اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

قوله تعالى : (فَلَهُ أَجْرُهُ) الفاء جواب الشرط إن قيل بأن «من» شرطية ، أو زائدة في الخبر إن قيل بأنها موصولة ، وقد تقدم تحقيق القولين عند قوله سبحانه وتعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) [البقرة : ٨١] وهذه نظير تلك فليلتفت إليها.

وهنا وجه آخر زائد ذكره الزمخشري ، وهو أن تكون «من» فعله بفعل محذوف أي : بلى يدخلها من أسلم ، و «فله أجره» كلام معطوف على يدخلها ـ هذا نصه.

و «له أجره» مبتدأ وخبره ، إما في محلّ جزم ، أو رفع على حسب ما تقدّم من الخلاف في «من». وحمل على لفظ «من» فأفرد الضمير في قوله تعالى : (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) وعلى معناها ، فجمع في قوله : (عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، وهذا أحسن التركيبين ، أعني البداءة بالحمل على اللفظ ثم الحمل على المعنى والحامل في «عند» ما تعلق به «له» من الاستقرار ، ولما أحال أجره عليه أضاف الظرف إلى لفظة «الرّب» لما فيها من الإشعار بالإصلاح والتدبير ، ولم يضفه إلى الضمير ، ولا إلى الجلالة ، فيقول : فله أجره عنده أو عند الله ، لما ذكرت لك ، وقد تقدم الكلام في قوله تعالى : (فَلا خَوْفٌ) [البقرة : ٣٨] بما فيه من القراءات.

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١١٣)

اليهود ملّة معروفة ، والياء فيه أصلية لثبوتها في التّصريف ، وليست من مادّة «هود» من قوله تعالى : (هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] وقد تقدم أن الفراء رحمه‌الله تعالى يدعي أن «هودا» أصله : يهود ، فحذفت ياؤه ، وتقدم أيضا عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هادُوا) [البقرة : ٦٢] أن اليهود نسبة ل «يهوذا بن يعقوب».

وقال الشّلوبين : يهود فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون جمع يهوديّ ، فتكون نكرة مصروفة.

والثاني : أن تكون علما لهذه القبيلة ، فتكون ممنوعة من الصرف. انتهى ، وعلى الأول دخلت الألف واللام ، وعلى الثاني قوله : [الطويل]

٧٤٢ ـ أولئك أولى من يهود بمدحة

إذا أنت يوما قلتها لم تؤنّب (١)

وقال آخر : [الكامل]

__________________

(١) البيت لرجل من الأنصار. ينظر ما ينصرف وما لا ينصرف : ص ٦٠ ، والكتاب : ٣ / ٢٥٤ ، ولسان العرب (هود) ، والدر المصون : ١ / ٣٤٦.

٤٠١

٧٤٣ ـ فرّت يهود وأسلمت جيرانها

 ..........(١)

ولو قيل بأن «يهود» منقول من الفعل المضارع نحو : يزيد ويشكر لكان قولا حسنا. ويؤيده قولهم : سمّوا يهودا لاشتقاقهم من هاد يهود إذا تحرك.

قوله تعالى : (لَيْسَتِ النَّصارى) «ليس» فعل ناقص أبدا من أخوات «كان» ولا يتصرف ، ووزنه على «فعل» بكسر العين ، وكان من حق فائه أن تكسر إذا أسند إلى تاء المتكلم ونحوها على الياء مثل : شئت ، إلا أنه لما لم ينصرف بقيت «الفاء» على حالها.

وقال بعضهم : «ليست» بضم الفاء ، ووزنه على هذه اللغة : فعل بضم العين ، ومجيء فعل بضمّ العين فيما عينه ياء نادر ، لم يجىء منه إلّا «هيؤ الرجل» ، إذا حسنت هيئته.

وكون «ليس» فعلا هو الصحيح خلافا للفارسي في أحد قوليه ، ومن تابعه في جعلها حرفا ك «ما» كما قيل ويدلّ على فعليتها اتصال ضمائر الرّفع البارزة بها ، ولها أحكام كثيرة ، و «النّصارى» اسمها ، و «على شيء» خبرها ، وهذا يحتمل أن يكون مما حذفت فيه الصفة ، أي على شيء معتدّ به كقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : ٤٦] أي : أهلك الناجين ، وقوله : [الطويل]

٧٤٤ ـ ..........

 ... لقد وقعت على لحم(٢)

أي : لحم عظيم ، وأن يكون نفيا على سبيل المبالغة ، فإذا نفى إطلاق الشيء على ما هم عليه ، مع أن الشيء يطلق على المعدوم عند بعضهم كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به ، وصار كقوله : «أقل من لا شيء».

فصل في سبب نزول هذه الآية

روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاهم أحبار اليهود ، فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بعيسى عليه‌السلام والإنجيل.

وقالت النصارى لهم نحوه ، وكفروا بموسى عليه‌السلام والتوراة ، فأنزل الله هذه الآية (٣).

__________________

(١) صدر بيت للأسود بن يعفر وعجزه :

صمي لما فعلت يهود صمام

ينظر اللسان (صمم) ، والدر المصون : ١ / ٣٤٦.

(٢) تقدم برقم ١٣٧.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٤١٣ ـ ٥١٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٣) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن أبي حاتم والأثر ذكره ابن هشام في «السيرة النبوية» (٢ / ١٩٧ ـ ١٩٨).

٤٠٢

واختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله ـ تعالى ـ أهم الذين كانوا زمن بعثة عيسى عليه‌السلام أو في زمن محمد عليه‌السلام؟

[فإن قيل : كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانوا يثبتون الصّانع وصفاته سبحانه ، وذلك قول فيه فائدة؟

والجواب عندهم من وجهين :

الأول : أنهم لما ضمّوا إلى ذلك القول الحسن قولا باطلا يحبط ثواب الأول ، فكأنهم لم يأتوا بذلك الحق.

الثّاني : أن يخص هذا العام بالأمور التي اختلفوا فيها ، وهي ما يتّصل بإثبات الثّواب](١).

قوله تعالى : (وَهُمْ يَتْلُونَ) جملة حالية ، وأصل يتلون : يتلوون فأعلّ بحذف «اللّام» ، وهو ظاهر.

و «الكتاب» اسم جنس ، أي قالوا ذلك حال كونهم من أهل العلوم والتلاوة من كتب ، وحقّ من حمل التوراة ، أو الإنجيل ، أو غيرهما من كتب الله ، وآمن به ألّا يكفر بالباقي ؛ لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني شاهد لصحته.

قوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) في هذه الكاف قولان :

أحدهما : أنها في محلّ نصب ، وفيها حينئذ تقديران :

أحدهما : أنها نعت لمصدر محذوف قدم على عامله ، تقديره : قولا مثل ذلك القول [الذي قال أي قال القول] الذين لا يعلمون.

[الثاني : أنها في محلّ نصب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه. قال : تقديره : مثل ذلك القول قاله أي : قال القول الذين لا يعلمون](٢) حال كونه مثل ذلك القول ، وهذا رأي سيبويه رحمه‌الله ، والأول رأي النّحاة ، كما تقدم غير مرة ، وعلى هذين القولين ففي نصب «مثل قولهم» وجهان :

أحدهما : أننه منصوب على البدل من موضع الكاف.

الثاني من الوجهين : أنه مفعول به العامل فيه «يعلمون» ، أي : الذين لا يعلمون مثل مقالة اليهود ، والنّصارى قالوا مثل مقالتهم ، أي : أنهم قالوا ذلك على سبيل الاتّفاق ، وإن كانوا جاهلين بمقالة اليهود والنصارى.

الثاني من القولين : أنها في محلّ رفع بالابتداء ، والجملة بعدها خبر ، والعائد محذوف تقديره: [مثل ذلك قاله الذين لا يعلمون.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

٤٠٣

وانتصاب «مثل قولهم» حينئذ إما على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو مفعول ب «يعلمون» تقديره](١) مثل قول اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى ، ولا يجوز أن ينتصب نصب المفعول يقال لأنه أخذ مفعوله ، وهو العائد على المبتدأ ، ذكر ذلك أبو البقاء ، وفيه نظر من وجهين :

أحدهما : أن الجمهور يأبي جعل الكاف اسما.

والثاني : حذف العائد المنصوب ، [والنحاة](٢) ينصّون على منعه ، ويجعلون قوله : [السريع]

٧٤٥ ـ وخالد يحمد ساداتنا

بالحقّ لا يحمد بالباطل (٣)

ضرورة.

[وللكوفيين في هذا تفصيل](٤).

فصل في المراد بالذين لا يعلمون

قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) يقتضي أن من تقدم ذكره يجب أن يكون عالما لكي يصح هذا الفرق.

واختلفوا في (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فقال مقاتل رحمه‌الله : إنهم مشركو العرب قالوا (٥) في نبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه : إنهم ليسوا على شيء من الدين ، فبيّن تعالى أنه إذا كان قول اليهود والنّصارى ، وهم يقرؤون الكتاب لا يلتفت إليه فقول كفار العرب أولى ألّا يلتفت إليه.

وقال مجاهد : عوام النصارى فصلا بين خواصهم وعوامهم.

وقال عطاء : أسماء كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح ، وقوم هود وصالح ، ولوط وشعيب ، قالوا لنبيهم : إنه ليس على (٦) شيء.

وقيل : إن حملنا قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) على الحاضرين في زمن صلى‌الله‌عليه‌وسلم حملنا قوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) على المعاندين المتقدمين ويحتمل العكس.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : النحويين.

(٣) البيت في مغني اللبيب : ٢ / ٦١١ ، والمقرب : ١ / ٨٤ ، والدر المصون : ١ / ٣٤٧.

(٤) سقط في ب.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٥١٧) عن السدّي ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٣).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٥١٧) عن ابن جريج عن عطاء ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٣).

٤٠٤

قوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : قال الحسن : يكذبهم جميعا ، ويدخلهم النار.

وثانيها : ينصف المظلوم المكذّب من الظالم المكذّب.

وثالثها : يريهم من يدخل الجنة عيانا ، ومن يدخل النار عيانا ، وهو قول «الزجاج».

قوله : (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) منصوبان ب «يحكم» ، و «فيه» متعلق ب «يختلفون».

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١٤)

«من» استفهام في محلّ رفع بالابتداء ، و «أظلم» أفعل تفضيل خبره ، ومعنى الاستفهام هنا النفي ، أي : لا أحد أظلم منه ، ولما كان المعنى على ذلك أورد بعض الناس سؤالا ، وهو أن هذه الصيغة قد تكررت في القرآن (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) [الأنعام : ٢١] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) [السجدة : ٢٢] (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) [الزمر : ٣٧] كل واحدة منها تقتضي أن المذكور لا يكون أحد أظلم منه ، فكيف يوصف غيره بذلك؟ والجواب من وجوه :

أحدها : وهو أن يخصّ كل واحد بمعنى صلته كأنه قال : لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله ، ولا أحد من الكذّابين أظلم ممن كذب على الله ، وكذلك ما جاء منه.

الثاني : أن التّخصيص يكون بالنّسبة إلى السّبق ، لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقهم في ذلك ، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية والافترائية ونحوها.

الثالث : أن هذا نفي للأظلمية ، ولما كان نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظّالمية لم يكن مناقضا ؛ لأن فيها إثبات التسوية في الأظلميّة ، وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد مما وصف بذلك يزيد على الآخر ؛ لأنهم متساوون في ذلك ، وصار المعنى : ولا أحد أظلم ممن منع ، وممن افترى وممن ذكر ، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ، ولا يدلّ ذلك على أن أحد هؤلاء يزيد على الآخر في الظلم ، كما أنك إذ قلت : «لا أحد أفقه من زيد وبكر وخالد» لا يدلّ على أن أحدهم أفقه من الآخر ، بل نفيت أن يكون أحد أفقه منهم ، لا يقال : إن من منع مساجد الله ، وسعى في خرابها ، ولم يفتر على الله كذبا أقلّ ظلما ممن جمع بين هذه الأشياء ، فلا يكونون متساوين في الأظلمية إذ هذه الآيات كلها في الكفّار ، وهم متساوون في الأظلمية إذ كانت طرق الأظلمية مختلفة.

٤٠٥

و «من» يجوز أن تكون موصولة ، فلا محلّ للجملة بعدها ، وأن تكون مرصوفة فتكون الجملة محلّ جار صفة لها.

و «مساجد» مفعول أول ب «منع» ، وهي جمع مسجد ، وهو اسم مكان السجود ، وكان من حقه أن يأتي على «مفعل» بالفتح لانضمام عين مضارعه ، ولكن شذّ كسره ، [كما شذت ألفاظ تأتي](١).

وقد سمع «مسجد» بالفتح على الأصل.

قال القرطبي رحمه‌الله : قال الفرّاء : كل ما كان على «فعل يفعل» ، مثل دخل يدخل ، فالمفعل منه بالفتح اسما كان أو مصدرا ، ولا يقع فيه الفرق ، مثل : دخل يدخل مدخلا ، وهذا مدخله ، إلا أحرفا من الأسماء ألزموها كسر العين ، من ذلك : المسجد ، والمطلع ، والمغرب ، والمشرق ، والمسقط ، والمفرق ، والمجزر ، والمسكن ، والمرفق ، من : رفق يرفق ، والمنبت ، والمنسك من : نسك ينسك ، فجعلوا الكسر علامة للاسم.

والمسجد ـ بالفتح ـ جبهة الرجل حيث يصيبه مكان السجود.

قال الجوهري رحمه‌الله تعالى : «الأعضاء السّبعة مساجد ، وقد تبدل جيمه ياء ، ومنه : المسجد لغة».

قول تعالى : (أَنْ يُذْكَرَ) ناصب ومنصوب ، وفيه أربع أوجه :

أحدها : أنه مفعول ثاني ل (مَنَعَ) ، تقول : منعته كذا.

والثاني : أنه مفعول من أجله أي : كراهة أن يذكر.

وقال أبو حيان (٢) : فتعين حذف مضاف أي دخول مساجد الله ، وما أشبهه.

والثالث : أنه بدل اشتمال من (مَساجِدَ) أي : منع ذكر اسمه فيها.

والرابع : أنه على إسقاط حرف الجر ، والأصل من أن يذكر ، وحينئذ يجيء فيها مذهبان مشهوران من كونها في محلّ نصب أو جر ، و «في خرابها» متعلق ب «سعى».

واختلف في «خراب» فقال أبو البقاء : «هو اسم مصدر بمعنى التخريب كالسّلام بمعنى التسليم ، وأضيف اسم المصدر لمفعوله ؛ لأنه يعمل عمل الفعل».

وهذا على أحد القولين في اسم المصدر ، هل يعمل أو لا؟ وأنشدوا على إعماله : [الوافر]

٧٤٦ ـ أكفرا بعد ردّ الموت عنّي

وبعد عطائك المائة الرّتاعا (٣)

وقال غيره : هو مصدر : خرب المكان يخرب خرابا ، فالمعنى : سعى في أن تخرب

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٢٧.

(٣) تقدم برقم ٣٣٩.

٤٠٦

هي بنفسها بعدم تعاهدها بالعمارة ، ويقال : منزل خراب وخرب ؛ كقوله : [البسيط]

٧٤٧ ـ ما ربع ميّة معمورا يطيف به

غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب (١)

فهو على الأول مضاف للمفعول وعلى الثاني مضاف للفاعل.

فصل في تعلق الآية بما قبلها

في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :

فأما من حملها على النصارى ، وخراب «بيت المقدس» قال : تتصل بما قبلها من حيث النصارى ادّعوا أنهم من أهل الجنة فقط. فقيل لهم : كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد ، والسعي في خرابها هكذا؟ وأما من حمله على المسجد الحرام ، وسائر المساجد ، قال : جرى ذكر مشركي العرب في قوله تعالى : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).

وقيل : [ذم جميع الكفار](٢) ، فمرة وجه الذّنب إلى اليهود والنصارى ، ومرة إلى المشركين.

فصل فيمن خرب «بيت القدس»

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : [إن ملك النصارى غزا «بيت المقدس» فخربه ، وألقى فيه الجيف ، وحاصر أهله ، وقتلهم ، وسبى البقية ، وأحرق التوراة](٣) ، ولم يزل «بيت المقدس» خرابا حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر (٤).

وقال الحسن وقتادة والسدي : نزلت في بخت نصر وأصحابه غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس ، وأعانه على ذلك [الرومي وأصحابه النصارى من أهل «الروم» (٥).

قال السدي : من أجل أنهم قتلوا يحيى بن زكريا عليهما‌السلام (٦).

قال قتادة : حملهم بغض اليهود على معاونة بخت نصر البابلي المجوسي (٧)](٨).

قال أبو بكر الرازي رحمه‌الله تعالى في «أحكام القرآن» : هذان الوجهان غلطان ؛

__________________

(١) البيت لأبي تمام. ينظر ديوانه : (١٩) ، البحر المحيط : ١ / ٥٢٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٤٩.

(٢) في ب : جرى ذكر جميع الكفار وذمهم.

(٣) في أبدل هذه العبارة ما يلي :

إن ططيوس بن استسيانوس الرومي ملك النصارى وأصحابه غزا بني إسرائيل ، وقتل مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم ، وأحرق التوراة ، وخرّب «بيت المقدس» ، وقذف فيه الجيف ، وذبح فيه الخنازير.

(٤) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٤ / ٩).

(٥) أخرجه الطبري (٢ / ٥٢٠) وعبد بن حميد كما في «الدر المنثور» للسيوطي (١ / ٢٤).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٥٢١) عن السدّي.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٥٢٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٤).

(٨) سقط في ب.

٤٠٧

لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد «بختنصّر» كان قبل مولد المسيح ـ عليه‌السلام ـ بدهر طويل ، والنصارى كانوا بعد المسيح ، فكيف يكونون مع بختنصّر في تخريب «بيت المقدس»؟

وأيضا فإن النصارى يعتقدون في تعظيم «بيت المقدس» مثل اعتقاد اليهود وأكثر ، فكيف أعانوا على تخريبه.

وقيل : نزلت في مشركي العرب الذين منعوا الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن الدعاء إلى الله ب «مكة» وألجئوه إلى الهجرة ، فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام ، وقد كان الصديق ـ رضي الله عنه ـ بنى مسجدا عند داره ، فمنع وكان ممن يؤذيه ولدان قريش ونساؤهم.

وقيل : إن قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء : ١١٠] نزلت في ذلك ، فمنع من الجهر لئلا يؤذى ، وطرح أبو جهل العذرة على ظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل : ومن أظلم من هؤلاء المشركين الذين يمنعون المسلمين الذين يوحّدون الله ولا يشركون به شيئا ، ويصلون له تذللا ، وخشوعا ، ويشغلون قلوبهم بالفكر فيه ، وألسنتهم بالذكر له ، وجميع جسدهم بالتذلّل لعظمته وسلطانه.

وقال أبو مسلم : المراد منه الذين صدّوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من «المدينة»

عام «الحديبية» ، واستشهد بقوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الفتح : ٢٥] وحمل قوله تعالى : (إِلَّا خائِفِينَ) بما يعلي الله تعالى من يده ، ويظهر من كلمته ، كما قال في المنافقين : (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب : ٦٠ ـ ٦١].

[فإن قيل : كيف يجوز حمل لفظ المساجد على مسجد واحد؟

والجواب : أن هذا كمن يقول : من أظلم ممن آذى صالحا واحدا ، ومن أظلم ممّن آذى الصالحين.

أو يقال : إن المسجد موضع السجود ، والمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مسجدا واحدا](١).

قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه خامس ، وهو أقرب إلى رعاية النظم ، وهو أن يقال : إنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود ، فكانوا يمنعون النّاس عن الصّلاة عند توجّههم إلى الكعبة ، ولعلّهم أيضا سعوا في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها ، وسعوا أيضا في تخريب مسجد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلا يصلوا فيه متوجّهين إلى القبلة ، فعابهم الله بذلك ، وبيّن سوء طريقتهم فيه.

__________________

(١) سقط في ب.

٤٠٨

قال : وهذا التأويل أولى مما قبله ، وذلك لأن الله ـ تعالى ـ لم يذكر في الآيات السّابقة على هذه الآية إلّا قبائح أفعال اليهود والنصارى ، وذكر أيضا بعدها قبائح أفعالهم ، فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صدّهم الرسول عن المسجد الحرام. وأما حمل الآية على سعي النّصارى في تخريب «بيت المقدس» فضعيف أيضا على ما شرحه أبو بكر الرّازي رحمه‌الله تعالى ، فلم يبق إلّا ما قلناه.

فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم ، وفيه إشكال ؛ لأن الشرك ظلم على ما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١١٣] مع أن الشّرك أعظم من هذا الفعل ، كذا الزنا ، وقتل النفس أعظم من هذا الفعل.

فالجواب عنه : [مضى ما في الباب](١) أنه عام دخله التخصيص ، فلا يقدح فيه.

والله أعلم.

فصل فيما يستدل بالآية عليه

قال القرطبي رحمه‌الله : لا يجوز منع المرأة من الحجّ (٢) إذا كانت ضرورة ، سواء كان لها محرم أو لم يكن ، ولا تمنع أيضا من الصّلاة في المساجد ، ما لم يخف عليها الفتنة لقوله عليه الصلاة والسلام : «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» (٣) وكذلك لا يجوز نقض المسجد ، ولا بيعه ، ولا تعطيله ، وإن خربت المحلّة ، ولا يمنع بناء المساجد إلّا أن يقصدوا الشّقاق والخلاف ، بأن يبنوا مسجدا إلى جنب مسجد أو قرية ، يريدون بذلك

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) من الموانع الزوجية : فيجوز للزّوج أن يمنع زوجته من فرض النّسك ونفله ؛ لأن حقه على الفور ، والنسك على التراخي ، ويجوز له أن يأمرها بالتحلّل ، فإذا أمرها به ، لزمها حينئذ أن تتحلّل ؛ كما في الحصر العام ، فإن امتنعت من التحلّل ، فللزوج وطؤها وسائر الاستمتاع بها ، والإثم عليها لا عليه ، ولا يجوز للزوجة أن تتحلّل بدون إذن منه ، وليس للحرّة أن تستأذن زوجها فيه.

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح (٢ / ٣٥) عن ابن عمر بلفظه كتاب الجمعة باب هل على من لم يشهد الجمعة ... حديث رقم (٩٠٠) وأخرجه مسلم في الصحيح (١ / ٣٢٧) عن ابن عمر بلفظه كتاب الصلاة (٤) باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة (٣٠) حديث رقم (١٣٦ / ٤٤٢) وأبو داود في السنن حديث رقم (٥٦٥) ، (٥٦٦).

وأحمد في المسند (٢ / ١٦ ، ٣٦ ، ٤٣٨) ، (٦ / ٦٩) وابن خزيمة في صحيحه حديث رقم (١٦٧٩) ـ والدارمي في السنن (١ / ٢٩٣) وابن أبي شيبة في المصنف (٢ / ٣٨٣) ـ وعبد الرزاق في مصنفه حديث رقم (٥١٢١) ـ والبيهقي في السنن (٣ / ١٣٢ ، ١٣٤) ، (٥ / ٢٢٤) والطبراني في الكبير (١٢ / ٣٦٣ ، ٤٢٥) ـ وأبو نعيم في الحلية (٧ / ١٣٧) ـ والخطيب في التاريخ (٢ / ٣٦٠) ، (٦ / ١٩) ، (١١ / ٣٤٤) ـ وذكره ابن حجر في فتح الباري ٢ / ٣٥٠ ، ٣٨٢ ، (٤ / ٧٧) ـ والهندي في كنز العمال حديث رقم (١٣٢٣٢) ، (٤٥١٧١) ، (٤٥١٧٣).

٤٠٩

تفريق أهل المسجد الأول وخرابه ، واختلاف الكلمة ، فإن المسجد الثّاني ينقض ، ويمنع من بنيانه ، وسيأتي بقية الكلام [في سورة «براءة» إن شاء الله تعالى](١).

قوله تعالى : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها).

«أولئك» مبتدأ ، «لهم» خبر «كان» مقدّم على اسمها ، واسمها «أن يدخلوها» لأنه في تأويل المصدر ، أي : ما كان لهم الدخول ، والجملة المنفية محلّ رفع خبر عن «أولئك».

قوله : (إِلَّا خائِفِينَ) حال من فاعل «يدخلوها» وهذا استثناء مفرّغ من الأحوال ؛ لأن التقدير : ما كان لهم الدخول في جميع الأحوال ، إلّا في حالة الخوف.

وقرأ أبي (٢) «خيفا» وهو جمع خائف ، ك «ضارب» و «ضرّب» ، والأصل : خوّف ك «صوّم» ، إلا أنه أبدل الواوين ياءين وهو جائز ، قالوا : صوم وصيم ، وحمل أولا على لفظ «من» ، فأفرد في قوله : «منع ، وسعى» وعلى معناه ثانيا ، فجمع في قوله : (أُولئِكَ) وما بعده.

فصل في ظاهر الآية

ظاهر الآية يقتضي أنّ الذين منعوا وسعوا في تخريب المسجد هم الذين يحرم عليهم دخوله إلّا خائفين.

وأما من جعله عامّا في الكل ، فذكروا في تفسير هذا الخوف وجوها :

أحدها : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلّا خائفين على حال الهيبة ؛ وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ، ويمنعوا المؤمنين منها ، والمعنى فما كان الحقّ والواجب إلا ذلك الولاء ظلم الكفرة وعتوّهم.

وثانيها : أن هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام ، وعلى سائر المساجد ، وأنه يذلّ المشركين لهم حتّى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلّا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب ، أو يقتل إن لم يسلم ، وقد أنجز الله ـ تعالى ـ صدق هذا الوعد ، فمنعهم من دخول المسجد الحرام ، ونادى فيهم عام حجّ أبو بكر رضي الله عنه : «ألا لا يحجن بعد العام مشرك» ، وأمر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بإخراج اليهود من جزيرة العرب ، فحجّ من العام الثاني ظاهرا على المساجد لا يجترىء أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام ، وهذا هو تفسير أبي مسلم.

ثالثها : أن يحمل هذا الخوف على ما يلحقهم من الصّغار والذل بالجزية والإذلال.

ورابعها : أنه يحرم عليهم دخول المسجد الحرام ، إلّا في أمر يتضمن الخوف نحو أن

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) انظر البحر المحيط : ١ / ٥٢٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٤٩.

٤١٠

يدخلوا للمخاصمة والمحاكمة والمحاجّة ؛ لأن كلّ ذلك يتضمّن الخوف ، والدليل عليه قوله تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر [التوبة : ١٧].

وخامسها : قال قتادة والسّدي : بمعنى أن النصارى لا يدخلون «بيت المقدس» إلا خائفين ، ولا يوجد فيه نصراني إلا أوجع ضربا ، وهذا مردود ؛ لأن «بيت المقدس» بقي أكثر من مائة سنة في أيدي النّصارى بحيث لم يتمكّن أحد من المسلمين من الدّخول فيه إلا خائفا ، إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين ـ رحمه‌الله ـ في زماننا.

وسادسها : أنه وإن كان لفظه لفظ الخبر ، لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول ، والتخلية بينهم وبينه كقوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٥٣].

[وسابعها : أنه خبر بمعنى الإنشاء أي أنهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد منهم إلّا خائفا من القتل والسّبي](١).

قوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) هذه الجملة وما بعدها لا محلّ لها لاستئنافها عما قبلها ، ولا يجوز أن تكون حالا ، لأن خزيهم ثابت على كلّ حال لا يتقيّد بحال دخول المساجد خاصّة.

اختلفوا في الخزي ، فقال بعضهم : ما يلحقهم من الذّل بمنعهم من المساجد ، وقال قتادة القتل للخزي ، والجزية للذمي.

وقال السدي : الخزي لهم في الدنيا قيام المهدي ، وفتح «عموريّة» و «روميّة» و «قسطنطينيّة» ، وغير ذلك من مدنهم ، والعذاب العظيم [فقد وصفه الله ـ تعالى ـ بما](٢) يجري مجري النهاية في المبالغة ؛ لأن الذين قدم ذكرهم وصفهم بأعظم الظلم ، فبيّن أنهم يستحقون العقاب العظيم.

فصل في دخول الكافر المسجد

اختلفوا في دخول الكافر المسجد ، فجوزه أبو حنيفة مطلقا ، وأباه مالك مطلقا.

وقال الشافعي رضي الله عنه : يمنع من دخول الحرم ، والمسجد الحرام ، واحتج بوجوه منها قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] ، قال : قد يكون المراد من المسجد الحرام الحرم لقوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الإسراء : ١] وإنما أسرى به من بيت خديجة فالآية دالة ، إما على المسجد فقط ، أو على الحرم كله ، وعلى التقديرين ، فالمقصود حاصل ؛ لأن الخلاف حاصل فيهما جميعا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

٤١١

فإن قيل : المراد به الحجّ لقوله : «بعد عامهم هذا» لأن الحجّ إنما يفعل في السنة مرة واحدة.

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنه ترك للظّاهر من غير موجب.

الثّاني : ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علّة لذلك الحكم ، وهذا يقتضي أن المانع من قربهم من المسجد الحرام نجاستهم ، [وذلك يقتضي أنهم ما داموا مشركين كانوا ممنوعين عن المسجد الحرام](١).

الثالث : أنه ـ تعالى ـ لو أراد الحج لذكر من البقاع ما يقع فيه معظم أركان الحج وهو «عرفة».

الرابع : الدّليل على أن المراد دخول الحرم لا الحج فقط قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [التوبة : ٢٨] فأراد به الدخول للتجارة.

ومنها قوله تعالى : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) وهذا يقتضي أن يمنعوا من دخول المساجد ، وأنهم متى دخلوا كانوا خائفين من الإخراج إلّا ما قام عليه الدليل.

فإن قيل : هذه الآية مخصوصة بمن خرب «بيت المقدس» ، أو بمن منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العبادة في الكعبة.

وأيضا يحتمل أن يكون خوف الجزية والإخراج.

فالجواب عن الأول : أن الآية ظاهرة في العموم فتخصيصه ببعض الصور خلاف الظاهر ، وعن الثاني أن الآية تدل على أن الخوف إنما حصل من الدخول ، وعلى ما يقولونه لا يكون الخوف متولدا من الدخول ، بل من شيء آخر.

ومنها [أن الحرم واجب التعظيم والتكريم والتشريف والتفخيم ، وأن صونه عمّا يوجب تحقيره واجب ، وتمكين الكفّار من الدخول فيه تفويض له بالتحقير ؛ لأنهم لفسادهم ربما استخفّوا به ، وأقدموا على تلويثه وتنجيسه.

ومنها أنه تعالى](٢) أمر بتطهير البيت في قوله : (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) [البقرة : ١٢٥] والمشرك نجس لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ).

والتطهير على النجس واجب ، فيكون تبعيد الكافر عنه واجبا ، وبأنا أجمعنا على أن الجنب يمنع منه ، فالكافر بأن يمنع منه أولى.

واحتج أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ بأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قدم عليه وفد

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

٤١٢

«يثرب» فأنزلهم المسجد بقوله عليه الصلاة والسلام : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل الكعبة فهو آمن».

وهذا يقتضي إباحة الدخول.

وأيضا فالكافر جاز له دخول سائر المساجد ، فكذلك المسجد الحرام كالمسلم.

والجواب عن الحديثين : أنهما كانا في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بالآية ، وعن القياس أن المسجد الحرام [أعظم] قدرا من سائر المساجد ، فظهر الفرق ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ)(١١٥)

قوله عزوجل : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) : جملة مرتبطة بقوله : (مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) ، (وَسَعى فِي خَرابِها).

يعني : أنه إن سعى في المنع من ذكره ـ تعالى ـ وفي خراب بيوته ، فليس ذلك مانعا من أداء العبادة في غيرها ؛ لأن المشرق والمغرب ، وما بينهما له تعالى ، والتنصيص على ذكر المشرق والمغرب دون غيرها لوجهين :

أحدهما : لشرفهما حيث جعلا لله تعالى.

والثاني : أن يكون من حذف المعلوم للعلم ، أي : لله المشرق والمغرب وما بينهما ، كقوله : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي والبرد ؛ وكقول الشاعر : [البسيط]

٧٤٨ ـ تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة

نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف (١)

أي : يداها ورجلاها ؛ ومثله : [الطويل]

٧٤٩ ـ كأنّ الحصى من خلفها وأمامها

إذا نجلته رجلها خذف أعسرا (٢)

أي : رجلها ويداها.

وفي المشرق والمغرب قولان :

__________________

(١) البيت للفرزدق ينظر الكتاب : ١ / ٢٨ ، وشرح التصريح : ٢ / ٣٧١ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٤٢٤ ، ٤٢٦ ، ولسان العرب (صرف) ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٥٢١ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٢٥ ، والإنصاف : ١ / ٢٧ ، وأسرار العربية : ص ٤٥ ، والأشباه والنظائر : ٢ / ٢٩ ، وأوضح المسالك : ٤ / ٣٧٦ ، وتخليص الشواهد : ص ١٦٩ ، والمقتضب : ٢ / ٢٥٨ ، وتخليص الشواهد : ص ١٦٩ ، وجمهرة اللغة : ص ٧٤١ ، وسر صناعة الإعراب : ٢ / ٧٦٩ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣٣٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١٤٧٧ ، وشرح ابن عقيل : ص ٤١٦ ، وشرح قطر الندى : ص ٢٦٨ ، ورصف المباني : ٢ / ٤٤٦ ، والممتع في التصريف : ١ / ٢٠٥.

(٢) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه : ص ٦٤ ، شرح عمدة الحافظ : ص ٦٤٧ ، لسان العرب (خذف) (نجل) ، المقاصد النحوية : ٤ / ١٦٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٠.

٤١٣

أحدهما : أنهما اسما مكان الشروق والغروب.

والثاني : أنهما اسما مصدر ، أي : الإشراق والإغراب ، والمعنى : لله تعالى تولي إشراق الشمس من مشرقها ، وإغرابها من مغربها ، وهذا يبعده قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) ، وأفرد المشرق والمغرب إذ المراد ناحيتاهما ، أو لأنهما مصدران ، وجاء المشارق والمغارب باعتبار وقوعهما في كل يوم ، والمشرقين والمغربين باعتبار مشرق الشتاء والصيف ومغربيهما ، وكان من حقهما فتح العين لما تقدم من أنه إذا لم تنكسر عين المضارع ، فحق اسم المصدر والزمان والمكان فتح العين ، ويجوز ذلك قياسا لا تلاوة.

قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) «أين» هنا اسم شرط بمعنى «إن» و «ما» مزيدة عليها ، و (تُوَلُّوا) مجزوم بها.

وزيادة «ما» ليست لازمة لها ؛ بدليل قوله : [الخفيف]

٧٥٠ ـ أين تضرب بنا العداة تجدنا

 .......... (١)

وهي ظرف مكان ، والناصب لها ما بعدها ، وتكون اسم استفهام أيضا ، فهي لفظ مشترك بين الشرط والاستفهام ك «من» و «ما».

وزعم بعضهم أن أصلها السؤال عن الأمكنة ، وهي مبنية على الفتح لتضمنها معنى حرف شرط أو الاستفهام.

وأصل تولّوا : تولّيوا فأعل بالحذف ، وقرأ الجمهور : «تولوا» بضم التاء واللام بمعنى تستقبلوا ، فإن «ولى» وإن كان غالب استعمالها أدبر ، فإنها تقتضي الإقبال إلى ناحية ما.

تقول : وليت عن كذا إلى كذا ، وقرأ الحسن (٢) : «تولّوا» بفتحهما.

وفيها وجهان :

أحدهما : أن يكون مضارعا ، والأصل : تتولوا من التولية ، فحذف إحدى التاءين تخفيفا ، نحو : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) [القدر : ٤].

والثاني : أن يكون ماضيا ، والضمير للغائبين ردّا على قوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) فتتناسق الضمائر.

__________________

(١) صدر بيت للسلولي وعجزه :

نصرف العيس نحوها للتلاقي

ينظر شرح المفصل : ٤ / ١٠٥ ، البحر : ١ / ٥٢٥ ، الكتاب : ٣ / ٥٨ ، المقتضب : ٢ / ٤٨ ، شرح الأشموني : ٤ / ١٠ ، شرح عمدة الحافظ : ص ٧٤٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٥٠

(٢) انظر الشواذ : ١٧ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٠٠ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٣٠ ، والدر المصون : ١ / ٣٥٠ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٢.

٤١٤

وقال أبو البقاء : والثاني : أنه ماض والضمير للغائبين ، والتقدير : أينما يتولّوا ، يعني : أنه وإن كان ماضيا لفظا فهو مستقبل معنى ثم قال : وقد يجوز أن يكون ماضيا قد وقع ، ولا يكون «أين» شرطا في اللفظ ، بل في المعنى ، كما تقول : «ما صنعت صنعت» إذا أردت الماضي ، وهذا ضعيف ؛ لأن «أين» إما شرط ، أو استفهام ، وليس لها معنى ثالث. انتهى وهو غير واضح.

قوله : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) الفاء وما بعدها جواب الشّرط ، فالجملة في محلّ جزم ، و «ثمّ» خبر مقدم ، و «وجه الله» رفع بالابتداء ، و «ثمّ» اسم إشارة للمكان البعيد خاصة مثل : هنا وهنّا بتشديد النون ، وهو مبني على الفتح لتضمّنه معنى حرف الإشارة أو حرف الخطاب. قال أبو البقاء : لأنك تقول في الحاضر هنا وفي الغائب هناك ، وثمّ ناب عن هناك [وهذا ليس بشيء](١).

وقيل : بني لشبهه بالحرف في الافتقار ، فإنه يفتقر إلى مشار إليه ، ولا ينصرف بأكثر من جره ب «من».

ولذلك غلط بعضهم في جعله مفعولا في قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ) [الإنسان : ٢٠] ، بل مفعول «رأيت» محذوف.

فصل في نفي التجسيم

وهذه الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه ؛ لأنه لو كان الله ـ تعالى ـ جسما ، وله وجه جسماني لكان مختصّا بجانب معين وجهة معينة ، ولو كان كذلك لكان قوله: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) كذبا ، ولأن الوجه لو كان محاذيا للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذيا للمغرب أيضا ، وإذا ثبت هذا ، فلا بد فيه من التأويل ، ومعنى (وَجْهُ اللهِ) جهته التي ارتضاها قبلة وأمر بالتوجه نحوها ، أو ذاته نحو : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٦٨] ، أو المراد به الجاه ، أي : فثمّ جلال الله وعظمته من قولهم : هو وجه القول ، أو يكون صلة زائدا ، وليس بشيء.

وقيل : المراد به العمل قاله الفراء ؛ وعليه قوله : [البسيط]

٧٥١ ـ أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل (٢)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر أدب الكاتب : ٥٢٤ ، والأشباه والنظائر : ٤ / ١٦ ، وأوضح المسالك : ٢ / ٢٨٣ ، وتخليص الشواهد : ٤٠٥ ، وخزانة الأدب : ٣ / ١١١ و ٩ / ١٢٤ ، والدرر : ٥ / ١٨٦ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٢٠ ، وشرح التصريح : ١ / ٣٩٤ ، وشرح شذور الذهب : ٤٧٩ ، وشرح المفصل : ٧ / ٦٣ ، ٨ / ٥١ ، والصاحبي في فقه اللغة : ١٨١ ، والكتاب : ١ / ١ / ٣٧ ، ولسان العرب [غفر] ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٢٢٦ ، والمقتضب : ٢ / ٣٢١ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٨٢.

٤١٥

[قوله تعالى : (واسِعٌ عَلِيمٌ) أي : يوسع على عباده في دينهم ، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم.

وقيل : واسع المغفرة.

فصل في سبب نزول الآية

في سبب نزول الآية قولان :

أحدهما : أنه أمر يتعلّق بالصلاة. والثاني : في أمر لا يتعلق بالصلاة.

فأما القول الأول فاختلفوا فيه على وجوه :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ أراد به تحويل المؤمنين عن استقبال «بيت المقدس» إلى الكعبة ، فبيّن تعالى أن المشرق والمغرب ، وجميع الجهات كلّها مملوكة له سبحانه وتعالى ، فأينما أمركم الله ـ عزوجل ـ باستقباله فهو القبلة ؛ لأن القبلة ليست قبلة لذاتها ؛ بل لأن الله ـ تعالى ـ جعلها قبلة ، فهو يدبر عباده كيف يريد](١) وكيف يشاء فكأنه تعالى ذكر ذلك بيانا لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر.

وثانيها : قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ لما تحولت القبلة عن «بيت المقدس» أنكرت اليهود ذلك ، فنزلت الآية ونظيره قوله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة : ١٤٢].

وثالثها : قال أبو مسلم : إن اليهود والنّصارى كل واحد منهم قال : إنّ الجنة له لا لغيره ، فردّ الله عليهم بهذه الآية ؛ لأن اليهود إنما استقبلوا «بيت المقدس» ؛ لأنهم اعتقدوا أن الله ـ تعالى ـ صعد السماء من الصّخرة والنصارى استقبلوا المشرق ؛ لأن مريم انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ، فولدت عيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ هناك ، فردّ الله عليهم أقوالهم.

ورابعها : قال قتادة وابن زيد : إن الله ـ تعالى ـ نسخ «بيت المقدس» بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية ، فكان للمسلمين أن يتوجّهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة ، إلّا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يختار التوجّه إلى «بيت المقدس» ، مع أنه كان له أن يتوجّه حيث شاء ، ثم إنه ـ تعالى ـ نسخ ذلك بتعيين الكعبة.

وخامسها : أن المراد بالآية من هو مشاهد للكعبة ، فإنّ له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد.

[وسادسها : ما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة ، فجعل كل واحد منا مسجده حجارة موضوعة بين يده ، ثم صلينا فلما أصبحنا ، فإذا نحن على غير القبلة ، فذكرنا ذلك

__________________

(١) سقط في ب.

٤١٦

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (١) ، وهذا الحديث يدلّ على أنهم نقلوا حينئذ إلى الكعبة ؛ لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ «بيت المقدس»](٢).

وسابعها : أن الآية نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجّه به راحلته.

وعن سعيد بن جبر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : «إنما نزلت هذه الآية في الرّجل يصلي إلى حيث توجّهت به راحلته في السفر» (٣).

قال ابن الخطيب (٤) : فإن قيل : فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصّواب؟

قلنا : إن قوله تبارك وتعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) مشعر بالتخيير ، والتخيير لا يثبت إلا في صورتين :

إحداهما : في التّطوع على الراحلة.

وثانيتهما : في السفر عند تعذّر الاجتهاد لظلمة أو لغيرها ؛ لأن في هذين الوجهين المصلّي مخير.

فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير ، والذين حملوا الآية على الوجه الأول ، فلهم أن يقولوا : إن القبلة لمّا حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس ، فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صوابا في ذلك الوقت ، والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت ، وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القبلتين في المأذون فيه ، فثمّ وجه الله ، قالوا : وحمل الكلام على هذا الوجه أولى ؛ لأنه يعم كل مصلّ ، وإذا حمل على الأول لا يعم ؛ لأنه يصير محمولا على التّطوع دون الفرد ، وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر ، وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه ، فهو أولى من التخصيص ، وأقصى ما في الباب أن يقال : إنّ على هذا التأويل لا بد أيضا من ضرب تقييد وهو أن يقال : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) من الجهات المأمور بها (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) إلّا أن هذا الإضمار لا بد منه على كلّ حال ؛ لأنه من المحال أن يقول تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) بحسب ميل أنفسكم (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناه ، وإذا كان كذلك ، فقد زالت طريقة التخيير.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٢ / ١٧٦) رقم (٣٤٥) وابن ماجه (١ / ٣٢٦) رقم (١٠٢٠) والطيالسي (١١٤٥) والبيهقي (٢ / ١١) والطبري في «تفسيره» (١٨٤١ ، ١٨٤٣) والدارقطني ص (١٠١) وأبو نعيم في «الحلية» (١ / ١٧٩ ـ ١٨٠).

وقال الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بذاك لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان.

وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يضعف في الحديث.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه مسلم (١ / ١٩٥) وأحمد (٧٤١٤ ـ شاكر) والطبري (٢ / ٥٣٠) والبيهقي في السنن ٢ / ٤ عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.

(٤) ينظر الفخر الرازي : ٤ / ١٨ ـ ١٩.

٤١٧

القول الثاني : أنّ هذه الآية نزلت في أمر سوى الصّلاة وفيه وجوه :

أولها : أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجدي أن يذكر فيها اسمي ، وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا ، ثم إنهم أينما ولّوا هاربين عني وعن سلطاني ، فإن سلطاني يلحقهم ، [وتدبيري](١) يسبقهم ، فعلى هذا يكون المراد منه [سعة القدرة والسلطان](٢) وهو نظير قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، وقوله : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر : ٧] ، وقوله : (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [طه : ٩٨].

وثانيها : قال قتادة : إن النبي ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ أخاكم النّجاشيّ قد مات فصلّوا عليه» ، قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم فنزل قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ) [آل عمران : ١٩٩] فقالوا : إنه كان لا يصلي [إلى القبلة ، فأنزل الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)(٣) ومعناه أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب ، وما بينهما كلها لي ، فمتى وجّه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني ، ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي فكان هذا عذرا للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق ، وهو نحو قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣].

وثالثها : قال الحسن ، ومجاهد والضحاك رضي الله عنهم : لما نزل قوله ـ سبحانه وتعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قالوا : أين ندعوه؟ فنزلت هذه الآية (٤).

ورابعها : قال علي بن عيسى رحمه‌الله : إنه خطاب للمؤمنين ألا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله ـ تعالى ـ عن ذكره حيث كنتم من أرضهم ، فلله المشرق والمغرب ، والجهات كلها.

وخامسها : زعم بعضهم أنها نزلت في المجتهدين الوافدين بشرائط الاجتهاد فهو مصيب](٥).

فصل قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧)

قرأ الجمهور : «وقالوا» بالواو عطفا لهذه الجملة الخبرية على ما قبلها ، وهو أحسن في الربط.

__________________

(١) في ب : وقدرتي.

(٢) في ب : سعة العلم.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٦) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن قتادة.

(٤) أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد كما في «الدر المنثور» للسيوطي (١ / ٢٠٦).

(٥) سقط في ب.

٤١٨

وقيل : هي معطوفة على قوله : (وَسَعى) فيكون قد عطف على الصّلة مع الفعل بهذه الجمل الكثيرة ، وهذا ينبغي أن ينزّه القرآن عن مثله.

وقرأ ابن عامر (١) ـ وكذلك هي في مصاحف «الشام» : «قالوا» من غير «واو» ، وكذلك يحتمل وجهين :

أحدهما : الاستئناف.

والثاني : حذف حرف العطف وهو مراد ، استغناء عنه بربط الضّمير بما قبل هذه الجملة ، و «اتّخذ» يجوز أن يكون بمعنى عمل وصنع ، فيتعدّى لمفعول واحد ، وأن يكون بمعنى صيّر ، فيتعدّى لاثنين ، ويكون الأول هنا محذوفا تقديره : وقالوا : اتخذ الله بعض الموجودات ولدا ، إلا أنه مع كثرة دور هذا التركيب لم يذكر معها إلا مفعول واحد : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) [الأنبياء : ٢٦] ، (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) [المؤمنون : ٩١] ، (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [مريم : ٩٢]. والولد فعل بمعنى مفعول كالقبض والنقص وهو غير مقيس والمصدر : الولادة والوليدية وهذا الثاني غريب.

وقوله : (سُبْحانَهُ).

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : «سبحان» منصوب على المصدر ، ومعناه التبرئة والتنزيه عما قالوا.

قوله تعالى : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

«بل» إضراب وانتقال ، و «له» خبر مقدم ، و «ما» مبتدأ مؤخر ، وأتى هنا ب «ما» ؛ لأنه إذا اختلط العاقل بغيره كان المتكلّم مخيرا في «ما» و «من» ، ولذلك لما اعتبر العقلاء غلبهم في قوله (قانِتُونَ) ، فجاء بصيغة السّلامة المختصّة بالعقلاء.

قال الزمخشري فإن قلت : كيف جاء ب «ما» التي لغير أولي العلم مع قوله : (قانِتُونَ).

قلت : هو كقوله : «سبحان ما سخركن لنا» وكأنه جاء ب «ما» دون «من» تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم ، وهذا جنوح منه إلى أن «ما» قد تقع على أولي العلم ، ولكن المشهور خلافه.

وأما قوله : «سبحان ما سخركن لنا» فسبحان غير مضاف ، بل هو كقوله :

٧٥٢ ـ ..........

سبحان من علقمة ... (٢)

__________________

(١) انظر الكشف : ١ / ٢٦٠ ، والسبعة : ١٦٨ ، والعنوان : ٧١ ، وحجة القراءات : ١١٠ ، ١١١ ، والحجة : ٢ / ٢٠٢ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٥٨ ، وشرح شعلة : ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٣.

(٢) تقدم برقم ٣٦٥.

٤١٩

و «ما» مصدرية ظرفية.

قول تعالى : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) مبتدأ وخبر ، و «كلّ» مضافة إلى محذوف تقديرا ، أي : كلّ من في السموات والأرض.

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولدا كذا قال أبو حيان رحمه‌الله تعالى. وهذا بعيد جدا ، لأن المجعول ولدا لم يجر له ذكر ، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولدا وغيره».

قوله : لم يجر له ذكر» بل قد جرى ذكره فلا بعد فيه.

وجمع «قانتون» حملا على المعنى لما تقدم من أن «كلّا» إذا قطعت عن الإضافة جاز فيها مراعاة اللفظ ، [ومراعاة المعنى ، وهو الأكثر نحوه : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء : ٣٣] (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] ومن مراعاة](١) اللّفظ : «قل كلّ يعمل على شاكلته» (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٤٠] ، وحسن الجمع هنا لتواخي رؤوس الآي.

والقنوت : أصله الدوام ، ويستعمل على أربعة أوجه : الطاعة والانقياد ، كقوله تعالى : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) [آل عمران : ٤٣] وطول القيام ، كقوله عليه‌السلام لما سئل : أي الصّلاة أفضل؟ قال : طول القنوت (٢) وبمعنى السّكوت [كقول زيد بن أرقم رضي الله عنه : كنا نتكلّم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمسكنا عن الكلام والدعاء ، ومنه القنوت (٣).

قال ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما : «قانتون» أي : أن كل من في السموات والأرض مطيعون (٤).

وأورد على هذا أن الكفار ليسوا مطيعين.

وقال السّدي رحمه‌الله تعالى : يطيعون يوم القيامة ، وأوردوا على هذا أيضا بأن هذا صفة المتّكلين](٥).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه مسلم «صلاة المسافرين» ١٦٥ والترمذي (٣٨٧) وابن ماجه (١٤٢١) والنسائي (٥ / ٥٨) وأحمد (٣ / ٣٠٢ ، ٣١٤ ، ٣٩١ ، ٤١٢) ، (٤ / ٣٨٥ ، ٣٨٧) والبيهقي (٣ / ٨) والطبراني (١٧ / ٤٨) والبغوي (١ / ٢٤٧) وعبد الرزاق (٤٨٤٥) وابن عبد البر (١ / ١٣٢) وأبو نعيم (٣ / ٣٥٧) والطحاوي في «شرح المعاني» (١ / ٢٩٩ ، ٤٧٦) وابن عساكر (٦ / ٣٥٦ تهذيب).

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٤٦) كتاب التفسير : باب : قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ» حديث (٤٥٣٤) ومسلم (١ / ٣٨٣) ، كتاب المساجد : باب تحريم الكلام في الصلاة حديث (٣٥ / ٥٣٩) من حديث زيد بن أرقم.

(٤) أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (١ / ٢٠٨).

(٥) سقط في ب.

٤٢٠