اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

وقوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) يتناول من لا يكون مكلفا ، فعند هذا فسّروا القنوت بوجوه أخر :

الأول : بكونها شاهدة على وجود الخالق ـ سبحانه ـ بما فيها من آثار الصّنعة ، وأمارات الحدوث والدلائل على الربوبية.

الثاني : كون جميعها في ملكه وقهره يتصرّف فيها كيف يشاء ، وهو قول أبي مسلم رحمه‌الله تعالى ، وعلى هذين الوجهين الآية عامة.

الثالث : أراد بما في السّموات الملائكة وما في الأرض عيسى والعزيز ؛ أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليه بالولدية أنهم قانتون له.

فصل فيمن قال اتخذ الله ولدا

قال ابن الخطيب (١) : اعلم أن الظاهر من قوله : (وَقالُوا : اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أن يكون راجعا إلى قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) [البقرة : ١١٤] وقد ذكرنا أن منهم من تأوّله على النصارى.

ومنهم من تأوّله على مشركي العرب.

ونحن قد تأولناه على اليهود ، وكل هؤلاء أثبوا الولد لله تعالى ؛ لأن اليهود قالوا : عزيز ابن الله ، والنّصارى قالوا : المسيح ابن الله ، ومشركو العرب قالوا : الملائكة بنات الله ، فلا جرم صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنها نزلت في كعب بن الأشرف ، وكعب بن الأسد ، ووهب بن يهوذا ؛ فإنهم جعلوا عزيرا ابن الله [سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.

وروى ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما](٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال الله تعالى : «كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأمّا تكذيبه إيّاي فزعم أنّي لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأمّا شتمه إيّاي فقوله : لي ولد فسبحاني أن أتّخذ صاحبة أو ولدا»(٣).

فصل في تنزيه الله تعالى

قال ابن الخطيب رحمه‌الله تعالى : احتج على التنزيه بقوله تعالى : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ووجه الاستدلال من وجوه :

__________________

(١) ينظر الرازي : ٤ / ٢١.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه النسائي في السنن ٤ / ١١٢ ، كتاب الجنائز باب أرواح المؤمنين عن أبي هريرة.

والطبراني في الكبير ١٠ / ٣٧٦ ـ وذكره الزبيدي في الإتحاف ١٠ / ٤٤٨.

وأخرجه البخاري في صحيحه ٨ / ٣١٢ (٤٩٧٥) عن ابن عباس.

٤٢١

الأول : أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته محدث ، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود ، والمخلوق لا يكون ولدا [لأن المخلوق محدث مسبوق بالعدم ، ووجوده إنما حصل بخلق الله ـ تعالى ـ وإيجاده وإبداعه ، فثبت أن ما سواه فهو عبده ، وملكه ، فيستحيل أن يكون كل شيء مما سواه ولدا له ، كلّ هذا مستفاد من قوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له كلّ ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع](١).

والثاني : أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده ، إما أن يكون قديما أزليّا أو محدثا ، فإن كان أزليّا لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولدا والآخر والدا أولى من العكس ، فيكون ذلك الحكم حكما مجرّدا من غير دليل ، وإن كان الولد حادثا كان مخلوقا لذلك القديم وعبدا له فلا يكون ولدا له.

والثالث : أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد ، فلو فرضنا له ولدا لكان مشاركا له من بعض الوجوه ، وممتازا عنه من وجه آخر ، وذلك يقتضي كون كلّ واحد منهما مركبا ومحدثا وذلك محال ، فإذن المجانسة ممتنعة ، فالولدية ممتنعة.

الرابع : أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ، ورجاء الانتفاع بمعونته حال عجز الأب عن أمور نفسه ، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصحّ على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة ، فإذا كان كل ذلك محال ، كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالا. [يحكى أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال لبعض النصارى : لو لا تمرد عيسى عن عبادة الله عزوجل لصرت على دينه فقال النصراني : كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع جده في طاعة الله تعالى؟ فقال علي رضي الله عنه : فإن كان عيسى إلها فكيف يعبد غيره ، إنما العبد هو الذي تليق به العبادة ، فانقطع النصراني (٢)](٣).

قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ) المشهور رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو بديع.

وقرىء (٤) بالجر على أنه بدل من الضمير في «له» [وفيه الخلاف المشهور](٥) وقرىء بالنصب على المدح.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره ٤ / ٢٣.

(٣) سقط في ب.

(٤) بالجر قرأ صالح بن أحمد ، وبالنصب المنصور.

انظر الشواذ : ١٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٣٤ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٢.

(٥) سقط في ب.

٤٢٢

و (بَدِيعُ السَّماواتِ) من باب الصفة المشبهة أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلا في الأصل ، والأصل بديع سماواته ، أي بدعت لمجيئها على شكل فائق حسن غريب ، ثم شبهت هذه الصفة باسم الفاعل ، فنصبت ما كان فاعلا ، ثم أضيفت إليه تخفيفا ، وهكذا كلّ ما جاء من نظائره ، فالإضافة لا بد وأن تكون من نصب ؛ لئلا يلزم إضافة الصفة إلى فاعلها ، وهو لا يجوز ، كما لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل.

وقال الزمخشري (١) رحمه‌الله تعالى : و (بَدِيعُ السَّماواتِ) من باب إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها.

ورده أبو حيان بما تقدم ، ثم أجاب عنه بأنه يحتمل أن يريد إلى فاعلها في الأصل قبل أن يشبه.

وأجاز الزمخشري فيه وجها ثانيا : وهو أن يكون «بديع» بمعنى مبدع ؛ كما أن سميعا في قول عمرو بمعنى مسمع ؛ نحو : [الوافر]

٧٥٣ ـ أمن ريحانة الدّاعي السّميع

يؤرّقني وأصحابي هجوع (٢)؟

إلا أنه قال : «وفيه نظر» ، وهذا الوجه لم يذكر ابن عطية غيره ، وكأن النظر الذي ذكره الزمخشري ـ والله أعلم ـ هو أن «فعيلا» بمعنى «مفعل» غير مقيس ، وبيت عمرو رضي الله عنه متأول ، وعلى هذا القول يكون بديع السموات من باب إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تقديرا.

والمبدع : المخترع المنشىء ، والبديع : الشيء الغريب الفائق غيره حسنا.

قوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً) العامل في «إذا» محذوف يدل عليه الجواب من قوله: (فَإِنَّما يَقُولُ) ، والتقدير : إذا قضى أمرا يكون ، فيكون هو الناصب له.

و «قضى» له معان كثيرة.

قال الأزهري رحمه‌الله تعالى : «قضى» على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشّيء وتمامه ؛ قال أبو ذؤيب : [الكامل]

٧٥٤ ـ وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السّوابع تبّع (٣)

__________________

(١) ينظر الكشاف : ١ / ١٨١.

(٢) البيت لعمرو بن معد يكرب. ينظر ديوانه : ص ١٤٠ ، والأصمعيات : ص ١٧٢ ، والأغاني : ١٠ / ٤ ، وخزانة الأدب : ٨ / ١٧٨ ، ١٧٩ ، ١٨١ ، ١٨٢ ، ١٨٧ ، ١١ / ١١٩ ، وسمط اللآلي : ص ٤٠ ، والشعر والشعراء : ١ / ٣٧٩ ، ولسان العرب (سمع) ، والدر المصون : ١ / ٣٥٢.

(٣) ينظر لسان العرب (تبع) ، (صنع) ، (قضى) ، وشرح المفصل : ٣ / ٥٩ ، وسر صناعة الإعراب : ٢ / ٧٦٠ ، وشرح أشعار الهذليين : ١ / ٣٩ ، والمعاني الكبير : ص ١٠٣٩ ، وشرح المفصل : ٣ / ٥٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٣.

٤٢٣

وقال الشّماخ : [الطويل]

٧٥٥ ـ قضيت أمورا ثمّ غادرت بعدها

بوائق في أكمامها لم تفتّق (١)

فيكون بمعنى «خلق» نحو : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت : ١٢] وبمعنى أعلم: (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [الإسراء : ٤].

وبمعنى أمر : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣].

وبمعنى وفّى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [القصص : ٢٩].

وبمعنى ألزم : قضى القاضي بكذا.

وبمعنى أراد : «وإذا قضى أمرا».

وبمعنى أنهى ، ويجيء بمعنى قدّر وأمضى ، تقول : قضى يقضي قضاء ؛ قال : [الطويل]

٧٥٦ ـ سأغسل عنّي العار بالسّيف جالبا

عليّ قضاء الله ما كان جالبا (٢)

ومعناه الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع ، من قولهم : قضى القاضي لفلان على فلان بكذا إذا حكم ؛ لأنه فصل للدعوى.

ولهذا قيل : حاكم فيصل إذا كان قاطعا للخصومات.

وحكى ابن الأنباري عن أهل اللّغة أنهم قالوا : القاضي معناه القاطع الأمور المحكم لها.

ومنه : انقضى الشيء : إذا تم وانقطع.

وقولهم : قضى حاجته أي : قطعها عن المحتاج ودفعها عنه.

وقضى دينه : إذا أدّاه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه ، أو انتفع كل منهما من صاحبه.

وقولهم : قضى الأمر ، إذا أتمه وأحكمه.

وأما قولهم : قضى المريض وقضى نحبه : إذا مات ، وقضى عليه : قتله فمجاز. [واختلفوا في الأمر هل هو حقيقة في القول المخصوص أو حقيقة في الفعل وفي القدر المشترك وهو كذا في أصول الفقه والله أعلم](٣).

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجها :

الأول : الدين ؛ قال الله تعالى : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) [التوبة : ٤٨] يعني : دينه.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٤٤٩) ، اللسان (بوج) ، البحر المحيط : ١ / ٥٢٦ ، تفسير الطبري : ٢ / ٥٤٣ ، مشكل إعراب القرآن : ٣٤٣ ، القرطبي : ٢ / ٦١ ، الدر المصون : ١ / ٣٥٣.

(٢) البيت لسعد بن ناشب. ينظر الحماسة : ٦٩١ ، البحر المحيط : ١ / ٥٢٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٥٣.

(٣) سقط في ب.

٤٢٤

الثاني : القول ؛ قال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) [المؤمنون : ٢٧] يعني قولنا. وقوله : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) [طه : ٦٢] يعني قولهم.

الثالث : العذاب ؛ قال تعالى : (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) يعني لما وجب العذاب بأهل النّار.

الرابع : عيسى عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً) [مريم : ٣٥] يعني : عيسى عليه الصلاة والسلام.

الخامس : القتل ب «بدر» ، قال الله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) [غافر : ٧٨] يعني : القتل ب «بدر» ، وقوله : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٢] يعني قتل كفار «مكة».

السادس : فتح «مكة» ؛ قال الله تعالى : (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [التوبة : ٤٢] يعني فتح «مكة».

السابع : قتل «قريظة» وجلاء «بني النضير» ؛ قال الله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة : ١٠٩].

الثامن : القيامة ، قال الله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

التاسع : القضاء ؛ قال الله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) [الرعد : ٢] يعني القضاء.

العاشر : الوحي ؛ قال الله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) [السجدة : ٥] يعني الوحي.

الحادي عشر : أمر الخلق ؛ قال الله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى : ٥٣].

الثاني عشر : النصر ، قال الله تعالى : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) [آل عمران : ١٥٤] يعنون : النصر ، (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٥٤] يعني النصر.

الثالث عشر : الذنب ؛ قال الله تعالى : (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) [الطلاق : ٩] يعني جزاء ذنبها.

الرابع عشر : الشأن والفعل ، قال الله تعالى (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧] لعله : وشأنه.

قوله تعالى : (فَيَكُونُ) الجمهور على رفعه ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مستأنفا أي خبرا لمبتدأ محذوف أي : فهو يكون ، ويعزى لسيبويه ، وبه قال الزّجّاج في أحد قوليه.

والثاني : أن يكون معطوفا على «يقول» ، وهو قول الزّجاج والطبري ، ورد ابن عطية هذا القول ، وقال : إنه خطأ من جهة المعنى ؛ لأنه يقتضي أن القول مع التّكوين والوجود. انتهى. يعني أن الأمر قديم والتكوين حادث فكيف يعطف عليه بما يقتضي تعقيبه له؟

٤٢٥

وهذا الرد إنما يلزم إذا قيل بأن الأمر حقيقة.

أما إذا قيل بأنه على سبيل التمثيل ، وهو [الأصح](١) فلا.

ومثله قول أبي النجم : [الرجز]

٧٥٧ ـ إذ قالت الأنساع للبطن الحقي (٢)

الثالث : أن يكون معطوفا على «كن» من حيث المعنى ، وهو قول الفارسي ، وضعّف أن يكون عطفا على «يقول» ؛ لأن من المواضع ما ليس فيه «يقول» ، كالموضع الثاني في «آل عمران» ، وهو (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ولم ير عطفه على «قال» من حيث إنه مضارع ، فلا يعطف على ماضي ، فأورد على نفسه : [الكامل]

٧٥٨ ـ ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

فمضيت ثمّت قلت : لا يعنيني (٣)

__________________

(١) في أ : الصحيح

(٢) ينظر الخصائص : ١ / ٢٤ ، الكشاف : ١ / ١٨١ ، القرطبي : ٢ / ٦٣ ، الدر المصون : ١ / ٣٥٤.

(٣) البيت لرجل من سلول ينظر في الدرر : ١ / ٧٨ ، وشرح التصريح : ٢ / ١١ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٣١٠ ، والكتاب : ٣ / ٢٤ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٥٨ ، ولشمر بن عمرو الحنفي في الأصمعيات : ص ١٢٦ ، ولعميرة بن جابر الحنفي في حماسة البحتري : ص ١٧١ ، وينظر الأزهية : ص ٢٦٣ ، والأشباه والنظائر : ٣ / ٩٠ ، والأضداد : ص ١٣٢ ، وأمالي ابن الحاجب : ص ٦٣١ ، وأوضح المسالك : ٣ / ٢٠٦ ، وجواهر الأدب : ص ٣٠٧ ، وخزانة الأدب : ١ / ٣٥٧ ، ٣٥٨ ، ٣ / ١٠١ ، ٤ / ٢٠٧ ، ٢٠٨ ، ٥ / ٢٣ ، ٥٠٣ ، ٧ / ١٩٧ ، ٩ / ١١٩ ، ٣٨٣ ، والخصائص : ٢ / ٣٣٨ ، ٣ / ٣٣٠ ، والدرر : ٦ / ١٥٤ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٢٢١ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨٤١ ، وشرح ابن عقيل : ص ٤٧٥ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ٢١٩ ، ولسان العرب (ثمم) ، (منن) ، ومغني اللبيب : ١ / ١٠٢ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٤.

إذا كان الخبر جملة اسمية ، وكان المبتدأ الثاني معرفة ـ فالجار والمجرور صفة له ، نحو : السمن منوان بدرهم ؛ وكذا إن كان معرّفا بالألف واللام ، كما في قولك : البرّ الكرّ منه بستين ؛ لأن التعريف غير مقصود قصيده ؛ لأن «أل» فيه جنسية كالتي دخلت على اللئيم في البيت الذي معنا ، فقد أفادت التعريف لفظا ، وهو في المعنى نكرة ، وعلى هذا تعرب جملة «يسبني» حالا ؛ بالنظر إلى اللفظ ، وصفة ؛ بالنسبة للمعنى ، وهو أولى من جعلها حالا ؛ لأنه أظهر للمقصود ، وهو التمدح بالوقار والتجمل ؛ لأن المعنى أمر على لئيم عادته سبي.

كما يؤيد هذا ما ذهب إليه الجمهور ، وأن النكرة لا تنعت بمعرفة ، وكذلك المعرفة لا تنعت بنكرة ، وأجاز الأخفش نعت النكرة إذا خصّصت بالمعرفة ، وجعل (الأوليان) صفة ل «آخران» في قوله تعالى : «فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ» (المائدة : ١٠٧).

وأجاز بعضهم وصف المعرفة بالنكرة مطلقا ، وأجازه ابن الطراوة بشرط كون الوصف خاصّا بذلك الموصوف كقول الشاعر :

أبيت كأني ساورتني ضئيلة

من الرقش في أنيابها السمّ ناقع

وأجاز بعض الكوفيين وصف النكرة بالمعرفة فيما فيه مدح أو ذم ؛ استشهادا بقوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مالاً) الهمزة ١ ، ٢ ، والصحيح مذهب الجمهور ، وما أوهم خلاف ذلك مؤوّل ـ

٤٢٦

فقال : «أمرّ بمعنى مررت».

قال بعضهم : ويكون في هذه الآية ـ يعني في آية «آل عمران» ـ بمعنى «كان» فليجز عطفه على «قال».

وقرأ ابن عامر (١) : «فيكون» نصبا هنا ، وفي الأولى من «آل عمران» ، وهي (كُنْ فَيَكُونُ ،) تحرزا من قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [آل عمران : ٥٩ ـ ٦٠].

وفي مريم : (كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) [مريم : ٣٥ ـ ٣٦].

وفي غافر : (كُنْ فَيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ) [غافر : ٦٨ ـ ٦٩].

ووافقه الكسائي على ما في «النحل» و «يس».

وهي : (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢].

أما آيتا «النحل» و «يس» فظاهرتان : لأن ما قبل الفعل منصوبا يصح عطفه عليه ، وسيأتي.

وأما ما انفرد به ابن عامر في هذه المواضع الأربعة ، فقد اضطرب كلام النّاس فيها ، وهي لعمري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل ، ولذلك تجرأ بعض الناس على هذا الإمام الكبير ، فقال ابن مجاهد : قرأ ابن عامر : «فيكون» نصبا ، وهذا غير جائز في العربية ؛ لأنه لا يكون الجواب هنا للأمر بالفاء إلّا في «يس» و «النحل» ، فإنه نسق لا جواب.

وقال في «آل عمران» : قرأ ابن عامر وحده : «كن فيكون» بالنصب وهو وهم. قال : وقال هشام : كان أيوب بن تميم يقرأ : «فيكون» نصبا ، ثم رجع فقرأ : «يكون» رفعا.

وقال الزجاج : «كن فيكون» رفع لا غير.

وأكثر ما أجابوا بأن هذا مما روعي فيه ظاهر اللّفظ من غير نظر للمعنى ، يريدون أنه قد وجد في اللفظ صورة أمر فنصبتا في جوابه بالفاء.

وأما إذا نظرنا إلى جانب المعنى ، فإن ذلك لا يصح لوجهين :

__________________

ـ بجعل التابع بدلا ، فإذا كان التعريف بلام الجنس ، جاز نعته بالنكرة ؛ لقربه من التنكير ، كما في البيت الذي معنا.

وشاهد آخر وضع «أمرّ» موضع «مررت» ؛ لأنه لم يرد ماضيا منقطعا ، وإنما أراد أن هذا أمره ودأبه ، فجعله كالفعل الدائم ، وإذا كان بمعنى الماضي ، فيجوز عطف الماضي عليه ، فيعطف «فمضيت» على أمر ؛ لأنه بمعنى «مررت» كما وضحنا.

وشاهد ثالث : وهو أن المرور يتعدّى ب «على» كما يتعدى ب «الباء».

ورابع : وهو أن ـ ثمّت ـ هي ثم العاطفة ، فإذا كانت مع التاء ، اختصّت بعطف الجمل.

(١) انظر السبعة : ١٦٩ ، وحجة القراءات : ١١١ ، والحجة : ٢ / ٢٠٣ ، والعنوان في القراءات السبع : ٧١ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٥٨ ، وشرح شعلة : ٢٧٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٣.

٤٢٧

أحدهما : أن هذا وإن كان بلفظ الأمر ، فمعناه الخبر نحو : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ) [مريم : ٧٥]. أي : فيمدّ ، وإذا كان معناه الخبر ، لم ينتصب في جوابه بالفاء إلا ضرورة ؛ كقوله : [الوافر]

٧٥٩ ـ سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا (١)

وقول الآخر : [الطويل]

٧٦٠ ـ لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها

ويأوي إليها المستجير فيعصما (٢)

والثاني : أن من شرط النصب بالفاء في جواب الأمر أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو : «ائتني فأكرمك» تقديره : «إن أتيتني أكرمتك».

وها هنا لا يصح ذلك إذ يصير التقدير : إن تكن تكن ، فيتحد فعلا الشرط والجزاء معنى وفاعلا ، وقد علمت أنه لا بد من تغايرهما ، وإلا يلزم أن يكون الشيء شرطا لنفسه وهو محال ، قالوا : والمعاملة اللفظية ، واردة في كلامهم نحو : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا) [إبراهيم : ٣١] (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) [الجاثية : ١٤].

وقال عمر بن أبي ربيعة : [الطويل]

٧٦١ ـ فقلت لجنّاد خذ السّيف واشتمل

عليه برفق وارقب الشّمس تغرب

وأسرج لي الدّهماء واذهب بممطري

ولا يعلمن خلق من النّاس مذهبي (٣)

فجعل «تغرب» جوابا ل «ارقب» وهو غير مترتّب عليه ، وكذلك لا يلزم من قوله أن يفعلوا ، وإنما ذلك مراعاة لجانب اللفظ.

أما ما ذكره في بيت عمر فصحيح.

وأما الآيات فلا نسلم أنّه غير مترتب عليه ؛ لأنه أراد بالعباد الخلّص ، وبذلك أضافهم إليه.

أو تقول : إن الجزم على حذف لام الأمر ، وسيأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) البيت للمغيرة بن حبناء. ينظر الكتاب : ٣ / ٣٩ ، شرح المفصل : ١ / ٢٧٩ ، المحتسب : ١ / ١٩٧ ، الهمع : ١ / ٧٧ ، الخزانة : ٣ / ٦٠ ، الدرر : ١ / ٥١ ، المقتضب : ٢ / ٢٢ ، شرح الألفية لابن الناظم :

(٦٧٩) ، الدر المصون : ١ / ٣٥٤.

(٢) البيت لطرفة بن العبد ينظر ملحق ديوانه : ص ١٥٩ ، والرد على النحاة : ص ١٢٦ ، والكتاب : ٣ / ٤٠ ، وللأعشى في خزانة الأدب : ٨ / ٣٣٩ ، والخصائص : ١ / ٣٨٩ ، ولسان العرب (دلك) ، والمحتسب : ١ / ١٩٧ ، والجنى الداني : ص ١٢٣ ، ورصف المباني : ص ٢٢٦ ، ٣٧٩ ، والمقتضب : ٢ / ٢٤ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٥.

(٣) ينظر ديوانه : (٤٢٦) ، الدر المصون : ١ / ٣٥٥.

٤٢٨

وقال ابن مالك : «إنّ» «أن» الناصبة قد تضمر بعد الحصر ب «إنما» اختيارا ، وحكاه عن بعض الكوفيين.

قال : وحكوا عن العرب : إنما هي ضربة من الأسد فتحطم ظهره بنصب «تحطم» ، فعلى هذا يكون النّصب في قراءة ابن عامر محمولا على ذلك إلّا أنّ هذا الذي نصبوه دليلا لا دليل فيه لاحتمال أن يكون من باب العطف على الاسم تقديره : إنما هي ضربة فحطم ؛ كقوله : [الوافر]

٧٦٢ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف (١)

فصل في تحرير كلمة كن

قال ابن الخطيب : اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى : (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) هو أنه ـ تعالى ـ يقول له : «كن» ، فحينئذ يتكون ذلك الشيء ، فإن ذلك فاسد ، والذي يدل عليه وجوه :

الأول : أن قوله تعالى : (كُنْ) إما أن يكون قديما أو محدثا ، والقسمان فاسدان ، فبطل القول بتوقّف حدوث الأشياء على «كن» إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون قديما لوجوه :

الأول : أن كلمة «كن» لفظة مركّبة من الكاف والنون بشرط تقدّم الكاف على النون فالنون لكونه مسبوقا بالكاف لا بد وأن يكون محدثا ، والكاف لكونه متقدما على المحدث بزمان واحد ، يجب أن يكون محدثا.

الثاني : أن كلمة «إذا» لا تدخل إلا على الاستقبال ، فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثا ؛ لأنه دخل عليه حرف إذا وقوله : «كن» مرتّب على القضاء ب «فاء» التعقيب ؛ لأنه قال : (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) والمتأخر عن المحدث محدث ، فاستحال أن يكون «كن» قديما.

الثالث : أنه ـ تعالى ـ رتّب تكوين المخلوق على قوله : «كن» ب «فاء» التعقيب ، فيكون قوله : «كن» مقدما على تكوين المخلوق بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث

__________________

(١) البيت لميسون بنت بحدل. ينظر خزانة الأدب : ٨ / ٥٠٣ ، ٥٠٤ ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٤٤ ، ولسان العرب (مسن) ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٣٩٧ ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٦٧ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦٥٣ ، والمحتسب : ١ / ٣٢٦ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٢٧٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١٤٧٧ ، وشرح شذور الذهب : ص ٤٠٥ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٢٥٠ ، وشرح المفصل : ٧ / ٢٥ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٣٤٤ ، وشرح ابن عقيل : ص ٥٧٦ ، وشرح قطر الندى : ص ٦٥ ، وخزانة الأدب : ٨ / ٥٢٣ ، والرد على النحاة : ص ١٢٨ ، والأشباه والنظائر : ٤ / ٢٧٧ ، وأوضح المسالك : ٤ / ١٩٢ ، والجنى الداني : ص ١٥٧ ، ورصف المباني : ص ٤٢٣ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ١١٢ ، ١١٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٥.

٤٢٩

بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثا ، فقوله : «كن» لا يجوز أن يكون قديما ، ولا جائز أيضا أن يكون قوله : «كن» محدثا ؛ لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله : «كن» ، وقوله : «كن» أيضا محدث ، فيلزم افتقار «كن» إلى «كن» آخر ، ويلزم التسلسل والدور ، وهما محالان ، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقّف إحداث الحوادث على قوله : «كن» وأن قوله : «كن» إن [كان] خطابا له حال وجوده ، فتحصيل للحاصل ، قاله أبو الحسن الماوردي.

قال القرطبي رحمه‌الله : والجواب من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه خبر من الله ـ تعالى ـ عن نفوذ أوامره في خلقه ، كما في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين ، ولا يكون هذا في إيجاد المعدومات.

الثاني : أن الله ـ تعالى ـ عالم بما هو كائن قبل كونه ، فكانت الأشياء التي لم تكن كائنة لعلمه بها قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : كوني ، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ؛ لتصير جميعها له ، ولعلمه بها في حال العدم.

الثالث : أن ذلك خبر من الله ـ تعالى ـ عام عن جميع ما يحدثه ويكوّنه ، إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله ، وإنما هو قضاء يريده ، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولا ، كقول أبي النّجم : [الرجز]

٧٦٣ ـ إذ قالت الأنساع للبطن الحقي (١)

ولا قول هناك ، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن.

وكقول عمرو بن هممة الدّوسيّ : [الطويل]

٧٦٤ ـ فأصبحت مثل النّسر طارت فراخه

إذا رام تطيارا يقال له : قع (٢)

وقال الآخر : [الرجز]

٧٦٥ ـ قالت جناحاه لساقيه الحقا

ونجّيا لحميكما أن يمزقا (٣)

الحجة الثانية : أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق ب «كن» قبل دخوله في الوجود ، أو حال دخوله في الوجود ، والأول باطل ؛ لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه.

والثاني أيضا باطل ؛ لأنه يرجع حاصله إلى أنه ـ تعالى ـ أمر الموجود بأن يصير موجودا ، وذلك أيضا لا فائدة فيه.

الحجة الثالثة : أن المخلوق قد يكون جمادا ، وتكليف الجماد عبث ، ولا يليق بالحكيم.

الحجة الرابعة : أن القادر هو الذي يصحّ منه الفعل وتركه بحسب الإرادات ، فإذا

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر القرطبي : ٢ / ٦٣.

(٣) ينظر القرطبي : ٢ / ٦٣.

٤٣٠

فرضنا القادر المريد منفكّا عن قوله : «كن» فإما أن يتمكّن من الإيجاد والإحداث ، أو لا يتمكّن ، فإن تمكن لم يكن الإيحاد موقوفا على قوله «كن» ، وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم ألّا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه ب «كن» فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمّيتم القدرة ب «كن» وذلك نزاع لفظي.

الحجة الخامسة : أن «كن» كلمة لو كان لها أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة.

الحجة السادسة : أن لفظة «كن» ككلمة مركبة من الكاف والنون ، بشرط كون الكاف متقدما على النون ، فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما ؛ فإن كان الأول لم يكن لكلمة «كن» أثر ألبتة بل التأثير لأحد هذين الحرفين ، وإن كان الثّاني فهو محال ؛ لأنه لا وجود لهذا المجموع ألبتة ؛ لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثّاني حاصلا ، وحين جاء الثّاني فقد فات الأول ، وإن لم يكن للمجموع وجود ألبتة استحال أن يكون للمجموع أثر ألبتة.

الحجة السابعة : قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] بين أن قوله «كن» متأخر عن خلقه ، إذ المتأخر عن الشّيء لا يكون مؤثرا في المتقدم عليه ، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله : «كن» في وجود الشيء ، فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب ، فإذا ثبت هذا فنقول : لا بد من التأويل وهو من وجوه :

الأول : أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء ، وأنه ـ تعالى ـ يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة.

الثاني : قال أبو الهذيل : إنه علامة يفعلها الله ـ تعالى ـ للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا.

الثالث : قال الأصم : إنه خاصّ بالموجودين الذين قال لهم : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥] ، ومن جرى مجراهم.

الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت ، وللموتى بالحياة. والكل ضعيف ، والقوي هو الأول.

وقال الطبري رحمه‌الله : التكوين مع الأمر لا يتقدم الموجود ، ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلّا وهو موجود بالأمر ، ولا موجود إلا وهو مأمور بالوجود ، ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله تعالى ولا يتأخر عنه كما قال تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥].

٤٣١

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : وتلخيص المعتقد في هذه الآية : أن الله ـ عزوجل ـ لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها ، قادرا مع تأخّر المقدورات ، عالما مع تأخر المعلومات ، فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال ، فهو بحسب المأمورات ؛ إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن. وكل ما يسند إلى الله ـ تعالى ـ من قدرة وعلم ، فهو قديم لم يزل والمعنى الذي تقتضيه عبارة «كن» ؛ هو قديم قائم بالذات.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(١١٨)

«لو» و «لو لا» يكونان حرفي ابتداء ، وقد تقدم عند قوله : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) [البقرة : ٦٤] ويكونان حرفي تحضيض بمنزلة : «هلا» فيختصّان بالأفعال ظاهرة أو مضمرة ، كقوله : [الطويل]

٧٦٦ ـ تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم

بني ضوطرى لولا الكميّ المقنّعا (١)

أي : لو لا تعدّون الكميّ (٢) ، فإن ورد ما يوهم وقوع الاسم بعد حرف التحضيص يؤوّل ؛ كقوله : [الطويل]

٧٦٧ ـ ونبّئت ليلى أرسلت بشفاعة

إليّ فهلّا نفس ليلى شفيعها (٣)

__________________

(١) البيت لجرير. ينظر ديوانه : (٤١٠) ، الأزهية : (١٧٧) ، الخصائص : ٢ / ٤٥ ، شرح المفصل : ٢ / ٣٨ ، ابن الشجري : ١ / ٢٧٩ ، المغني : ١ / ٢١٤ ، رصف المباني : (٢٩٣) ، شواهد المغني : (٦٦٩) ، مجاز القرآن : ١ / ٥٢ ، تأويل المشكل : ٥٤٠ ، الهمع : ١ / ١٤٨ ، الأشموني : ٤ / ٥١ ، الدرر : ١ / ١٣٠ ، شرح الحماسة للمرزوقي : ٣ / ٢٢١ ، الصاحبي (٢٥٣) ، اللسان والتاج (ضطر) ، شرح شواهد المغني (٢٢٩) ، مجمع البيان : ١ / ١٩٥ ، الكامل : ١ / ١٦٣ ، المخصص : ٣ / ١٩٩ ، الأمالي الشجرية : (٢ / ٢٩٣) ، أسرار العربية (٢٠٥) ، الجنى الداني : (٦٠٦) ، الدر المصون : ١ / ٣٥٦.

(٢) قال في المغني : الثالث [أي : من الأوجه التي تكون عليها «لو لا»] : أن تكون للتوبيخ والتنديم ؛ فتختص بالماضي ؛ نحو لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ... إلى أن قال : وقوله :

تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم

بني ضوطرى لو لا الكميّ المقنّعا

إلا أن الفعل أضمر ، أي : لو لا عددتم [الكميّ] ، وقول النحويين «لو لا تعدون» مردود ؛ إذ لم يرد أن يحضّهم على أن يعدّوا في المستقبل ، بل المراد : توبيخهم على ترك عدّه في الماضي ، وإنما قال : «تعدّون» على حكاية الحال ، فإن كان مراد النحويين مثل ذلك ، فحسن.

(٣) البيت للمجنون ينظر ديوانه : ص ١٥٤ ، ولإبراهيم الصولي ينظر ديوانه : ص ١٨٥ ، ولابن الدمينة ينظر ملحق ديوانه : ص ٢٠٦ ، وللمجنون أو لابن المدمينة أو للصمة بن عبد الله القشيري في شرح شواهد المغني : ١ / ٢٢١ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٤١٦ ، ولأحد هؤلاء أو لإبراهيم الصولي ينظر خزانة الأدب : ٣ / ٦٠ ، وللمجنون أو للصمة القشيري في الدرر : ٥ / ١٠٦ ، وللمجنون أو لغيره في المقاصد النحوية : ٤ / ٤٥٧ ، وبلا نسبة في الأغاني : ١١ / ٣١٤ ، وأوضح المسالك : ٣ / ١٢٩ ، وتخليص الشواهد : ص ٤٣٢٠ ، وجواهر الأدب : ص ٣٩٤ ، والجنى الداني : ص ٥٠٩ ، ٦١٣ ، وخزانة ـ

٤٣٢

ف «نفس ليلى» مرفوع بفعل محذوف يفسره «شفيعها» أي : فهلا شفعت نفس ليلى. وقال أبو البقاء : إذا وقع بعدها المستقبل كانت للتخضيض ، وإن وقع بعدها الماضي كانت للتوبيخ وهذا شيء يقوله علماء البيان ، وهذه الجملة التحضيضية في محلّ نصب بالقول.

قوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ) قد تقدم الكلام على نظيره فليطلب هناك.

وقرأ أبو حيوة (١) ، وابن أبي إسحاق : «تشّابهت» بتشديد الشين.

قال الدّاني : «وذلك غير جائز ؛ لأنه فعل ماض» ، يعني : أن التاءين المزيدتين إنما تجيئان في المضارع فتدغم أما الماضي فلا.

فصل في قبائح اليهود والنصارى والمشركين

هذا نوع آخر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين ، فإنهم قدحوا في التوحيد باتّخاذ الولد ، وقدحوا الآن في النبوّة.

قال ابن عباس : «هم اليهود».

وقال مجاهد : «هم النصارى» (٢) لأنهم المذكورون أولا ، ويدلّ على أن المراد أهل الكتاب قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) [النساء : ١٥٣].

فإن قيل : المراد مشركو العرب ، لأنه ـ تعالى ـ وصفهم بأنهم لا يعلمون ، وأهل الكتاب أهل العلم.

[قلنا](٣) : المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي ، وأهل الكتاب كانوا كذلك.

وقال قتادة وأكثر المفسرين : هم مشركو العرب لقوله : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] ، وقالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١].

وتقرير هذه الشبهة أنك تقول : إن الله ـ تعالى ـ يكلّم الملائكة وكلم موسى ، ويقول : يا محمد إن الله ـ تعالى ـ كلّمك فلم لا يكلمنا مشافهة ، ولا ينص على نبوتك

__________________

ـ الأدب : ٨ / ٥١٣ ، ١٠ / ٢٢٩ ، ١١ / ٤٥ ، ٣١٣ ، ورصف المباني : ص ٤٠٨ ، والزهرة : ص ١٩٣ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣١٦ ، وشرح التصريح : ٢ / ٤١ ، وشرح ابن عقيل : ص ٣٢٢ ، ومغني اللبيب : ١ / ٧٤ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٦٧. والدر المصون : ١ / ٣٥٦.

(١) انظر السبعة : ١٦٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٥٥٤) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٣) في ب : فالجواب.

٤٣٣

حتى يتأكّد الاعتقاد ، وتزول الشبهة ، فأجابهم أنا قد أيدنا قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعجزات ، وبالآيات وهي القرآن ، وسائر المعجزات ، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنّت ، فلم يجب إجابتها لوجوه :

أحدها : أنه إذا حصلت الدلالة الواحدة ، فقد تمكّن المكلف من الوصول إلى المطلوب ، فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة ، فحيث لم يكتف بها ، وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك من باب العناد ، ويدل له قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٥١].

وثانيها : لو كان في [علم الله تبارك وتعالى](١) أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآية لفعلها ، ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجا فلا جرم لم يفعل ذلك ، ولذلك قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣].

وثالثها : إنه ربما كان كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة ؛ لأن الخوارق متى توالت صار انخراق العادة عادة ، فحينئذ يخرج عن كونه معجزا.

وأما قوله تعالى : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [فالمراد أن المكذبين للرسل تتشابه أقوالهم وأفعالهم](٢) ، فكما أن قوم موسى ، [كانوا أبدا في التعنت واقتراح](٣) الأباطيل ، كقولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] وقولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] وقولهم : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) [البقرة : ٦٧] وقولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٢] ، فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبدا في العناد واللّجاج ، وطلب الباطل.

قوله : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) يعني القرآن وغيره من المعجزات كمجيء الشجرة ، وكلام الذّئب ، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، آيات قاهرة ، ومعجزات باهرة لمن كان طالبا لليقين.

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) (١١٩)

اعلم أن القوم لما أصرّوا على العناد واللّجاج الباطل ، واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بيّن الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا مزيد على ما فعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة.

قوله : (بِالْحَقِّ) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مفعولا به ، أي : بسبب إقامة الحق.

__________________

(١) في ب : معلوم.

(٢) في أ : أي تشابه أقوالهم وأفعالهم.

(٣) في أ : تعنتوا واقترحوا.

٤٣٤

الثاني : أن يكون حالا من المفعول في «أرسلناك» أي : أرسلناك ملتبسا بالحق.

الثالث : أن يكون حالا من الفاعل ، أي : ملتبسين في الحق.

وفيه وجوه :

أحدها : أنه الصدق كقوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) [يونس : ٥٣] أي : صدق وقال ابن عباس رضي الله عنهما : «بالقرآن» ، لقوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) [ق : ٥].

وقال ابن كيسان : «بالإسلام وشرائعه» ، لقوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) [الإسراء: ٨١] ، وقال مقاتل : «لم نرسلك عبثا وإنما أرسلناك بالحق» لقوله عزوجل : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الأحقاف : ٣] وعلى هذه الأقوال في تعلّق هذا الجار وجوه :

أحدها : أنه متعلّق بالإرسال.

وثانيها : أنه متعلّق بالبشير والنذير أي : أنت مبشر بالحق ومنذر به.

وثالثها : أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن ، أي أرسلناك بالقرآن حال كونك بشيرا لمن أطاع الله بالثواب ، ونذيرا لمن كفر بالعقاب ، والأولى أن يكون البشير والنذير حالا من الرسول ، أي : أرسلناك بالحق لتكون بشيرا ونذيرا لمن اتبعك (١) [ونذيرا لمن كفر بك](٢) ويجوز أن يكون بشيرا ونذيرا حالا من «الحق» ؛ لأنه يوصف أيضا بالبشارة والنّذارة ، وبشير ونذير على صيغة «فعيل».

أما بشير فتقول : هو من بشر مخففا ؛ لأنه مسموع فيه ، و «فعيل» مطرد من الثلاثي.

وأما «نذير» فمن الرباعي ، ولا ينقاس عدل مفعل إلى فعيل ، إلا أن له هنا محسّنا.

قوله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ) قرأ الجمهور : «تسأل» مبنيّا للمفعول مع رفع الفعل على النفي ، وفي معنى هذه القراءة وجوه :

أحدها : أن مصيرهم إلى الجحيم ، فمعصيتهم لا تضرّك ، ولست مسؤولا عن ذلك ، وهو كقوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠] وقوله : (عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤].

الثاني : أنك هاد وليس لك من الأمر شيء ، ولا تغتمّ لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب ، ونظيره قوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨].

الثالث : أنك لا تسأل عن ذنب غيرك ويعضد هذه القراءة قراءة (٣) أبيّ : «وما تسأل» ، وقراءة عبد الله : «ولن تسأل».

__________________

(١) في ب : كفر بك.

(٢) سقط في ب.

(٣) انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٤ ، البحر المحيط : ١ / ٥٣٨.

٤٣٥

وقال مقاتل رحمه‌الله تعالى : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لو أنّ الله تعالى أنزل بأسه باليهود لآمنوا» (١) ؛ فأنزل الله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) وقرىء (٢) «تسأل» مبنيا للفاعل مرفوعا أيضا ، وفي هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنه حال ، فيكون معطوفا على الحال قبلها ، كأنه قيل : بشيرا أو نذيرا ، وغير مسؤول.

والثاني : أن تكون مستأنفة.

وقرأ (٣) نافع ويعقوب : «تسأل» على النّهي ، وهذا مستأنف فقط ، ولا يجوز أن تكون حالا ؛ لأن الطّلب لا يقع حالا.

وفي المعنى على هذه القراءة وجهان :

الأول : روي أنه قال : ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة.

قال ابن الخطيب (٤) رحمه‌الله : وهذه الرواية بعيدة ؛ لأنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان عالما بكفرهم ، وكان عالما بأن الكافر معذّب ، فمع هذا العلم لا يجوز أن يسأل.

والثاني : معنى هذا النهي تعظيم ما وقع فيه الكفّار من العذاب ، كما إذا سألت عن إنسان واقع في بليّة ، فيقال لك : لا تسأل عنه.

وقرأ (٥) ابن مسعود رضي الله عنه : «ولن تسأل».

وقرأ أبي (٦) : «وما تسأل» ؛ ومعناهما موافق لقراءة الجمهور ، نفي أن يكون مسؤولا عنهم.

والجحيم : شدّة توقّد النار ، ومنه قيل لعين الأسد : «جحمة» لشدة توقّدها ، يقال : جحمت النّار تجحم ؛ ويقال لشدّة الحر : «جاحم» ؛ قال : [مجزوء الكامل]

٧٦٨ ـ والحرب لا يبقى لجا

حمها التّخيّل والمراح (٧)

قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره ٢ / ٦٤.

(٢) انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٤ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٦.

(٣) انظر السبعة : ١٦٩ ، والكشف : ١ / ٢٦٢ ، وحجة القراءات : ١١١ ، والحجة : ٢ / ٢٠٩ ، والعنوان : ٧١ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٦٠ ، وشرح شعلة : ٢٧٤ ، وإتحاف : ١ / ٤١٤.

(٤) ينظر الفخر الرازي : ٤ / ٢٨.

(٥) تقدمت هذه القراءة.

(٦) تقدمت هذه القراءة.

(٧) البيت لسعد بن مالك. ينظر شواهد الكتاب : ٢ / ٣٢٤ ، الخزانة : ١ / ٢٥٥ ، الحماسة : ١ / ١٩٢ ، مجمع البيان : ١ / ٤٤٤ ، الدر المصون : ١ / ٣٥٧ ، البحر : ١ / ٥٢٦.

٤٣٦

الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٢٠)

والرّضا : ضد الغضب ، وهو من ذوات «الواو» لقولهم : الرضوان ، والمصدر : رضا ورضاء بالقصر والمد ، ورضوانا ورضوانا بكسر «الفاء» وضمها.

قال القرطبي رحمه‌الله : رضي يرضى رضا ورضاء ورضوانا ورضوانا ومرضاة ، وهو من ذوات «الواو» ويقال في التثنية : رضوان ، وحكى الكسائي رحمه‌الله : رضيان ، وحكى رضاء ممدود ، وكأنه مصدر راضى يراضي مراضاة ورضاء.

وقد يتضمّن معنى «عطف» فيتعدى ب «على» ؛ قال : [الوافر]

٧٦٩ ـ إذا رضيت عليّ بنو قشير

 ..........(١)

والملّة في الأصل : الطريقة ، يقال : طريق مملّ ، أي : أثّر فيه [المشي](٢) ، ويعبر بها عن الشريعة تشبيها بالطريقة.

وقيل : بل اشتقت من «أمللت» ؛ لأن الشريعة فيها من يملي ويملى عليه.

فصل في سبب نزول هذه الآية

اعلم أنه ـ تعالى ـ لما بين أن العلّة قد انزاحت من قبله لا من قبلهم ، وأنه لا عذر لهم في الثبات على التكذيب به عقب ذلك بأن القوم بلغ حالهم في [تشددهم في باطلهم ، وثباتهم على كفرهم](٣) أنهم يريدون منك أن تتبع ملّتهم ، ولا يرضون منك بالكفر ، بل الموافقة لهم في دينهم وطريقتهم.

قال ابن عباس رحمه‌الله : هذا في القبلة ، وذلك أن يهود «المدينة» ونصارى «نجران» كانوا يرجون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين كان يصلّي إلى قبلتهم ، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة أيسوا منه الموافقة على دينهم فنزلت هذه الآية (٤).

وقيل : كانوا يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الهدنة ، ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه ، فأنزل الله هذه الآية.

معناه : إنك إن هادنتهم ، فلا يرضون بها ، ولا يطلبون ذلك تعللا ولا يرضون منك إلا باتباع ملتهم (٥).

قوله : (تَتَّبِعَ) منصوب ب «أن» مضمرة بعد «حتى» قاله الخليل ، وذلك أن «حتى» خافضة بالاسم لقوله عزوجل : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر : ٥] وما يعمل في الاسم لا

__________________

(١) تقدم برقم ٨٠.

(٢) في أ : الشمس.

(٣) في أ : ثباتهم على الكفر.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٩) وعزاه للثعلبي عن ابن عباس.

(٥) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ١١٠.

٤٣٧

يعمل في الفعل ألبتة وما يخفض اسما لا ينصب شيئا.

وقال النّحاس : «تتّبع» منصوب ب «حتى» ، و «حتى» بدل من «أن».

فصل في أن الكفر ملّة واحدة

دلت هذه الآية على أن الكفر ملّة واحدة لقوله تعالى : (مِلَّتَهُمْ) فوحّد الملّة ، وبقوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] ، وأمّا قوله صلوات الله وسلامه عليه : «لا يتوارث أهل ملّتين شيء» المراد به الإسلام والكفر بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : «لا يورّث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم» (١). ثم قال تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) [البقرة : ١٢٠] يعني الإسلام هو الهدى الحقّ الذي يصح أن يسمى هدى ، وهو الهدى كله ليس وراءه هدى.

قوله تعالى : (هُوَ) يجوز في (هُوَ) أن يكون فصلا أو مبتدأ ، وما بعده خبره ، ولا يجوز أن يكون بدلا من «هدى الله» لمجيئه بصيغة الرفع.

وأجاز أبو البقاء رحمه‌الله تعالى فيه أن يكون توكيدا لاسم «إن» ، وهذا لا يجوز فإن المضمر لا يؤكّد المظهر.

قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ) هذه تسمى «اللام» الموطّئة للقسم ، وعلامتها أن تقع قبل أدوات الشرط ، وأكثر مجيئها مع «إن» وقد تأتي مع غيرها نحو : (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ) [آل عمران : ٨١] ، (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) [الأعراف : ١٨] ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، ولكونها مؤذنة بالقسم اعتبر سبقها ، فأجيب القسم دون الشرط بقوله : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ) وحذف جواب الشّرط ، ولو أجيب الشرط لوجبت «الفاء» وقد تحذف هذه «اللّام» ويعمل بمقتضاها ، فيجاب القسم نحو قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ) [المائدة : ٧٣].

والأهواء جمع هوى ، كما تقول : «جمل وأجمال» ، ولما كانت مختلفة جمعت ، ولو حمل على أفراد الملة لقال : هواهم. قوله : (مِنَ الْعِلْمِ) في محلّ نصب على الحال من فاعل «جاءك» و «من» للتبعيض ، أي جاءك حال كونه بعض العلم.

فصل في المراد بهذا الخطاب

قيل : المراد بهذا الخطاب الأمة كقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر :

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ١٩٤) ومسلم «الفرائض» (١) والترمذي (٢١٠٧) وأبو داود (٢٩٠٩) وابن ماجه (٢٧٢٩) ، (٢٧٣٠) وأحمد (٥ / ٢٠٠ ، ٢٠٨ ، ٢٠٩) والدارمي (٢ / ٣٧٠ ، ٣٧١) والبيهقي (٦ / ٢١٧ ، ٢١٨) والحاكم (٤ / ٣٤٥) وعبد الرزاق (٩٨٥٢) وابن أبي شيبة (١١ / ٣٧٣) والحميدي (٥٤٠١) وابن عبد البر (٢ / ٥٩) وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ١٤٤) ، (٧ / ٣١٨) والطحاوي في «شرح المعاني» (٣ / ٢٦٥ ، ٢٦٦).

٤٣٨

٦٥] ، فالخطاب مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد الأمة. (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) البيان بأن دين الله هو الإسلام ، والقبلة قبلة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهي الكعبة.

(ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي معين يعصمك ويذبّ عنك.

فصل فيما تدل عليه الآية

قالوا : الآية تدلّ على أمور : منها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله.

وثانيها : أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلّة ، ويبطل القول بالتقليد.

وثالثها : أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلا فمن هذا الوجه يدلّ على بطلان التقليد.

ورابعها : سئل الإمام أحمد ـ رحمه‌الله ـ عمن يقول : القرآن مخلوق ، فقال : كافر.

فقيل : بم كفرته؟ فقال : بآية من كتاب الله تعالى ، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) [البقرة : ١٤٥] فالقرآن من علم الله تعالى ، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(١٢٣)

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) رفع بالابتداء ، وفي خبره وجهان :

أحدهما : «يتلونه» ، وتكون الجملة من قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ :) إما مستأنفة وهو الصحيح.

وإما حالا على قول ضعيف تقدم مثله أول السورة.

والثاني : أن الخبر هو الجملة من قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ).

ويكون «يتلونه» في محلّ نصب على الحال إما من المفعول في «آتيناهم» وإما من الكتاب ، وعلى كلا القولين فهي حال مقدرة ؛ لأن وقت الإيتاء لم يكونوا تالين ، ولا كان الكتاب متلوّا.

وجوز (١) الحوفي أن يكون «يتلونه» خبرا ، و (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ) خبرا بعد خبر ، قال : مثل قولهم : «هذا حلو حامض» كأنه يريد جعل الخبرين في معنى خبر واحد ، هذا إن أريد ب «الذين» قوم مخصوصون.

__________________

(١) علي بن إبراهيم بن سعيد ، أبو الحسن الحوفي : نحوي ، من العلماء باللغة والتفسير. من أهل الحوف (بمصر) ، من كتبه «البرهان في تفسير القرآن» كبير جدّا ، و «الموضح» في النحو ، و «مختصر كتاب العين» توفي سنة ٤٣٠ ه‍.

انظر بغية الوعاة : ٣٢٥ ، وفيات الأعيان : ١ / ٣٣٢ ، إنباه الرواة : ٢ / ٢١٩ ، مفتاح السعادة : ١ / ٤٣٨ ، الأعلام : ٤ / ٢٥٠.

٤٣٩

وإن أريد بهم العموم ، كان (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ) الخبر.

قال جماعة ـ منهم ابن عطية رحمه‌الله وغيره ـ و «يتلونه» حالا لا يستغنى عنها ، وفيها الفائدة.

وقال أيضا أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون «يتلونه» خبرا ؛ لئلا يلزم منه أنّ كل مؤمن يتلو الكتاب حقّ تلاوته بأي تفسير فسرت التلاوة قال أبو حيان (١) : ونقول : ما لزم من الامتناع من جعلها خبرا يلزم في جعلها حالا ؛ لأنه ليس كل مؤمن على حال التلاوة بأي تفسير فسرت التلاوة.

قوله تعالى : (حَقَّ تِلاوَتِهِ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه نصب على المصدر وأصله : «تلاوة حقّا» ثم قدم الوصف ، وأضيف إلى المصدر ، وصار نظير «ضربت شديد الضرب» أي : ضربا شديدا. فلما قدم وصف المصدر نصب نصبه.

الثاني : أنه حال من فاعل «يتلونه» أي : يتلونه محقين.

الثالث : أنه نعت مصدر محذوف.

وقال ابن عطية (٢) : و «حقّ» مصدر ، والعامل فيه فعل مضمر ، وهو بمعنى «أفعل» ، ولا تجوز إضافته إلى واحد معرف ، إنما جازت هنا ؛ لأن تعرّف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض ، وإنما هو بمنزلة قولهم : رجل واحد أمّه ونسيج وحده يعني : أنه في قوة «أفعل» التفضيل بمعنى أحقّ التلاوة ، وكأنه يرى أن إضافة «أفعل» غير محضة ، ولا حاجة إلى تقدير عامل فيه ؛ لأن ما قبله يطلبه. والضمير في «به» فيه أربعة أقوال :

أحدها ـ وهو الظاهر ـ : عوده على الكتاب.

الثاني : عوده على الرسول ، قالوا : «ولم يجر له ذكر لكنه معلوم» ، ولا حاجة إلى هذا الاعتذار ، فإنه مذكور في قوله : (أَرْسَلْناكَ) [البقرة : ١١٩] ، إلا أن فيه التفاتا من خطاب إلى غيبة.

الثالث : أنه يعود على الله تعالى ، وفيه التفات أيضا من ضمير المتكلّم المعظم في قوله : (أَرْسَلْناكَ) إلى الغيبة.

الرابع : قال ابن عطية (٣) : إنه يعود على «الهدى» وقرره بكلام حسن.

فصل فيمن نزلت فيهم هذه الآية

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أهل السّفينة الذين كانوا مع جعفر بن أبي طالب ،

__________________

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٤٠.

(٢) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٤.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٥.

٤٤٠