اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

وثانيها : أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث بحكم الآيتين.

وثالثها : لو قدرنا حصول المنافاة ، لكان يمكن جعل آية المواريث لإخراج القريب الوارث ، ويبقى القريب الذي لا يكون وارثا داخلا تحت هذه الآية ؛ وذلك لأن من الوالدين من يرث ، ومنهم من لا يرث بسبب اختلاف الدّين أو الرّقّ ، أو القتل ، ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة : من لا يرث بهذه الأسباب الخارجية ومنهم : من يسقط في حال ، ويثبت في حال ، ومنهم : من يسقط في كل حال.

فمن كان من هؤلاء وارثا ، لم تجز الوصيّة له ، ومن كان منهم غير وارث ، صحّت الوصيّة له ، وقد أكّد الله تعالى ذلك بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] ، وبقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) [النحل : ٩٠] ، والقائلون بالنسخ : اختلفوا بأي دليل صارت منسوخة ، فقال بعضهم (١) : بإعطاء الله أهل المواريث كل ذي حقّ حقّه.

قال ابن الخطيب (٢) وهذا بعيد ؛ لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوب قدر آخر بالوصيّة ، وأكثر ما يوجبه ذلك التّخصيص ، والنّسخ (٣).

فإن قيل : لا بدّ وأن تكون منسوخة في حقّ من لم يخلف إلا الوالدين من حيث يصير كلّ المال حقّا لهم ؛ بسبب الإرث ، فلا يبقى للوصيّة شيء؟!

فالجواب : أن هذا تخصيص ، لا نسخ.

وقال بعضهم (٤) أيضا : إنها نسخت بقوله ـ عليه‌السلام ـ ، «لا وصيّة لوارث» ، وفيه إشكال ؛ من حيث إنّه خبر واحد ، فلا يجوز نسخ القرآن به (٥) ، فإن قيل : بأنه ، وإن كان

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥٣.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥٣.

(٣) معلوم أن التخصيص والنسخ يشتركان في أن كلّ واحد منهما بيان ما لم يرد باللفظ ، إلا أنهما يفترقان في أمور : وهي أن التخصيص يبيّن أن العام لم يتناول المخصوص ، والنسخ ويرفع بعد الثبوت ؛ وأن التخصيص لا يرد إلا على العامّ ، والنسخ يرد عليه وعلى غيره ؛ وأنه يجب أن يكون متّصلا ، والنسخ لا يكون إلا متراخيا ؛ وأنه لا يجوز ألّا يبقى شيء ، والنسخ يجوز ؛ وأنه قد يكون بأدلة السمع وغيرها والنسخ لا يجوز إلا بالسمع ؛ وأنه يكون معلوما ومجهولا ، والنسخ لا يكون معلوما ؛ وأنه لا يخرج المخصوص منه من كونه معمولا به في مستقبل الزمان ، والنسخ يخرج المنسوخ عن ذلك ؛ وأنه يرد في الأخبار والأحكام ، والنسخ لا يرد إلا في الأحكام ؛ وأن دليل الخصوص يقبل التعليل ، ودليل النسخ لا يقبله.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ٥ / ٥٤.

(٥) واستدل المثبتون لهذا النوع بأدلة من النسخ «أولا» أن نسخ المتواتر بالآحاد قد وقع ؛ وهو أن التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا بالسّنة المتواترة ؛ إذ ليس في كتاب الله ما يدلّ عليه ، ونسخ بالآحاد ؛ وهو أن أهل مسجد قباء سمعوا منادي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ألا إن القبلة قد حوّلت» فاستداروا وتوجّهوا ، ولم ينكر عليهم الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. ـ

٢٤١

خبر واحد ، إلّا أن الأمّة تلقّته بالقبول ، فالتحق بالمتواتر.

فالجواب : سلّمنا أن الأمّة تلقّته بالقبول ، لكن على وجه الظّنّ ، أو على وجه القطع؟ فإن كان على وجه الظّنّ ، فمسلّم إلّا أن ذلك يكون إجماعا منهم على أنه خبر واحد ، فلا يجوز نسخ القرآن به ، وإن كان على وجه القطع فممنوع ؛ لأنهم لو قطعوا بصحّته ، مع أنه من باب الآحاد ، لكانوا قد أجمعوا على الخطأ ، وإنه غير جائز.

وقال آخرون : إنها نسخت بالإجماع ، والإجماع يجوز أن ينسخ به القرآن ؛ لأن الإجماع يدلّ على أن الدّليل النّاسخ كان موجودا إلّا أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدّليل ، ولقائل أن يقول : لمّا ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ ؛ فحينئذ : لم يثبت الإجماع.

__________________

ـ «ثانيا» : أن النسخ كالتخصيص من حيث البيان ، وبما أن التخصيص جائز بخبر الواحد ، فكذلك النسخ.

«ثالثا» أن نسخ القرآن بخبر الواحد جائز ؛ كما في قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) فإنه نسخ بما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نهى عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع» وهو خبر آحاد ، وإذا جاز نسخ القرآن به ـ فالخبر أجدر.

«الجواب عن هذه الأدلّة» : «أما عن الأول» : فلأنّه خبر المنادي كان محفوفا بالقرائن ؛ من ندائه بحضرة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على رءوس الأشهاد في مثل هذه الواقعة العظيمة ، وهذه قرينة صادقة عادة فيفيد القطع ، فيجب المصير إليه ؛ لما علم من امتناع ترك القاطع بالمظنون ، وكلامنا في الخبر الغير المحفوف. «وأما عن الثاني» : فيمنع أن يكون النسخ كالتخصيص ؛ لأن التخصيص بيان وجمع للدّليلين ، والنسخ إبطال ورفع ، على أن هذا الدليل لو سلّمناه ، فغاية ما يلزم منه الجواز لا الوقوع ، والنّزاع إنما هو في الثاني دون الأول.

«وأما عن الثالث» : فلا نسخ ؛ إذ المعنى في الآية : لا أجد الآن ؛ لأن المضارع ظاهر في الحال ، ولو سلّم الارتفاع ، فيكون للإباحة الأصلية ؛ لأن عدم الوجدان يوجب إباحة أصلية ، ورفعها ليس بنسخ واحتجّ النافون بالمعقول والمنقول : «أما المعقول» : فلأن الآحاد لا يقوى على رفع المتواتر ؛ لأن الأول ظني ، والثاني قطعي ، وحيث لا مساواة فلا نسخ ؛ لعدم التعارض.

«وأما المنقول» : فما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ أنه قال : «لا ندع كتاب ربّنا وسنّة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت» وأيضا : ما روي عن علي رضي الله عنه ؛ أنه قال : «لا ندع كتاب ربّنا وسنة نبينا بقول أعرابي بوّال على عقبيه» ووجه الاحتجاج بقول هذين الصاحبين : أنّهما لم يعملا بخبر الواحد ، ولم يحكما به على القرآن ، وما ثبت من السّنّة تواترا.

ينظر : البحر المحيط للزركشي ٤ / ١٠٩ ، البرهان لإمام الحرمين ٢ / ١٣٠٧ ، سلاسل الذهب للزركشي ٣٠٢ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٣ / ١٣٩ ، نهاية السول للإسنوي ٢ / ٥٧٨ ، منهاج العقول للبدخشي ٢ / ٢٥٢ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ٨٨ ، التحصيل من المحصول للأرموي ٢ / ٢٣ ، المنخول للغزالي ٢٩٢ ، المستصفى له ١٢٤ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ٣ / ١٣٩ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ٢ / ١١١ ، المعتمد لأبي الحسين ١ / ٣٩٢ ، إحكام الفصول في إحكام الأصول للباجي ٤١٨ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٤ / ٥٠٥ ، التحرير لابن الهمام ٢٨٨ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ٢ / ٣٦ ، ميزان الأصول للسمرقندي ٢ / ١٠٠٦ ، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج ٣ / ٦٠.

٢٤٢

وقال قوم : نسخت بدليل قياسيّ ، وهو أن نقول : هذه الوصية ، لو كانت واجبة ، لكانت ، إذا لم توجد هذه الوصيّة ، يجب ألّا يسقط حقّ هؤلاء الأقربين ، وقد رأيناهم سقطوا لقوله تعالى في آية المواريث (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) [النساء : ١٢] فظاهره يقتضي أنه إذا لم يكن وصيّة أو دين ، فالمال أجمع للوارث.

ولقائل أن يقول : نسخ القرآن بالقياس غير جائز.

قال القرطبيّ (١) : قوله تعالى «حقّا» أي : ثابتا ثبوت نظر ، وتحصين ، لا ثبوت فرض ووجوب ؛ بدليل قوله : (عَلَى الْمُتَّقِينَ) وهذا يدل على كونه مندوبا ؛ لأنه لو كان فرضا ، لكان على جميع المسلمين ، فلما خصّ الله تعالى المتّقي ، وهو من يخاف التّقصير ، دلّ على أنه غير لازم لغيره.

فصل «في حقّ من نسخت الآية»

قال أكثر المفسرين إنها نسخت في حقّ من يرث ومن لا يرث.

وقال بعض المفسّرين من الفقهاء : إنّها نسخت في حقّ من يرث ، وثابتة في حقّ من لا يرث ، وهو مذهب ابن عبّاس والحسن ، ومسروق ، وطاوس ، والضّحّاك ، ومسلم بن يسار ، والعلاء بن زياد.

قال طاوس : إن من أوصى للأجانب ، وترك الأقارب ، نزع منهم ، وردّ إلى الأقارب ؛ لوجوب الوصيّة عند هؤلاء ، والباقي للقريب الذي ليس بوارث.

واستدلّوا بأنّ هذه الآية دالّة على وجوب الوصيّة للقريب ، سواء كان وارثا ، أو غير وارث ، ترك العمل به في حقّ القريب الوارث ، إما بآية المواريث ، أو بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا وصيّة لوارث» (٢) ، وهاهنا الإجماع غير موجود ، لأن الخلاف فيه قديم وحديث ؛ فوجب أن تبقى الآية دالّة على وجوب الوصيّة للقريب الذي ليس بوارث.

واستدلوا أيضا بقوله ـ عليه‌السلام ـ : «ما حقّ امرىء مسلم له ملك يبيت ليلتين ، إلّا ووصيّته مكتوبة عنده» (٣) وقد أجمعنا على أن الوصيّة غير واجبة لغير الأقارب ؛ فوجب أن تكون هذه الوصيّة واجبة للأقارب ، فأمّا الجمهور ، فأجود ما استدلّوا به على أنها منسوخة في حقّ الكلّ قوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ) [النساء : ١٢] وقد ذكرنا تقريره.

قوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١٨١)

يجوز في «من» أن تكون شرطيّة وموصولة ، والفاء : إمّا واجبة ، إن كانت شرطا ، وإمّا جائزة ، إن كانت موصولة ، والهاء في «بدّله» يجوز أن تعود على الوصيّة ، وإن كان

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٧٩.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

٢٤٣

بلفظ المؤنّث ؛ لأنّها في معنى المذكّر ، وهو الإيصاء ؛ كقوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) [البقرة : ٢٧٥] أي وعظ ، أو تعود على نفس الإيصاء المدلول عليه بالوصيّة ، إلّا أنّ اعتبار المذكّر في المؤنّث قليل ، وإن كان مجازيّا ؛ ألا ترى أنه لا فرق بين قولك : «هند خرجت ، والشّمس طلعت» ، ولا يجوز : «الشّمس طلع» كما لا يجوز : «هند خرج» إلا في ضرورة.

وقيل : تعود على الأمر ، والفرض الذي أمر الله به وفرضه.

وقيل : تعود إلى معنى الوصيّة ، وهو قول ، أو فعل ، وكذلك الضّمير في «سمعه» والضّمير في «إثمه» يعود على الإيصاء المبدّل ، أو التّبديل المفهوم من قوله : «بدّله» ، وقد راعى المعنى في قوله : «على الّذين يبدّلونه» ؛ إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول ، لقال : «فإنّما إثمه عليه ، أو على الذي يبدّله» ، وقيل : الضّمير في «بدّله» يعود على الكتب ، أو الحقّ ، أو المعروف ، فهذه ستّة أقوال ، و «ما» في قوله : «بعدما سمعه» يجوز أن تكون مصدريّة ، أي : بعد سماعه ، وأن تكون موصولة بمعنى «الذي» ، فالهاء في «سمعه» على الأول تعود على ما عاد عليه الهاء في «بدّله» ؛ وعلى الثاني : تعود على الموصول ، أي : «بعد الّذي سمعه من أوامر الله».

فصل في بيان المبدّل

في المبدّل قولان :

أحدهما : أنه الوصيّ ، أو الشاهد ، أو سائر النّاس.

أما الوصيّ : فبأن يغيّر الموصى به : إمّا في الكتابة ، أو في قسمة الحقوق ، وأمّا الشاهد : فبأن يغيّر شهادته ، أو يكتمها ، وأما غير الوصي والشاهد ؛ فبأن يمنعوا من وصول ذلك المال إلى مستحقّه ، فهؤلاء كلّهم داخلون تحت قوله : «فمن بدّله».

الثاني : أن المبدّل هو الموصي ، نهي عن تغيير الوصيّة عن مواضعها التي بيّن الله تعالى الوصية إليها ؛ وذلك أنا بيّنّا أنهم كانوا في الجاهليّة يوصون للأجانب ، ويتركون الأقارب في الجوع والضّر ، فأمرهم الله تعالى بالوصيّة إلى الأقربين ، ثم زجر بقوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي : من أعرض عن هذا التّكليف ، وقوله : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، أي : سميع لما أوصى به الموصي ، عليم بنيّته ، لا تخفى عليه خافية من التّغيير الواقع فيها.

فصل في تبديل الوصيّة بما لا يجوز

قال القرطبيّ (١) : لا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز ؛ مثل : أن يوصي بخمر ، أو

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٨٠.

٢٤٤

خنزير ، أو شيء من المعاصي ، فإنه لا يجوز إمضاؤه ، ويجوز تبديله.

قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٨٢)

يجوز في «من» الوجهان الجائزان في «من» قبلها ، والفاء في «فلا إثم» هي جواب شرط ، أو الدّاخلة في الخبر.

و «من موص» يجوز فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون متعلّقة ب «خاف» على أنها لابتداء الغاية.

الثاني : أن تتعلّق بمحذوف على أنها حال من «جنفا» ، قدمت عليه ؛ لأنها كانت في الأصل صفة له ، فلما تقدّمت ، نصبت حالا ، ونظيره : «أخذت من زيد مالا» ، إن شئت ، علّقت «من زيد» ب «أخذت» ، وإن شئت ، جعلته حالا من «مالا» ؛ لأنه صفته في الأصل.

الثالث : أن تكون لبيان جنس الجانفين ، وتتعلّق أيضا ب «خاف» فعلى القولين الأولين : لا يكون الجانف من الموصين ، بل غيرهم ، وعلى الثالث : يكون من الموصين ، وقرأ أبو بكر (١) ، وحمزة والكسائي ، ويعقوب «موصّ» بتشديد الصّاد ؛ كقوله : (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] و (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) [لقمان : ١٤] والباقون بتخفيفها ، وهما لغتان ؛ من «أوصى» ، و «وصّى» ؛ كما قدّمنا ، إلا أن حمزة ، والكسائيّ ، وأبا بكر من جملة من قرأ (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ) [البقرة : ١٣٢] ونافعا ، وابن عامر يقرءان «أوصى» بالهمزة ، فلو لم تكن القراءة سنّة متبعة لا تجوز بالرّأي ، لكان قياس قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، وحفص هناك : «ووصّى» بالتضعيف ـ أن يقرءوا هنا «موصّ» بالتّضعيف أيضا ، وأمّا نافع ، وابن عامر ، فإنهما قرءا هنا : «موص» مخفّفا ؛ على قياس قراءتهما هناك ، و «أوصى» على «أفعل» وكذلك حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر قرءوا : «ووصّى» ـ هناك بالتضعيف ؛ على القياس.

و «الخوف» هنا بمعنى الخشية ، وهو الأصل.

فإن قيل : الخوف إنما يصحّ في أمر سيصير ، والوصيّة وقعت ، فكيف يمكن تعليقها بالخوف؟!

والجواب من وجوه :

أحدها : أن المراد منه أن المصلح ، إذا شاهد الموصي ، يوصي ، وظهر منه أمارة

__________________

(١) انظر : السبعة ١٧٥ ـ ١٧٦ ، والحجة ٢ / ٢٧١ ، وحجة القراءات ١٢٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ٩١ ، والعنوان ٧٣ ، وشرح شعلة ٢٨٤ ، وإتحاف ١ / ٤٣٠.

٢٤٥

الحيف ، عن طريق الحقّ مع ضرب من الجهالة ، أو مع التأويل ، أو شاهد من التّعمّد في الميل ، فعند ظهور الأمارة قبل تحقيق الوصيّة ، يأخذ في الإصلاح ؛ لأنّ إصلاح الأمر عند ظهور أمارات فساده ، وقبل تقرير فساده يكون أسهل ؛ فلذلك علّقه ـ تعالى ـ بالخوف دون العلم.

الثاني : الموصي له الرجوع عن الوصيّة ، وفسخها ، وتغييرها بالزّيادة والنّقصان ، ما لم يمت ، وإذا كان كذلك ، لم يصر الجنف والإثم معلومين ؛ فلذلك علّقه بالخوف.

الثالث : يجوز أن يصلح الورثة والموصى له بعد الموت على ترك الميل والجنف ، وإذا كان ذلك منتظرا ، لم يكن الجنف ، والإثم مستقرّا ؛ فصحّ تعليقه بالخوف.

وقيل : [الخوف] بمعنى العلم ، وهو مجاز ، والعلاقة بينهما هو أنّ الإنسان لا يخاف شيئا ؛ حتى يعلم أنه ممّا يخاف منه ، فهو من باب التعبير عن السّبب بالمسبّب ؛ ومن مجيء الخوف بمعنى العلم قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩] ، وقول أبي محجن الثقفيّ : [الطويل]

٩٢٣ ـ إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمة

تروّي عظامي في الممات عروقها

ولا تدفننّي في الفلاة فإنّني

أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها (١)

فعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة أن الميّت إذا أخطأ في وصيّته ، أو جنف فيها متعمّدا ، فلا حرج على من علم ذلك أن يغيّره ، بعد موته ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والرّبيع (٢) ، وأصل «خاف» «خوف» تحرّكت الواو وانفتح ما قبلها ؛ فقلبت ألفا ، وأهل الكوفة يميلون هذه الألف.

و «الجنف» فيه قولان :

أحدهما : الميل ؛ قال الأعشى : [الطويل]

٩٢٤ ـ تجانف عن حجر اليمامة ناقتي

وما قصدت من أهلها لسوائكا (٣)

وقال آخر : [الوافر]

__________________

(١) البيتان في : ديوانه ص ٤٨ ، والأزهية ص ٦٧ ، وخزانة الأدب ٨ / ٣٩٨ ، ٤٠٢ ، والدرر ٤ / ٥٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٠١ ، والشعر والشعراء ١ / ٤٣١ ، ولسان العرب (فنع) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٨٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٥٢ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٠ ، والدر المصون ١ / ٤٥٨.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥٧.

(٣) ينظر ديوانه ص ١٣٩ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٣٥ ، ٤٣٨ ، ٤٤١ ، والدرر ٣ / ٩٤ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٣٧ ، والكتاب ١ / ٣٢ ، ٤٠٨ ، ولسان العرب (جنف) ، (سوا) والأضداد ص ٤٤ ، ١٩٨ ، والأشباه والنظائر ٥ / ١٦٤ ، والمحتسب ٢ / ١٥٠ ، والمقتضب ٤ / ٣٤٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٠٢ ، والدر المصون ١ / ٤٥٨.

٢٤٦

٩٢٥ ـ هم المولى وإن جنفوا علينا

وإنّا من لقائهم لزور (١)

قال أبو عبيدة : المولى هاهنا في موضع الموالي ، أي : ابن العمّ ؛ لقوله تعالى : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧] ، وقيل : هو الجسور.

قال القائل : [الكامل]

٩٢٦ ـ إنّي امرؤ منعت أرومة عامر

ضيمي وقد جنفت عليّ خصوم (٢)

يقال : جنف بكسر النّون ، يجنف ، بفتحها ، فهو جنف ، وجانف ، وأجنف : جاء بالجنف ، ك «ألأم» أي : أتى بما يلام عليه.

والفرق بين الجنف والإثم : أن الجنف هو الميل مع الخطأ ، والإثم : هو العمد.

فصل في سوء الخاتمة بالمضارة في الوصيّة

روي عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الرّجل ، أو المرأة ، ليعمل بطاعة الله سبعين سنة ، ثمّ يحضرهما الموت ، فيضارّان في الوصيّة ؛ فتجب لهما النّار» (٣) ، ثم قرأ أبو هريرة : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) إلى قوله : (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً) [النساء : ١٢].

فصل

والضمير في «بينهم» عائد على الموصي ، والورثة ، أو على الموصى لهم ، أو على الورثة والموصى لهم ، والظاهر عوده على الموصى لهم ، إذ يدلّ على ذلك لفظ «الموصي» ، وهو نظير «وأداء إليه» في أنّ الضّمير يعود للعافي ؛ لاستلزام «عفي» له ؛ ومثله ما أنشد الفراء : [الوافر]

٩٢٧ ـ وما أدري إذا يمّمت أرضا

أريد الخير أيّهما يليني (٤)

فالضمير في «أيّهما» يعود على الخير والشّرّ ، وإن لم يجر ذكر الشّرّ ، لدلالة ضده عليه ، والضمير في «عليه» وفي «خاف» وفي «أصلح» يعود على «من».

فصل في بيان المراد من المصلح

هذا المصلح [من هو؟] الظاهر أنه الوصي ، وقد يدخل تحته الشاهد ، وقد يكون

__________________

(١) البيت لعامر الخصفي رجل من خصفة بن قيس عيلان.

ينظر : مجاز القرآن (١ / ٦٦) ، الدر المصون ١ / ٤٥٨.

(٢) البيت للبيد. ينظر : البحر المحيط ١ / ٢٧٢ والدر المصون ١ / ٤٥٨.

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٦٢) وابن ماجه (٢٧٠٤) وأحمد (٢ / ٢٧٨) وعبد الرزاق (١٦٤٥٥) وذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٣٢) من حديث أبي هريرة.

(٤) البيت للمثقب العبدي. ينظر : ديوانه ٢ / ٢ وخزانة الأدب ١١ / ٨٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٩١ ، وشرح اختيارات المفضل ص ١٢٦٧ ، وخزانة الأدب ٦ / ٣٧ ، وتخليص الشواهد ص ١٤٥ ، والعمدة ٢ / ٢١٣ ، والدر المصون ١ / ٤٥٨ ، وتأويل المشكل ١٧ ، والبحر ٢ / ٢٨.

٢٤٧

المراد منه من يتولّى ذلك بعد موته ؛ من وال ، أو وليّ ، أو وصيّ ، أو من يأمر بمعروف ، فلا وجه للتخصيص ، بل الوصيّ أو الشاهد أولى بالدّخول ؛ لأن تعلقهم أشدّ ، وكيفيّة الإصلاح أن يزيل ما وقع فيه الجنف ، ويردّ كلّ حقّ إلى مستحقه.

قال القرطبيّ (١) : الخطاب في قوله : «فمن خاف من موص» لجميع المسلمين ، أي : إن خفتم من موص جنفا ، أي : ميلا في الوصيّة ، وعدولا عن الحقّ ، ووقوعا في إثم ، ولم يخرجها بالمعروف بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته ، أو لولد ابنته ؛ لينصرف المال إلى ابنته [أو إلى ابن ابنه ، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه ، أو أوصى لبعيد] ، وترك القريب ؛ فبادروا إلى السّعي في الإصلاح بينهم ، فإذا وقع الصّلح ، سقط الإثم عن المصلح ، والإصلاح فرض على الكفاية ، إذا قام أحدهم به ، سقط عن الباقين ، وإن لم يفعلوا ، أثم الكل.

فإن قيل : هذا الإصلاح طاعة عظيمة ، ويستحقّ الثّواب عليه ، فكيف عبّر عنه بقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)؟

فالجواب : من وجوه :

أحدها : أنه تعالى ، لما ذكر إثم المبدّل في أوّل الآية وهذا أيضا من التّبديل ، بيّن مخالفته للأوّل ، وأنه لا إثم عليه ؛ لأنّه ردّ الوصيّة إلى العدل.

وثانيها : أنه إذا أنقص الوصايا ، فذلك يصعب على الموصى لهم ، ويوهم أن فيه إثما ، فأزال ذلك الوهم ، فقال : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).

وثالثها : أن مخالفة الموصي في وصيّته ، وصرفها عمن أحبّ إلى من كره ؛ فإن ذلك يوهم القبح فبيّن تعالى أن ذلك حسن ؛ بقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).

ورابعها : أن الإصلاح بين جماعة يحتاج إلى إكثار من القول ، ويخاف أن يتخلّله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل ؛ فبيّن تعالى أنّه لا إثم عليه في هذا الجنس ، إذا كان قصده في الإصلاح جميلا.

فإن قيل : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إنما يليق بمن فعل فعلا لا يجوز ، وهذا الإصلاح من جملة الطّاعات ، فكيف يليق به هذا الكلام؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن هذا من باب التّنبيه بالأدنى على الأعلى ، فكأنه قال : أنا الذي أغفر للذّنوب ، ثم أرحم المذنب ؛ فبأن أوصل رحمتي وثوابي إليك ، مع أنك تحمّلت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهمّ كان أولى.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٨١.

٢٤٨

وثانيها : يحتمل أن يكون المراد : أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم ، متى أصلحت وصيّته ؛ فإن الله غفور رحيم يغفر له ، ويرحمه بفضله.

وثالثها : أن المصلح ، ربما احتاج في الإصلاح إلى أفعال وأقوال ، كان الأولى تركها ، فإذا علم الله تعالى منه أنّه ليس غرضه إلا الإصلاح ، فإنه لا يؤاخذه بها ؛ لأنه غفور رحيم.

فصل في أفضلية الصدقة حال الصحة

قال القرطبيّ (١) رحمه‌الله تعالى : والصّدقة في حال الصّحّة أفضل منها عند الموت ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقد سئل : أيّ الصدقة أفضل؟ فقال : «أن تصّدّق ، وأنت صحيح شحيح» (٢) ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لأن يتصدّق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدّق عند موته بمائة» (٣). وقال ـ عليه‌السلام ـ : «مثل الّذي ينفق ، ويتصدّق عند موته مثل الّذي يهدي بعد ما يشبع» (٤).

فصل

ومن لم يضرّ في وصيّته ، كانت كفّارة لما ترك من زكاته ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من حضرته الوفاة ، فأوصى ، فكانت وصيّته على كتاب الله ؛ كانت كفّارة لما ترك من زكاته»(٥).

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٨٢.

(٢) أخرجه البخاري (٥ / ٤٣٩ ـ ٤٤٠) كتاب الوصايا : باب الصدقة عند الموت حديث (٢٧٤٨) ومسلم (٢ / ٧١٦) كتاب الزكاة : باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح حديث (٩٢ ، ٩٣ / ١٠٣٢) والنسائي (٥ / ٦٨ ـ ٦٩) كتاب الزكاة : باب أي الصدقة أفضل (٢٥٤٢) وأبو داود (٢ / ١٢٦) كتاب الوصايا : باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية حديث (٢٨٦٥) وابن ماجه (٢٧٠٦) وأحمد (٢ / ٢٣١) والبيهقي (٤ / ١٩٠) من حديث أبي هريرة.

(٣) أخرجه أبو داود (٢ / ١٢٦) كتاب الوصايا : باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية حديث (٢٨٦٦) والدارمي (٢ / ٤١٣) وابن حبان (٨٢١ ـ موارد) من طريق شرحبيل بن سعد عن أبي سعيد الخدري به.

(٤) أخرجه أحمد (٥ / ١٩٧) والنسائي (٦ / ٢٣٨) كتاب الوصايا : باب الكراهية في تأخير الوصية وأبو داود (٢ / ٤٢٥) كتاب العتق : باب في فضل العتق في الصحة (٣٩٦٨) والترمذي كتاب الوصايا : باب ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت (٢١٢٤) والدارمي (٢ / ٤١٣) وابن حبان (١٢١٩ ـ موارد) من حديث أبي الدرداء. وقال الترمذي : حسن صحيح. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وابن حبان.

(٥) أخرجه ابن ماجه (٢ / ٩٠٢) كتاب الوصايا باب الجنف في الوصيّة (٢٠٧٥) والدارقطني (٤ / ١٤٩) والطبراني (١٩ / ٣٣) والخطيب في «تاريخ بغداد» (٨ / ٢٤٧) وابن الجوزي في «الموضوعات» (٣ / ٢٢١).

قال البوصيري في زوائد ابن ماجه (٢ / ٣٦٤) : هذا إسناد ضعيف بقية مدلس وشيخه مجهول.

وقال ابن الجوزي في الموضوعات (٣ / ٢٢١) : هذا حديث لا يصح والحديث ذكره ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (٢ / ٣٦٥) والقرطبي في «تفسيره» (٢ / ٢٧١).

٢٤٩

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «الإضرار في الوصيّة من الكبائر» (١) وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّ الرّجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستّين سنة ، ثمّ يحضرهما الموت ، فيضارّان في الوصيّة ، فتجب لهما النّار» (٢). وروى عمران بن حصين ، أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته ، لم يكن له مال غيرهم ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغضب من ذلك ، وقال : لقد هممت ألّا أصلي عليه [ثم دعا مملوكيه] ، فجزّأهم ثلاثا ، وأقرع بينهم ، وأعتق اثنين ، وأرقّ أربعة(٣).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٨٣)

«الصّيام» : مفعول لم يسمّ فاعله ، وقدّم عليه هذه الفضلة ، وإن كان الأصل تأخيرها عنه ؛ لأن البداءة بذكر المكتوب عليه آكد من ذكر المكتوب لتعلّق الكتب بمن يؤدي ، والصّيام مصدر صام يصوم صوما ، والأصل : «صواما» ، فأبدلت الواو ياء ، والصّوم مصدر أيضا ، وهذان البناءان ـ أعني : فعل وفعال ـ كثيران في كلّ فعل واويّ العين صحيح اللام ، وقد جاء منه شيء قليل على فعول ؛ قالوا : «غار غوورا» ، وإنما استكرهوه ؛ لاجتماع الواوين ، ولذلك همزه بعضهم ، فقال : «الغئور».

قال أبو العباس المقرىء : وقد ورد في القرآن «كتب» بإزاء أربعة معان :

الأول : بمعنى فرض ؛ قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) ، أي : فرض.

الثاني : بمعنى قضى ؛ قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] ، ومثله : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) [التوبة : ٥١].

الثالث : بمعنى جعل ؛ قال تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٢١] ، أي : جعل لكم ، ومثله : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] ، أي : جعل.

الرابع : بمعنى أمر ؛ قال تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] ، أي : أمرناهم.

والصيام لغة : الإمساك عن الشيء مطلقا ، ومنه صامت الرّيح : أمسكت عن

__________________

(١) أخرجه الدارقطني (٤ / ١٥١) والعقيلي في «الضعفاء» (٣ / ١٨٩) والحديث ذكره ابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٢٠٢ ، ٢٤٤) وكذلك ذكره الذهبي في «الميزان» (٦٢٢١).

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه النسائي (٤ / ٦٤) كتاب الجنائز باب الصلاة على من يحيف في وصيته رقم (١٩٥٨) وأحمد (٤ / ٤٣١) وسعيد بن منصور (٤٠٨ ، ٤٠٩ ، ٤١٠) والطحاوي في «مشكل الآثار» (١ / ٣١٨) والطبراني في «الكبير» (١٨ / ١٧٩) وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ٦٠) عن عمران بن حصين.

٢٥٠

الهبوب ، والفرس : أمسكت عن العدو ؛ قال : [البسيط]

٩٢٨ ـ وخيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج وأخرى تعلك اللّجما (١)

وقال تعالى : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) [مريم : ٢٦] ، أي : سكوتا ؛ لقوله : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ٢٦] وصام النهار ، اشتدّ حرّه ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٩٢٩ ـ فدعها وسلّ الهمّ عنها بجسرة

ذمول إذا صام النّهار وهجّرا (٢)

وقال : [الرجز]

٩٣٠ ـ حتّى إذا صام النّهار واعتدل

ومال للشّمس لعاب فنزل (٣)

كأنهم توهّموا ذلك الوقت إمساك الشمس عن المسير ، ومصام النّجوم : إمساكها عن السّير (٤) ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٩٣١ ـ كأنّ الثّريّا علّقت في مصامها

بأمراس كتّان إلى صمّ جندل (٤)

ويقال : بكرة صائمة ، إذا قامت فلم تدر.

قال الراجز : [الرجز]

٩٣٢ ـ والبكرات شرّهنّ الصّائمه (٥)

وفي الشّريعة : هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات ؛ حال العلم بكونه صائما ، [مع اقترانه بالنّيّة].

قوله : «كما كتب» فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن محلّها النصب على نعت مصدر محذوف ، أي : كتب كتبا ؛ مثل ما كتب.

الثاني : أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة ، أي : كتب عليكم الصّيام الكتب مشبها ما كتب ، و «ما» على هذين الوجهين مصدرية.

الثالث : أن يكون نعتا لمصدر من لفظ الصيام ، أي : صوما مثل ما كتب ، ف «ما» على هذا الوجه بمعنى «الذي» ، أي : صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم ، و «صوما» هنا مصدر مؤكّد في المعنى ؛ لأن الصّيام بمعنى : «أن تصوموا صوما» قاله أبو البقاء (٦) ـ رحمه‌الله ـ ، وفيه أن المصدر المؤكّد يوصف ، وقد تقدّم منعه عند قوله تعالى :

__________________

(١) البيت للنابغة. ينظر : ديوانه (١١٢) واللسان «صوم» والدر المصون ١ / ٤٥٩.

(٢) ينظر : اللسان (صوم) والبحر المحيط ٢ / ٣٠.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٠ ، والدر المصون ١ / ٤٥٩.

(٤) ينظر : ديوانه (١١٧) والدر المصون ١ / ٤٥٩ ، واللسان (صوم) والبحر المحيط ٢ / ٣٠.

(٤) ينظر : ديوانه (١١٧) والدر المصون ١ / ٤٥٩ ، واللسان (صوم) والبحر المحيط ٢ / ٣٠.

(٥) البيت لساعدة بن جؤيّة. ينظر : اللسان (صوم) والبحر المحيط ٢ / ٣٠.

(٦) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٨٠.

٢٥١

(بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) قال أبو حيّان (١) ـ بعد أن حكى هذا عن ابن عطية ـ : وهذا فيه بعد ؛ لأنّ تشبيه الصّوم بالكتابة لا يصحّ ، [هذا إن كانت «ما» مصدريّة ، وأمّا إن كانت موصولة ، ففيه أيضا بعد ؛ لأنّ تشبيه الصّوم بالصّوم لا يصحّ](٢) ، إلا على تأويل بعيد.

الرابع : أن يكون في محل نصب على الحال من «الصّيام» وتكون «ما» موصولة ، أي : مشبها الذي كتب ، والعامل فيها «كتب» ؛ لأنّه عامل في صاحبها.

الخامس : أن يكون في محلّ رفع ؛ لأنه صفة للصيام ، وهذا مردود بأن الجارّ والمجرور من قبيل النّكرات ، والصّيام معرفة ؛ فكيف توصف المعرفة بالنّكرة؟ وأجاب أبو البقاء (٣) عن ذلك ؛ بأن الصّيام غير معين ؛ كأنّه يعني أن «أل» فيه للجنس ، والمعرّف بأل الجنسيّة عندهم قريب من النّكرة ؛ ولذلك جاز أن يعتبر لفظه مرّة ، ومعناه أخرى ؛ قالوا : «أهلك النّاس الدّينار الحمر والدّرهم البيض» ، ومنه :

٩٣٣ ـ ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

فمضيت ثمّت قلت : لا يعنيني (٤)

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] وقد تقدّم الكلام على مثل قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] كيف وصل الموصول بهذا ؛ والجواب عنه في قوله : (خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١].

فصل في المراد بالتشبيه في الآية

في هذا التشبيه قولان :

أحدهما : أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم ، يعني : هذه العبادة كانت مكتوبة على الأنبياء والأمم من ولد آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى عهدكم لم تخل أمّة من وجوبها عليهم.

وفائدة هذا الكلام : أنّ الشّيء الشاقّ إذا عمّ ، سهل عمله.

القول الثاني : أنه عائد إلى وقت الصّوم ، وإلى قدره ، وذكروا فيه وجوها :

أحدها : قال سعيد بن جبير «كان صوم من قبلنا من العتمة إلى اللّيلة القابلة ؛ كما كان في ابتداء الإسلام» (٥).

ثانيها : أن صوم رمضان كان واجبا على اليهود والنصارى ، أما اليهود فإنها تركته

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٦.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٨٠.

(٤) تقدم برقم ٧٥٧.

(٥) أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن جبير كما في «الدر المنثور» (١ / ٣٢٤).

٢٥٢

وصامت يوما في السّنة ، زعموا أنه يوم أن غرق فيه فرعون ، وكذبوا في ذلك أيضا ؛ لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وأما النصارى ، فإنهم صاموا رمضان زمانا طويلا ، فصادفوا فيه الحرّ الشديد ، فكان يشقّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم ، فاجتمع رأي علمائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السّنة بين الشّتاء والصّيف ، فجعلوه في الرّبيع ، وحوّلوه إلى وقت لا يتغيّر ، ثم قالوا عند التّحويل : زيدوا فيه عشرة أيّام كفّارة لما صنعوا ؛ فصار أربعين يوما ، ثم إنّ ملكا منهم اشتكى ، فجعل لله عليه ، إن برىء من وجعه : أن يزيد في صومهم أسبوعا ، فبرىء ، فزادوه ، ثمّ جاء بعد ذلك ملك آخر ؛ فقال : ما هذه الثلاثة ، فأتمّه خمسين يوما ، وهذا معنى قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ)(١) [التوبة : ٣١]. قاله الحسن.

وثالثها : قال مجاهد : أصابهم موتان ، فقالوا : زيدوا في صيامكم ، فزادوا عشرا قبل وعشرا بعد (٢).

ورابعها : قال الشعبي : إنهم (٣) أخذوا بالوثيقة ، وصاموا قبل الثلاثين يوما ، وبعدها يوما ، ثم لم يزل الأخير يستسن بالقرن الذي قبله ، حتى صاروا إلى خمسين يوما ، ولهذا كرّه صوم يوم الشّكّ (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٤١١) عن السدي.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٤١٠) عن الشعبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٢٢ ، ٣٢٣) وتفسير البغوي ١ / ١٤٩.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٦٠.

(٤) صوم يوم الشّكّ ، وهو يوم الثلاثين من شعبان ، إذا تحدّث الناس برؤية الهلال ، ولم يشهد بها أحد ، أو شهد بها جمع لا يعتدّ بشهادتهم ؛ كالصبيان والنساء ، والعبيد ، ولا بدّ أن يكون صدقهم محتملا ، أمّا إذا لم يكن محتملا ـ بأن أطبق الناس على كذبهم ـ ، فلا يكون يوم شكّ ، بل هو من شعبان ، وكذا إن لم يتحدث برؤيته ، ولم يشهد بها أحد ، أو شهد بها واحد ممّن ذكر سابقا ، فلا يكون اليوم يوم شك ، بل هو من شعبان ، وإن أطبق الغيم ؛ لخبر : فإن غم عليكم ، فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين يوما.

ويدل على كراهته كراهة تحريم : ما روي عن عمار بن ياسر ؛ أنه قال : من صام يوم الشّكّ فقد عصى أبا القاسم. ومحلّ كراهة صومه ؛ إذا لم يكن له سبب يقتضيه ، أما إذا كان له سبب يقتضي صومه ، فلا كراهة.

ومن الأسباب التي تقتضي صومه : أن يوافق عادة له في تطوع ؛ كأن كان يصوم الاثنين والخمسين من كل أسبوع ، فوافق أحدهما يوم الشّكّ ، أو كان يصوم يوما ويفطر يوما ، فوافق يوم الشّكّ يوم صومه ؛ لخبر الصحيحين : «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين ، إلا رجل كان يصوم يوما فليصمه» كأن اعتاد صوم الدهر ، أو صوم يوم وإفطار يوم ، ومثل يوم الشّك في عدم جواز صومه إلا لسبب النصف الثاني من شعبان ، فإذا انتصف شعبان ، لا يجوز الصوم إلا إذا كان عن نذر ، أو كفارة ، أو قضاء.

أو كان يصوم يوما ويفطر يوما أو اعتاد صوم أيّام مخصوصة ؛ فله أن يصوم ما اعتاده ؛ والسّر في النهي عن صومه ؛ أن في إفطاره إبقاء قوة الجسم ، وحفظ قدرته على صوم رمضان.

ومحلّ عدم جواز صومه إذا لم يصله بما قبله ، أما إذا وصله بما قبله ولو بالخامس عشر ، فلا كراهة. ـ

٢٥٣

قال الشعبي : لو صمت السّنة كلّها ، لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ، فيقال : من شعبان ، ويقال : من رمضان (١).

وخامسها : أن وجه التّشبيه أن يحرم الطّعام والشّراب والجماع بعد اليوم ؛ كما كان قبل ذلك حراما على سائر الأمم ؛ لقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧]. فإن هذا يفيد نسخ هذا الحكم ، ولا دليل يدلّ عليه إلّا هذا التّشبيه ، وهو قوله : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ؛ فوجب أن يكون هذا التّشبيه دالّا على ثبوت هذا المعنى.

قال أصحاب القول الأول : إن تشبيه شيء بشيء لا يدلّ على مشابهتهما من كلّ الوجوه ، فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم : أن يكون صومهم مختصّا برمضان ، وأن يكون صومهم مقدّرا بثلاثين يوما ، ثم إنّ مثل هذه الرّواية مما ينفّر من قبول الإسلام ، إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يعني : بالصّوم ؛ لأنّ الصّوم وصلة إلى التّقوى ؛ لما فيه من قهر النّفس ، وكسر الشّهوات ، وقيل : لعلّكم تحذرون عن الشّهوات من الأكل ، والشّرب ، والجماع ، وقيل : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إهمالها ، وترك المحافظة عليها ، بسبب عظم درجتها ، وقيل: لعلّكم تكونون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين ، لأن الصوم شعارهم.

قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٤)

في نصب أيّاما أربعة أوجه :

أظهرها : أنّه منصوب بعامل مقدّر يدلّ عليه سياق الكلام ، تقديره صوموا أيّاما ويحتمل النّصب وجهين : إما الظرفيّة ، وإما المفعول به ، اتّساعا.

الثاني : أنّه منصوب بالصيام ، ولم يذكر الزّمخشري غيره ؛ ونظّره بقولك «نويت الخروج يوم الجمعة» ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنّه يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبيّ ، وهو قوله «كما كتب» ؛ لأنّه ليس معمولا للمصدر على أيّ تقديره قدّرته.

فإن قيل : يجعل «كما كتب» صفة للصّيام ، وذلك على رأي من يجيز وصف المعرّف «بأل» الجنسيّة بما يجرى مجرى النّكرة ، فلا يكون أجنبيّا.

قيل : يلزم من ذلك وصف المصدر قبل ذكر معموله ، وهو ممتنع.

__________________

ـ ويكره تحريما تطوّع امرأة لم يأذن لها زوجها الحاضر في الصوم ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يحلّ لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه.

(١) ذكره الرازي في تفسيره ٥ / ٦٠.

٢٥٤

الثالث : أنه منصوب بالصّيام على أن تقدّر الكاف نعتا لمصدر من الصّيام ؛ كما قد قال به بعضهم ، وإن كان ضعيفا ؛ فيكون التّقدير : «الصّيام صوما ؛ كما كتب» ؛ فجاز أن يعمل في «أيّاما» «الصّيام» ؛ لأنه إذ ذاك عامل في «صوما» الذي هو موصوف ب «كما كتب» ، فلا يقع الفصل بينهما بأجنبيّ ، بل بمعمول المصدر.

الرابع : أن ينتصب ب «كتب» إمّا على الظّرف ، وإمّا على المفعول به توسّعا ، وإليه نحا الفرّاء (١) ، وتبعه على ذلك أبو البقاء (٢).

قال أبو حيّان (٣) : وكلا القولين خطأ : أمّا النّصب على الظرفيّة ، فإنّه محلّ للفعل ، والكتابة ليست واقعة في الأيّام ، لكنّ متعلّقها هو الواقع في الأيّام ، وأمّا [النّصب على المفعول اتساعا ، فإنّ ذلك مبنيّ على كونه ظرفا ل «كتب» ، وقد تقدّم أنّه خطأ ، وقيل : نصب على](٤) التّفسير.

و «معدودات» صفة ، وجمع صفة ما لا يعقل بالألف والتّاء مطّرد ؛ نحو هذا ، وقوله : «جبال راسيات» ، و «أيّام معلومات».

فصل في اختلافهم في المراد بالأيّام

اختلفوا في هذه الأيام على قولين :

أحدهما : أنها غير رمضان ، قاله معاذ ، وقتادة ، وعطاء ، ورواه عن ابن عبّاس ، ثم اختلف هؤلاء : فقيل ثلاثة أيّام من كلّ شهر (٥) ، وصوم يوم عاشوراء ، قاله قتادة ، ثمّ اختلفوا أيضا : هل كان تطوعا أو مرضا ، واتفقوا على أنّه منسوخ برمضان.

واحتجّ القائلون بأنّ المراد بهذه الأيّام غير رمضان بوجوه :

أحدها : قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّ صوم رمضان نسخ كلّ صوم» (٦) فدلّ هذا على أنّ قبل رمضان كان صوما آخر واجبا.

وثانيها : أنّه تعالى ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية ، ثم ذكر حكمها أيضا في الآية الّتي بعدها الدالّة على صوم رمضان ، فلو كان هذا الصّوم هو صوم رمضان ، لكان ذلك تكريرا محضا من غير فائدة ، وهو لا يجوز.

وثالثها : قوله تعالى هنا (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) [البقرة : ١٨٤] تدلّ على أنّ

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١١٢.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ٣١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٨.

(٤) سقط في ب.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٤١٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١٠ / ٣٢٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٦) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٥ / ٦١). وذكر السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٢٣) أثرا أخرجه سعيد بن منصور عن أبي جعفر قال : نسخ شهر رمضان كل صوم.

٢٥٥

هذا واجب على التخيير ، إن شاء صام ، وإن شاء أعطى الفدية ، وأما صوم رمضان ، فواجب على التعيين ؛ فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان.

القول الثاني وهو اختيار المحقّقين ، وبه قال ابن عبّاس ، والحسن ، وأبو مسلم أن المراد بهذه الأيّام المعدودات هو صوم رمضان ، لأنّه قال في أوّل الآية الكريمة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) وهذا محتمل ليوم ويومين ، وأيّام ، ثم بينه بقوله (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فزال بعض الاحتمال ، ثم بيّنه بقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] فعلى هذا التّرتيب يمكن أن نجعل الأيّام المعدودات بعينها صوم رمضان ، وإذا أمكن ذلك ، فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النّسخ فيه ؛ لأنّ كل ذلك زيادة لا يدلّ عليها اللّفظ ، وأمّا تمسّكهم بقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «صوم رمضان نسخ كلّ صوم» ، فليس فيه أنّه نسخ عنه ، وعن أمّته كلّ صوم ، بل يجوز أنّه نسخ كلّ صوم وجب في الشّرائع المتقدّمة ؛ فكما يصحّ أن يكون بعض شرعه ناسخا للبعض ، فيجوز أن يكون شرعه ناسخا لشرع غيره.

سلّمنا أنّ صوم رمضان نسخ صوما ثبت في شرعه ، فلم لا يجوز أن يكون نسخ صوما وجب غير هذه الأيام.

وأمّا تمسّكهم بحكم المريض والمسافر وتكرّره فجوابه : أنّ صوم رمضان كان في ابتداء الإسلام غير واجب ، وكان التّخيير فيه ثابتا بين الصّيام والفدية ، فلّما رخص للمسافر الفطر ، كان من الجائز أن يصير الواجب عليه الفدية ، ويجوز أن لا فدية عليه ، ولا قضاء ؛ للمشقّة. وإذا كان ذلك جائزا ، بيّن تعالى أنّ إفطار المسافر والمريض في الحكم خلاف [التخيير في المقيم ؛ فإنّه يجب عليهما القضاء من عدّة أيّام أخر ، فلما نسخ الله تعالى ذلك التّخيير عن](١) المقيم الصّحيح ، وألزمه الصّوم حتما ، كان من الجائز أن يظن أنّ حكم الصّوم ، كمّا انتقل عن التخيير إلى التّضييق في حقّ المقيم الصّحيح أن يتغيّر حكم المريض والمسافر عن حكم الصّحيح ، كما كان قبل النّسخ ، فبيّن تعالى في الآية الثّانية : أنّ حال (٢) المريض والمسافر كحالها الأولى لم يتغيّر بالنّسخ في حق المقيم الصّحيح ، فهذه هي الفائدة في الإعادة ، وإنّما تمسّكهم بأنّ صوم هذه الأيّام على التّخير وصوم رمضان واجب على التّعيين ، فتقدّم جوابه من أنّ رمضان كان واجبا مخيّرا ، ثم

صار معّينا ، وعلى كلا القولين ، فلا بدّ من تطرّق النسخ إلى الأيّام أمّا على القول الأوّل فظاهر ، وأما على الثاني : فلأنّ هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجبا مخيّرا ، والآية الكريمة التي بعدها تدلّ على التّضييق ؛ فكانت ناسخة للأولى.

فإن قيل : كيف يصحّ أن يكون قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : إدخال.

٢٥٦

١٨٥] ناسخا للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصحّ.

والجواب : أنّ الاتّصال في التّلاوة لا يوجب الاتّصال في النّزول ؛ وهذا كما قيل في عدّة المتوفّى عنها زوجها ؛ أنّ المقدّم في التلاوة هو النّاسخ والمنسوخ متأخّر ، وهذا عكس ما يجب أن يكون عليه حال النّاسخ والمنسوخ ، فقالوا : إنّ ذلك في التّلاوة ، أمّا في الإنزال ، فكان الاعتداد بالحول هو المتقدّم ، والآية الدّالّة على أربعة أشهر وعشر هي المتأخّرة ، وكذلك في القرآن آيات كثيرة مكّيّة متأخّرة في التّلاوة عن الآيات المدنيّة ، والله أعلم.

فصل في أول ما نسخ بعد الهجرة

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أوّل ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة والصّوم ، ويقال نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام ، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهليّة ، وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يصومه في الجاهليّة فلمّا قدم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المدينة ، صامه ، وأمر بصيامه ، فلمّا فرض رمضان كان هو الفريضة ، وترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه (١).

فصل في المراد بقوله «معدودات»

في قوله تعالى : (مَعْدُوداتٍ) وجهان :

أحدهما : أنها مقدّرات بعدد معلوم.

والثاني : قلائل ؛ كقوله تعالى : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف : ٢٠].

وقوله : (فَمَنْ كانَ [مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

فالمراد أنّ فرض الصّوم في الأيّام المعدودات ، إنما يلزم الأصحّاء المقيمين ، فأمّا من كان](٢) مسافرا ، أو مريضا ، فله تأخير الصّوم عن هذه الأيّام إلى أيّام أخر.

قال القفّال رحمه‌الله (٣) : انظروا إلى عجيب ما نبّه الله تعالى من سعة فضله ورحمته في هذا التّكليف ، وأنّه تعالى بيّن في أوّل الآية أن لهذه الأمّة في هذا التكليف أسوة بالأمم المتقدّمة ، والغرض منه ما ذكرناه من أنّ الأمر الشّاقّ ، إذا عمّ خفّ ، ثم بيّن ثانيا وجه الحكمة في إيجاب الصّوم ، وهو أنّه سبب لحصول التّقوى ، ثمّ بيّن ثالثا : أنّه

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٩٥) كتاب الصوم باب صيام يوم عاشوراء (٢٠٠٢) و (٦ / ٥٤) كتاب التفسير باب تفسير سورة البقرة (٤٥٠٤) ومسلم كتاب الصوم باب ١٩ ، رقم (١١٨) وأبو داود (١ / ٤٧٢) كتاب الصيام باب في صوم يوم عاشوراء (٢٤٤٢).

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٦٣.

٢٥٧

مختصّ بأيّام معدودات ، فلو جعله أبدا ، أو في أكثر الأوقات ، لحصلت المشقّة العظيمة ، ثمّ بيّن رابعا : أنه خصّه من الأوقات بالشّهر الذي أنزل فيه القرآن ؛ لكونه أشرف الشّهور ؛ بسبب هذه الفضيلة ؛ ثم بيّن خامسا : إزالة المشقّة في إلزامه ، فأباح تأخيره لمن به مرض ، أو سفر إلى أن يصير إلى الرّفاهية والسّكون ، فراعى سبحانه وتعالى في إيجاب هذا الصّوم هذه الوجوه من الرحمة ، فله الحمد على نعمه.

قوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً :) فيه معنى الشّرط والجزاء ، أي : من يكن مريضا ، أو مسافرا ، فأفطر ، فليقض ، وإذا قدّرت فيه الشّرط ، كان المراد بقوله : كان الاستقبال لا الماضي ؛ كما تقول : من أتاني ، أتيته.

قوله : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) في محلّ نصب ؛ عطفا على خبر كان ، و «أو» هنا للتّنويع ، وعدل عن اسم الفاعل ، فلم يقل : أو مسافرا ، إشعارا بالاستعلاء على السّفر ، لما فيه من الاختيار للسفر ؛ بخلاف المرض ، فإنه قهريّ ،

فصل في المرض المبيح للفطر

اختلفوا في المرض المبيح للفطر ؛ فقال الحسن ، وابن سيرين : أيّ مرض كان ، وأيّ سفر كان (١) ؛ تنزيلا للّفظ المطلق على أقلّ الأحوال ، وروي أنّهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان ، وهو يأكل فاعتلّ بوجع أصبعه (٢) ، وقال الأصمّ ـ رحمه‌الله ـ : هذه الرخصة مختصّة بالمرض الّذي لو صام فيه ، لوقع في مشقّة ، ونزّل اللّفظ المطلق على أكمل أحواله.

وقال أكثر الفقهاء : المرض المبيح للفطر الّذي يؤدّي إلى ضرر في النفس ، أو زيادة في العلّة.

قالوا : وكيف يمكن أن يقال : كلّ مرض مرخّص ، مع علمنا أنّ في الأمراض ما ينقصه الصّوم (٣).

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٥ / ٦٣) عن الحسن وابن سيرين.

(٢) ذكره الفخر الرازي في «تفسيره» (٥ / ٦٣).

(٣) من شروط وجوب الصوم : القدرة على الصوم حسّا أو شرعا ، فلا يجب صوم رمضان على العاجز عن الصوم ، ثمّ إنّ العجز عن الصوم قسمان : شرعي ، وحسّي.

فالعجز الشرعيّ ما كان سببه الحيض والنفاس ، فلا يجب صوم رمضان على الحائض والنفساء ، وبل يحرم عليهما بالإجماع.

فإذا طهرت الحائض أو النفساء ، وجب عليهما القضاء ؛ دليل ذلك ما روي عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ؛ أنها قالت في الحيض كنّا نحيض عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثمّ نطهر فنؤمر بقضاء الصّوم ، ولا نؤمر بقضاء الصّلاة ، فوجب القضاء على الحائض بهذا الخبر ؛ ويقاس عليها النفساء ؛ لأنها في معناها.

ثمّ إن طهرتا في أثناء نهار رمضان ، استحبّ لهما إمساك بقية النهار ، ولا يلزمهما ذلك. ـ

٢٥٨

فصل في أصل السّفر واشتقاقه

أصل السّفر من الكشف ، وذلك أنه يكشف عن أحوال الرّجال وأخلاقهم ،

__________________

ـ وإنّما وجب عليهما قضاء الصّوم دون الصلاة ؛ للفرق بينهما ـ وهو أنّ الصّلاة تتكرر في اليوم خمس مرات ، بخلاف الصوم فإنّه شهر في السّنة.

وأمّا العجز الحسّي عن الصوم ، فهو ما لحق صاحبه مشقّة لا تحتمل عادة ، وله أسباب :

الأول : المرض : فيباح للمريض ترك صوم رمضان إذا كان يحصل له بسبب الصوم مشقة لا تحتمل عادة سواء كان هذا المرض يرجى زواله أم لا لقوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ؛ ولقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). ولا تتوقف إباحة الفطر للمريض على قول طبيب عدل بحصول المشقة المذكورة إذا صام ، بل يكفي أن يتضرّر المريض بالصّوم ، وأنه يدرك الألم الحاصل له بسبب الصوم ، ولا يلزم المريض تبييت النيّة ليلا إذا كان المرض الذي عنده مطبقا ، أي مستمرّا ليلا ونهارا أمّا إذا كان غير مطبق ، بأن كان متقطعا ؛ كالحمى الّتي توجد في وقت وتنقطع في وقت آخر ، فيفصل فيه ، فإن كان المرض غير موجود قبيل الفجر لزمه تبييت النيّة ؛ لاحتمال الشفاء ، وعدم عودة المرض ، ثمّ إن عاد المرض جاز له الفطر ، وإلّا فلا.

أمّا إذا كان المرض موجودا قبيل الفجر ، فلا يلزمه التبييت ، ويلزمه قضاء ما ترك.

ثم إذا أصبح الصحيح صائما ، ثمّ مرض في أثناء النهار ـ جاز له الفطر ، لأنه أبيح له الفطر للضرورة ، والضرورة موجودة.

الثاني : كبر السّنّ فلا يجب الصوم على كبير السن الذي يلحقه بسبب الصوم مشقة لا تحتمل عادة ، سواء كان الكبير رجلا أو امرأة ؛ لقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، والظّاهر أنّه لا يجب عليه تبييت النّيّة ؛ لأن عذره ـ وهو الكبر ـ دائم ، فلا يحتمل الزّوال.

الثالث : الاشتغال بعمل يشقّ معه الصوم مشقة لا تحتمل عادة ، فيباح الفطر للبنّائين ، والفعلة ، والخبّازين ، ومن ماثلهم من كلّ ذي عمل شاقّ ، وذكرا كان أو أنثى إلّا أنّه يلزمه تبييت النيّة لأنّ الأصل بقاء القدرة ، ثمّ إن لحقه بالنهار المشقة المذكورة ، أفطر ، وإلّا فلا ، ولا يجوز له ترك النّيّة ليلا.

الرابع : شدة الجوع والعطش ، فيباح الفطر لمن لحقه ذلك ، بل إذا غلبه الجوع أو العطش ، وخشي الهلاك ـ لزمه الفطر ، وإن كان صحيحا مقيما لقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) ، وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ويلزمه القضاء ؛ كالمريض.

قال الغزالي في «المستصفى» : من خاف الهلاك ؛ لترك الأكل ، حرم عليه الصوم ، وإن صام ، ففي انعقاده وجهان :

أصحهما : انعقاده مع الإثم.

الخامس : خوف المرضع حصول مشقة شديدة لها بسبب الصوم ، سواء كانت مستأجرة أو متبرعة وكما يباح الفطر للمرضعة ؛ لخوفها على نفسها من حصول المشقة المذكورة بسبب الصوم ، يباح لها الفطر أيضا ؛ لخوفها على رضيعها ؛ بأن تخاف قلّة اللّبن ، فيتضرّر الرضيع.

وسيأتي أنها إذا أفطرت لخوفها على نفسها ، ولو مع الرضيع ، لا يجب عليها إلّا القضاء فقط.

أمّا إذا خافت على رضيعها فقط ، وأفطرت ـ وجب عليها القضاء بدلا عن الصوم ، وفي الكفارة ثلاثة أوجه :

أحدها : وهو المتفق عليه من الأصحاب وجوبها ، وهي عبارة عن مدّ لكل يوم ، لقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ). ـ

٢٥٩

والمسفرة : المكنسة ؛ لأنّها تكشف التّراب عن الأرض ، والسّفير : الدّاخل بين اثنين للصلح ؛ لأنّه يكشف المكروه الّذي اتّصل بهما ، والمسفر المضيء ؛ لأنه قد انكشف وظهر ، ومنه : أسفر الصّبح ، والسّفر : الكتاب ؛ لأنه يكشف عن المعاني ببيانه. وسفرت المرأة عن وجهها ، إذا كشفت النقاب.

قال الأزهري : وسمّي المسافر مسافرا ؛ لكشف قناع الكنّ عن وجهه ، وبروزه إلى الأرض الفضاء ، وسمّي السّفر سفرا أيضا ؛ لأنّه يسفر عن وجوه المسافرين ، وأخلاقهم ، ويظهر ما كان خافيا منهم ، والله أعلم.

فصل في السفر المبيح للقصر والفطر

اختلفوا في السّفر المبيح للقصر والفطر بعد إجماعهم على سفر الطّاعة ؛ كالحجّ والجهاد ، ويتصل بهذين سفر صلة الرّحم ، وطلب المعاش الضروريّ ، وأمّا سفر التجارات والمباحات ، فمختلف فيه ، والأرجح الجواز ، وأمّا سفر المعاصي ؛ فمختلف فيه ، والمنع فيه أرجح.

فصل

قال القرطبيّ (١) : اتّفق العلماء على أنّ المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيّت الفطر ؛ لأنّ المسافر لا يكون مسافرا بالنّيّة (٢) ؛ بخلاف المقيم ، وإنما يكون مسافرا بالعمل ، والنّهوض ، والمقيم لا يفتقر إلى عمل ؛ لأنه إذا نوى الإقامة ، كان مقيما في الحين ؛ لأن الإقامة لا تفتقر إلى عمل ، فافترقا.

فصل في قدر السّفر المبيح للرّخص

اختلفوا في قدر السّفر المبيح للرّخص ، فقال داود : كلّ سفر ، ولو كان فرسخا ، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز (٣).

__________________

ـ الثاني : أن الكفارة مستحبّة غير واجبة وهو قول المزني ، لأنه إفطار بعذر ، فلم تجب فيه الكفارة ، كإفطار المريض.

الثالث : تجب على المرضع دون الحامل ؛ لأن الحامل أرضعت ؛ لمعنى فيها ، فهي كالمريضة ، والمرضع أفطرت ؛ لمنفصل عنها ، فوجب عليها الكفارة ، وحكم الحامل حكم المرضع فيما تقدم.

السّادس : إنقاذ حيوان محترم أشرف على الهلاك بسبب غرق أو نحوه ؛ كحرق ، أو هدم ، فيباح الفطر لمن ينقذ الحيوان المذكور ، إن لحقه بسبب الصّوم مشقّة شديدة ، حيث لا تحتمل عادة ؛ ومثل إنقاذ الحيوان إنقاذ المال.

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٨٦.

(٢) في ب : بالتبييت.

(٣) الحنفية يرون أن قصر العام على البعض إنما يكون ، تخصيصا إذا كان بمستقل مقارن ، وأن غير المستقل ليس بتخصيص ولا نسخ ، بل يسمى : استثناء ، وشرطا .... الخ ، وأن الإخراج بالمستقل ـ

٢٦٠