة المتواترة ، كان قطعي الثبوت والدلالة.

موقف الأصوليين من حالتين ، تجيء فيهما خطابات الشارع عامة وخاصة ، في موضوع واحد ، وهما في درجة واحدة ، علم تاريخهما أو جهل ، ونتكلم عن حالة ثالثة فيها آية عامة ، أو حديث متواتر كذلك عارض العموم فيهما خبر خاص من أخبار الآحاد.

واعلم أنه لم يعلم خلاف بين الأصوليين في جواز تخصيص العام من الكتاب ، أو السنة المتواترة ، بالمستقل المقارن القطعي الثبوت ؛ بأن كان كتابا أو سنة متواترة ، إلّا ما حكاه صاحب «إرشاد الفحول» وغيره ؛ من مخالفة بعض الظاهرية في تخصيص الكتاب بالكتاب ، وبعض الشافعية وأحمد في رواية ، ومكحول في تخصيص السنة المتواترة بالكتاب.

وقد ألحق الحنفية المشهور بالمتواتر ؛ قائلين : لأنه على رأي الجصاص ومن وافقه ؛ من أنه يفيد علم اليقين فظاهر ، وأما على رأي من يرى أنه يفيد علم الطمأنينة ك «ابن أبان» ومن وافقه ؛ فلأنه قريب من اليقين ، والعام ليس بحيث يكفر جاحده ، فهو قريب من الظن ، وقد انعقد الإجماع على تخصيص عمومات الكتاب بالخبر المشهور ؛ كقوله ـ عليه‌السلام ـ : «لا يرث القاتل شيئا» وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا على خالتها».

هكذا وجّه الحنفية رأيهم في إلحاق المشهور بالمتواتر ، وبيّن أنه على رأي الجصاص ومن وافقه ؛ من أنه يفيد علم اليقين ، أنه يقوى على معارضة الكتاب والخبر المتواتر عندهم ، أما على الرأي الثاني : فغير واضح ذلك منهم ؛ لأن غاية ما تفيده هذه الشهرة غلبة الظن ، أي : ظنّا أقوى مما يفيده خبر الواحد ، ولا يصل بالخبر إلى درجة القطع ، وإذا فكيف ينتهض الظني معارضا للقطعي.

ولعل الحامل للحنفية على تلك المحاولة التي أبدوها في الخبر المشهور ، وأنه ملحق بالمتواتر ـ ذهابهم إلى منع تخصيص القرآن بأخبار الآحاد ؛ فإنهم لمّا وجدوا كثيرا من الأحاديث انعقد الإجماع على تخصيص القرآن بها ، فتحوا باب الشهرة واسعا ، واعترفوا بتخصيصه ، وراحوا يدّعون الشهرة في كثير من الأحاديث ؛ راجين من وراء ذلك دفع ما يعود على أصلهم بالبطلان ، وقد أفرطوا في ادّعاء الشهرة حتى ادّعاها بعضهم في أحاديث لم يثبت رفعها ؛ فضلا عن شهرتها ، فعلوا ذلك في حديث : «أخروهن من حيث أخرهن الله» فأثبتوا بذلك فرضا على الرجل ، وهو تأخير المرأة عنه في صلاته ، حتى إذا لم يفعل وحاذته المرأة فيها ـ فسدت صلاته.

وها هو ذا الكمال ابن الهمام ـ وهو حنفي له مكانة بين الأحناف ـ يقول في «فتح القدير» ـ تعليقا على قول شارح الهداية : «إن الحديث من المشاهير» : إنه لم يثبت رفعه فضلا عن كونه من المشاهير ، وإنما هو في مسند عبد الرزّاق موقوف على ابن مسعود الخ ما قال.

فعلوا ذلك أيضا في حديث : «لا نكاح إلا بشهود» جاء في العناية على الهداية : «وأما اشتراط الشهادة ؛ فلقوله عليه‌السلام : «لا نكاح إلا بشهود» ، واعترض بأنه خبر واحد ، فلا يجوز تخصيص قوله تعالى : «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» به ، وأجاب فخر الاسلام : بأن هذا حديث مشهور تلقته الأمة بالقبول ، فتجوز الزّيادة على الكتاب» وعلق ابن الهمام على ذلك : بأن ابن حبان روى من حديث عائشة أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ، وما كان من نكاح على غير ذلك ، فهو باطل ، فإن تشاجروا ، فالسّلطان وليّ من لا ولي له» قال ابن حبان : لا يصح في ذكر الشاهدين غير هذا ، وشتان ما بين هذا وبين قول فخر الاسلام : إن حديث الشهود مشهور يجوز تخصيص الكتاب به.

هذا ، ولما كان الكلام في هذا التفصل يتعلّق بخبر الواحد الذي يتعارض مع العام من الكتاب ، أو السنة ـ

٢٦١

وأحمد ، وإسحاق ؛ أنه مقدّر بستة عشر فرسخا ، وهي أربعة برد كلّ فرسخ ثلاثة أميال

__________________

ـ المتواترة ، وهل يجوز تخصيص ذلك به أو لا؟ وكان هناك قوم ينكرون وجوب العمل بخبر الواحد ، مطلقا ـ كان ولا بدّ من التنبيه قبل حكاية المذاهب في هذا المقام ؛ على أن الخلاف هنا بين الذي يرون حجّيته على ما هو التحقيق ؛ إذ لا إشكال بين الأصوليين في عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، على رأي من يقول : بأنه ليس بحجة.

وللأصوليين في جواز تخصيص الكتاب ، أو السنة المتواترة بأخبار الآحاد أقوال : القول الأول ، وهو المختار في كتب الحنفية : أنه لا يجوز تخصيص الكتاب أو السنة المتواترة بأخبار الآحاد ، ما لم يخصّا بقطعي دلالة وثبوتا.

وقد بنى الكمال وشارحه التيسير على أن محلّ الكلام عند الحنفية ـ وجليّ أن مراده المشترطين للمقارنة منهم ؛ لأن غير المشترطين لا يحتاجون إلى مثل هذا الغرض ـ ما لو فرض نقل الرّاوي أن الخبر قارن نزول الكتاب ؛ بأن يروي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قرن بتلاوة الكتاب كلاما دالا على خروج بعض أفراد الكلام العام ، وأنه لم يعلم خلاف بينهم في عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ؛ كما اختلفوا في قطعية العام.

وواضح أن التنبيه على الأوّل ؛ من أجل أن أكثر الحنفية يشترطون المقارنة في المخصص الأول ، فلا بدّ إذا من معرفة تلك المقارنة ـ وطريقها ما ذكر ـ ، ثم الكلام بعد ذلك في كونه مخصصا أو لا ؛ إذ لو لم يظهر ذلك ، لتوهم أن المنع من التخصيص بناء على فقدان الشرط ، وليس كذلك ، وعلى الثاني ؛ لدفع ما قد يتوهم أن من يرى ظنية العام من الحنفية ، يرى التخصيص بخبر الواحد ؛ كما هو مذهب غيرهم من الظنيين ، فنبه على أن لا خلاف بينهم في عدم الجواز.

هذا ما يؤخذ من كتب المتأخرين منهم ، وبالرجوع إلى ما قاله المتقدمون ، نرى أن أبا بكر الجصّاص يذكر في أصوله : أن تخصيص عموم القرآن والسنة الثابتة بخبر الواحد ، يجب أن يراعى فيه أنّ ما كان من ذاك ظاهر المعنى بين المراد ، وغير مفتقر إلى البيان ، ولم يثبت خصوصه بالاتفاق ؛ فإنه لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ، وما كان من ظاهر القرآن أو السنة الثابتة ـ قد ثبت خصوصه باتفاق ؛ أو كان في اللفظ احتمال للمعاني ؛ أو اختلف السّلف في معناه ، وسوغوا الاختلاف فيه ، وترك الظاهر بالاجتهاد ؛ أو كان اللفظ في نفسه مجملا مفتقرا إلى البيان ؛ فإن خبر الواحد مقبول في تخصيصه والمراد به ، ثم قال : وهذا عندي مذهب أصحابنا ، وعليه مدار أصولهم ومسائلهم ، وقد قال عيسى بن أبان في «الحج الصغير» : لا يقبل خبر خاص في ردّ شيء من القرآن ظاهر المعنى ، حتى يجيء ذلك مجيئا ظاهرا يعرفه الناس ويعملون به ؛ مثل ما جاء أن : «لا وصية لوارث» ، و «لا تنكح المرأة على عمتها» ؛ فإنه إذا جاء هذا المجيء ، فهو مقبول ؛ لأن مثله لا يكون وهما ، وأمّا إذا ورد عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حديث خاصّ ، فكان ظاهر معناه ينفي السنن الثابتة ، وأحكام الإسلام ، أو كان ينفي سنة مجمعا عليها ، أو يخالف شيئا من ظاهر القرآن ، فكان الحديث له وجه ومعنى يحمل عليه لا يخالف ذلك ، حمل معناه على أحسن وجوهه ، وأشبهه بالسنن ، وأوفقه لظاهر القرآن ، فإن لم يكن له معنى يحتمل ذلك ، فهو شاذ ، قال عيسى : وكلّ آية من القرآن كانت خاصة في قول جماعة أهل العلم ، فالأخبار مقبولة بالنسبة لها ، ولأهل العلم النظر في ذلك بأحسن ما بينهم في ذلك من الأخبار ، وأشبهها بالسنن ؛ نحو قوله تعالى : «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ» هي خاصّة عندهم ؛ لأن الصغيرين اللذين لم يعقلا ـ لم يدخلا فيها في قول أحد من العلماء ، فلما أجمعوا على أنها خاصة ، قبل الخبر الخاص في المراد بها ، وقال في «الحج الكبير» : وكل أمر منصوص في القرآن ، فجاء خبر يرده أو يجعله خاصّا ، وهو عام ، بعد أن يكون ظاهر المعنى لا يحتمل التفسير والمعاني ، فإن ذلك الخبر إن لم يكن ظاهرا قد عرفه الناس وعملوا به ، حتى ـ

٢٦٢

بأميال هاشم جدّ الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وهو الّذي قدّر أميال البادية كلّ ميل اثنا عشر ألف قدم ، وهي أربعة آلاف خطوة ، كلّ خطوة ثلاثة أقدام.

وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ والثوريّ : مسافة القصر ثلاثة أيام.

قوله (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر) َ.

الجمهور على رفع «عدّة» ، وفيه وجوه :

أحدها : أنّه مبتدأ وخبره محذوف ، إما قبله ، تقديره : «فعليه عدّة» أو بعده ، أي : فعدّة أمثل به.

الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب عدّة.

الثالث : أن يرتفع بفعل محذوف ، أي : «تجزئه عدّة» (١).

وقرىء «فعدّة» ؛ نصبا بفعل محذوف ، تقديره : «فليصم عدّة» ، وكأنّ أبا البقاء (٢) ـ رحمه‌الله ـ لم يطّلع على هذه القراءة ؛ فإنّه قال : لو قرىء بالنّصب ، لكان مستقيما ، ولا بدّ من حذف مضاف ، تقديره : «فصوم عدّة» ومن حذف جملة بعد الفعلية ؛ ليصحّ

__________________

ـ لا يشذ منهم إلا الشاذّ فهو متروك.

فهذا نص منهم على أن ظاهر القرآن الذي لا يحتمل التفسير والمعاني ، ولم يثبت خصوصه بالاتفاق لا يخصص بخبر الواحد ، ولا شك أن هذا يتفق وما قرره المتأخّرون ، ولا يزيد عليه إلا في التفصيل والإيضاح.

قال أبو بكر : وهذا مذهب الصدر الأول ، وقد روي هذا الاعتبار عن جماعة منهم ، وحكيت عنهم روايات تثبت أن مذهبهم كذلك ـ سيأتي ذكرها عند الأدلة ـ

القول الثاني : أنه يجوز تخصيصه مطلقا سواء خصّ بقطعي أو لا ، وهو مذهب الأكثر من أهل الأصول.

القول الثالث : أنه لا يجوز تخصيصه مطلقا ، وقد ذكر صاحب «إرشاد الفحول» : أنه مذهب بعض الحنابلة ، وحكاه الغزالي في «المنخول» عن المعتزلة ، ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين والفقهاء ، ونقله ابن القطان عن طائفة من أهل العراق.

وتوقف في المسألة القاضي أبو بكر ، على ما حكاه جماعة ؛ وهو القول الرابع.

ينظر : البحر المحيط للزركشي ٣ / ٣٦٤ ، البرهان لإمام الحرمين ١ / ٤٢٦ ، سلاسل الذهب للزركشي ٢٤٦ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٢ / ٣٠١ ، نهاية السول للإسنوي ٢ / ٤٥٩ ، منهاج العقول للبدخشي ٢ / ١٦٦ ، التحصيل من المحصول للأرموي ١ / ٣٩٠ ، حاشية البناني ٢ / ٢٧ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ٣ / ٥٩ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ٢ / ٦٣ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ٢ / ١٤٩ ، الوجيز للكراماستي ١٣ ، ميزان الأصول للسمرقندي ١ / ٤٧٣ ، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج ٢ / ٢١٨.

وينظر : كشف الأسرار ١ / ٢٩٤ ، منتهى السول ٢ / ٥٠ ، المنتهى لابن الحاجب ٩٦ المسودة ١١٩ ، شرح العضد ٢ / ١٤٨ العدة ٢ / ٥٥٠ التبصرة ١٣٢ اللمع ١٨.

(١) انظر : البحر المحيط ٢ / ٣٩.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٨٠.

٢٦٣

الكلام ، تقديره : «فأفطر ، فعدّة» ؛ ونظيره (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] وقوله (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] ، أي : «فضرب فانفلق».

و «عدّة» «فعلة» من العدد ، بمعنى : معدودة ، كالطّحن والذّبح ، ومنه يقال للجماعة المعدودة من النّاس عدّة ، وعدّة المرأة من هذا ، ونكّر «عدّة» ، ولم يقل : «فعدّتها» ؛ اتّكالا على المعنى ؛ فإنّا بيّنّا أنّ العدّة بمعنى المعدود ، فأمر بأن يصوم أيّاما معدودة والظّاهر : أنّه لا يأتي إلّا بمثل ذلك العدد ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة.

و «من أيّام» : في محلّ رفع ، أو نصب على حسب القراءتين صفة ل «عدّة».

قوله «أخر» صفة ل «أيّام» ؛ فيكون في محلّ خفض ، و «أخر» على ضربين.

أحدهما : جمع «أخرى» تأنيث «آخر» الّذي هو أفعل تفضيل.

والثاني : جمع «أخرى» بمعنى «آخرة» تأنيث «آخر» المقابل لأوّل ؛ ومنه قوله تبارك وتعالى : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) [الأعراف : ٣٩] فالضرب الأوّل لا ينصرف للوصف والعدل ، واختلفوا في كيفيّة العدل : فقال الجمهور : إنه عدل عن الألف واللّام ؛ وذلك أنّ «أخر» جمع «أخرى» ، و «أخرى» تأنيث «آخر» و «آخر» أفعل تفضيل لا يخلو عن أحد ثلاثة استعمالات.

إما مع «أل» وإمّا مع «من» ، وإما مع «الإضافة» ، لكن من ممتنعة ؛ لأن معها يلزم الإفراد والتذكير والإضافة في اللفظ ؛ فقدّرنا عدله عن الألف واللّام ، وهذا كما قالوا في «سحر» إنّه عدل عن الألف واللام ، إلّا أنّ هذا مع العلميّة ، ومذهب سيبويه (١) : أنه عدل من صيغة إلى صيغة ؛ لأنه كان حقّ الكلام في قولك : «مررت بنسوة أخر» على وزن «فعل» أن يكون «بنسوة آخر» على وزن «أفعل» ؛ لأن المعنى على تقدير «من» فعدل عن المفرد إلى الجمع.

وأمّا الضرب الثّاني : فهو منصرف ؛ لفقدان العلّة المذكورة ، والفرق بين «أخرى» التي للتفضيل ، و «أخرى» التي بمعنى متأخّرة ـ أنّ معنى الّتي للتفضيل معنى «غير» ، ومعنى تيك معنى «متأخّرة» ؛ ولكون الأولى بمعنى «غير» لا يجوز أن يكون ما اتّصل بها إلّا [من جنس ما قبلها ؛ نحو : «مررت بك ، وبرجل آخر» ولا يجوز «اشتريت هذا الجمل وفرسا آخر» ؛ لأنه من](٢) غير الجنس ، فأما قوله في ذلك البيت : [البسيط]

٩٣٤ ـ صلّى على عزّة الرّحمن وابنتها

ليلى وصلّى على جاراتها الأخر (٣)

فإنّه جعل ابنتها جارة لها ، ولو لا ذلك ، لم يجز ، ومعنى التفضيل في «آخر» و «أوّل» ، وما تصرّف منهما قلق مذكور في كتب النّحو ، وإنّما وصفت الأيّام ب «أخر»

__________________

(١) ينظر : الكتاب لسيبويه ٢ / ١٤.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤٠٢ ، الدر المصون ١ / ٤٦١.

٢٦٤

من حيث إنّها جمع ما لا يعقل ، وجمع ما لا يعقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنّثة ، ومعاملة جمع الإناث ، فمن الأول (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] وفي الثاني هذه الآية الكريمة ، ونظائرها ، فإنما أوثر هنا معاملته معاملة الجمع ؛ لأنه لو جيء به مفردا ، فقيل : «عدّة من أيّام أخرى» لأوهم أنّه وصف فيفوت المقصود.

فصل

ذهب بعض العلماء ـ رضي الله عنهم ـ إلى أنّه يجب على المريض والمسافر : أن يفطرا أو يصوما عدّة أيام أخر وهو قول ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ وابن عمر (١) ، ونقل الخطّابيّ في «أعلام التّنزيل» عن ابن عمر ، أنّه قال : «إن صام في السّفر ، قضى في الحضر» وهذا اختيار داود بن عليّ الاصفهانيّ ، وأكثر الفقهاء على أنّ هذا الإفطار رخصة ، فإن شاء أفطر ، وإن شاء صام.

حجّة الأوّلين ما تقدّم من القراءتين أنّا إن قرأنا «عدّة» ، فالتقدير : «فليصم عدّة من أيّام أخر» والأمر للوجوب ، وأنا إن قرأنا بالرّفع ، فالتقدير : «فعليه عدّة» وكلمة «على» للوجوب ، وإذا كان ظاهر القرآن الكريم يقتضي إيجاب صوم أيام أخر ، فوجب أن يكون فطر هذه الأيام واجبا ؛ ضرورة أنّه لا قائل بالجمع.

وقوله عليه الصّلاة والسّلام «ليس من البرّ الصّيام في السّفر» (٢) ولا يقال : هذا الخبر ورد على سبب خاصّ ، وهو أنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ مرّ على رجل ، جلس تحت مظلّة ، فسأل عنه ، فقالوا : هذا صائم أجهده العطش ، فقال : «ليس من البرّ الصّيام في السّفر» ، فإنا نقول : العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب ، وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر».

وحجّة الجمهور : أنّ في هذه الآية إضمارا ؛ لأنّ التّقدير : «فأفطر فعدّة من أيّام أخر» والإضمار في كلام الله تعالى جائز ؛ كما في قول الله تعالى (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] ، أي : «فضرب ، فانفجرت» ، وقوله (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ)

__________________

(١) أخرجه الطبري بمعناه ٣ / ٤٢٧ عن ابن عباس.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٧٧) كتاب الصوم باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظلل عليه (١٩٤٦) ومسلم (٣ / ١٤٢) وأبو داود (٢٤٠٧) والنسائي (١ / ٣١٥) والدارمي (٢ / ٩) والطحاوي (١ / ٣٢٩) والطبري في «تفسيره» (٣ / ٤٧٣) وابن خزيمة (٢٠١٧) وابن الجارود (٣٩٩) والبيهقي (٤ / ٢٤٢) والطيالسي (١٧٢١) وأحمد (٣ / ٢٩٩) والحاكم (١ / ٤٣٣) وابن أبي شيبة (٣ / ١٤) وابن عبد البر في «التمهيد» (٤ / ٣٠٣) (٩ / ٦٥) والحميدي (٨٦٤) من حديث جابر. وأخرجه أحمد (٥ / ٤٣٤) والطيالسي (١ / ١٩٠) والنسائي (١ / ٣١٤) والدارمي (٢ / ٩) وابن ماجه (١٦٦٤) والطحاوي (١ / ٣٣٠) والحاكم (١ / ٤٣٣) والبيهقي (٤ / ٢٤٢) عن كعب بن عاصم الأشعري. وقال الحاكم : صحيح ولم يخرجاه. وأخرجه ابن ماجه (١٦٦٥) وابن حبان (٩١٢) عن ابن عمر.

٢٦٥

[الشعراء : ٦٣] ، أي : «فضرب فانفلقت» ، وقوله : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) [البقرة : ١٩٦] إلى قوله : (أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ،) أي : «فحلق».

قال القفّال (١) ـ رحمه‌الله ـ : قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) يدلّ على وجوب الصّوم.

قال ابن الخطيب (٢) : ولقائل أن يقول : هذا ضعيف من وجهين :

الأول : أنّا إن أجرينا ظاهر قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) على العموم ، لزمنا الإضمار في قوله : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ،) وإن أجرينا هذه الآية على ظاهرها ، لزمنا تخصيص عموم قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، وقد ثبت في أصول الفقه أنّه متى وقع التعارض بين التخصيص ، وبين الإضمار ، كان الحمل على التّخصيص أولى.

الثّاني : أنّ ظاهر قوله تعالى : «فليصمه» يقتضي الوجوب عينا ، وهذا الوجوب منتف في حقّ المريض والمسافر ، فالآية مخصوصة في حقّهما على كلّ تقدير ، سواء أجرينا قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) على ظاهره أولا ، وإذا كان كذلك ، وجب إجراء هذه الآية على ظاهرها من غير إضمار.

الوجه الثاني : ذكره الواحدي (٣) في «البسيط» قال : وقال القاضي : إنّما يجب القضاء بالإفطار ، لا بالمرض والسّفر ، فلما أوجب الله القضاء ، والقضاء مسبوق بالفطر ، دلّ على أنّه لا بدّ من إضمار الإفطار.

قال ابن الخطيب (٤) وهذا ساقط ؛ لأنه لم يقل : فعليه قضاء ما مضى ، بل قال : «فعليه عدّة من أيّام أخر» ، وإيجاب الصّوم عليه في أيّام أخر لا يستدعي أن يكون مسبوقا بالإفطار.

الوجه الثالث : روى أبو داود عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن حمزة الأسلميّ سأل النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا رسول الله ، هل أصوم في السّفر؟ قال «إن شئت صم ، وإن شئت فأفطر» (٥).

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٦٦.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٦٦.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٦٦.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٦٦.

(٥) أخرجه البخاري (٣ / ٧٦) كتاب الصوم باب الصوم في السفر (١٩٤٣) ومسلم كتاب الصيام (١٠٣) والنسائي (٤ / ١٨٥ ـ ١٨٦) وأبو داود (٢٤٠٢) والترمذي (٧١١) وابن ماجه (١ / ٥١٠) رقم (١٦٦٢) والدارمي (٢ / ٨ ـ ٩) وابن خزيمة (٢٠٢٨) وابن الجارود (٣٩٧) والطحاوي (١ / ٣٣٣) والبيهقي (٤ / ٢٤٣) وأحمد (٦ / ٤٦) والطبراني (٣ / ١٦٧) وعبد الرزاق (٤٥٠٢ ، ٤٥٠٣) وابن عبد البر في «التمهيد» (٩ / ٦٧) والطيالسي (٩٠٧ ـ منحة) والطبراني في «الصغير» (١ / ٢٤٢) والحميدي (١٩٩) وابن عساكر (٤ / ٤٥٠) من طرق عن هشام عن أبيه عن عائشة وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

٢٦٦

ولقائل أن يقول : هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد ؛ لأن ظاهر القرآن يقتضي

وجوب الصّوم ، فرفع هذا الحكم بهذا الخبر غير جائز ، وإذا ضعّفت هذه الوجوه ، فالاعتماد على قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى.

فصل في هل صوم المسافر أفضل أم فطره

اختلفوا هل الصّوم للمسافر أفضل أم الفطر؟

فقال أنس بن مالك ، وعثمان بن أبي أوفى : الصّوم أفضل ، وبه قال الشافعيّ ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والثوريّ ، وأبو يوسف ، ومحمّد.

وقال سعيد بن المسيّب ، والشّعبيّ ، والأوزاعيّ ، وأحمد ، وإسحاق : الفطر أفضل.

وقالت طائفة : أفضل الأمرين أيسرهما على المرء. حجّة الأوّلين : قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وقوله (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

حجّة الفرقة الثانية : قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه ؛ كما تؤتى عزائمه» (١) وقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «ليس من البرّ الصّيام في السّفر» ، وأيضا : فالقصر أفضل ؛ فيجب أن يكون الفطر أفضل.

وفرّق بعضهم بين القصر والفطر من وجهين :

الأوّل : أنّ الصّلاة المقصورة تبرأ الذمّة بها ، والفطر تبقى الذّمّة فيه مشغولة.

الثاني : أنّ فضيلة الوقت تفوت بالفطر ، ولا تفوت بالقصر.

حجّة الفرقة الثالثة : قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥].

فصل في حكم ما إذا أفطر كيف يقضي؟

مذهب عليّ ، وابن عمر ، والشّعبيّ : أنّه يقضيه متتابعا ؛ لوجهين :

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ ابن حبان (٩١٤ ـ زوائده) والبزار (١ / ٤٦٩) رقم (٩٩٠) والبيهقي (٣ / ١٤٠) والطبراني في «الكبير» (٣٢٣١١) رقم (١١٨٨٠) وأبو نعيم في «الحلية» (٦ / ٢٧٦) من حديث ابن عمر.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٣ / ١٦٢) وقال : رواه البزار والطبراني في الكبير ورجال البزار ثقات وكذلك رجال الطبراني.

وأخرجه الطبراني (١١٨٨١) وابن حبان (٣٥٤) من حديث ابن عباس.

وأخرجه الطبراني (١٠٠٣٠) وفي الأوسط (١ / ١٣٦ ـ مجمع البحرين) والعقيلي (٤ / ٢٠٧) وأبو نعيم (٢ / ١٠١) وابن عدي (٦ / ٢٣٦٣) من حديث عبد الله بن مسعود.

وأخرجه أحمد (٢ / ١٠٨) والبزار (٩٨٨) وابن حبان (٥٤٥) والبيهقي (٣ / ١٤٠) والقضاعي في «مسند الشهاب» (١٠٧٨) عن ابن عمر بلفظ : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تترك معاصيه.

٢٦٧

الأوّل : قراءة أبي «فعدّة من أيّام أخر متتابعات» ، فكذا القضاء (١).

وقال بعضهم : التّتابع مستحبّ ، وإن فرق ، جاز ؛ فيكون أمرا بصوم أيام على عدد تلك الأيّام مطلقا ، فالتقدير بالتتابع مخالف لهذا التّعميم ، ويروى عن أبي عبيدة بن الجرّاح أنه قال : «إنّ الله لم يرخّص لكم في فطره ، وهو يريد أن يشقّ عليكم في قضائه ؛ إن شئت فواتر ، وإن شئت ففرّق» ، وروي أنّ رجلا قال للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : عليّ أيّام من رمضان ، أفيجزيني أن أقضيها متفرقا فقال له : «لو كان عليك دين ، فقضيته الدّرهم والدّرهمين ، أما كان يجزيك؟» فقال : نعم ، قال «فالله أحقّ أن يعفو ويصفح» (٢).

قوله «يطيقونه» الجمهور على «يطيقونه» من أطاق يطيق ، مثل أقام يقيم ، وقرأ (٣) حميد «يطوقونه» من «أطوق» كقولهم أطول في أطال ، وأغول في أغال ، وهذا تصحيح شاذّ ، ومثله في الشّذوذ من ذوات الواو أجود بمعنى أجاد ، ومن ذوات الياء أغيمت السّماء ، وأجبلت ، وأغيلت المرأة وأطيبت ، وقد جاء الإعلال في الكلّ ، وهو القياس ، ولم يقل بقياس نحو أغيمت وأطول إلا أبو زيد. وقرأ ابن عبّاس (٤) وابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأيّوب السّختياني ، وعطاء «يطوّقونه» مبنيّا للمفعول من «طوّق» مضعّفا ، على وزن «قطّع» ، وقرأت عائشة ، وابن دينار : «يطّوّقونه» بتشديد الطاء والواو من «أطوق» ، وأصله «تطوّق» ، فلما أريد إدغام التّاء في الطاء ، قلبت طاء واجتلبت همزة الوصل ؛ ليمكن الابتداء بالسّاكن ، وقد تقدّم تقرير ذلك في قوله تعالى : (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] وقرأ (٥) عكرمة وطائفة «يطّيّقونه» بفتح الياء ، وتشديد الطّاء ، والياء ، وتروى عن مجاهد أيضا ، وقرىء أيضا هكذا لكن ببناء الفعل للمفعول.

وقد ردّ بعضهم هذه القراءة ، وقال ابن عطيّة (٦) تشديد الياء في هذه اللّفظة ضعيف وإنّما قالوا ببطلان هذه ؛ لأنّها عندهم من ذوات الواو ، وهو الطّوق ، فمن أين تجيء الياء ، وهذه القراءة ليست باطلة ، ولا ضعيفة ، ولها تخريج حسن ، وهو أن هذه القراءة ليست من «تفعّل» ؛ حتى يلزم ما قالوه من الإشكال ، وإنما هي من «تفعيل» ، والأصل «تطيوق» من «الطّوق» ك «تديّر» و «تحيّر» من «الدّوران» و «الحور» ، والأصل «تديور» ، و «تحيور» فاجتمعت الواو والياء ، وسبقت إحداهما بالسّكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ، فكان الأصل «يتطيوقونه» ، ثم أدغم بعد القلب ، فمن قرأ

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٦٧.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره ٥ / ٦٧.

(٣) انظر : الشواذ ١١ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٥٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٤١ ، والدر المصون ١ / ٤٦٢.

(٤) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٥٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٤١ ، والدر المصون ١ / ٤٦٢.

(٥) السابق.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٥٢.

٢٦٨

«تطّيّقونه» بفتح الياء بناء للفاعل ، ومن ضمّها بناه للمفعول ، ويحتمل قراءة التشديد في الواو ، أو الياء أن تكون للتكلّف ، أي : يتكلّفون إطاقته وذلك مجاز من الطّوق الذي هو القلادة في أعناقهم ، وأبعد من زعم أنّ «لا» محذوفة قبل «ويطيقونه» ، وأنّ التقدير : لا يطيقونه ، ونظّره بقوله : [الطويل]

٩٣٥ ـ فخالف فلا والله تهبط تلعة

من الأرض إلّا أنت للذّلّ عارف (١)

وقوله : [الكامل]

٩٣٦ ـ آليت أمدح مغرما أبدا

يبقى المديح ويذهب الرّفد (٢)

وقوله : [الطويل]

٩٣٧ ـ فقلت : يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (٣)

المعنى : لا تهبط ، ولا أمدح ، ولا أبرح ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنّ حذفها ملتبس ، وأما الأبيات المذكورة ؛ فلدلالة القسم على النّفي.

والهاء في «يطيقونه» للصّوم ، وقيل : للفداء ؛ قاله الفراء (٤).

و «فدية» مبتدأ خبره في الجارّ والمجرور قبله ، والجمهور على تنوين «فدية» ورفع «طعام» وتوحيد «مسكين» وهشام كذلك إلّا أنه قرأ (٥) «مساكين» جمعا ، ونافع وابن ذكوان بإضافة «فدية» إلى «مساكين» جمعا ، فالقراءة الأولى يكون «طعاما» بدلا من «فدية» بيّن بهذا البدل المراد بالفدية ، وأجاز أبو البقاء (٦) ـ رحمه‌الله تعالى ـ أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : «هي طعام» ، وأما إضافة الفدية للطّعام ، فمن باب إضافة الشيء إلى جنسه ، والمقصود به البيان ؛ كقولك : «خاتم حديد ، وثوب خزّ ، وباب ساج» لأنّ الفدية تكون طعاما وغيره ، وقال بعضهم : يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصّفة ، قال : لأنّ الفدية لها ذات وصفتها أنّها طعام ، وهذا فاسد ؛ لأنّه : إمّا أن يريد ب «طعام» المصدر بمعنى الإطعام ؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء ، أو يريد به المفعول ؛ وعلى كلا التّقديرين ، فلا يوصف به ؛ لأنّ المصدر لا يوصف عند المبالغة إلّا به وليست مرادة هنا ، والذي بمعنى المفعول ليس جاريا على فعل ، ولا ينقاس ، لا

__________________

(١) ينظر : شواهد الكتاب ٣ / ١٠٥ ، والدر المصون ١ / ٤٦٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٢ ، والدر المصون ١ / ٤٦٢.

(٣) البيت لامرىء القيس. ينظر : ديوانه (١٢٥) ، شواهد الكتاب ٣ / ٥٠٤ ، وأوضح المسالك ١ / ١٦٣ ، والخصائص ٢ / ٢٨٤ والدرر ٢ / ٤٢ ، والدر المصون ١ / ٤٦٢.

(٤) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١١٢.

(٥) انظر قراءة نافع وابن ذكوان في : الكشف ١ / ٢٨٢ ، والسبعة ١٧٦ ، والحجة ٢ / ٢٧٣ ، وحجة القراءات ١٢٤ ، وشرح شعلة ٢٨٤ ، ٢٨٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ٩١ ، وإتحاف ١ / ٤٣٠ ، والعنوان ٧٣.

(٦) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٨١.

٢٦٩

تقول : ضراب بمعنى مضروب ، ولا قتال بمعنى مقتول ، ولكونها غير جارية على فعل ، لم تعمل عمله ، لا تقول : «مررت برجل طعام خبزه» وإذا كان غير صفة ، فكيف يقال : أضيف الموصوف لصفته؟

وإنّما أفردت «فدية» ؛ لوجهين :

أحدهما : أنّها مصدر ، والمصدر يفرد ، والتاء فيها ليست للمرة ، بل لمجرد التأنيث.

والثاني : أنه لمّا أضافها إلى مضاف إلى الجمع ، أفهمت الجمع ، وهذا في قراءة «مساكين» بالجمع ، ومن جمع «مساكين» ، فلمقابلة الجمع بالجمع ، ومن أفرد ، فعلى مراعاة إفراد العموم ، أي : وعلى كلّ واحد ممّن يطيق الصّوم ؛ لكلّ يوم يفطره إطعام مسكين ؛ ونظيره : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور : ٤].

وتبيّن من إفراد «المسكين» أنّ الحكم لكلّ يوم يفطر فيه مسكين ، ولا يفهم ذلك من الجمع ، والطّعام : المراد به الإطعام ، فهو مصدر ، ويضعف أن يراد به المفعول ، قال أبو البقاء : «لأنّه أضافه إلى المسكين ، وليس الطعام للمسكين قبل تمليكه إياه ، فلو حمل على ذلك ، لكان مجازا ؛ لأنه يصير تقديره : فعليه إخراج طعام يصير للمساكين ، فهو من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه ، وهو وإن كان جائزا ، إلا أنّه مجاز ، والحقيقة أولى منه».

قوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) قد تقدّم نظيره عند قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١٥٨] فليلتفت إليه ، والضمير في قوله : «فهو» ضمير المصدر المدلول عليه بقوله : «فمن تطوّع» ، أي : فالتّطّوع خير له ، و «له» في محلّ رفع ؛ لأنه صفة ل «خير» ؛ فيتعلّق بمحذوف ، أي : خير كائن له.

فصل في نسخ الآية

ذهب أكثر العلماء إلى أنّ الآية منسوخة ، وهو قول ابن عمر ، وسلمة بن الأكوع ، وغيرهما ؛ وذلك أنّهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيّرين بين أن يصوموا ، وبين أن يفطروا ، ويفتدوا ، خيّرهم الله تعالى ؛ لئلا يشقّ عليهم ؛ لأنّهم كانوا لم يتعوّدوا الصّوم ، ثم نسخ التّخيير ، ونزلت العزيمة بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وقال قتادة : هي (١) خاصّة بالشّيخ الكبير الّذي يطيق الصّوم ، ولكن يشقّ عليه ، رخّص له أن يفطر ويفدي [ثمّ نسخ.

وقال الحسن : هذا في المريض الّذي به ما يقع عليه اسم المرض ، وهو يستطيع ،

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٠.

٢٧٠

خيّر بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي](١) ثم نسخ بقوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وتثبت الرّخصة للّذين لا يطيقونه ، وذهب جماعة إلى أنّ الآية الكريمة محكمة غير منسوخة ، معناه : وعلى الّذين كانوا يطيقونه في حال الشّباب ، فعجزوا عنه بعد الكبر ، فعليهم الفدية بدل الصّوم ، وقراءة ابن عباس «يطوّقونه» بضم الياء ، وفتح الطّاء مخففة ، وتشديد الواو ، أي : يكلّفون الصوم ، فتأوّله على الشّيخ الكبير ، والمرأة الكبيرة ، لا يستطيعان الصّوم ، والمريض الذي لا يرجى برؤه ، فهم يكلّفون الصّوم ، ولا يطيقونه ، فلهم أن يفطروا ، ويطعموا مكان كلّ يوم مسكينا ، وهو قول سعيد بن جبير (٢) ، وجعل الآية محكمة.

فصل في المراد بالفدية ومقدارها

«الفدية» في معنى الجزاء ، وهو عبارة عن البدل القائم عن الشيء وهي عند أبي حنيفة نصف صاع من برّ ، أو صاعا من غيره وهو مدّان ، وعن الشّافعي «مدّ» بمدّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو رطل وثلث من غالب أقوات البلد ، وهو قول فقهاء الحجاز.

وقال بعض فقهاء العراق : نصف صاع لكلّ يوم يفطر (٣).

وقال بعض الفقهاء : ما كان المفطر يتقوّته يومه الّذي أفطره (٤).

وقال ابن عباس : يعطي كلّ مسكين عشاءه وسحوره (٥).

فصل في احتجاج الجبائي بالآية

احتجّ الجبّائيّ بقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) على أن الاستطاعة قبل الفعل ؛ فقال : الضمير في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) عائد إلى الصّوم ، فأثبت القدرة على الصّوم حال عدم الصّوم ؛ لأنّه أوجب عليه الفدية ، وإنّما تجب عليه الفدية إذا لم يصم ؛ فدلّ هذا على أن القدرة على الصّوم حاصلة قبل حصول الصّوم.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الفدية؟

قلنا : لا يصحّ لوجهين :

أحدهما : أن الفدية متأخّرة ، فلا يعود الضّمير إليها.

والثاني : أنّ الضّمير مذكّر ، والفدية مؤنّثة.

فإن قيل : هذه الآية منسوخة ، فكيف يجوز الاستدلال بها؟!

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٠.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٠.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٠.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٠.

٢٧١

قلنا : إنّما كانت قبل أن صارت منسوخة دالّة على أنّ القدرة حاصلة قبل الفعل ، والحقائق لا تتغيّر.

قوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : قال مجاهد وعطاء ، وطاوس : أي : زاد على مسكين واحد ؛ فأطعم مكان كل يوم مسكينين ، فأكثر (١).

الثاني : أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.

الثالث : قاله الزّهريّ : من صام مع الفدية ، فهو خير (٢) له.

قوله : (وَأَنْ تَصُومُوا) في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء ، تقديره : «صومكم» ، و «خير» خبره ، ونظيره : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧].

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) شرط حذف جوابه ، تقديره : فالصّوم خير لكم ، وحذف مفعول العلم ؛ إما اقتصارا ، أي : إن كنتم من ذوي العلم والتمييز ، أو اختصارا ، أي : تعلمون ما شرعيته وتبيينه ، أو فضل ما علمتم.

من ذهب إلى النّسخ ، قال : معناه : الصّوم خير له من الفدية ، وقيل : هذا في الشّيخ الكبير ، لو تكلّف الصّوم ، وإن شقّ عليه ، فهو خير له من أن يفطر ويفدي.

وقيل : هذا خطاب مع كل من تقدّم ذكره ، أعني : المريض ، والمسافر ، والذين يطيقونه.

قال ابن الخطيب (٣) : وهذا أولى ؛ لأنّ اللفظ عامّ ، ولا يلزم من اتّصاله بقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أن يكون حكمه مختصّا بهم ، لأنّ اللفظ عامّ ، ولا منافاة في رجوعه إلى الكلّ ، فوجب الحكم بذلك ، واعلم أنه لا رخصة لمؤمن مكلّف في إفطار شهر رمضان ، إلّا لثلاثة :

أحدهم ـ يجب عليه القضاء والكفّارة : هو الحامل والمرضع ، إذا خافتا على ولديهما يفطران ، ويقضيان ، وعليهما مع القضاء الفدية ، وهو قول ابن عمر ، وابن عبّاس ، وبه قال مجاهد ، وإليه ذهب الشافعيّ وأحمد (٤).

وقال قوم : لا فدية عليهما ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، والنّخعيّ ، والزّهريّ ، وإليه ذهب الأوزاعيّ والثوريّ (٥) وأصحاب الرّأي.

الثاني ـ عليه القضاء دون الكفّارة : وهو المريض والمسافر.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٠.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٠.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٠.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٠.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٠.

٢٧٢

الثالث ـ عليه الكفّارة دون القضاء : الشّيخ الكبير ، والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه.

قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١٨٥)

قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ :) فيه قراءتان :

المشهورة الرفع ، وفيه أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ ، وفي خبره حينئذ قولان :

الأول : أنه قوله (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ويكون قد ذكر هذه الجملة منبّهة على فضله ومنزلته ، يعني أن هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن هو الذي فرض عليكم صومه.

قال أبو عليّ : والأشبه أن يكون «الّذي» وصفا ؛ ليكون لفظ القرآن نصّا في الأمر بصوم شهر رمضان ؛ لأنّك إن جعلته خبرا ، لم يكن شهر رمضان منصوصا على صومه بهذا اللفظ ، وإنما يكون مخبرا عنه بإنزال القرآن الكريم فيه ، وإذا جعلنا «الّذي» وصفا ، كان حقّ النظم أن يكني عن الشّهر لا أن يظهر ؛ كقولك : «شهر رمضان المبارك من شهده فليصمه».

والقول الثاني : أنه قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وتكون الفاء زائدة على رأي الأخفش ، وليست هذه الفاء التي تزاد في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط ، وإن كان بعضهم زعم أنها مثل قوله : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨] وليس كذلك ؛ لأن قوله : (الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) يتوهّم فيه عموم ؛ بخلاف شهر رمضان ، فإن قيل : أين الرابط بين هذه الجملة وبين المبتدأ؟ قيل : تكرار المبتدأ بلفظه ؛ كقوله : [الخفيف]

٩٣٨ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

 ..........(١)

وهذا الإعراب ـ أعني كون «شهر رمضان» مبتدأ ـ على قولنا : إن الأيام المعدودات هي غير شهر رمضان ، أمّا إذا قلنا : إنها نفس رمضان ، ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون خبر مبتدأ محذوف.

فقدّره الفرّاء (٢) : ذلكم شهر رمضان ، وقدّره الأخفش (٣) : المكتوب شهر رمضان.

__________________

(١) تقدم برقم ٥٢٠.

(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ١١٢.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ١٥٩.

٢٧٣

والثاني : أن يكون بدلا من قوله «الصّيام» ، أي : كتب عليكم شهر رمضان ، وهذا الوجه ، وإن كان ذهب إليه الكسائيّ بعيد جدّا ؛ لوجهين :

أحدهما : كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه.

والثاني : أنّه لا يكون إذ ذاك إلّا من بدل الإشمال ، وهو عكس بدل الاشتمال ؛ لأنّ بدل الاشتمال غالبا بالمصادر ؛ كقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة : ٢١٧] ، وقول الأعشى : [الطويل]

٤٣٩ ـ لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضّي لبانات ويسأم سائم (١)

وهذا قد أبدل فيه الظرف من المصدر ، ويمكن أن يوجّه قوله بأنّ الكلام على حذف مضاف ، تقديره : صيام شهر رمضان ؛ وحينئذ : يكون من باب بدل الشّيء من الشّيء ، وهما لعين واحدة ، ويجوز أن يكون الرّفع على البدل من قوله (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) في قراءة من رفع «أيّاما» ، وهي قراءة عبد الله ، وفيه بعد.

والقراءة الثانية : النصب ، وفيه أوجه :

أجودها : النصب بإضمار فعل ، أي : صوموا شهر رمضان.

الثاني ـ وذكره الأخفش (٢) والرّمّانيّ ـ : أن يكون بدلا من قوله (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ، وهذا يقوّي كون الأيام المعدودات هي رمضان ، إلا أن فيه بعدا من حيث كثرة الفصل.

الثالث : نصبه على الإغراء ؛ ذكره أبو عبيدة والحوفيّ.

الرابع : أن ينتصب بقوله : (وَأَنْ تَصُومُوا) ؛ حكاه ابن عطية (٣) ، وجوّزه الزمخشريّ (٤) ، واعترض عليه ؛ بأن قال : فعلى هذا التقدير يصير النّظم : «وأن تصوموا رمضان الّذي أنزل فيه القرآن خير لكم».

فهذا يقتضي وقوع الفصل بين المبتدأ والخبر بهذا الكلام الكثير ، وهو غير جائز ؛ لأنّ المبتدأ والخبر جاريان مجرى شيء واحد ، وإيقاع الفصل بين الشّيء الواحد غير جائز. وغلّطهما أبو حيان : «بأنّه يلزم منه الفصل بين الموصول وصلته بأجنبيّ ؛ لأنّ الخبر ، وهو «خير» أجنبيّ من الموصول ، وقد تقدّم أنه لا يخبر عن الموصول ، إلّا بعد

__________________

(١) ينظر : ديوانه ص ١٢٧ ، والأغاني ٢ / ٢٠٦ ، والرد على النحاة ص ١٢٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٩ ، والكتاب ٣ / ٣٨ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٠٦ ، والمقتضب ١ / ٢٧ ، ٢ / ٢٦ ، ٤ / ٢٩٧ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٢٩٩ ، ورصف المباني ص ٤٢٣ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٩٠ ، وشرح المفصل ٣ / ٦٥ ، والدر المصون ١ / ٤٦٤.

(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ١٥٩.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٥٠.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٣٣٦.

٢٧٤

تمام صلته ، و «شهر رمضان» على رأيهم من تمام صلة «أن» ، فامتنع ما قالوه ، وليس لقائل أن يقول : يتخرّج ذلك على الخلاف في الظّرف ، وحرف الجرّ ، فإنه يغتفر فيه ذلك عند بعضهم ؛ لأنّ الظاهر من نصبه هنا أنه مفعول به لا ظرف».

الخامس : أنه منصوب ب «تعلمون» ؛ على حذف مضاف ، تقديره : تعلمون شرف شهر رمضان ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب.

وأدغم أبو عمرو (١) راء «شهر» في راء «رمضان» ، ولا يلتفت إلى من استضعفها ؛ من حيث إنّه جمع بين ساكنين على غير حدّيهما ، وقول ابن عطيّة : «وذلك لا تقتضيه الأصول» غير مقبول منه ؛ فإنّه إذا صحّ النقل ، لا يعارض بالقياس.

والشهر لأهل اللّغة فيه قولان :

أشهرهما : أنه اسم لمدّة الزمان التي يكون مبدأها الهلال خافيا إلى أن يستسرّ ؛ سمّي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه من المعاملات ، والصوم ، والحجّ ، وقضاء الدّيون ، وغيرها.

والشّهر مأخوذ من الشّهرة ، يقال : شهر الشّيء يشهره شهرا : إذا أظهره ، ويسمّى الشّهر: شهرا ، لشهرة أمره ، والشّهرة : ظهور الشيء ، وسمي الهلال شهرا ؛ لشهرته.

والثاني ـ قاله الزّجّاج ـ : أنه اسم للهلال نفسه ؛ قال : [الكامل]

٩٤٠ ـ ..........

والشّهر مثل قلامة الظّفر (٢)

سمّي بذلك ؛ لبيانه ؛ قال ذو الرّمّة : [الطويل]

٩٤١ ـ ..........

يرى الشّهر قبل النّاس وهو نحيل (٣)

يقولون : رأيت الشهر ، أي هلاله ، ثم أطلق على الزمان ؛ لطلوعه فيه ، ويقال : أشهرنا ، أي : أتى علينا شهر ، قال الفرّاء : «لم أسمع فعلا إلّا هذا».

__________________

(١) وهي قراءة مجاهد ، وشهر بن حوشب ، ورواها أبو عمارة عن حفص عن عاصم ، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو.

ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٥٤ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٥.

(٢) عجز بيت وصدره :

أخوان من نجد على ثقة

ينظر : القرطبي ٢ / ١٩٦ ، والدر المصون ١ / ٤٦٥.

(٣) عجز بيت وصدره :

فأصبح أجلى الطرف ما يستزيده

ينظر : ملحق ديوانه (١٩٠٠) ، البحر المحيط ٢ / ٣١ واللسان والتاج «شهر» والدر المصون ١ / ٤٦٥.

٢٧٥

فصل

قال الثّعلبي : «يقال : شهر الهلال ، إذا طلع» ، ويجمع في القلّة على أشهر ، وفي الكثرة على شهور ، وهما مقيسان.

ورمضان : علم لهذا الشّهر المخصوص ، وهو علم جنس ، وفي تسميته برمضان أقوال :

أحدها : أنّه وافق مجيئه في الرّمضاء ـ وهي شدّة الحرّ ـ فسمّي هذا الشّهر بهذا الاسم : إما لارتماضهم فيه من حرّ الجوع ، أو مقاساة شدّته ؛ كما سمّوه تابعا ؛ لأنه يتبعهم فيه إلى الصّوم ، أي : يزعجهم لشدّته عليهم ، وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «صلاة الأوّابين ، إذا رمضت الفصال» أخرجه مسلم (١) ، ورمض الفصال ، إذا حرّق الرّمضاء أحقافها ، فتبرك من شدّة الحرّ.

يقال : إنّهم لما نقلوا أسماء الشّهور عن اللّغة القديمة ، سمّوها بالأزمنة الّتي وقعت فيها ، فوافق هذا الشّهر أيّام رمض الحرّ ، [فسمّي به ؛ كربيع ؛ لموافقته الربيع ، وجمادى ؛ لموافقته جمود الماء ، وقيل : لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها ، بمعنى يمحوها].

روي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إنّما سمّي رمضان ، لأنّه يرمض ذنوب عباد الله».

وقيل : لأنّ القلوب تحترق فيه من الموعظة ، وقيل : من رمضت النّصل أرمضه رمضان إذا دققته بين حجرين ، ليرقّ يقال : نصل رميض ومرموض.

وسمّي هذا الشّهر رمضان ؛ لأنهم كانوا يرمضون فيه أسلحتهم ؛ ليقضوا منها أوطارهم ؛ قاله الأزهريّ (٢).

قال الجوهريّ : ورمضان : يجمع على «رمضانات» و «أرمضاء» وكان اسمه في الجاهلية ناتقا ، أنشد المفضّل : [الطويل]

٩٤٢ ـ وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى

وولّت على الأدبار فرسان خثعما (٣)

وقال الزمخشري (٤) : «الرّمضان مصدر رمض ، إذا احترق من الرّمضاء» قال أبو حيّان : «ويحتاج في تحقيق أنّه مصدر إلى صحّة نقل ، فإن فعلانا ليس مصدر فعل اللازم ، بل إن جاء منه شيء كان شاذا» ، وقيل : هو مشتقّ من الرّمض ـ بكسر الميم ـ وهو مطر

__________________

(١) أخرجه مسلم كتاب صلاة المسافرين باب ١٩ رقم (١٤٣ ، ١٤٤) وأحمد (٤ / ٣٦٦) والبيهقي (٣ / ٤٩) والطبراني في «الكبير» (٥ / ٢٣٤) وابن عبد البر في «التمهيد» (٨ / ١٤٤) وابن خزيمة (١٢٢٧) وابن أبي شيبة (٢ / ٤٠٦) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ١٤٥) والطبراني في «الصغير» (١ / ٦٤).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧١.

(٣) ينظر : اللسان «نتق» والدر المصون ١ / ٤٦٦.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٣٣٦.

٢٧٦

يأتي قبل الخريف يطهّر الأرض من الغبار ، فكذلك هذا الشهر يطهّر القلوب من الذّنوب ويغسلها.

وقال مجاهد : إنه اسم الله تعالى (١) ، ومعنى قول لقائل : «شهر رمضان» ، أي : شهر الله ، وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : لا تقولوا : جاء رمضان ، وذهب رمضان ، ولكن قولوا : جاء شهر رمضان ؛ وذهب شهر رمضان ، فإنّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى (٢).

قال القرطبيّ (٣) : «قال أهل التّاريخ : إنّ أوّل من صام رمضان نوح ـ عليه‌السلام ـ لمّا خرج من السّفينة» ، وقد تقدّم قول مجاهد : «كتب الله رمضان على كلّ أمّة» ومعلوم أنّه كان قبل نوح ـ عليه‌السلام ـ أمم ؛ فالله أعلم (٤).

والقرآن في الأصل مصدر «قرأت» ، ثم صار علما لما بين الدّفّتين ؛ ويدلّ على كونه مصدرا في الأصل قول حسّان في عثمان ـ رضي الله عنهما ـ : [البسيط]

٩٤٢ ب ـ ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به

يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا (٥)

وقيل : القرآن من المصادر ، مثل : الرّجحان ، والنّقصان ، والخسران ، والغفران ، وهو من قرأ بالهمز ، أي : جمع ؛ لأنه يجمع السّور ، والآيات ، والحكم ، والمواعظ ، والجمهور على همزة ، وقرأ (٦) ابن كثير من غير همز ، واختلف في تخريج قراءته على وجهين :

أظهرهما : أنه من باب النّقل ؛ كما ينقل ورش حركة الهمزة إلى السّاكن قبلها ، ثم يحذفها في نحو : (قَدْ أَفْلَحَ) [المؤمنون : ١] ، وهو وإن لم يكن أصله النّقل ، إلا أنّه نقل هنا لكثرة الدّور ، وجمعا بين اللّغتين.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٤٤٥) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٣٤) وزاد نسبته لوكيع.

(٢) أخرجه البيهقي (٤ / ٢٠١) وابن عدي في «الكامل» (٧ / ٢٥١٧) وابن الجوزي في «الموضوعات» (٢ / ١٨٧)

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٣٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ والديلمي عن أبي هريرة موقوفا ومرفوعا.

وذكره ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (٢ / ١٥٣) وقال : وجاء من حديث ابن عمر أخرجه تمام في فوائده ومن حديث عائشة أخرجه ابن النجار.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٩٤ ـ ١٩٥.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٢٣) من كلام الضحاك وعزاه لابن أبي حاتم.

(٥) ينظر : ديوانه (٤٦٩) ، واللسان (ضحا) ، الدر المصون ١ / ٤٦٦.

(٦) انظر : حجة القراءات ١٢٥ ، ١٢٦ ، والعنوان ٧٣ ، وشرح شعلة ٢٨٥ ، وإتحاف ١ / ٤٣١.

٢٧٧

والثاني : أنه مشتقّ عنده من قرنت بين الشيئين ، فيكون وزنه على هذا «فعالا» وعلى الأول «فعلانا» وذلك أنه قد قرن فيه بين السّور ، والآيات ، والحكم ، والمواعظ.

وقال الفرّاء : أظنّ أنّ القرآن سمّي من القرائن ، وذلك أنّ الآيات يصدّق بعضها بعضا على ما قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

وأما قول من قال : إنّه مشتقّ من قريت الماء في الحوض ، أي : جمعته ، فغلط ؛ لأنّهما مادّتان متغايرتان.

وروى الواحديّ في «البسيط» (١) عن محمّد بن عبد الله بن الحكم ، أنّ الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ كان يقول القرآن اسم ، وليس بمهموز ، ولم يؤخذ من «قرأت» ، وإنما هو اسم لكتاب الله ؛ مثل التوراة والإنجيل ، قال : ويهمز قراءة ، ولا يهمز القرآن ، كما يقول : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [الإسراء : ٤٥] قال الواحديّ (٢) ـ رحمه‌الله ـ : وقول الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ أنّه اسم لكتاب الله تعالى ، يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتقّ ، والذي قال بأنّه مشتقّ من القرء ، وهو الجمع ، أي : جمعته ، هو الزّجّاج وأبو عبيدة (٣) ، قالا : إنّه مأخوذ من القرء وهو الجمع.

قال عمرو بن كلثوم :

٩٤٣أ ـ ..........

هجان اللّون لم تقرأ جنينا

أي : لم تجمع في رحمها ولدا ، ومن هذا الأصل : قرء المرأة ، وهو أيّام اجتماع الدّم في رحمها ، فسمّي القرآن قرآنا ، لأنه يجمع السّور وينظمها.

وقال قطرب (٤) : سمّي قرآنا ؛ لأنّ القارىء يكتبه ، وعند القراءة كأنّه يلقيه من فيه أخذا من قول العرب : ما قرأت النّاقة سلى قطّ ، أي : ما رمت بولد ، وما أسقطت ولدا قطّ ، وما طرحت ، وسمّي الحيض قرءا بهذا التّأويل ، فالقرآن [يلفظه القارىء] من فيه ، ويلقيه ، فسمّي قرآنا.

و «القرآن» مفعول لم يسمّ فاعله ؛ ثم إنّ المقروء يسمّى قرآنا ؛ لأن المفعول يسمّى بالمصدر ؛ كما قالوا للمشروب شراب ، وللمكتوب كتاب. واشتهر هذا الاسم في العرف ؛ حتّى جعلوه اسما لكتاب الله تعالى على ما قاله الشّافعيّ ـ رضي الله عنه.

ومعنى «أنزل فيه القرآن» ، أي : ظرف لإنزاله.

قيل : «نزلت صحف إبراهيم في أوّل يوم من رمضان ، وأنزلت التوراة لستّ مضين ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٣.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٣.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٤.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٤.

٢٧٨

والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين» (١).

فإن قيل : إنّ القرآن نزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مدّة ثلاث وعشرين سنة منجّما مبعّضا ، فما معنى تخصيص إنزاله برمضان؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أنّ القرآن أنزل في ليلة القدر جملة إلى سماء الدنيا ، ثمّ نزل إلى الأرض نجوما.

روى مقسّم عن ابن عبّاس (٢) أنه سئل عن قوله عزوجل : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] ، وقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣] وقد نزل في سائر الشّهور ، وقال عزوجل : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) [الإسراء : ١٠٦] فقال : أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزّة في السماء الدّنيا ، ثم نزل به جبريل ـ عليه‌السلام ـ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة (٣) ، فذلك قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة : ٧٥] وقال داود بن أبي هند : قلت للشّعبيّ : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أما كان ينزل في سائر السنّة؟ قال : بلى ، ولكن جبريل كان يعارض محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان ما أنزل الله إليه فيحكم الله ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ، وينسيه ما يشاء (٤).

وروي عن أبي ذرّ ، عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزلت صحف إبراهيم في ثلاث ليال مضين من شهر رمضان» (٥) ويروى : «في أوّل ليلة من رمضان» وأنزلت توراة موسى في ستّ ليال مضين من شهر رمضان ، وأنزل إنجيل عيسى في ثلاث عشرة ليلة من رمضان ، وأنزل زبور داود في ثمان عشرة ليلة مضت من رمضان ، وأنزل الفرقان على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأربع وعشرين خلت من رمضان ، ولستّ بقين بعدها (٦) ، وسنذكر الحكمة في إنزاله منجما مفرّقا في سورة «الفرقان» عند قوله : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢].

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٤ / ٧٢.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٤٤٥) من حديث ابن عباس موقوفا.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥١.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥١.

(٦) أخرجه أحمد (١٧٠٥١ ـ شاكر) والطبري في «تفسيره» (٣ / ٤٤٦) والطبراني في «الكبير» والأوسط كما في «مجمع الزوائد» (١ / ٢٠١) وقال : وفيه عمران بن داود القطان ضعفه يحيى ووثقه ابن حبان وقال أحمد : أرجو أن يكون صالح الحديث وبقية رجاله ثقات.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٤٢) وزاد نسبته لمحمد بن نصر وابن أبي حاتم والبيهقي في «الشعب» والأصبهاني في «الترغيب».

٢٧٩

والجواب الثاني : أن المراد منه : أنّ ابتداء نزوله ليلة القدر من شهر رمضان ، وهو قول محمّد بن إسحاق (١) ؛ وذلك لأنّ مبادىء الملل والدّول هي الّتي يؤرّخ بها ؛ لكونها أشرف الأوقات ، ولأنّها أيضا أوقات مضبوطة.

واعلم أن الجواب الأول حمل للكلام على الحقيقة ، وفي الثاني : لا بدّ من حمله على المجاز ؛ لأنّه حمل للقرآن على بعض أجزائه.

روي أن [عبد الله بن] عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ استدلّ بهذه الآية الكريمة ، وبقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] على أن ليلة القدر لا تكون إلّا في رمضان ، وذلك لأنّ ليلة القدر ، إذا كانت في رمضان ، كان إنزاله في ليلة القدر إنزالا في رمضان ، وهذا كمن يقول : «لقيت فلانا في هذا الشّهر» ، فيقال له : في أيّ يوم منه؟ فيقول : في يوم كذا ، فيكون ذلك تفسيرا لكلامه الأول وقال سفيان بن عيينة : «أنزل فيه القرآن» ، معناه : أنزل ، في فضله القرآن (٢) ، وهذا اختيار الحسين بن الفضل ؛ قال : وهذا كما يقال : «أنزل في الصّدّيق كذا آية» يريدون في فضله (٣).

قال ابن الأنباريّ : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن الكريم ؛ كما يقال أنزل الله في الزّكاة آية كذا ؛ يريدون في إيجابها وأنزل في الخمر ، يريدون في تحريمها.

فصل

قد تقدّم في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [البقرة : ٢٣] أنّ التنزيل مختصّ بالنّزول على سبيل التّدريج ، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة ولهذا قال تبارك وتعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٣] إذا ثبت هذا ، فنقول : لمّا كان المراد هاهنا من قوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا ـ لا جرم ذكره بلفظ «الإنزال» دون «التّنزيل» ، وهذا يدلّ على أن هذا القول راجح على سائر الأقوال.

قوله : «هدى» في محلّ نصب على الحال من القرآن ، والعامل فيه «أنزل» وهدى مصدر ، فإمّا أن يكون على حذف مضاف ، أي : ذا هدى ، أو على وقوعه موقع اسم الفاعل ، أي : هاديا ، أو على جعله نفس الهدى مبالغة.

قوله : «للنّاس» يحوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق ب «هدى» على قولنا بأنه وقع موقع «هاد» ، أي : هاديا للناس.

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة للنكرة قبله ، ويكون محلّه النّصب على

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٣.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٣.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٣.

٢٨٠