اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

وتقديره على قراءة (١) «يرى» بالغيبة : «لعلموا أنّ القوّة لله» [إن كان فاعل «يرى»: الّذين ظلموا ، وإن كان ضميرا يعود على السّامع ، فيقدّر : «لعلم أنّ القوّة»](٢) وأمّا من قدّره بعد قوله (شَدِيدُ الْعَذابِ) ، فتقديره على قراءة «ترى» (٣) بالخطاب : «لاستعظمت ما حلّ بهم» ويكون فتح أنّ على أنّه مفعول من أجله ، أي : «لأنّ القوّة لله جميعا» وكسرها على معنى التعليل ؛ نحو : «أكرم زيدا ؛ إنّه عالم ، وأهن عمرا ؛ إنّه جاهل» أو تكون جملة معترضة بين «لو» وجوابها المحذوف ، وتقديره ؛ على قراءة «ولو يرى» بالغيبة ، إن كان فاعل «يرى» ضمير السّامع : «لاستعظم ذلك» وإن كان فاعله الّذين ، كان التقدير «لاستعظموا ما حلّ بهم» ويكون فتح «أنّ» على أنّها معمولة ل «يرى» على أن يكون الفاعل «الّذين ظلموا» والرؤية هنا تحتمل أن تكون من رؤية القلب ، فتسدّ «أنّ» مسدّ مفعوليها ، وأن تكون من رؤية البصر ، فتكون في موضع مفعول واحد.

وأمّا قراءة «يرى» [الّذين] بالغيبة ، وكسر «إنّ» و «إنّ» فيكون الجواب قولا محذوفا ، وكسرتا لوقوعهما بعد القول ، فتقديره على كون الفاعل ضمير الرّأي ، لقال : «إنّ القوّة» وعلى كونه «الّذين» : «لقالوا» ويكون مفعول «يرى» محذوفا ، أي : «لو يرى حالهم» ويحتمل أن يكون الجواب : «لاستعظم ، أو لاستعظموا» على حسب القولين. وقدّر بعضهم : «لمّا اتّخذوا من دونه أندادا» وإنّما كسرتا ؛ استئنافا ، وحذف جواب «لو» شائع مستفيض كثير في التنزيل ، قال تبارك وتعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) [الأنعام : ٩٣] (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [الرعد : ٣١] ويقولون : «لو رأيت فلانا ، والسّياط تأخذ منه» قالوا : وهذا الحذف أفخم وأشدّ في التخويف ممّا إذا عيّن له ذلك الوعيد ، ففائدة الحذف استعظامه وذهاب النّفس كلّ مذهب فيه ؛ بخلاف ما لو ذكر فإنّ السامع يقصر همّه عليه ، وقد ورد في أشعارهم ونثرهم حذفه كثيرا ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٨٧٩ ـ وجدّك لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا (٤)

وقال النّابغة : [الطويل]

٨٨٠ ـ فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر إلّا ليال قلائل (٥)

ودخلت «إذ» ، وهي ظرف زمان ماض في أثناء هذه المستقبلات تقريبا للأمر ،

__________________

(١) ينظر مصادر القراءة السابقة.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : مصادر القراءة السابقة.

(٤) ينظر ديوانه : ص ٢٤٢ ، وخزانة الأدب : ١ / ٨٤ ، ٨٥ ، وشرح المفصل : ٩ / ٧ ، ٩٤ ، ولسان العرب (وحد) ، وكتاب الصناعتين : ص ١٨٢ ، والصاحبي : (٤٣١) ، أمالي الزجاجي : (٢٢٥) ، فقه اللغة للثعالبي : ٣٤٤ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٩.

(٥) تقدم برقم ٨١٣.

١٤١

وتصحيحا لوقوعه ؛ كما وقعت صيغة المضيّ موضع المستقبل لذلك ؛ كقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٥٠]. وكما قال الأشتر : [الكامل]

٨٨١ ـ بقّيت وفري وانحرفت عن العلا

ولقيت أضيافي بوجه عبوس

إن لم أشنّ على ابن حرب غارة

لم تخل يوما من نهاب نفوس (١)

فأوقع «بقّيت» و «انحرفت» ـ وهما بصيغة المضيّ ـ موقع المستقبل ، لتعليقهما على مستقبل ، وهو قوله : «إن لم أشنّ».

وجاء في التنزيل كثير من هذا الباب قال تبارك وتعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) [الأنعام : ٢٧] (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) [سبأ : ٥١] ولما كان وقوع السّاعة قريبا ، أجراه مجرى ما حصل ووقع ، من ذلك قول المؤذّن : قد قامت الصّلاة ، يقوله قبل إيقاع التّحريم بالصّلاة ؛ لقرب ذلك.

وقيل : أوقع «إذ» موقع «إذا» ؛ [وقيل : زمن الآخرة متصل بزمن الدنيا ، فقام أحدهما مقام الآخر ؛ لأنّ المجاور للشّيء يقوم مقامه ، وهكذا كلّ موضع وقع مثل هذا ، وهو في القرآن كثير](٢).

وقرأ ابن عامر (٣) «يرون العذاب» مبنيّا للمفعول من «أريت» المنقولة من «رأيت» بمعنى «أبصرت» فتعدّت لاثنين :

أولهما : قام مقام الفاعل ، وهو الواو.

والثاني : هو العذاب.

وقراءة الباقين (٤) واضحة.

وقال الراغب : قوله : «أنّ القوّة» بدل من «الّذين» قال : «وهو ضعيف».

قال أبو حيّان (٥) رحمه‌الله ـ ويصير المعنى : «ولو ترى قوّة الله وقدرته على الّذين ظلموا» وقال في المنتخب : قراءة الياء عند بعضهم أولى من قراءة التّاء ؛ قال : «لأنّ النبيّ ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ والمؤمنين قد علموا قدر ما يشاهده الكفّار ، وأما الكفّار ، فلم يعلموه ؛ فوجب إسناد الفعل إليهم» وهذا أمر مردود ؛ فإن القراءتين متواترتان.

قوله تعالى : «جميعا» حال من الضّمير المستكنّ في الجارّ والمجرور ، والواقع

__________________

(١) ينظر الحماسة : ١ / ٩٣ ، وأمالي القالي : ١ / ٨٥ ، معجم الشعراء : (٢٦٣) ، وحاشية الكشاف : (٢ / ٢٥٦) والدر المصون : ١ / ٤٢٩.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٣٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٦٤٦ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٩.

(٤) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٣٥ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٩.

(٥) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٤٦.

١٤٢

خبرا ؛ لأنّ تقديره : «أنّ القوّة كائنة لله جميعا» ولا جائز أن يكون حالا من القوّة ؛ فإن العامل في الحال ، هو العامل في صاحبها ، وأنّ لا تعمل في الحال ، وهذا مشكل ؛ فإنهم أجازوا في «ليت» أن تعمل في الحال ، وكذا «كأنّ» ؛ لما فيها من معنى الفعل ـ وهو التمنّي والتّشبيه ـ فكان ينبغي أن يجوز ذلك في «أنّ» لما فيها من معنى التّأكيد.

و «جميع» في الأصل : «فعيل» من الجمع ، وكأنه اسم جمع ؛ فلذلك يتبع تارة بالمفرد ؛ قال تعالى : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) [القمر : ٤٤] وتارة بالجمع ؛ قال تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٣٢] وينتصب حالا ، ويوكّد به ؛ بمعنى «كلّ» ويدلّ على الشمول ؛ كدلالة «كلّ» ، ولا دلالة له على الاجتماع في الزّمان ، تقول : «جاء القوم جميعهم» لا يلزم أن يكون مجيئهم في زمن واحد ، وقد تقدّم ذلك في الفرق بينها وبين «جاءوا معا».

قوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ)(١٦٧)

اعلم أنّه لما بيّن حال من يتّخذ من دون الله أندادا بقوله : ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب على طريق التهديد زاد في هذا الوعيد بهذه الآية الكريمة ، وبيّن أنّ الذين أفنوا عمرهم في عبادتهم ، واعتقدوا أنّهم سبب نجاتهم ، فإنّهم يتبّرءون منهم ؛ ونظيره قوله تعالى : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) [العنكبوت : ٢٥] وقوله ـ عزوجل سبحانه ـ : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧] وقوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨] وقول إبليس لعنه الله (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ).[إبراهيم : ٢٢].

وهل هذا التبرّؤ يقع منهم بالقول ، أو بظهور النّدم على ما فرط منهم من الكفر والإعراض؟ قولان : أظهرهما الأوّل.

واختلفوا في هؤلاء المتبوعين ، فقال قتادة ، والرّبيع وعطاء : السّادة والرّؤساء من مشركي الإنس (١) إلّا أنّهم الذين يصحّ منهم الأمر والنّهي ؛ حتى يمكن أن يتبعوا.

وقال السّدّيّ : هم شياطين الجنّ (٢).

وقيل : شياطين الإنس والجنّ (٣).

وقيل : الأوثان الّتي كانوا يسمّونها بالآلهة ؛ ويؤيد الأوّل قوله تعالى : (إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧].

__________________

(١) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٩٠.

(٢) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٩٠.

(٣) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٩٠.

١٤٣

قوله تعالى : «إذ تبرّأ» في «إذ» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها بدل من «إذ يرون».

الثاني : أنها منصوبة بقوله : (شَدِيدُ الْعَذابِ).

الثالث ـ وهو أضعفها ـ أنها معمولة ل «اذكر» مقدّرا ، و «تبرّأ» في محلّ خفض بإضافة الظّرف إليه ، والتبرّؤ : الخلوص والانفصال ، ومنه : «برئت من الدّين» وتقدم تحقيق ذلك عند قوله : (إِلى بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤] والجمهور على تقديم : «اتّبعوا» مبنيا للمفعول على «اتّبعوا» مبنيا للفاعل.

وقرأ مجاهد (١) بالعكس ، وهما واضحتان ، إلّا أن قراءة الجمهور واردة في القرآن أكثر.

قوله تعالى : (وَرَأَوُا الْعَذابَ) في هذه الجملة وجهان :

أظهرهما : أنّها عطف على ما قبلها ؛ فتكون داخلة في خبر الظّرف ، تقديره : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) ، و «إذ رأوا».

والثاني : أنّ الواو للحال ، والجملة بعدها حاليّة ، و «قد» معها مضمرة ، والعامل في هذه الحال : «تبرّأ» أي : «تبرّءوا» في حال رؤيتهم العذاب.

قوله تعالى : (وَتَقَطَّعَتْ) يجوز أن تكون الواو للعطف ، وأن تكون للحال ، وإذا كانت للعطف ، فهل عطفت «تقطّعت» على «تبرّأ» ويكون قوله : «ورأوا» حالا ، وهو اختيار الزمخشري أو عطفت على «رأوا»؟ وإذا كانت للحال ، فهل هي حال ثانية ل «الّذين» أو حال للضّمير في «رأوا» وتكون حالا متداخلة ، إذا جعلنا «ورأوا» حالا.

والباء في «بهم» فيها أربعة أوجه :

أحدها : أنّها للحال ، أي : تقطّعت موصولة بهم الأسباب ؛ نحو : «خرج بثيابه».

الثّاني : أن تكون للتعدية ، أي : قطّعتهم الأسباب ؛ كما تقول : تفرّقت بهم الطّرق ، أي: فرّقتهم.

الثالث : أن تكون للسببيّة ، أي : تقطّعت [بسبب كفرهم الأسباب الّتي كانوا يرجون بها النّجاة](٢).

الرابع : أن تكون بمعنى «عن» [أي : تقطّعت عنهم ، كقوله (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩] ، أي : عنه](٣) وكقول علقمة في ذلك : [الطويل]

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٣٦ ، الدر المصون : ١ / ٤٣٠.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

١٤٤

٨٨٢ ـ فإن تسألوني بالنّساء فإنّني

بصير بأدواء النّساء طبيب (١)

أي : عن النّساء.

فصل في المراد ب «الأسباب»

والأسباب : الوصلات التي كانت بينهم ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والرّبيع (٢).

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وابن جريج : الأرحام الّتي يتعاطفون بها ؛ كقوله تعالى : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ)(٣) [المؤمنون : ١٠١].

وقال ابن زيد ، والسّدّيّ : الأعمال الّتي كانوا يلزمونها (٤).

وقال ابن عبّاس : العهود والحلف الّتي كانت بينهم ، يتوادّون عليها (٥).

وقال الضّحّاك ، والرّبيع بن أنس : المنازل التي كانت لهم في الدّنيا (٦).

وقال السّدّيّ : الأعمال الّتي كانوا يلزمونها (٧) في الدنيا ؛ كقوله تبارك وتعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣].

وقيل : أسباب النجاة تقطعّت عنهم.

قال ابن الخطيب (٨) ـ رضي الله عنه ـ والأظهر دخول الكلّ فيه ولأن ذلك كالنّفي ، فيعمّ الكلّ ؛ فكأنّه قال : وزال كلّ سبب يمكن أن يتعلّق به ، وأنهم لا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة ، وسبب ونسب ، وعهد ، وعقد وذلك نهاية اليأس.

وهذه الأسباب مجاز فإنّ السّبب في الأصل : الحبل ؛ قالوا : ولا يدعى الحبل سببا ؛ حتى ينزل فيه ويصعد به ، ومنه قوله تبارك وتعالى : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ)

__________________

(١) ينظر ديوانه : ص ٣٥ ، وأدب الكاتب : ص ٥٠٨ ، والأزهية : ص ٢٨٤ ، والجنى : ص ٤١ ، وحماسة البحتري : ص ١٨١ ، والدرر : ٤ / ١٠٥ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ١٦ ، ٤ / ١٠٥ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٢٢ ، وجواهر الأدب : ص ٤٩ ، ورصف المباني : ص ١٤٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٨٩) وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ٢٨٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٠٤) وزاد نسبته لوكيع وعبد بن حميد.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٠٤) وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٩١) عن ابن زيد ، وذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٤ / ١٩٠) عن ابن زيد والسدي.

(٥) الأثر ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١ / ١٩٠) عن ابن عباس.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٩١) عن الربيع ، وأورده السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٠٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٤ / ١٩٠).

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٩١) عن السدّي والربيع بن أنس ، وأورده الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٤ / ١٩٠).

(٨) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٩٠.

١٤٥

[الحج : ١٥] ثم أطلق على كلّ ما يتوصّل به إلى شيء ، عينا كان أو معنى ، وقيل للطّريق : سبب ؛ لأنّك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تريده ؛ قال تعالى : (فَأَتْبَعَ سَبَباً) [الكهف : ٨٥] أي : طريقا ، وأسباب السّموات : أبوابها ؛ قال تعالى مخبرا عن فرعون : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) [غافر : ٣٦ ـ ٣٧] وقد تطلق الأسباب على الحوادث ؛ قال زهير : [الطويل]

٨٨٣ ـ ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو نال أسباب السّماء بسلّم (١)

وقد يطلق السّبب على العلم ؛ قال سبحانه وتعالى : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) [الكهف: ٨٤] ، أي ؛ علما ، وقد وجد هنا نوع من أنواع البديع ، وهو التّرصيع ، وهو عبارة عن تسجيع الكلام ، وهو هنا في موضعين.

أحدهما : (اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ؛ ولذلك حذف عائد الموصول الأوّل ، فلم يقل «من الّذين اتّبعوهم» ؛ لفوات ذلك.

والثّاني : (وَرَأَوُا الْعَذابَ ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) ، وكقوله (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) [البقرة : ٢٧٦].

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ، يعني : الأتباع : (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي : رجعة إلى الدّنيا ، والكرّة : العودة ، وفعلها كرّ يكرّ كرّا ؛ قال القائل في ذلك : [الوافر]

٨٨٤ ـ أكرّ على الكتيبة لا أبالي

أفيها كان حتفي أم سواها (٢)

قوله تعالى : (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) منصوب بعد الفاء ب «أن» مضمرة في جواب التمنّي الّذي أشربته «لو» ولذلك أجيبت بجواب «ليت» الذي في قوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) [النساء : ٧٣] وإذا أشربت معنى التمنّي ، فهل هي الامتناعيّة المفتقرة إلى جواب ، أم لا تحتاج إلى جواب.

الصحيح : أنها تحتاج إلى جواب ، وهو مقدّر في الآية الكريمة تقديره تبرّأنا ونحو ذلك ، وأمّا من قال بأنّ «لو» الّتي للتمنّي لا جواب لها ؛ فاستدلّ بقول الشّاعر : [الوافر]

٨٨٥ ـ ولو نبش المقابر عن كليب

فيخبر بالذّنائب أيّ زير (٣)

__________________

(١) البيت لزهير بن أبي سلمى. ينظر ديوانه : ص ٣٠ ، والخصائص : ٣ / ٣٢٤ ، ٣٢٥ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٢٦٧ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٣٨٦ ، ولسان العرب (سيب) ، والدر المصون : ١ / ٤٣١.

(٢) البيت للعباس بن مرداس. ينظر خزانة الأدب : ٢ / ٢٣٨ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١٥٨ ، والإنصاف : ١ / ٢٩٦ ، والدر المصون : ١ / ٤٣٣.

(٣) البيت للمهلهل بن ربيعة. ينظر في الأصمعيات : ص ١٥٤ ، ١٥٥ ، الأغاني : ٥ / ٣٢ ، ٤٩ ، لسان العرب (ذنب) ، وأمالي القالي : ٢ / ١٣١ ، تذكرة النحاة : ص ٧٢ ، جمهرة اللغة : ص ٣٠٦ ، ٧١٢ ، ـ

١٤٦

وهذا لا يدلّ فإنّ جوابها في البيت بعده ، وهو قوله [الوافر]

٨٨٦ ـ بيوم الشّعثمين ، لقرّ عينا

وكيف لقاء من تحت القبور (١)

واستدلّ أيضا بأنّ «أن» تفتح بعد «لو» ؛ كما تفتح بعد ليت في قوله [الرجز]

٨٨٧ ـ يا ليت أنّا ضمّنا سفينه

حتّى يعود البحر كيّنونه (٢)

وهاهنا فائدة ينبغي أن ينتبه لها ، وهي : أنّ النّحاة قالوا : كلّ موضع نصب فيه المضارع بإضمار «أن» بعد الفاء [إذا سقطت الفاء ، جزم إلّا في النّفس ، ينبغي أن يزاد هذا الموضع أيضا ؛ فيقال : و «إلّا» في جواب التّمنّي ب «لو» ؛ فإنّه ينصب المضارع فيه بإضمار «أن» بعد الفاء الواقعة جوابا له ، ومع ذلك ، لو سقطت هذه الفاء](٣) لم يجزم.

قال أبو حيّان (٤) والسّبب في ذلك : أنّها محمولة على حرف التمنّي ، وهو «ليت» والجزم في جواب «ليت» إنما هو لتضمنها معنى الشّرط ، أو لدلالتها على كونه محذوفا على اختلاف القولين ؛ فصارت «لو» فرع الفرع ، فضعف ذلك فيها.

وقيل : «لو» في هذه الآية الكريمة ونظائرها لما كان سيقع لوقوع غيره ، وليس فيها معنى التمنّي ، والفعل منصوب ب «أن» مضمرة ؛ على تأويل عطف اسم على اسم ، وهو «كرّة» والتقدير : «لو أنّ لنا كرّة ، فنتبرّأ» ؛ فهو من باب قوله : [الوافر]

٨٨٨ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني

 .......... (٥)

ويكون جواب «لو» محذوفا أيضا ؛ كما تقدّم.

وقال أبو البقاء (٦) رحمه‌الله تعالى : «فنتبرّأ» منصوب بإضمار «أن» ، تقديره : «لو أنّ لنا أن نرجع فنتبرّأ» فحلّ «كرّة» إلى قوله : «أن نرجع» ؛ لأنّه بمعناه ، وهو قريب ، إلّا أنّ النحاة يأوّلون الفعل المنصوب بمصدر ؛ ليعطفوه على الاسم قبله ، ويتركون الاسم على حاله ؛ وذلك لأنه قد يكون اسما صريحا غير مصدر ؛ نحو «لو لا زيد ويخرج ، لأكرمتك» فلا يتأتّى تأويله بحرف مصدريّ وفعل.

قوله تعالى : «كما» الكاف في موضعها نصب : إمّا على كونها نعت مصدر محذوف ، أي : «تبرّؤا» وإمّا على الحال من ضمير المصدر المعرّف المحذوف أي

__________________

ـ ١٠٦٤ ، خزانة الأدب : ١١ / ٣٠٥ ، والرد على النحاة : ص ١٢٥ ، وسمط اللآلي : ص ١١٢ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٦٥٤ ، المقاصد النحوية : ٤ / ٤٦٣ ، والاشتقاق : ص ٣٣٨ ، الجنى الداني : ص ٢٨٩ ، شرح الأشموني : ٣ / ٥٩٧ ، مغني اللبيب : ١ / ٢٦٧ ، والدر المصون : ١ / ٤٣١.

(١) ينظر البحر : ١ / ٦٤٨ ، والدر المصون ١ / ٤٣٢.

(٢) ينظر شواهد البحر : ١ / ٦٤٨ ، الإنصاف : ٤٧١ ، اللسان «كون». والدر المصون : ١ / ٤٣٢.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٤٨.

(٥) تقدم برقم ٧٦٢.

(٦) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٤.

١٤٧

«نتبرّأه ، أي : التّبرّؤ ، مشابها لتبرّئهم» ؛ كما تقرّر غير مرّة.

وقال ابن عطيّة : الكاف في قوله : «كما» في موضع نصب على النّعت : إمّا لمصدر : أو لحال ، تقديره : متبرّئين ، كما قال أبو حيّان. أمّا قوله «لحال» تقديره : «متبرّئين كما» فغير واضح ، لأنّ «ما» مصدرية ، فصارت الكاف الداخلة عليها من صفات الأفعال و «متبرّئين» : من صفات الأعيان ، فكيف يوصف بصفات الأفعال.

قال : وأيضا لا حاجة لتقدير هذه الحال ، لأنّها إذ ذاك تكون حالا مؤكّدة ، وهي خلاف الأصل ، وأيضا : فالمؤكّد ينافيه الحذف ؛ لأنّ التوكيد يقوّيه ، فالحذف يناقضه.

فصل في معنى التبرؤ

قال ابن الخطيب (١) ـ رحمه‌الله ـ قولهم : (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً ، فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) ذلك تمنّ منهم للرجعة إلى الدّنيا. وإلى حال التّكليف ، ويكون الاختيار لهم ؛ حتّى يتبرءوا منهم في الدّنيا ، كما تبرءوا يوم القيامة منهم ومفهوم الكلام : أنّهم تمنّوا لهم في الدّنيا ما يقارب العذاب ، فيتبرّءون منهم ، ولا يخلصونهم ، كما فعلوا بهم يوم القيامة ، وتقديره : فلو أنّ لنا كرّة فنتبرّأ منهم ، وقد دهمهم مثل هذا الخطب ، كما تبرءوا منّا ، والحال هذه ؛ لأنّهم إن تمنّوا التبرّؤ منهم ، مع سلامة ، فأيّ فائدة؟.

قال القرطبي : التبرّؤ : الانفصال (٢).

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ) في هذه «الكاف» قولان :

أحدهما : أنّ موضعها نصب : إمّا نعت مصدر محذوف ، أو حالا من المصدر المعرّف ، أي : يريهم رؤية كذلك ، أو يحشرهم حشرا كذلك ، أو يجزيهم جزاء كذلك ، أو يريهم الإراءة مشبهة كذلك ونحو هذا.

الثاني : أن يكون في موضع رفع ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك ، أو حشرهم كذلك ، قاله أبو البقاء (٣).

قال أبو حيّان (٤) : وهو ضعيف ؛ لأنّه يقتضي زيادة الكاف ، وحذف مبتدأ ، وكلاهما على خلاف الأصل والإشارة بذلك إلى رأيهم تلك الأهوال والتقدير : مثل إراءتهم الأهوال ، يريهم الله أعمالهم حسرات.

وقيل : الإشارة إلى تبرّؤ بعضهم من بعض والتقدير : كتبرّؤ بعضهم من بعض ، يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ؛ وذلك لانقطاع الرّجاء من كلّ أحد.

والرؤية تحتمل وجهين :

__________________

(١) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٩١.

(٢) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٣٩.

(٣) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٤.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٤٨.

١٤٨

أحدهما : أن تكون بصريّة ، فتتعدّى لاثنين بنقل الهمزة أولهما الضمير ، والثاني «أعمالهم» و «حسرات» على هذا حال من «أعمالهم».

والثاني : أن تكون قلبيّة ؛ فتتعدّى لثلاثة ، ثالثها «حسرات» و «عليهم» يجوز فيه وجهان :

أن يتعلّق ب «حسرات» ؛ لأنّ «يحسر» يعدّى ب «على» ويكون ثمّ مضاف محذوف.

أي : على تفريطهم.

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّها صفة ل «حسرات» ، فهي في محلّ نصب ؛ لكونها صفة لمنصوب.

فصل في المراد ب «الأعمال» في الآية

اختلفوا في المراد بالأعمال.

فقال السّدّيّ : الطاعات ، لم ضيّعوها؟ وقال الربيع وابن زيد : المعاصي والأعمال الخبيثة يتحسّرون لم عملوها؟ (١)

وقال الأصمّ : ثواب طاعاتهم الّتي أتوا بها ، فأحبطوها بالكفر ، قال السّدّيّ : ترفع لهم الجنّة ، فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها ، لو أطاعوا الله ، فيقال لهم : تلك مساكنكم ، لو أطعتم الله تعالى ، ثمّ تقسّم بين المؤمنين ، فذلك حين يتحسّرون.

وقيل : أعمالهم الّتي تقرّبوا بها إلى رؤسائهم والانقياد لأمرهم ، قال ابن كيسان : إنّهم أشركوا بالله الأوثان ، رجاء أن تقرّبهم إلى الله تعالى ، فلما عذّبوا على ما كانوا يرجون ثوابه ، تحسّروا وندموا.

قال ابن الخطيب (٢) : والظاهر أنّ الأعمال الّتي اتّبعوا فيها السّادة ، وهو كفرهم ، ومعاصيهم ، وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم ، وأيقنوا بالجزاء عليها ، وكان يمكنهم تركها ، والعدول إلى الطّاعات ، وفي هذا الوجه الإضافة وفي الثاني : مجاز بمعنى لزومهم ، فلم يقوموا بها. و «الحسرة» واحدة الحسرات ؛ كتمرة وتمرات ، وجفنة وجفنات وشهوة وشهوات.

هذا إذا كان اسما. [فإن] نعتّه سكّنت ؛ كقوله ضخمة وضخمات وعبلة وعبلات نقله القرطبي (٣) رحمه‌الله تعالى قال الزّجّاج : هي شدّة الندامة ، وهو تألّم القلب بانحساره عمّا تؤلمه واشتقاقها إمّا من قولهم : بعير حسير أي منقطع القوّة والحسور الإعياء ، وقال تبارك وتعالى : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩] أو من الحسر وهو

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم بمعناه عن أبي العالية ؛ كما في «الدر المنثور» (١ / ٣٠٤).

(٢) ينظر تفسير الرازي : ٤ / ١٩١.

(٣) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٣٩.

١٤٩

الكشف يقال : حسر عن ذراعيه ، والحسرة : انكشاف عن حالة النّدامة ؛ [والمحسرة](١) المنكسة ؛ لأنها تكشف عن الأرض ؛ والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش.

قوله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

احتجّ به على أن أصحاب الكبائر من أهل القبلة يخرجون من النّار ، فقالوا :

لأنّ قوله : «وما هم» تخصيص لهم بعدم الخروج على سبيل الحصر ؛ فوجب أن يكون عدم الخروج مخصوصا بهم ، وهذه الآية الكريمة تكشف عن المراد بقوله : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) [الانفطار : ١٤ ـ ١٦] فبيّن أنّ المراد بالفجّار هاهنا الكفّار ؛ لدلالة هذه الآية الكريمة عليه والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١٦٩)

لما بيّن التوحيد ودلائله وما للموحّدين من الثواب وأتبعه بذكر الشّرك ، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وأنّ معصية من عصاه ، وكفر من كفر به ، لم تؤثّر في قطع نعمه وإحسانه إليهم.

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : هذه الآية نزلت في قوم من ثقيف ، وبني عامر بن صعصعة ، وخزاعة ، وبني مدلج ، حرّموا على أنفسهم من الحرث ، والبحائر ، والسّوائب ، والوصائل والحام (٢).

قوله تعالى : (مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) حلالا فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن يكون مفعولا ب «كلوا» و «من» على هذا فيها وجهان :

أحدهما : أن تتعلّق ب «كلوا» ويكون معناها ابتداء الغاية.

الثاني : أن تتعلّق بمحذوف على أنّها حال من «حلالا» [وكانت في الأصل صفة له ، فلمّا قدّمت عليه ، انتصبت حالا](٣) ويكون معنى «من» التّبعيض.

الثاني : أن يكون انتصاب «حلالا» على أنّه نعت لمفعول محذوف ، تقديره : شيئا أو رزقا حلالا ، ذكره مكّيّ (٤) واستعبده ابن عطيّة ولم يبيّن وجه بعده ، والذي يظهر في بعده أنّ «حلالا» ليس صفة خاصّة بالمأكول بل يوصف به المأكول وغيره وإذا لم تكن الصفة خاصّة ، لا يجوز حذف الموصول.

__________________

(١) في ب : والمحرمة.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره : ١ / ١٣٨.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر المشكل : ١ / ٨٠.

١٥٠

الثالث : أن ينتصب «حلالا» على أنّه حال من «ما» بمعنى : «الّذي» ، أي : كلوا من الّذي في الأرض حال كونه حلالا.

الرابع : أن ينتصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، [أي : أكلا حلالا ، ويكون مفعول «كلوا» محذوفا ، و «ما (فِي الْأَرْضِ) صفة لذلك المفعول المحذوف](١) ، ذكره أبو البقاء (٢) وفيه من الرّدّ ما تقدّم على مكّيّ ، ويجوز على هذا الوجه الرابع ألا يكون المفعول محذوفا ، بل تكون «من» مزيدة على مذهب الأخفش ، تقديره : «كلوا ما في الأرض أكلا حلالا».

الخامس : أن يكون حالا من الضّمير العائد على «ما» قاله ابن عطيّة ، يعني ب «الضّمير» الضّمير المستكنّ في الجارّ والمجرور ، الواقع صلة.

و «طيّبا» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون صفة ل «حلالا» أمّا على القول بأنّ «من» للابتداء ، متعلّقة ب «كلوا» فهو واضح ؛ وأمّا على القول بأن «ممّا في الأرض» حال من «حلالا» ، فقال أبو البقاء (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ولكن موضعها بعد الجارّ والمجرور ، لئلّا يفصل الصّفة بين الحال وذي الحال. وهذا القول ضعيف ، فإنّ الفصل بالصفة بين الحال وصاحبها ليس بممنوع ؛ تقول : «جاءني زيد الطّويل [راكبا» ، بل لو قدّمت الحال على الصّفة ، فقلت : «جاءني زيد راكبا الطّويل»](٤) ـ كان في جوازه نظر.

الثاني : أن يكون صفة لمصدر محذوف ، أو حالا من المصدر المعرفة المحذوف : أي أكلا طيّبا.

الثالث : أن يكون حالا من الضّمير في «كلوا» تقديره : مستطيبين ـ قال ابن عطيّة.

قال أبو حيّان (٥) : وهذا فاسد في اللّفظ أمّا اللّفظ ؛ فلأنّ «الطّيّب» اسم فاعل فكان ينبغي أن تجمع ؛ لتطابق صاحبها ؛ فيقال : طيّبين ، وليس «طيّب» مصدرا ؛ فيقال : إنّما لم يجمع لذلك ، وأمّا المعنى ؛ فلأنّ «طيّبا» مغاير لمعنى مستطيبين ، لأنّ «الطّيّب» من صفات المأكول ، و «المستطيب» من صفات الآكلين ، تقول : «طاب لزيد الطّعام» ولا تقول : «طاب زيد الطّعام» بمعنى استطابه.

و «الحلال» : المأذون فيه ضدّ الحرام الممنوع منه ، حلّ يحلّ ، بكسر العين في المضارع ، وهو القياس ، لأنه مضاعف غير متعدّ ، يقال : حلال ، وحلّ ؛ كحرام وحرم وهو في الأصل مصدر ، ويقال : «حلّ بلّ» على سبيل الإتباع ؛ ك «حسن بسن» ، وحلّ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٤.

(٣) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٥.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٥٣.

١٥١

بمكان كذا يحلّ ـ بضم العين وكسرها ـ وقرىء : (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) [طه : ٨١] بالوجهين ، وأصله من «الحلّ» الذي هو : نقيض العقد ، ومنه : حلّ بالمكان ، إذا نزل به ؛ لأنّه حلّ شدّ الرحال للنّزول ، وحلّ الدّين إذا نزل به ، لانحلال العقدة بانقضاء المدّة ، وحلّ من إحرامه ، لأنه حلّ عقد الإحرام ، وحلّت عليه العقوبة ، أي : وجبت لانحلال العقدة [المانعة من العذاب](١) ومن هذا : «تحلّة اليمين» : لأن عقدة اليمين تنحلّ به.

والطّيّب [في اللغة : يكون بمعنى الطّاهر ، والحلال يوصف بأنّه طيّب ؛ قال تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) [المائدة : ١٠٠] والطّيّب في](٢) الأصل : هو ما يستلذّ به ويستطاب ، ووصف به الطّاهر ، والحلال ؛ على جهة التشبيه ؛ لأنّ النّجس تكرهه النّفس ؛ فلا تستلذّه ، والحرام غير مستلذّ ، لأنّ الشرع يزجر عنه.

وفي المراد بالطّيّب في الآية وجهان :

الأول : أنه المستلذّ ؛ لأنا لو حملناه على الحلال ، لزم التكرار ؛ فعلى هذا يكون إنما يكون طيّبا ، إذا كان من جنس ما يشتهى ؛ لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه ، عاد حراما ، وإن كان يبعد وقوع ذلك من العاقل إلّا عند شبهة.

والثاني : أن يكون المراد ما يكون جنسه حلالا ، وقوله : «طيّبا» المراد منه : ألّا يكون متعلّقا به حقّ الغير ؛ فإنّ أكل الحرام ، وإن استطابه الآكل ، فمن حيث يؤدّي إلى العقاب : يصير مضرّة ، ولا يكون مستطابا ؛ كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء : ١٠].

قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ:) قرأ (٣) ابن عامر ، والكسائيّ ، وقنبل ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب : «خطوات» بضم الخاء ، والطاء ، وباقي السّبعة بسكون الطاء.

أمّا من ضمّ العين ؛ فلأنّ الواحدة «خطوة» فإذا جمعت ، حرّكت العين ؛ للجمع ، كما فعلت في الأسماء التي على هذا الوزن ؛ نحو : غرفة وغرفات ، وتحريك العين على هذا الجمع ؛ للفصل بين الاسم والصّفة ؛ لأن كلّ ما كان اسما ، جمعته بتحريك العين ؛ نحو : «تمرة وتمرات ، وغرفة وغرفات ، وشهوة وشهوات» وما كان نعتا ، جمع بسكون العين ؛ نحو : «ضخمة وضخمات ، وعبلة وعبلات» ، والخطوة : من الأسماء ، لا من الصفات ، فتجمع بتحريك العين.

وقرأ أبو السّمّال (٤) «خطوات» بفتحها ، ونقل ابن عطيّة ، وغيره عنه : أنه قرأ :

__________________

(١) في ب : الحالة للعذاب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٣٧ ، البحر المحيط : ١ / ٦٥٣ ، الدر المصون : ١ / ٤٣٤.

(٤) ينظر المصادر السابقة.

١٥٢

«خطوات» ، بفتح الخاء ، والطاء ، وقرأ عليّ (١) وقتادة ، والأعمش بضمّها ، والهمز.

فأما قراءة (٢) الجمهور ، والأولى من قراءتي أبي السّمّال ؛ فلأن «فعلة» الساكنة العين ، السّالمتها ، إذا كانت اسما ، جاز في جمعها بالألف والتاء ثلاثة أوجه ، وهي لغات مسموعة عن العرب : السّكون ، وهو الأصل ، والإتباع ، والفتح في العين ، تخفيفا.

وأما قراءة أبي السّمّال التي نقلها ابن عطيّة ، فهي جمع «خطوة» بفتح الخاء ، والفرق بين الخطوة بالضّمّ ، والفتح : أنّ المفتوح : مصدر دالّ على المرّة ، من : خطا يخطو ، إذا مشى ، والمضموم : اسم لما بين القدمين ؛ كأنّه اسم للمسافة ؛ كالغرفة اسم للشيء المغترف.

وقيل : إنّهما لغتان بمعنى واحد ذكره أبو البقاء (٣).

وأمّا قراءة عليّ ، ففيها تأويلان :

أحدهما ـ وبه قال الأخفش ـ : أنّ الهمزة أصل ، وأنّه من «الخطأ» ، و «خطؤات» جمع «خطأة» إن سمع ، وإلّا فتقديرا ، وتفسير مجاهد إياه ب «الخطايا» يؤيّد هذا ، ولكن يحتمل أن يكون مجاهد فسّره بالمرادف.

والثاني : أنه قلب الهمزة عن الواو ؛ لأنّها جاورت الضمّة قبلها ؛ فكأنها عليها ؛ لأنّ حركة الحرف بين يديه على الصّحيح ، لا عليه.

فصل

قال ابن السّكّيت ـ فيما رواه عن اللّحيانيّ ـ الخطوة والخطوة بمعنى واحد ، وحكى عن الفرّاء الخطوة ما بين القدمين ؛ كما يقال : حثوت حثوة ، والحثوة : اسم لما تحثّيت ، وكذلك غرفت غرفة ، والغرفة : هو الشيء المغترف بالكفّ ، فيكون المعنى : لا تتّبعوا سبيله ، ولا تسلكوا طريقه ؛ لأنّ الخطوة اسم مكان (٤).

قال الزّجّاج وابن قتيبة : خطوات الشّيطان طرقه ، وإن جعلت الخطوة مصدرا ، فالتقدير : لا تأتمّوا به ، ولا تتّبعوا أثره ، والمعنى : أن الله تعالى ، زجر المكلّف عن تخطّي الحلال إلى الشّبه ؛ كما زجره عن تخطّيه إلى الحرام ، وبيّن العلّة في هذا التحذير ، وهو كونه عدوّا مبينا ، أي : متظاهرا بالعداوة ؛ وذلك لأنّ الشيطان التزم أمورا سبعة في العداوة :

أربعة منها في قوله تعالى : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) [النساء : ١١٩].

__________________

(١) ينظر المصادر السابقة.

(٢) ينظر المصادر السابقة.

(٣) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٥.

(٤) ينظر تفسير الرازي : ٥ / ٤.

١٥٣

وثلاثة منها في قوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [الأعراف : ١٦ ، ١٧] فلمّا التزم هذه الأمور ، كان عدوا متظاهرا بالعدواة ، وقد أظهر عداوته بإبائه السّجود لآدم ، وغروره إيّاه ؛ حتّى أخرجه من الجنّة.

قوله : «إنّه لكم» قال أبو البقاء (١) : إنّما كسر الهمزة ؛ لأنّه أراد الإعلام بحاله ، وهو أبلغ من الفتح ؛ لأنه إذا فتح الهمزة ، صار التقدير : لا تتّبعوه ؛ لأنّه عدوّ لكم ، واتباعه ممنوع ، وإن لم يكن عدوّا لنا ، مثله : [منهوك الرجز]

٨٨٩ ـ أ ـ لبّيك ، إنّ الحمد لك

كسر الهمزة أجود ؛ لدلالة الكسر على استحقاقه الحمد في كلّ حال ، وكذلك التلبية. انتهى.

يعني أن الكسر استئناف محض فهو إخبار بذلك ، وهذا الذي قاله في وجه الكسر لا يتعيّن ؛ لأنّه يجوز أن يراد التعليل مع كسرة الهمزة ؛ فإنّهم نصّوا على أنّ «إنّ» المكسورة تفيد العلّة أيضا ، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها ؛ كما تقدم آنفا ، فينبغي أن يقال : قراءة الكسر أولى ؛ لأنّها محتملة للإخبار المحض بحاله ، وللعلّيّة ؛ وممّا يدلّ على أنّ المكسورة تفيد العلّيّة قوله ـ عليه‌السلام ـ في الرّوثة «إنّها رجس» وقوله في الهرّة : «إنّها ليست بنجس ؛ إنّها من الطّوّافين عليكم»(٢).

وقوله : «لا تنكح المرأة على عمّتها ، ولا على خالتها ؛ إنّكم إذا فعلتم ذلك ، قطّعتم أرحامكم» (٣).

وأما المفتوحة : فهي نصّ في العلّيّة ، لأنّ الكلام على تقدير لام العلّة.

__________________

(١) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٥.

(٢) أخرجه أبو داود (٧٥) كتاب الطهارة باب سؤر الهرة والترمذي (٩٢) كتاب الطهارة باب سؤر الهرة وابن ماجه (٣٦٧) والنسائي (١ / ٥٥ ، ١٧٨) وأحمد (٥ / ٣٠٣ و ٣٠٩) والشافعي في «الأم» (١ / ٨) وابن أبي شيبة (١ / ٣١) وعبد الرزاق (٣٥٢ و ٣٥٣) والبغوي في «شرح السنة» (٢ / ٦٩) رقم (٢٨٦) والدارمي (١ / ١٨٨) والدارقطني (١ / ٦٩ ـ ٧٠) وابن حبان (١٢١ ـ زوائد) وابن خزيمة (١٠٢ ، ١٠٤) والحاكم (١ / ١٥٩) والبيهقي (١ / ٢٤٥) والحميدي (٤٣٠) والطحاوي في «شرح المعاني» (١ / ١٨) وفي «مشكل الآثار» (٣ / ٢٧٠) وابن عبد البر (١ / ٣١٨ ، ٣٢١ ، ٣٢٣) عن عائشة مرفوعا.

وذكره الحافظ ابن حجر في «تلخيص الحبير» (١ / ٤١) وقال : وصححه البخاري والترمذي والعقيلي والدارقطني.

(٣) أخرجه مسلم كتاب النكاح باب ٤ رقم ٣٧ ، ٣٨ والنسائي (٦ / ٩٨ ، ٩٨) وابن ماجه (١٩٢٩ ، ١٩٣١) وأحمد (١ / ٧٨) ، (٢ / ١٧٨) والبيهقي (٥ / ٣٤٥) (٦ / ١٦٦) ، (٧ / ١٦٥ ـ ١٦٦) ، (٨ / ٣٠) وابن أبي شيبة (٤ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧) وعبد الرزاق (١٠٧٥٨) والطبراني (٧ / ٢٦) ، (١١ / ٣٠٢) ، وابن عساكر (٥ / ٤٦٠) وأبو نعيم في «الحلية» (٦ / ٣٠٧).

١٥٤

قوله : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فهذه كالتّفصيل لجملة عداوته ، وهو مشتمل على أمور ثلاثة :

أولها : السّوء ، وهو : متناول جميع المعاصي ، سواء كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح ، أو من أفعال القلوب.

وسمّي السّوء سوءا ؛ لأنّه يسوء صاحبه بسوء عواقبه ، وهو مصدر : «ساءه يسوءه سوءا ومساءة» إذا أحزنه ، و «سؤته ، فسيء» إذا أحزنته ، فحزن ؛ قال تعالى : (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الملك : ٢٧] ؛ قال الشّاعر : [السريع]

٨٨٩ ب ـ وإن يك هذا الدّهر قد ساءني

فطالما قد سرّني الدّهر

ألأمر عندي فيهما واحد

لذاك شكر ولذا صبر (١)

وثانيها : الفحشاء ، وهو مصدر من الفحش ؛ كالبأساء من البأس ، والفحش : قبح المنظر.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

٨٩٠ ـ وجيد كجيد الرّئم ليس بفاحش

إذا هي نصّته ولا بمعطّل (٢)

وتوسّع فيه ، حتّى صار يعبر به عن كلّ مستقبح معنى كان أو عينا.

والفحشاء : نوع من السّوء ، كأنّها أقبح أنواعه ، وهي : ما يستعظم ، ويستفحش من المعاصي.

وثالثها : (أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فكأنّه أقبح الأشياء ؛ لأنّ وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر ، فهذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ).

فدلّت الآية الكريمة على أنّ الشيطان يدعو إلى الصّغائر والكبائر ، والكفر ، والجهل بالله.

وروي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنّه قال : «الفحشاء» من المعاصي : ما فيه حدّ ، والسّوء من الذّنوب ما لا حدّ فيه.

وقال السّدّيّ : هي الزّنا (٣).

__________________

(١) ينظر القرطبي : ٢ / ١٤١.

(٢) البيت من معلقته المشهورة. ينظر ديوانه : (١١٥) ، والزوزني (٢١) والشنقيطي : (٦٣) ، البحر المحيط : (١ / ٦٥١) والدر المصون : ١ / ٤٣٥.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٠٣) عن السدّي ، والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٠٦).

١٥٥

وقيل : هي البخل ، (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من تحريم الحرث والأنعام.

وقال مقاتل : كلّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء ، فإنّه الزّنا ، إلّا قوله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [البقرة : ٢٦٨] فإنه منع الزكاة.

وقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا) عطف على قوله : «بالسّوء» ، تقديره : «وبأن تقولوا» فيحتمل موضعها الجرّ والنصب ؛ بحسب قول الخليل ، وسيبويه (١).

قال الطّبريّ : يريد ما حرّموا من البحيرة والسّائبة ونحوهما ، مما جعلوه شرعا.

فصل في بيان أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح

دلّت الآية على أنّ الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح ؛ لأنّ الله تعالى ذكره بكلمة «إنّما» وهي للحصر.

وقد قال بعضهم : إن الشيطان قد يدعو إلى الخير ؛ لكن لغرض أن يجره منه إلى الشّرّ ؛ وذلك على أنواع : إمّا أن يجرّه من الأفضل إلى الفاضل ، ليتمكّن من أن يجره من الفاضل الشّرّ ، وإمّا أن يجرّه من الفاضل الأسهل إلى الأفضل الأشقّ ؛ ليصير ازدياد المشقّة سببا لحصول النّفرة عن الطّاعات بالكلّيّة.

وتناولت الآية الكريمة جميع المذاهب الفاسدة ، بل تناولت مقلّد الحقّ ؛ لأنّه قال ما لا يعلمه ؛ فصار مستحقّا للذّمّ ؛ لاندراجه تحت هذا الذّمّ.

وتمسّك بهذه الآية نفاة القياس ، [وجوابهم : أنه متى قامت الدّلالة على أنّ العمل بالقياس واجب ، كان العمل بالقياس](٢) قولا على الله بما يعلم لا بما لا يعلم.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١٧٠)

الضمير في «لهم» فيه أربعة أقوال :

أحدها : أنه يعود على «من» في قوله (مَنْ يَتَّخِذُ) [البقرة : ١٦٥].

الثاني : قال بعض المفسّرين : نزلت في مشركي العرب ، فعلى هذا : الآية متّصلة بما قبلها ، ويعود الضمير عليهم ؛ لأنّ هذا حالهم.

الثالث : أنه يعود على اليهود ؛ لأنّهم أشدّ الناس اتّباعا لأسلافهم.

روي عن ابن عبّاس قال : دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود إلى الإسلام ، فقال رافع بن خارجة ، ومالك بن عوف : «بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا فهم كانوا خيرا منّا ، وأعلم منّا» ، فأنزل الله هذه الآية الكريمة (٣).

__________________

(١) ينظر الكتاب : ١ / ١٧.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦) وابن هشام في «السيرة» (٢ / ٢٠٠ ـ ٢٠١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٠٦) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

١٥٦

وقال بعضهم : هذه قصّة مستأنفة ، والهاء والميم في «لهم» كناية عن غير مذكور.

الرابع : أنه يعود على «النّاس» في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) قاله الطبريّ ، وهو ظاهر إلّا أن ذلك من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وحكمته : أنّهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجّب من فعله ، حيث دعي إلى شريعة الله تعالى والنّور والهدى ، فأجاب باتّباع شريعة أبيه.

قوله : «بل نتّبع» «بل» ههنا : عاطفة هذه الجملة على جملة محذوفة قبلها ، تقديره : «لا نتّبع ما أنزل الله ، بل نتّبع كذا» ولا يجوز أن تكون معطوفة على قوله : «اتّبعوا» لفساده ، وقال أبو البقاء (١) : «بل» هنا للإضراب [عن الأوّل ، أي : «لا نتّبع ما أنزل الله» ، وليس بخروج من قصّة إلى قصّة ، يعني بذلك : أنه إضراب إبطال](٢) ، لا إضراب انتقال ؛ وعلى هذا ، فيقال : كلّ إضراب في القرآن الكريم ، فالمراد به الانتقال من قصّة إلى قصّة إلّا في هذه الآية ، وإلّا في قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُ) [السجدة : ٣] فإنه محتمل للأمرين ؛ فإن اعتبرت قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ، كان إضراب انتقال ، وإذا اعتبرت «افتراه» وحده ، كان إضراب إبطال.

والكسائيّ (٣) يدغم لام «هل» و «بل» في ثمانية أحرف :

التاء ؛ كقوله : (بَلْ تُؤْثِرُونَ) [الأعلى : ١٦] والنّون : «بل نتّبع» والثّاء : (هَلْ ثُوِّبَ) [المطففين : ٣٦] والسّين : (بَلْ سَوَّلَتْ) [يوسف : ١٨] ، والزّاي : (بَلْ زُيِّنَ) [الرعد : ٣٣] ، والضّاد : (بَلْ ضَلُّوا) [الأحقاف : ٢٨] والظّاء : (بَلْ ظَنَنْتُمْ) [الفتح : ١٢] والطّاء : (بَلْ طَبَعَ اللهُ) [النساء : ١٥٥] ، وأكثر القرّاء على الإظهار ، ووافقه حمزة في التاء والسين ، والإظهار هو الأصل.

قوله : «ألفينا» : في «ألفى» هنا قولان :

أحدهما : أنّها متعدّية إلى مفعول واحد ، لأنها بمعنى «وجد» التي بمعنى «أصاب» ؛ بدليل قوله في آية أخرى : (بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [لقمان : ٢١] وقوله : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) [يوسف : ٣٥] وقولهم : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ) ، فعلى هذا : يكون «عليه» متعلّقا بقوله : «ألفينا».

والثاني : أنها متعدّية إلى اثنين :

أولهما : «آباءنا» ، والثاني : «عليه» ، فقدّم على الأول.

وقال أبو البقاء (٤) ـ رحمه‌الله ـ : [«هي محتملة للأمرين ـ أعني كونها متعدّية لواحد

__________________

(١) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٥.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٥ / ٦.

(٤) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٥.

١٥٧

أو لاثنين» ـ ؛ قال أبو البقاء :](١) و «لام «ألفينا» واو ؛ لأن الأصل فيما جهل من اللّامات أن تكون واوا ، يعني : فإنه أوسع وأكثر ؛ فالرّدّ إليه أولى.

ومعنى الآية : أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أمرهم بأن يتّبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرّموا على أنفسهم من الحرث ، والأنعام ، والبحيرة ، والسّائبة. أو ما أنزل الله من الدّلائل الباهرة ، قالوا : لا نتّبع ذلك ، وإنما نتبع آباءنا ، وأسلافنا ، فعارضوه بالتّقليد ، فأجابهم الله تعالى بقوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) ، فالهمزة في «أو لو» للإنكار ، وأما الواو ، [ففيها قولان :

أحدهما ـ قاله الزمخشريّ ـ : أنّها واو الحال.

والثاني ـ قال به أبو البقاء (٢) ، وابن عطيّة ـ : أنّها للعطف ، وقد تقدّم الخلاف في هذه الهمزة الواقعة قبل «الواو» و «الفاء» و «ثمّ» ، هل](٣) بعدها جملة مقدّرة ، وهو رأي الزمخشري ؛ ولذلك قدّر ههنا : «أيتّبعونهم ، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدّين ، ولا يهتدون للصّواب؟» أو النية بها التأخير عن حرف العطف؟

وقد جمع أبو حيّان بين قول الزمخشريّ ، وقول ابن عطيّة ، فقال (٤) : والجمع بينهما : أنّ هذه الجملة المصحوبة ب «لو» في مثل هذا السّياق جملة شرطية ، فإذا قال : «اضرب زيدا ، ولو أحسن إليك» ، فالمعنى : «وإن أحسن إليك» وكذلك : «أعطوا السّائل ، ولو جاء على فرس» (٥) «ردّوا السّائل ، ولو بشقّ تمرة» (٦) ، المعنى فيهما «وإن» وتجيء «لو» هنا ؛ [تنبيها] على أنّ ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها ، لكنّها جازت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعل ، ولتدلّ على أن المراد بذلك وجود الفعل في كلّ حال ؛ حتّى في هذه الحال الّتي لا تناسب الفعل ؛ ولذلك لا يجوز : «اضرب زيدا ، ولو أساء إليك» ، ولا «أعطوا السّائل ، ولو كان محتاجا» فإذا تقرّر هذا ، فالواو في «ولو» في الأمثلة التي ذكرناها عاطفة على حال مقدّرة ، والمعطوف على الحال حال ؛ فصحّ أن يقال : إنّها

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٥.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٥٥.

(٥) أخرجه أحمد (١ / ٢٠١) وأبو داود (١٦٦٥) كتاب الزكاة باب حق السائل وأبو يعلى (١٢ / ١٥٤ ـ ١٥٥) رقم (٦٧٨٤) والبخاري في التاريخ (٤ / ٢ / ٤١٦) عن الحسين بن علي.

وروي من حديث علي أخرجه أبو داود كتاب الزكاة باب حق السائل رقم (١٦٦٦) والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (٢٨٥). ورواه الطبراني في «الصغير» والأوسط ، عن الهرماس كما في مجمع الزوائد (٣ / ١٠١) وقال الهيثمي : وفيه عثمان بن فائد وهو ضعيف. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (٢ / ٢١٦) من حديث أبي هريرة بلفظ (أعطوا السائل وإن جاء على فرس).

(٦) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٩٢٣) كتاب صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باب ما جاء في المسكين وأحمد (٦ / ٤٣٥) والنسائي (٥ / ٨١) وأبو داود (٢ / ١٢٦) والحاكم (١ / ٤١٧) وابن حبان (٨٢٥ ـ موارد) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ١٧٥) وابن خزيمة (٤ / ١١١) رقم (٢٤٧٢).

١٥٨

للحال من حيث عطفها جملة حاليّة على حال مقدّرة ، وصحّ أن يقال : إنّها للعطف من حيث ذلك العطف ، فالمعنى ـ والله أعلم ـ : أنها إنكار اتّباع آبائهم في كلّ حال ؛ حتى في الحالة الّتي لا تناسب أن يتبعوهم فيها ، وهي تلبّسهم بعدم العقل والهداية ؛ ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على «لو» إذا كانت تنبيها على أنّ ما بعدها لم يكن مناسبا ما قبلها ، وإن كانت الجملة الحاليّة فيها ضمير عائد على ذي الحال ؛ لأنّ مجيئها عارية من هذه الواو مؤذّن بتقييد الجملة السّابقة بهذه الحال ، فهو ينافي استغراق الأحوال ؛ حتى هذه الحال ، فهما معنيان مختلفان ؛ ولذلك ظهر الفرق بين : «أكرم زيدا ، لو جفاك» ، وبين : «أكرم زيدا ، ولو جفاك». انتهى. وهو كلام حسن.

وجواب «لو» محذوف ، تقديره : «لاتّبعوهم» وقدره أبو البقاء (١) : «أفكانوا يتّبعونهم؟» وهي تفسير معنى لأن «لو» لا تجاب بهمزة الاستفهام ، قال بعضهم : ويقال لهذه الواو أيضا واو التّعجّب دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ (٢).

فصل في بيان «معنى التقليد»

قال القرطبيّ (٣) : التقليد عند العلماء : «حقيقة قبول قول بلا حجّة» ؛ وعلى هذا فمن قبل قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير نظر في معجزته ، يكون مقلّدا ، وأمّا من نظر فيها ، فلا يكون مقلّدا.

وقيل : «هو اعتقاد صحّة فتيا من لا يعلم صحّة قوله» ، وهو في اللّغة مأخوذ من قلادة البعير ، تقول العرب : قلّدت البعير ؛ إذا جعلت في عنقه حبلا يقاد به ؛ فكأنّ المقلّد يجعل أمره كلّه لمن يقوده حيث شاء ؛ ولذلك قال شاعرهم : [البسيط]

٨٩١ ـ وقلّدوا أمركم لله درّكم

ثبت الجنان بأمر الحرب مضطلعا (٤)

فصل في المراد بالآية

والمعنى : «أيتّبعون آباءهم ، وإن كانوا جهّالا لا يعقلون شيئا» ، لفظه عامّ ، ومعناه الخصوص ؛ لأنهم كانوا لا يعقلون كثيرا من أمور الدنيا ؛ فدلّ هذا على أنهم لا يعقلون شيئا من الدّين ، ولا يهتدون إلى كيفيّة اكتسابه.

وقوله «شيئا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به ؛ فيعمّ جميع المعقولات ؛ لأنّها نكرة في سياق النفي ، ولا يجوز أن يكون المراد نفي الوحدة ، فيكون المعنى : لا يعقلون شيئا «بل أشياء من العقل» وقدّم نفي العقل على نفي الهداية ؛ لأنّه يصدر عنه جميع التصرّفات.

__________________

(١) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٥.

(٢) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٥ / ٧.

(٣) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٤٢.

(٤) ينظر القرطبي : ٢ / ١٤٢.

١٥٩

الثاني : أن ينتصب على المصدريّة ، أي : (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً).

فصل في تقرير هذا الجواب

في تقرير هذا الجواب وجوه :

الأوّل : أنه يقال للمقلّد : هل تعترف بأنّ شرط جواز تقليد الإنسان : أن يعلم كونه محقّا ، أم لا؟ فإن اعترفت بذلك ، لم تعلم جواز تقليده ، إلّا بعد أن تعلم كونه محقّا ، فكيف عرفت أنه محقّ ؛ فإن عرفته بتقليد آخر ، لزم التسلسل ، وإن عرفته بالعقل ، فذاك كاف ، ولا حاجة إلى التّقليد ، وإن قلت : ليس من شرط جواز تقليده : أن يعلم كونه محقّا ، فإذن : قد جوّزت تقليده ، وإن كان مبطلا ، فإذن : أنت على تقليدك لا تعلم أنّك محقّ ، أم مبطل (١).

وثانيها : هب أن ذلك المتقدّم كان عالما بهذا إلّا أنّا لو قدّرنا أن ذلك المتقدّم ما كان عالما بذلك الشّيء قطّ ، ولا اختار فيه ألبتة مذهبا ، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أنك لا تعلم ذلك المتقدّم ، [ولا مذهبه ، كان لا بدّ من العدول إلى النّظر فكذا ههنا.

وثالثها : أنك إذا قلّدت من قبلك ، فذلك المتقدّم](٢) : إن كان عرفه بالتقليد ، لزم إما الدّور (٣) ،

__________________

(١) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٥ / ٧.

(٢) سقط في ب.

(٣) الدّور ينقسم إلى : دور معي ، ودور سبقي :

فمثال الأول : توقف تعقّل الأبوة على تعقل البنوة ، وبالعكس ؛ فإن تعقل ذات الأب بوصف كونه أبا يستلزم تعقل ذات الابن بوصف كونه ابنا ، وكذلك العكس ، وهذا القسم ليس بمستحيل ؛ لأن الإضافات أمور اعتيارية لا وجود لها إلا في الأذهان.

إنما المستحيل هو القسم الثاني ؛ وهو الدور السبقي ـ وعرفوه : بأنه توقف وجود شيء على وجود شيء آخر ، قد توقف هذا الشيء الآخر عليه ، وينقسم إلى قسمين : دور مصرّح ، ودور مضمر ؛ فالمصرح : ما كان التوقف فيه بمرتبة ، أي : بواسطة واحدة ؛ كما إذا فرضنا أن زيدا أوجد عمرا ، وعمرا أوجد بكرا ، فإن عمرا توسط بين زيد أولا ، ونفسه ثانيا ، وسمّي مصرحا ؛ لظهور التوقف فيه بمجرد النظر ، والمضمر ما كان التوقف فيه بمرتبتين فأكثر ؛ كتوقف وجود زيد على عمرو ، وعمرو على بكر ، وبكر على زيد ، وسمّي مضمرا ؛ لخفائه بالنسبة للمصرح ، وهذا القسم الثاني بنوعيه مستحيل ؛ لوجوه منها : لو توقف وجود كل منهما على وجود الآخر ، للزم الجمع بين النقيضين ، لكن الجمع بين النقيضين محال ، فما أدى إليه ـ وهو توقف كل واحد على الآخر ـ محال ؛ فبطل الدّور.

وجه الملازمة : أنه من المسلم ضرورة أن المؤثر متقدم وسابق على الأثر ، والأثر متأخر في الوجود عن المؤثر.

فإذا قيل : زيد أوجد عمرا ، وعمرو أوجد زيدا ، كان كل منهما متقدّما لا متقدّما ، متأخّرا لا متأخّرا ، مؤثّرا لا مؤثّرا ، أثرا لا أثرا ، موجودا لا موجودا ، وإنما لزم ذلك ؛ لأن كلّا منهما باعتبار الدور يكون علّة ومعلولا ، ولا شك أن هذا جمع بين النقيضين وهو محال ، فما أدى إليه ـ وهو الدّور ـ محال. ـ

١٦٠