اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

وكانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من «الحبشة» ، وثمانية من رهبان «الشام» منهم بحيرى.

وقال الضحاك : هو من آمن من اليهود : عبد الله بن سلام ، وشعبة بن عمرو ، وتمام ابن يهوذا ، وأسيد وأسد ابنا كعب وابن تامين ، وعبد الله بن صوريا. دليل هذين التأويلين تقدم ذكر الكتاب.

وقال قتادة وعكرمة : هم المؤمنون عامة لقوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) وهذا حثّ وترغيب في تلاوة هذا الكتاب ، وهذا شأن القرآن ؛ لأن التوراة والإنجيل لا يجوز قراءتهما ، وأيضا قوله : (يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وهذا الوصف لا يليق إلا بالقرآن.

والتلاوة لها معنيان :

أحدهما : الاتباع فعلا ؛ لأن من اتبع غيره يقال : تلاه فعلا ، قال تعالى : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) [الشمس : ٢].

والثاني : القراءة.

وفي حق التلاوة وجوه :

أحدها : أنهم تدبّروه ، فعملوا بموجبه [حتى تمسّكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما](١).

وثانيها : أنهم خضعوا عند تلاوته.

وثالثها : أنهم عملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه ، وفوضوه إلى الله تعالى.

ورابعها : يقرءونه كما أنزله الله ، ولا يحرفونه ، ولا يتأولونه على غير الحق.

وخامسها : روي عن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوا ، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا (٢).

وسادسها : المراد أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه ؛ لأنها مشتركة في مفهوم واحد ، وهو تعظيمها ، والانقياد لها.

قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١٢٤)

العامل في «إذ» «قال».

وقيل : العامل فيه «اذكر» مقدرا ، وهو مفعول ، وقد تقدم أنه لا يتصرف فالأولى ما ذكرته أولا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كما في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٩).

٤٤١

وقدره الزمخشري رحمه‌الله تعالى كان كيت وكيت ، فجعله ظرفا ، ولكن عامله مقدر.

و «ابتلى» وما بعده في محلّ خفض بإضافة الظرف إليه.

وأصل ابتلى : ابتلو ، فألفه عن «واو» ؛ لأنه «من بلا يبلو» أي ؛ اختبر.

و «إبراهيم» مفعول مقدم ، وهو واجب التقديم عند جمهور النحاة ؛ لأنه متى اتّصل بالفاعل ضمير يعود على المفعول وجب تقديمه ، لئلا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، هذا هو المشهور (١) ، وما جاء على خلافه عدوه ضرورة.

__________________

(١) حاصل المواضع التي يتقدم فيها المفعول على وجوه ثلاثة :

الأولى : ـ أن يكون المفعول ضميرا متصلا ، والفاعل اسما ظاهرا ، نحو : (ضربك زيد) فرارا من فصل الضمير مع إمكان اتصاله.

الثانية : ـ أن يحصر الفاعل بإنما اتّفاقا ، نحو : (إنما ضرب محمدا بكر).

وإنما وجب توسّطه لما ذكرناه ، فإن مضروبية محمد مقصورة على بكر ، وضاربية بكر على الاحتمال ، فلو أخّر المفعول ، لانعكس المعنى ؛ ولذلك شاهد من الكتاب الكريم ، وهو قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فالعلماء فاعل محصور فيه الخشية ، فوجب تأخيره.

وكذلك الحكم فيما إذا حصر الفاعل ب «إلّا» عند غير الكسائي ، نحو : (ما ضرب عمرا إلّا زيد) ؛ حملا على «إنما» ؛ طردا للباب على وتيرة واحدة.

أما الكسائي : فيقول بجواز تقديم الفاعل المحصور ب «إلّا» ، مثل ما سبق عنه من إجازته تقديم المفعول المحصور ب «إلّا» ، حيث قدمت (إلا) صح المحصور ؛ واستدل لذلك بقول الشاعر.

ما عاب إلا لئيم فعل ذي كرم

ولا جفا قطّ إلا جبأ بطلا

فقد تقدم فيه الفاعل المحصور ب «إلّا» معنا في الموضعين ، والأصل : ما عاب فعل ذي كرم إلا لئيم ولا جفا بطلا إلا جبأ».

وبقول الآخر :

فلم يدر إلا الله ما هيّجت لنا

أهلة أنآء الديار وشامها

فقدم الفاعل المحصور ب «إلّا» على المفعول ، وهو ما هيجت والأصل : فلم يدر ما هيّجت لنا إلا الله.

وهذا البيت لذي الرمة غيلان ، والصواب في ذكره ما سبق ، فمن إنشاده من ذكر «أهلة» بدل «عشية» ، والأهلة جمع هلال ؛ وهو ما تقوس وانحنى وأنآء جمع نؤي ؛ وهو الحفر حول الخباء أو الخيمة ، يدفع المطر ويصده عنها ، وشامها جمع شامة ؛ وهي الأثر الأسود في الأرحل.

والجمهور على خلاف ما ذهب إليه الكسائي ؛ فهم يقولون : إن «ما هيجت» ليست مفعول الفعل المذكور ، بل لفعل مقدر ، تقديره : (يرى ما هيجت لنا) ، أي : ما أثارت ، و «أهلة» منصوب على الظرف مضافة إلى أنآء الديار.

وقيل : إن أنآء جمع نأي ، وهو البعد ، والتقدير : أنآء أهل الديار فسمى أهل الديار ديارا تسمية للحال باسم المحل ، وشامها فاعل هيجت ، ويروى «أهلة وعشية» بالرفع ، فإن صحّ ، فيكون فاعل «هيجت» ، وعليه فينتصب وشامها على المفعولية.

ويقول آخر :

نبّئتهم عذّبوا بالنّار جارهم

وهل يعذّب إلّا الله بالنّار

فقدم الفاعل المحصور ب «إلّا» على المجرور ب «الباء» ، وطوى ذكر المفعول ، و «هل» فيه بمعنى «ما» النافية ، والأصل : (ما يعذب أحد أحدا بالنار إلّا الله). ـ

٤٤٢

وخالف أبو الفتح في ذلك وقال : «إن الفعل كما يطلب الفاعل يطلب المفعول ، فصار للفظ به شعور وطلب».

وقد أنشد ابن مالك أبياتا كثيرة تأخر فيها المفعول المتصل ضميره بالفاعل (١) ، منها : [السريع]

__________________

ـ «نبئتهم» مجهول بمعنى : أخبرتهم ، والتاء مفعوله الأول نائب الفاعل ، والثاني : الضمير المنصوب ، والثالث : جارهم ، و «هل» للنفي وإلّا بمعنى : غير ، أي : ما يعذب أحد بالنار غير الله ، والشاهد فيه ؛ فإن الكسائي احتج به على أن توسط المفعول ، وتأخير الفاعل لا يجب إذا كان الفاعل محصورا ب «إلّا» ؛ فإن المفعول في قوله : (وهل يعذب إلا الله) يجوز أن يقدّر قبل الفاعل وبعده.

والقائلون بوجوب توسط المفعول ، أجابوا عن نحو ما تقدم من الأبيات ؛ فقدروا قبل «فعل ذي كرم» ـ عاب ـ ، وقبل «بطلا» ـ بنار ، وقبل «ما هيجت» ـ درى ـ ؛ بناء على أن ما قبل «إلا» لا يعمل فيما بعدها في غير الأمور المستثناة ، وقدروا قبل المجرور في البيت الأخير وهو بالنار ـ يعذّب ـ ، فلم يتقدم الفاعل المحصور على المفعول ؛ لأن هذا ليس مفعولا للفعل المذكور.

الثالثة : ـ أن يتصل بالفاعل ضمير المفعول ، نحو : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) ف «إبراهيم» مفعول به متوسط و «ربه» فاعل مؤخّر وجوبا.

وأيضا : فإن قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) فيه «الظالمين» مفعول به متوسط ، و «معذرتهم» فاعل مؤخر.

وإنما وجب توسط المفعول به ؛ لئلا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، لو تأخر المفعول به ، وهو غير جائز عند الأكثرين ، لا في نثر ولا في شعر ، إلا في مواضع منها : ـ ذكر الضمير ثم ذكر مفسره بعده ؛ لغرض التفخيم بذكره مبهما ثم مفسرا ، فيكون أوقع في النفس ، أو لغرض التأكيد بذكره مجملا ثم مفصلا ، فلا يكون هناك لبس ، وليس شيء من هذين مقصودا فيما نحن فيه ؛ لأن المقصود من ذكر إبراهيم ونحوه : أن يكون مفعولا ، وأنت إذا جئت بعد الضمير المبهم بشيء الغرض الأصلي منه التفسير فقط ، لم يبق الإبهام.

وإذا جئت بعده بشيء الغرض الأصلي منه غير التفسير ؛ كالمفعول هنا ـ فلا يكفي في التفسير ؛ لأنه يحمل على ما هو المراد الأصلي منه ، ويبقى الإبهام بحاله.

وأجاز الأخفش ، وتبعه ابن جني ، وأبو عبد الله الطوال : عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، في الشعر والنثر.

واستدل من الشعر بقوله :

جزى ربه عني عدي بن حاتم

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

(١) وشذ عود الضمير من الفاعل المتقدم ، وهو «أصحابه» على المفعول المتأخر ، وهو «مصعبا» ؛ لأن فيه عود الضمير على متأخّر لفظا ورتبة ، وهذا ممنوع عند جمهور النحويين ، وما ورد من ذلك تأوّلوه ، وأجازها أبو عبد الله الطوال من الكوفيين ، وأبو الفتح بن جني ، وتابعهما ابن مالك ؛ وممّا ورد من ذلك قول الشاعر :

لما رأى طالبوه مصعبا ذعروا

كسا حلمه ذا الحلم أثواب سؤدد

جزى ربه عني عديّ بن حاتم

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

ويجوز التأويل بأصحاب العصيان ، والأولى تجويز رأي الأخفش وابن جني على قلة ، وليس للبصريين منعه. (حاشية الخضري ١ / ١٦٦ ، الكافية ١ / ٧٣).

٤٤٣

٧٧٠ ـ لمّا عصى أصحابه مصعبا

أدّى إليه الكيل صاعا بصاع (١)

ومنها : [البسيط]

٧٧١ ـ جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار (٢)

وقال ابن عطية : وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع الابتلاء به ، إذ معلوم أن الله هو المبتلي ، واتّصال ضمير المفعول بالفاعل موجب للتقديم ، يعني أن الموجب للتقديم سببان : سبب معنوي وسبب صناعي.

و «إبراهيم» علم أعجمي.

قيل : معناه قبل النقل أب رحيم.

فصل في تفسير لفظ إبراهيم

قال الماوردي : هذا التفسير بالسريانية وبالعربية فيما حكى ابن عطية أب رحيم.

قال السهيلي : كثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي ، أو يقاربه في اللفظ ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب رحيم ، راحم بالأطفال ، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذي يموتون صغارا إلى يوم القيامة [على ما روى البخاري في حديث الرؤيا الطويل أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رأى في الروضة إبراهيم عليه‌السلام وحوله أولاد الناس (٣)](٤).

وفيه لغات سبع ، أشهرها : إبراهيم بألف وياء ، وإبراهام بألفين ، وبها قرأ هشام وابن ذكوان في أحد وجهيه في «البقرة» ، وانفرد هشام بها في ثلاثة مواضع في آخر «النساء» وموضعين في آخر «براءة» وموضع في آخر «الأنعام» وآخر «العنكبوت» ، وفي «النجم» و «الشورى» و «الذاريات» و «الحديد» والأول في «الممتحنة» ، وفي «إبراهيم» وفي «النحل» موضعين ، وفي «مريم» ثلاثة ، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعا منها خمسة عشر في «البقرة» وثلاثة عشر في السور المذكورة.

__________________

(١) البيت للسفّاح بن بكير. ينظر خزانة الأدب : ١ / ٢٨٩ ، ٢٩٠ ، ٦ / ٩٧ ، وشرح اختيارات المفضل : ص ١٣٦٢ (الحاشية) ، ولسان العرب : ١٥ / ١٤٨ (نجا) ، وخزانة الأدب : ١ / ٢٧٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٩.

(٢) البيت لسليط بن سعد. ينظر الأغاني : ٢ / ١١٩ ، خزانة الأدب : ١ / ٢٩٣ ، ٢٩٤ ، معجم ما استعجم : ص ٥١٦ ، والدرر : ١ / ٢١٩ ، المقاصد النحوية : ٢ / ٤٩٥ ، وتخليص الشواهد : ص ٤٨٩ ، وتذكرة النحاة : ص ٣٦٤ ، خزانة الأدب : ١ / ٢٨٠ ، شرح الأشموني : ١ / ١٧٠ ، شرح ابن عقيل : ص ٢٥٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٦٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٩.

(٣) أخرجه البخاري (١٢ / ٤٥٧ ـ ٤٥٨) كتاب تعبير الرؤيا : (باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح) حديث (٧٠٤٧) من حديث سمرة بن جندب.

(٤) سقط في ب.

٤٤٤

وروي عن ابن عامر قراءة (١) جميع ما في القرآن كذلك.

ويروى أنه قيل لمالك بن أنس : إن أهل «الشام» يقرءون ستة وثلاثين موضعا إبراهام بالألف ، فقال : أهل «دمشق» (٢) بأكل البطّيخ أبصر منهم بالقراءة.

فقيل : إنهم يدعون أنها قراءة عثمان.

فقال : هذا مصحف عثمان ، فأخرجه فوجده كما نقل له.

الثالثة : إبراهم بألف بعد الراء ، وكسر الهاء دون ياء ، وبها قرأ أبو بكر (٣) ؛ وقال زيد بن عمرو بن نفيل : [الرجز]

٧٧٢ ـ عذت بما عاذ به إبراهم

إذ قال وجهي لك عان راغم (٤)

الرابعة : كذلك ، إلا أنه بفتح الهاء.

الخامسة : كذلك إلا أنه بضمها.

السادسة : إبراهم بفتح الهاء من غير ألف وياء.

قال عبد المطلب : [الرمل]

٧٧٣ ـ نحن آل الله في كعبته

لم نزل ذاك على عهد ابرهم (٥)

السّابعة : إبراهوم بالواو.

قال أبو البقاء : ويجمع على «أباره» عند قوم ، وعند آخرين «براهم».

وقيل : أبارهة وبراهمة ويجوز أبارهة [وقال المبرد رحمه‌الله تعالى : لا يقال براهم فإن الهمزة لا يجوز حذفها](٦).

وحكى ثعلب فيه : «براه» كما يقال في تصغيره : «بريه» بحذف الزوائد.

والجمهور على نصب «إبراهيم» ورفع «ربّه» كما تقدم.

__________________

(١) انظر حجة القراءات : ١١٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٦ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٦٤ ، ٦٥ ، وشرح شعلة : ٢٧٥ ، ٢٧٦.

(٢) بالكسر ، ثم الفتح ، وشين معجمة ، وآخره قاف : البلدة المشهورة قصبة الشام ، هي جنّة الشام ؛ لحسن عمارتها وبقعتها ، وكثرة أشجارها وفواكهها ، ومياهها المتدفّقة في مساكنها ، وأسواقها ، وجامعها ، ومدارسها. قيل : سمّيت بذلك ؛ لأنهم دمشقوا في بنائها أي أسرعوا. وقيل : هو اسم واضعها ، وهو دمشق بن كنعان. وقيل غير ذلك ، وهي مشهورة ينظر مراصد الاطلاع : ٢ / ٥٣٤.

(٣) انظر البحر المحيط : ١ / ٥٤٥ ، ووقع فيه «أبو بكرة» ـ بزيادة تاء متحركة ـ ، والدر المصون : ١ / ٣٥.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٤٢ ، اللسان (برهم) ، الدر المصون : ١ / ٣٥٩.

(٥) ينظر الهمع : ٢ / ٥٠ ، الدرر : ٢ / ٦٢ ، زاد المسير : ١ / ١٣٩ ، مجمع البيان : ١ / ٤٥١ ، البحر المحيط : ١ / ٥٤٢ ، الدر المصون : ١ / ٥٤٢.

(٦) سقط في ب.

٤٤٥

وقرأ ابن عباس (١) وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس. قالوا : وتأويلها دعا ربه ، فسمى دعاءه ابتلاء مجازا ؛ لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير.

والضمير المرفوع في «فأتمّهنّ» فيه قولان :

أحدهما : أنه عائد على «ربّه» أي : فأكملهن.

والثاني : أنه عائد على «إبراهيم» أي : عمل بهن ، ووفّى بهن.

وهو إبراهيم بن تارح بن ناحور مولده ب «الشوس» من أرض «الأهواز».

وقيل : «بابل» ، وقيل : «كولى» وقيل «كسكر» وقيل : «حيران».

ونقله أبوه إلى «بابل» أرض نمرود بن كنعان ، وكان له أربع بنين : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن ، ذكره السهيلي.

فصل فيما دلت عليه السورة

اعلم أنه ـ سبحانه وتعالى ـ لما شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم ، وختم هذا الفصل بشرح النعم بقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٢٢] بين نوعا آخر من البيان ، وهو أن ذكر قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ والحكمة فيه أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ معترف بفضله جميع الطّوائف ، والمشركون أيضا معترفون بفضله متشرّفون بأنهم من أولاده ، ومن ساكني حرمه ، وخادمي بيته ، فذكر فضيلته لهم ؛ لأنها تدلّ على قبول محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من وجوه :

أحدها : أنه تعالى لما أمره ببعض التكاليف ، فلما وفّى بها وخرج لا جرم نال النبوة والإمامة.

وثانيها : أنه لما طلب الإمامة لذريته فقال تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فدلّ ذلك على أنّ من أراد هذا المنصب وجب عليه ترك اللّجاج والتعصّب للباطل.

وثالثها : أن الحج (٢) من خصائص دين محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فحكى الله ـ تعالى ـ ذلك عن

__________________

(١) انظر الشواذ : ١٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٤٥ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٠.

(٢) الحجّ لغة : القصد ؛ ومنه : حجّ إلينا فلان ، أي : قدم.

انظر لسان العرب : ٢ / ٧٧٨ ، المغرب : ١٠٣ ، المصباح المنير : ١ / ١٢١.

واصطلاحا :

عرفه الحنفيّة بأنه : قصد موقع مخصوص وهو البيت ـ ، بصفة مخصوصة ، في وقت مخصوص ، بشرائط مخصوصة.

عرفه الشافعية بأنه : قصد الكعبة للنّسك.

عرفه المالكية بأنه : هو وقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة ، وطواف بالبيت سبعا ، وسعي بين الصفا والمروة كذلك ، على وجه مخصوص بإحرام. ـ

٤٤٦

إبراهيم ليكون ذلك كالحجّة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك.

ورابعها : أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود والنصارى ، فبيّن الله ـ تعالى ـ أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه ، ووجوب الاقتداء به ، فكان ذلك مما يوجب زوال الغضب عن قلوبهم.

فصل في معنى الابتلاء

والابتلاء هنا الاختبار والامتحان ، وابتلاء الله ليس ليعلم أقوالهم بالابتلاء ؛ لأنه ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات على سبيل التّفاصيل من الأزل إلى الأبد ، ولكن ليعلم الناس أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضا ، أو عاملهم معاملة المختبر.

واختلف في «الكلمات» فقال مجاهد : هي المذكورة بعدها في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) إلى آخرها من الآيات ، ورفع البيت ، وتطهير البيت ، ورفع القواعد ، والدعاء ببعث محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فإن هذه أمور شاقّة ؛ لأن الإمامة هاهنا هي النبوة وتتضمن مشاقا عظيمة. وأما بناء البيت وتطهيره ، ورفع قواعده ، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدّة البلوى فيه ، ثم إنه يتضمّن إقامة المناسك ، وقد امتحن الله ـ تعالى ـ الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالشّيطان في الموقف لرمي الجمار وغيرها.

وأما اشتغاله بالدعاء ببعث محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهو مما يحتاج إلى إخلاص العمل لله تعالى ، وإزالة الحسد عن القلب ، فكل هذه تكاليف شاقّة ، ويدلّ على إرادة ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف عطف ، فلم يقبل وقال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً).

واعترض القاضي على هذا ، فقال : إنما يجوز هذا لو قال تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم ، ثم قال بعد ذلك : إني جاعلك للناس إماما فأتمهن.

وأجيب عنه : بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط ، بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء ببعث محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكأنه ـ تعالى ـ ابتلاه بمجموع هذه الأشياء ، فأخبر كأنه ابتلاه بأمور على الإجمال ، ثم أخبر عنه أنه أتمّها ، ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل ، وهذا ليس ببعيد.

وقال طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما : عشر خصال كانت فرضا في شرعه ، وهي سنّة في شرعنا : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد ، أما التي في الرأس : فالمضمضة ، والاستنشاق ، وفرق الرأس ، وقصّ الشارب ، والسّواك ، وأما التي في البدن :

__________________

ـ عرفه الحنابلة بأنه : قصد مكة للنسك في زمن مخصوص.

انظر الاختيار : ١٧٧ ، مغني المحتاج : ١ / ٤٦٠ ، نهاية المحتاج : ٣ / ٢٣٣ ، الشرح الكبير : ٢ / ٢٠٢ ، المبدع : ٣ / ٢٨٣ ، كشف القناع : ٢ / ٣٧٥ ، أسهل المدارك : ١ / ٤٤١ ، الفواكه الدواني : ١ / ٤٠٦ ، مجمع الأنهر : ١ / ٢٥٩.

٤٤٧

فالختان ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، [والاستنجاء بالماء (١).

وفي الخبر أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أول من قصّ الشارب ، وأول من اختتن وأول من قلّم الأظفار](٢).

وقال أبو الفرج بن الجوزي حديثا عن كعب الأحبار رضي الله عنه قال : خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مختونين : آدم وشيث ونوح وإدريس وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال محمد بن حبيب (٣) الهاشمي أربعة عشر : آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان من أصحاب الرّسّ ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروي أن عبد المطلب ختن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوم سابعه وجعل مأدبة ، وسماه محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام.

قال يحيى بن أيوب ـ رضي الله تعالى عنه ـ طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممّن لقيته إلّا عند ابن أبي السّريّ.

وقال عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ابتلاه بثلاثين خصلة من خصال الإسلام : عشر منها في سورة «براءة» : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) [التوبة : ١١٢] إلى آخر الآية.

وعشر منها في سورة «الأحزاب» : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) [الأحزاب : ٣٥] إلى آخر الآية وعشر منها في «المؤمنين» : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) [المؤمنون : ١ ـ ١٠].

وروي عن ابن عباس : أربعون فزاد : وعشر في (سَأَلَ سائِلٌ) إلى قوله تعالى : (يُحافِظُونَ) [المعارج : ١ ـ ٣٤].

وقال ابن عباس ، وقتادة ، والربيع : هي مناسك الحجّ (٤).

[وقال الحسن](٥) : ابتلاه بسبعة أشياء : بالشمس والقمر ، والكواكب ، والختان على الكبر ، والنار ، وذبح الولد ، والهجرة ، فوفّى بالكلّ (٦).

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٢٦٦) والطبري (٣ / ٩) وفي تاريخه (١ / ١٤٤) وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢١٠) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : قال يوسف بن حبيب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٢) عن ابن عباس.

(٥) سقط في أ.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٤) عن الحسن.

٤٤٨

وقال يمان بن رباب : هي محاجّته قومه ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والضيافة ، والصبر عليها.

وقال بعضهم : هي قوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١].

وقال سعيد بن جبير : هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يرفعان البيت : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة : ١٢٧] الآية.

وقيل : هي قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] الآيات.

قال القفّال : وجملة القول أن الابتلاء يتناول إلزام كلّ ما في فعله كلفة شدة ومشقة ، فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء ، ويتناول كل واحد منها ، فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل ، ولو ثبتت الرواية في البعض دون البعض ، [فحينئذ يقع بين هذه الروايات](١) ، فوجب التوقّف.

فصل في وقت هذا الابتلاء

قال القاضي : هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ جعل قيامه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهنّ كالسبب لأن يجعله الله إماما ، والسبب مقدم على المسبّب ، وإذا كان كذلك فالله ـ تعالى ـ ابتلاه بالتكاليف الشّاقّة ، فلما وفّى بها لا جرم أعطاه خلعة النبوة والرسالة.

وقال غيره : إنه بعد النبوة ، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم كونه مكلفا بتلك التكاليف إلا من الوحي ، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته.

وأجاب القاضي : بأنه يحتمل أنه ـ تعالى ـ أوحى إليه على لسان جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهذه التكاليف ، فلما تمّم ذلك جعله نبيّا مبعوثا إلى الخلق.

إذا عرفت هذا فنقول : قال القاضي : يجوز أن يكون المراد بالكلمات ما ذكر الحسن من أمر الكواكب والشمس والقمر ، فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ابتلي بذلك قبل النبوة.

وأما ذبح الولد والهجرة والنار ، وكذا الختان ، فكل ذلك بعد النبوة.

يروى أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ختن نفسه ، وكان سنه مائة وعشرين سنة.

ثم قال : فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات هذه الأشياء كان المراد من قوله : «أتمهن» أنه ـ سبحانه ـ علم من حاله أنه يتمهن ، ويقوم بهن بعد النبوة ، فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة.

فصل

قال القرطبي رحمه‌الله روى في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن

__________________

(١) في أ : وجب التعارض.

٤٤٩

المسيب ، يقول : إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أول من اختتن (١) ، وأول من أضاف الضيف ، وأول من استحدّ ، وأول من قلّم الأظفار ، وأول من قصّ الشارب ، وأول من شاب ، فلما رأى الشيب قال : ما هذا؟ قال : وقار ، قال : يا رب زدني وقارا (٢).

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه قال : أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله.

قال غيره : وأول من ثرد الثّريد ، وأول من ضرب بالسيف ، وأول من استاك ، وأول من استنجى بالماء ، وأول من لبس السراويل (٣).

قوله : (قالَ إِنِّي) هذه الجملة القولية يجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها ، إذا قلنا بأنها عاملة في «إذ» ؛ [لأن التقدير : وقال إنّي جاعلك إذ ابتلى ، ويجوز أن تكون استئنافا إذا قلنا : إن العامل في «إذ» مضمر](٤) ، كأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل : قال : إنّي جاعلك.

ويجوز فيها أيضا على هذا القول أن تكون بيانا لقوله : «ابتلى» وتفسيرا له ، فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة ، وتطهير البيت ، ورفع القواعد ، وما بعدها ، نقل ذلك الزمخشري.

قوله : (جاعِلُكَ) هو اسم فاعل من «جعل» بمعنى «صيّر» فيتعدّى لاثنين :

أحدهما : «الكاف» ، وفيها الخلاف المشهور هل هي في محلّ نصب أو جر؟

وذلك أن الضمير المتصل باسم الفاعل فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه في محل جر بالإضافة.

والثاني : أنه في محل نصب ، وإنما حذف التنوين لشدة اتّصال الضمير ، قالوا : ويدلّ على ذلك وجوده في الضرورة ؛ كقولهم : [الوافر]

٧٧٤ ـ فما أدري وظنّي كلّ ظنّ

أمسلمني إلى قومي شراحي (٥)

وقال آخر : [الطويل]

٧٧٥ ـ هم الفاعلون الخير والآمرونه

 .......... (٦)

__________________

(١) ذكره السيوطي في الوسائل ص ٩ ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، والبيهقي في الشعب عن سعيد بن المسيب.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢١٩) وعزاه لابن سعد عن الكلبي.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» وعزاه لابن أبي شيبة عن السدّي.

(٤) سقط في أ.

(٥) البيت ليزيد بن محمد الحارثي. ينظر الهمع : ١ / ٦٥ ، المحتسب : ٢ / ٢٢٠ ، الدرر : ١ / ٤٣ ، العيني : ١ / ٣٨٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٦٠.

(٦) صدر بيت وعجزه :

 ..........

إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما ـ

٤٥٠

وهذا يدل على تسليم كون «نون» مسلمني تنوينا ، وإلّا فالصحيح أنها نون وقاية.

الثالث ـ وهو مذهب سيبويه ـ أنّ حكم الضمير حكم مظهره ، فما جاز في المظهر يجوز في مضمره.

والمفعول الثاني «إماما».

قوله : (لِلنَّاسِ) يجوز فيه وجهان.

أحدهما : أنه متعلق بجاعل أي لأجل النّاس.

والثاني : أنه حال من «إماما» ، فإنه صفة نكرة قدم عليها ، فيكون حالا منها ؛ إذ الأصل : إماما للناس ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف.

و «الإمام» : اسم ما يؤتمّ به أي يقصد ويتبع كالإزار اسم ما يؤتزر به.

ومنه قيل لحائط البناء : «إمام» ويكون في غير هذا جمعا ل «آمّ» اسم فاعل من أمّ يؤمّ نحو : قائم وقيام ، ونائم ونيام وجائع وجياع.

والمراد من الإمام هاهنا النبي ، ويدلّ عليه وجوه :

منها أن قوله : (لِلنَّاسِ إِماماً) يدل على أنه ـ تعالى ـ جعله إماما لكل الناس ، والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون رسولا من عند الله مستقلّا بالشرع ؛ لأنه لو كان تبعا لرسول آخر لكان مأموما [لذلك الرسول لا إماما له ، فحينئذ](١) يبطل العموم.

وأيضا إنّ اللفظ يدلّ على أنه إمام في كل شيء [والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون نبيّا.

وأيضا إنّ الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أئمة من حيث يجب على الخلق اتباعهم](٢) قال الله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [الأنبياء : ٢١].

والخلفاء أيضا أئمة ؛ لأنهم رتّبوا في محل يجب على الناس اتباعهم ، وقبول قولهم ، وأحكامهم. والقضاة ، والفقهاء أيضا أئمة لهذا المعنى ، والذي يصلّي بالناس يسمى أيضا إماما به.

قال عليه الصلاة والسلام : «إنّما جعل الإمام إماما ليؤتمّ به فإذا ركع فاركعوا» (٣)

__________________

ـ ينظر الكتاب : ١ / ١٨٨ ، شرح المفصل : ٢ / ١٢٥ ، الكامل : (٢٦٤) ، معاني القرآن للفراء : ٢ / ٣٨٦ ، الدرر : ٢ / ٢١٥ ، مجالس ثعلب : ١ / ١٢٣ ، الهمع : ٢ / ٢ / ١٥٧ ، الدر المصون : ١ / ٣٦٠.

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه البخاري (١ / ١٧١) كتاب «الصلاة» ، باب الصلاة في السطوح حديث رقم (٣٧٨) ، (١ / ٢٧٩) كتاب الأذان ، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به حديث رقم (٦٨٨) ، (١ / ٢٨٠) رقم (٦٨٩) ومسلم (١ / ٣٠٨) رقم (٧٧ / ٤١١) وأبو داود (٦٠٣) والترمذي (٣٦١) والنسائي (٢ / ١٩٦) وابن ماجه (١٢٣٨ ، ـ ـ ١٢٣٩) وأحمد (٢ / ٤٢٠) والبيهقي (٢ / ٩٢ ، ٣٠٣) ، (٣ / ٧٨) وعبد الرزاق (٤٠٧٨ ، ٤٠٨٢) والدارمي (١ / ٢٨٧) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٩ / ٣٨) وابن عبد البر (٦ / ١٣٠).

وذكره الهندي في «كنز العمال» رقم (٢٠٤٦٤ ، ٢٠٤٨٩ ، ٢٠٤٩٠).

٤٥١

وقد يسمى من يؤتم به في الباطل ، قال الله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) [القصص : ٤١] إلا أنه لا يستعمل إلا مقيدا.

فصل في إمامة سيدنا إبراهيم

اعلموا أن الله ـ تعالى ـ لما وعده بأن يجعله إماما للناس حقّق الله ـ تعالى ـ ذلك الوعد فيه إلى قيام السّاعة ، فإن أهل الأديان على شدّة اختلافها ونهاية تنافيها (١) يعظمون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب ، وإما في الدين والشريعة حتى إن عبدة الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه الصّلاة والسلام.

وقال الله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣] وقال تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠].

وقال عزوجل : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الحج : ٧٨].

وجميع أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقولون في صلاتهم : وارحم محمّدا وآل محمد كما صليت وباركت وترحّمت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم.

قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أن (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) صفة لموصوف محذوف هو مفعول أول ، والمفعول الثّاني والعامل فيهما محذوف تقديره : قال : واجعل فريقا من ذريتي إماما قاله أبو البقاء (٢).

الثاني : أن (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على «الكاف» ، كأنه قال : «وجاعل بعض ذرّيتي» كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيدا.

قال أبو حيّان : لا يصح العطف على الكاف ؛ لأنها مجرورة ، فالعطف عليها لا يكون إلّا بإعادة الجار ، ولم يعد ؛ ولأن «من» لا يمكن تقدير إضافة الجار إليها لكونها حرفا ، وتقديرها مرادفة لبعض حتى تصحّ الإضافة إليها لا يصح ، ولا يصح أن يقدر العطف من باب العطف على موضع الكاف ؛ لأنه نصب ، فتجعل «من» في موضع نصب ؛ لأنه ليس مما يعطف فيه على الموضع [في مذهب سيبويه رحمه‌الله تعالى](٣) لفوات المحرز ، وليس نظير ما ذكر ؛ لأن «الكاف» في «سأكرمك» في موضع نصب.

الثالث : قال أبو حيان : والذي يقتضيه المعنى أن يكون «من ذرّيّتي» متعلقا

__________________

(١) في أ : تنافرها.

(٢) ينظر الإملاء : ١ / ٦١.

(٣) سقط في ب.

٤٥٢

بمحذوف ، التقدير : واجعل من ذريتي إماما ؛ لأن (إِبْراهِيمَ) فهم من قوله : إني جاعلك للنّاس إماما الاختصاص فسأل أن يجعل من ذرّيته إماما.

قال شهاب الدّين (١) : إن أراد الشيخ التعلّق الصناعي ، فيتعدّى «جاعل» لواحد ، فهذا ليس بظاهر.

وإن أراد التعلق المعنوي ، فيجوز أن يريد ما يريده أبو البقاء ، ويجوز أن يكون «من ذرّيّتي» مفعولا ثانيا قدم على الأول ، فيتعلّق بمحذوف ، وجاز ذلك لأنه ينعقد من هذين الجزءين مبتدأ وخبر لو قلت : «من ذريتي إمام» لصح.

وقال ابن عطية : وقيل هذا منه على جهة الاستفهام عنهم أي : ومن ذرّيتي يا رب ماذا يكون؟ فيتعلّق على هذا بمحذوف ، ولو قدره قبل «من ذرّيّتي» لكان أولى ؛ لأن ما في حيّز الاستفهام لا يتقدم عليه.

وفي «ذرية» ثلاث لغات ضمّ الذال وكسرها وفتحها ، وبالضم قرأ الجمهور ، وبالفتح قرأ (٢) أبو جعفر الداني وبالكسر قرأ زيد بن ثابت. وفي تصريفها كلام طويل يحتاج الناظر فيه إلى تأمل.

فصل في اشتقاق ذريّة

فأما اشتقاقها ففيه أربعة مذاهب :

أحدها : أنها مشتقة من «ذروت».

الثاني : من «ذريت».

الثالث : من ذرأ الله الخلق.

الرابع : من الذّرّ.

وأما تصريفها فذرّيّة بالضم إن كانت من ذروت ، فيجوز فيها أن يكون وزنها «فعّولة» ، والأصل : «ذرّووة» ، فاجتمع واوان : الأولى زائدة للمد ، والثانية لام الكلمة فقلبت لام الكلمة ياء تخفيفا ، فصار اللفظ «ذرّوية» ، فاجتمع ياء وواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت في الياء التي هي منقلبة من لام الكلمة ، وكسر ما قبل الياء ، وهي الراء للتجانس.

ويجوز أن يكون وزنها «فعّيلة» ، والأصل : «ذرّيوة» ، فاجتمع ياء المد والواو

__________________

(١) ينظر الدر المصون : ١ / ٣٦١.

(٢) انظر البحر المحيط : ١ / ٥٤٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٦١ ، ونسب القرطبي القراءتين لزيد بن ثابت.

انظر القرطبي : ٢ / ٧٤.

٤٥٣

التي هي لام الكلمة ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت فيها ياء المد. وإن كانت من ذريت لغة في ذروت فيجوز فيها أيضا أن يكون وزنها «فعّولة» أو فعّيلة كما تقدم ، وإن كانت «فعّولة» فالأصل «ذرّوية» ففعل به ما تقدم من القلب والإدغام.

وإن كانت «فعّيلة» فالأصل : «ذرّيية» ، فأدغمت الياء الزائدة في الياء التي هي لام.

وإن كانت من ذرأ مهموزا ، فوزنها «فعّيلة» ، والأصل : «ذرّيئة» فخففت الهمزة بأن أبدلت ياء كهمزة «خطيئة» و «النسيء» ، ثم أدغمت الياء الزائدة في الياء المبدلة من الهمزة.

وإن كانت من «الذّر» فيجوز في وزنها أربعة أوجه :

أحدها : «فعليّة» وتحتمل هذه الياء أن تكون للنّسب ، وغيّروا الذّال من الفتح إلى الضم كما قالوا في النسب إلى الدهر : دهري ، وإلى السهل سهلي بضم الدال والسين ، وأن تكون لغير النسب فتكون ك «قمرية».

الثاني : أن تكون «فعّيلة» ك «مرّيقة» والأصل «ذرّيرة» ، فقلبت الراء الأخيرة ياء لتوالي الأمثال ، كما قالوا : تسرّيت وتظنّيت في تسررت وتظننت.

الثالث : أن تكون «فعّولة» ك «قدوس» و «سبّوح» ، والأصل : «ذرّورة» فقلبت الراء ياء لما تقدم ، فصار ذرّوية فاجتمع واو وياء ، فجاء القلب والإدغام كما تقدم.

الرابع : أن تكون فعلولة ، والأصل : ذرّورة ، ففعل بها ما تقدم في الوجه الذي قبله.

وأما ذرّية بكسر الذال فإن كانت من ذروت فوزنها فعّيلة ، والأصل : ذرّيوة ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء بعدها ، فإن كانت من ذريت فوزنها فعلية أيضا ، وإن كانت من ذرأ فوزنها فعّيلة أيضا كبطّيخة ، والأصل ذرّيئة. ففعل فيها ما تقدم في المضمومة الذال.

وإن كانت من الذّرّ فتحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون وزنها فعليّة نسبة إلى الذر على غير قياس في المضمومة.

الثاني : أن تكون «فعّيلة».

الثالث : أن تكون «فعليلة» ك «حلتيت» والأصل فيهما : ذرّيرة ففعل فيهما من إبدال الراء الأخيرة ياء والإدغام فيها.

وأما «ذرّيّة» بفتح الذال : فإن كانت من ذروت أو ذريت فوزنها : فعّيلة ك «سكينة» والأصل ذرّيوة أو ذرّيية أو فعّولة والأصل ذرّورة أو ذرّوية ، ففعل به ما تقدم في نظيره.

وإن كانت من ذرأ فوزنها : إما فعّيلة ك «سكينة» ، والأصل : ذرّيئة وإما فعّولة ك «خرّوبة» والأصل : ذرّوءة ففعل به ما تقدم في نظيره.

وإن كانت من الذر ففي وزنها أيضا أربعة أوجه :

٤٥٤

أحدها : فعليّة ، والياء أيضا تحتمل أن تكون للنسب ، ولم يشذّوا فيه بتغيير كما شذّوا في الضم والكسر وألّا يكون نحو : برنية.

الثاني : فعّولة ك «خرّوبة» والأصل ذرّورة.

الثالث : فعّيلة ك «سكينة» والأصل : ذريرة.

الرابع : فعلولة ك «بكّولة» ، والأصل ذرورة أيضا ، ففعل به ما تقدم في نظيره من إبدال الراء الأخيرة ، وإدغام ما قبلها فيها وكسرت الذال إتباعا ، وبهذا الضبط الذي فعلته اتضح القول في هذه اللفظة.

فصل في معنى الذّرية

النسل يقع على الذكور الإناث ، والجمع الذراري.

وزعم بعضهم أنها تقع على الآباء كوقوعها على الأبناء مستدلّا بقوله عزوجل : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١] يعني : نوحا ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومن معه ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

فصل

هل كان إبراهيم عليه ـ السّلام ـ مأذونا له في قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أو لم يكن مأذونا فيه؟ فإن أذن الله ـ تعالى ـ في هذا الدعاء فلم ردّ دعاءه؟ وإن لم يأذن له فيه كان ذنبا.

قلنا : قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) يدلّ على أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ طلب أن يكون بعض ذريته أئمة ، وقد حقق الله ـ تعالى ـ إجابة دعاءه في المؤمنين من ذريته ك «إسماعيل» ، و «يعقوب» ، و «يوسف» ، و «موسى» ، و «هارون» و «داود» ، و «سليمان» ، و «أيّوب» ، و «يونس» ، و «زكريا» ، و «يحيى» ، و «عيسى» ، عليهم‌السلام وجعل آخرهم نبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من ذرّيته الذي هو أفضل الخلق عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

قوله تعالى : (قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

الجمهور على نصب (الظَّالِمِينَ) مفعولا ، و (عَهْدِي) فاعل ، أي : لا يصل عهدي إلى الظالمين فيدركهم.

وقرأ (١) قتادة ، والأعمش ، وأبو رجاء : «الظالمون» بالفاعلية ، و «عهدي» مفعول به ، والقراءتان ظاهرتان ؛ إذ الفعل يصحّ نسبته إلى كل منهما ، فإن من نالك فقد نلته.

__________________

(١) وقرأ بها ابن مسعود ، وطلحة بن مصرف.

انظر القرطبي : ٢ / ٧٤ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٠٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٤٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٣ ، وإعراب النحاس : ١ / ٢٠٩ ، والشواذ : ٩ ، والتخريجات النحوية : ٣٦٢.

٤٥٥

والنّيل : الإدراك ، وهو العطاء أيضا ، نال ينال نيلا فهو نائل ، وقرأ حمزة وحفص بإسكان الياء من : «عهدي» ، والباقون بفتحها.

فصل في تحرير معنى العهد

اختلفوا في العهد ، فقيل : الإمامة.

وقال السدي : النبوة ، وهو قول ابن عباس.

وقال عطاء : رحمتي (١).

وقيل : عهده أمره ، ويطلق على الأمر ، قال سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) [آل عمران : ١٨٣] أي : أمرنا ، وقال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) [يس : ٦٠] يعني : ألم أقدم إليكم الأمر به ، فيكون معنى قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي : لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل أوامر الله.

[قال قتادة رحمه‌الله تعالى : هو الإيمان.

وقال مجاهد والضحاك رحمهما‌الله هو طاعتي ، أي : ليس لظالم أن يطاع في ظلمه (٢)

ومعنى الآية : لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالما من ولدك.

وقال أبو عبيدة رحمه‌الله تعالى : العهد الأمان من النار ؛ لقوله عزوجل : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ)](٣) [الأنعام : ٨٢]

قال ابن الخطيب : والأول أولى ؛ لأنه جواب لسؤال الإمامة.

فإن قيل : أفما كان إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عالما بأن النبوة لا تليق بالظّالمين؟

فالجواب : بلى ، ولكن لم يعلم حال ذرّيته ، فبيّن الله ـ تعالى ـ أن فيهم من هذا حاله ، وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم.

فصل في عصمة الأنبياء

الآية تدلّ على عصمة الأنبياء من وجهين.

الأول : أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد : الإمامة ، ولا شكّ أن كل نبي إمام ، فإن الإمام هو الذي يؤتم به ، والنبي أولى الناس ، وإذا دلّت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقا ، فبأن تدلّ على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقا فاعلا للذنب والمعصية أولى.

الثاني : أنّ العهد إن كان هو النبوة ، وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظّالمين ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري (٣ / ٢٠ ، ٢١ ، ٢٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٢) رقم (١٩٥٦).

(٣) سقط في ب.

٤٥٦

وإن كان هو الإمامة ، فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماما يؤتم به ، وكل فاسق ظالم لنفسه ، فوجب ألّا تحصل النبوة لأحد من الفاسقين.

فصل في أنه هل يجوز عقد الإمام للفاسق؟

قال الجمهور من الفقهاء والمتكلّمين : الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له ، واختلفوا في أنّ الفسق الطّارىء هل يبطل الإمامة أم لا؟

واحتج الجمهور على أنّ الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية ، ووجه الاستدلال بها من وجهين :

[الأول : ما بيّنا أن قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) جواب لقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) طلب الإمامة الّتي ذكرها الله تعالى ، فوجب أن يكون المراد بهذا العهد هو الإمامة ، ليكون الجواب مطابقا للسؤال ، فتصير الآية كأنه ـ تعالى ـ قال : لا ينال الإمامة الظّالمين ، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه ، فكانت الآية دالّة على ما قلناه](١).

فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهرا وباطنا ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة.

[قلنا](٢) : أما الشيعة [فيستدلون](٣) بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العصمة ظاهرا وباطنا.

وأما نحن فنقول : مقتضى الآية ذلك إلّا أنا تركنا عبارة الباطن ، فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة.

فإن قيل : أليس أن يونس عليه الصلاة والسلام قال : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] وقال آدم : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣]؟

قلنا : المذكور في الآية هو الظلم المطلق ، وهذا غير موجود في آدم ويونس عليهما‌السلام.

الوجه الثاني : أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر ، قال الله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠] يعني : ألم آمركم بهذا؟

وقال الله تعالى : (قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) [آل عمران : ١٨٣] يعني أمرنا ، ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم. إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول : لا يخلو قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل منهم أوامر الله تعالى ، ولما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : فالجواب.

(٣) في أ : فيشترطون.

٤٥٧

على أن أوامر الله ـ تعالى ـ لازمة للظالمين ، كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر ، وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله ـ تعالى ـ وغير مقتدى بهم فيها ، فلا يكونون أئمة في الدّين ، فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق ، قال عليه‌السلام : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (١) ودل أيضا على أن الفاسق لا يكون حاكما ، وأن أحكامه لا تنفذ إذ ولّي الحكم ، وكذلك لا تقبل شهادته ، ولا خبره [عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا فتياه إذا أفتى ، ولا يقدّم للصّلاة ، وإن كان هو بحيث لو اقتدى به ، فإنه لا تفسد صلاته](٢).

وقال أبو بكر الرّازي : «ومن النّاس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أن يجوز كون الفاسق إماما وخليفة ، ولا يجوز كون الفاسق قاضيا» ، قال : وهذا خطأ ، ولم يفرق أبو حنيفة بين الإمام والحاكم في أن شرط كل واحد منهما العدالة ، وكيف يكون خليفة ، وروايته غير مقبولة ، وأحكامه غير نافذة.

قال : وإنما غلط من غلط في هذه الرواية أن قول أبي حنيفة : أن القاضي إذا كان عدلا في نفسه ، وتولى القضاء من إمام جائر فإنّ أحكامه نافذة ، والصّلاة خلفه جائزة ؛ لأن القاضي إذا كان عدلا في نفسه ، ويمكنه تنفيذ الأحكام كانت أحكامه نافذة ، فلا اعتبار في ذلك بمن ولّاه ؛ لأن الذي ولّاه بمنزلة سائر أعوانه ، وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولا ، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرّضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعوانا له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذا ، وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان. والله أعلم.

فصل في أخذ الأرزاق من الأئمة الظّلمة

ونقل القرطبي رحمه‌الله تعالى عن ابن خويزمنداد أنه قال : وأما أخذ الأرزاق من الأئمّة الظلمة فله ثلاثة أحوال : إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة ، فجائز أخذه ؛ وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجّاج وغيره.

وإن كان مختلطا حلالا وظلما ، كما في أيدي الأمراء اليوم ، فالورع تركه ، ويجوز

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٩ / ١٥٩) كتاب أخبار الآحاد باب إجازة خبر الواحد حديث رقم (٧٢٥٧).

ومسلم في الصحيح (٣ / ١٤٦٩) كتاب الإمارة (٣٣) باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (٨) حديث رقم (٣٩ / ١٨٤٠) وأبو داود في السنن كتاب الجهاد باب ٩٥.

والنسائي في السنن كتاب البيعة باب ٣٢ ـ وأحمد في المسند (٤ / ٤٢٦ ، ٤٢٧ ، ٤٣٢ ، ٤٣٦) ، (٥ / ٦٦ ، ٧٠) ـ والبيهقي في السنن (٨ / ١٥٦) ـ والحاكم في المستدرك (٣ / ٤٤٣) ـ وابن أبي شيبة (١٢ / ٥٤٥) ـ والطبراني في الكبير (٣ / ٢٣٧) ، (١٨ / ١٥٠ ، ١٧١ ، ١٨٤ ، ١٨٥ ، ٢٢٩) ـ وذكره الهيثمي في الزوائد (٥ / ١٢٩).

(٢) سقط في أ.

٤٥٨

للمحتاج أخذه ، وهو كلصّ في يده مال مسروق ، ومال حلال ، [وقد وكله فيه رجل ، فجاء اللص يتصدق به على إنسان](١) ، فيجوز أن تؤخذ منه الصّدقة ، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحا لازما ، وإن كان الورع التنزّه عنه ، وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها ، [وإنما تحرم لجهاتها ، وإن كان في أيديهم ظلما صراحا ، فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم](٢) ، ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ، ولا مطالب ، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطّاع الطريق [ويجعل في بيت المال](٣).

قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(١٢٥)

«إذ» عطف على «إذ» قبلها ، وقد تقدم الكلام فيها ، و «جعلنا» يحتمل أن يكون بمعنى «خلق» و «وضع» فيتعدّى لواحد ، وهو «البيت» ، ويكون «مثابة» نصبا على الحال وأن يكون بمعنى «صيّر» فيتعدى لاثنين ، فيكون «مثابة» هو المفعول الثاني. والأصل في «مثابة» «مثوبة» فأعلّ بالنقل والقلب ، وهل هو مصدر أو اسم مكان قولان؟

وهل الهاء فيه للمبالغة ك «علّامة» و «نسّابة» لكثرة من يثوب إليه ، أي يرجع ، أو لتأنيث المصدر ك «مقامة» أو لتأنيث البقعة؟ ثلاثة أقوال ، وقد جاء حذف هذه الهاء ؛ قال ورقة بن نوفل : [الطويل]

٧٧٦ ـ مثاب لأفناء القبائل كلّها

تخبّ إليها اليعملات الذّوامل (٤)

وقال : [الرمل]

٧٧٧ ـ جعل البيت مثابا لهم

ليس منه الدّهر يقضون الوطر (٥)

وهل معناه من ثاب يثوب أي : رجع أو من الثواب الذي هو الجزاء؟

قولان :

أظهرهما : أولهما قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم : إنهم يثوبون إليه في كل عام.

وعن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما : [أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى

__________________

(١) في أ : متصدق بالقرب على إنسان.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر اللسان (ثوب) ، القرطبي : ٢ / ٧٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٦٣ ، المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٧.

(٥) ينظر البحر : ١ / ٥٥١ ، الدر المصون : ١ / ٣٦٣.

٤٥٩

العود إليه](١) ، وقرأ الأعمش (٢) وطلحة «مثابات» جمعا ، ووجهه أنه مثابة لكلّ واحد من الناس.

قوله تعالى : (لِلنَّاسِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة لمثابة ومحلّه النصب.

والثاني : أنه متعلّق بجعل أي : لأجل الناس يعني مناسكهم.

قوله تعالى : (وَأَمْناً) فيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف على «مثابة» وفيه التأويلات المشهورة : إما المبالغة في جعله نفس المصدر ، وإما على حذف مضاف ، أي : ذا أمن ، وإما على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل ، أي : آمنا ، على سبيل المجاز كقوله : (حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧].

والثاني : أنه معمول لفعل محذوف تقديره : وإذ جعلنا البيت مثابة ، فاجعلوه آمنا لا يعتدي فيه أحد على أحد.

والمعنى : أن الله جعل البيت محترما بحكمه ، وربما يؤيد هذا بقراءة (٣) : «اتّخذوا» على الأمر ، فعلى هذا يكون «وأمنا» وما عمل فيه من باب عطف الجمل عطفت جملة أمرية على خبرية ، وعلى الأول يكون من عطف المفردات.

فصل في تحرير المقصود من البيت

اعلم أنه لما ذكر أمر تكليف إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بالإمامة ذكر بعده التكليف الثاني ، وهو تطهير البيت ، فنقول : المراد بيت الله الحرام ؛ لأن الألف واللام فيه : إما للعهد أو للجنس ، وقد علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس ، فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة.

قال ابن الخطيب : وليس المراد نفس الكعبة ؛ لأنه ـ تعالى ـ وصفه بكونه «أمنا» وهذا صفة لجميع الحرم لا الكعبة فقط بدليل جواز إطلاق البيت ، والمراد منه كل الحرم.

قال تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] والمراد الحرم كله لا الكعبة نفسها ؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ، ولا في المسجد الحرام ، وقال تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٦ ـ ٢٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٢٢).

(٢) انظر الشواذ : ٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٥١ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٠٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٤ ، والقرطبي : ٢ / ٧٦ ، والتخريجات النحوية : ٥٩ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٧.

(٣) وهي قراءة الجمهور ، قرأ بها : ابن كثير وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي.

انظر الحجة : ٢ / ٢٢٠ ، وحجة القراءات : ١١٣ ، وإتحاف : ١ / ٤١٧ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٦٧ ، وشرح شعلة : ٢٧٦ ، والعنوان : ٧١.

٤٦٠