اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

في «ما» أن تكون مصدرية ، فإنه قال والرابع : أن تكون مصدرية ، أي بئس شراؤهم ، وفاعل «بئس» على هذا مضمر ؛ لأن المصدر هنا مخصوص ليس بجنس يعني فلا يكون فاعلا ، لكن يبطل هذا القول عود الضمير في «به» على «ما» والمصدرية لا يعود عليها ؛ لأنه حذف عند الجمهور.

فصل في المراد بالشراء في الآية

في الشراء ـ هنا ـ قولان :

أحدهما : أنه بمعنى البيع ، بيانه أنه ـ تعالى ـ لما مكن المكلّف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة ، والكفر الذي يؤدّي به إلى النّار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار مالك السّلعة ثمنها على سلعته ، فإذا اختار الإيمان الذي فيه فوزه ونجاته قيل : نعم ما اشترى ، ولما كان الغرض بالبيع والشراء هو إبدال ملك بملك صلح أن يوصف كلّ واحد منهما بأنه بائع ومشتر لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما.

الوجه الثاني : أن المكلّف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله ـ تعالى ـ يأتي بأعمال يظن أنها تخلصه من العقاب ، فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال ، فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ، ويوصّلهم إلى الثواب ، فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم به ، فذمّهم الله ـ تعالى ـ وقال : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ).

قوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) قد تقدم فيه أنه يجوز أن يكون هو المخصوص بالذم ، ففيه الأوجه الثلاثة إما مبتدأ أو خبره الجملة قبله ، ولا حاجة إلى الرابط ؛ لأن العموم قائم مقامه ، إذ الألف واللام في فاعل «نعم وبئس» للجنس ، أو لأن الجملة نفس المبتدأ ، وإما خبر لمبتدأ محذوف وإما مبتدأ أو خبره محذوف ، وتقدم أنه يجوز أن يكون بدلا أو خبرا لمبتدأ حسبما تقرّر وتحرر.

وأجاز الفراء أن يكون في محلّ جر بدلا من الضمير في «به» إذا جعلت «ما» تامة.

قوله : (بِما أَنْزَلَ اللهُ) متعلّق ب «كفروا» ، وقد تقدّم أن «كفر» يتعدّى بنفسه تارة ، ويحرف الجر أخرى ، و «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف تقديره : أنزله ، ويضعف جعلها نكرة موصوفة ، وكذلك جعلها مصدريّة ، والمصدر قائم مقام المفعول ، أي : بإنزاله يعني : بالمنزل.

قوله : «بغيا» فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه مفعول من أجله وهو مستوف لشروط النصب ، وفي الناصب له قولان :

أحدهما ـ وهو الظاهر ـ أنه يكفروا ، أي علة كفرهم البغي ، وهذا تنبيه على أن كفرهم [بغي وحسد] ، ولو لا هذا القول لجوزنا أن يكون كفرهم جهلا ، والمراد بذلك :

٢٨١

كفرهم بالقرآن ، لأن الخطاب لليهود ، وكانوا مؤمنين بغيره فبيّن تعالى غرضهم من هذا البغي بقوله : (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [البقرة ٩٠] وهذا لا يليق إلا باليهود ؛ لأنهم ظنوا أن ذلك الفضل العظيم بالنبوّة المنتظرة تحصل في قومهم ، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على الحسد والبغي.

والقول الثاني : أن الناصب لقوله «بغيا» «اشتروا» ، وإليه ينحو كلام الزمخشري ، فإنه قال : «وهو علّة» اشتروا.

الوجه الثاني : أنه منصوب على المصدر بفعل محذوف يدل عليه ما تقدم ، أي : بغوا بغيا.

والثالث : أنه في موضع حال ، وفي صاحبها القولان المتقدّمان : إما فاعل «اشتروا» ، وإما فاعل «يكفروا» ، تقديره : اشتروا باغين ، أو يكفروا باغين.

والبغي : أصله الفساد ، من قولهم : بغى الجرح أي : فسد ، قاله الأصمعي.

وقيل : هو شدة الطلب ، ومنه قوله تعالى : (ما نَبْغِي) [يوسف : ٦٥] ـ ومنه البّغيّ للزانية ، لشدة طلبها له وقال القرطبي : البغي معناه : الحسد ، قاله قتادة والسّدي ، وهو مفعول من أجله ، وهو في الحقيقة مصدر.

[وقال الراجز : [السريع أو الرجز]

٦٦٠ ـ أنشدوا الباغي يحبّ الوجدان

قلائصا مختلفات الألوان](١)

قوله : (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول من أجله ، والناصب له «بغيا» أي : علّة البغي إنزال الله فضله على محمد عليه الصلاة والسلام.

والثاني : أنه على إسقاط الخافض ، والتقدير : بغيا على أن ينزل ، أي : حسدا على أن ينزل ، فيجيء فيه الخلاف المشهور ، أهو في موضع نصب أو جر؟

والثالث : أنه في محل جر بدلا من «ما» في قوله تعالى : (بِما أَنْزَلَ اللهُ) [بدل اشتمال أي بإنزال الله](٢) فيكون كقول امرىء القيس : [الطويل]

٦٦١ ـ أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص

فتقصر عنها خطوة أو تبوص (٣)

وقرأ (٤) أبو عمرو وابن كثير جميع المضارع مخففا من «أنزل» إلا ما وقع الإجماع

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) تقدم برقم ٣٤١.

(٤) انظر العنوان : ٧٠ ، الحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٥٦ ـ ١٥٨ ، وحجة القراءات : ١٠٦ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٧ ، وشرح شعلة : ٢٦٩ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤٠٧.

٢٨٢

على تشديده في «الحجر» (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا) [الحجر : ٢١] وقد خالفا هذا الأصل.

أما أبو عمرو فإنه شدد (عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) [الأنعام : ٣٧] في «الأنعام».

وأما ابن كثير فإنه شدّد في الإسراء (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٨٢] (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً) [الإسراء : ٩٣].

والباقون بالتشديد في جميع المضارع إلّا حمزة والكسائي ، فإنهما خالفا هذا الأصل مخففا (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) آخر لقمان [لقمان : ٣٤] (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في الشورى [الآية : ٢٨].

والهمزة والتضعيف للتعدية ، وقد تقدم : هل بينهما فرق؟ وتحقيق كلّ من القولين ، وقد ذكر القراء مناسبات الإجماع على التشديد في تلك المواضع ، ومخالفة كلّ واحد أصله لماذا؟ بما يطول ذكره والأظهر من ذلك كله أنه جمع بين اللغات.

قوله : (مِنْ فَضْلِهِ) من لابتداء الغاية ، وفيه قولان :

أحدهما : أنه صفة لموصوف محذوف هو مفعول «ينزل» أي : ينزل الله شيئا كائنا من فضله ، فيكون في محلّ نصب.

والثاني : أن «من» زائدة ، وهو رأي الأخفش ، وحينئذ فلا تعلق له ، والمجرور بها هو المفعول أي : أن ينزل الله فضله.

قوله : (عَلى مَنْ يَشاءُ) متعلّق ب «ينزل» و «من» يجوز أن تكون موصولة ، أو نكرة موصوفة ، والعائد على الموصول أو الموصوف محذوف لاستكمال الشّروط المجوزة للحذف ، والتقدير : على الذي يشاؤه ، أو على رجل يشاؤه.

وقدره أبو البقاء مجرورا فإنه قال ـ بعد تجوزه في «من» أن تكون موصوفة أو موصولة ـ «ومفعول يشاء محذوف ، أي : يشاء نزوله عليه ، ويجوز أن يكون : يشاء يختار ويصطفي» انتهى.

وقد عرفت أن العائد المجرور لا يحذف إلّا بشروط ، وليست موجودة هنا ، فلا حاجة إلى هذا التقدير.

قوله : (مِنْ عِبادِهِ) فيه قولان.

أحدهما : أنه حال من الضّمير المحذوف الذي هو عائد على الموصوف أو الموصول ، والإضافة تقتضي التشريف.

والثاني : أن يكون صفة ل «من» بعد صفة على القول بكونها نكرة ، قاله أبو البقاء وهو ضعيف ؛ لأن البداية بالجار والمجرور على الجملة في باب النعت عند اجتماعهما أولى لكونه أقرب إلى المفرد فهو في محلّ نصب على الأول وجرّ على الثاني ، وفي كلا القولين متعلّق بمحذوف وجوبا لما تقرر.

٢٨٣

قوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ) الباء للحال ، أي : رجعوا ملتبسين بغضب ، أي : مغضوبا عليهم ، وقد تقدم ذلك.

قوله : (عَلى غَضَبٍ) في محلّ جر ؛ لأنه صفة لقوله : (بِغَضَبٍ) أي : كائن على غضب أي بغضب مترادف.

فصل في تفسير الغضب

في تفسير الغضب وجوه :

أحدها : لا بد من إثبات سببين للغضبين :

أحدهما : تكذيبهم عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وما أنزل عليه ، والآخر تكذيبهم بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ـ قاله الحسن والشّعبي وعكرمة وأبو العالية وقتادة.

وقال ابن عباس ومجاهد : الغضب الأول تضييعهم التّوراة وتبديلهم.

والثاني : كفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقال عطاء ، وأبو عبيد : ليس المراد إثبات الغضبين فقط ، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] وغير ذلك من أنواع كفرهم.

وقال أبو مسلم : المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل الكفر ، وإن كان واحدا إلا أنه عظيم.

وقال السدي : الغضب الأول بعبادتهم العجل والثاني بكتمانهم صفة محمد وجحدهم نبوّته(٣).

قوله : «مهين» صفة ل «عذاب» ، وأصله : «مهون» ؛ لأنه من الهوان ، وهو اسم فاعل من أهان يهين إهانة مثل : أقام ـ يقيم ـ إقامة ، فنقلت كسرة «الواو» على الساكن قبلها ، فسكنت «الواو» بعد كسرة ، فقلبت ياء.

والإهانة : الإذلال والخزي. وقال : «وللكافرين» ولم يقل : «ولهم» تنبيها على العلّة المقتضية للعذاب المهين ، فيدخل فيها أولئك الكفّار وغيرهم.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٤٥) عن عكرمة وقتادة. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٧١).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٤٥) عن ابن عباس والأثر ذكره ابن هشام في «السيرة النبوية» (٢ / ١٩٠).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٤٦) ، عن السدّي.

٢٨٤

وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩١)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) : يعني اليهود.

(آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) : أي بكل ما أنزل الله ، والقائلون بالعموم احتجّوا بهذه الآية على أن لفظة «ما» بمعنى «الذي» تفيد العموم ، قالوا : لأن الله ـ تعالى ـ أمرهم أن يؤمنوا بما أنزل الله ، فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك ، ولو لا أنّ لفظة «ما» تفيد العموم لما حسن هذا الذم ، ثم إنه ـ تعالى ـ أمرهم بذلك (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) يعني : التوراة وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى ـ عليه‌السلام ـ ثم أخبر الله ـ تعالى ـ عنهم أنهم يكفرون بما وراءه ، وهو الإنجيل والقرآن ، وأورد هذه الحكاية عنهم على سبيل الذّم لهم ، وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم : آمنوا بما أنزل الله إلّا ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلا من عند الله ، وإلّا كان ذلك تكليف ما لا يطاق ، وإذ أول الدليل على كونه منزلا من عند الله وجب الإيمان به ، فإيمانهم بالبعض دون البعض تناقض ، ويجاب بوجهين :

أحدهما : أن العموم إنما استفيد من عموم العلّة ، وهو كونه من عند الله ؛ لأن كلّ ما أنزله الله يجب الإيمان بكونه منزلا من عند الله لا لكون «ما» يقتضي العموم.

الثاني : أنا لا نمنع أن «ما» استعمل للعموم ؛ لأن ذلك مجال لا خلاف فيه ، وإنما الخلاف في كونها هل هي موضوعة للعموم أو لا؟

فالقائل بأنها ليست موضوعة للعموم أنها إنما استعملت للعموم مجازا هاهنا.

فإن قيل : الأصل في الاستعمال الحقيقة.

فالجواب : أنها لو كانت للعموم حقيقة لما جاز إدخال لفظة «كل» عليها.

فإن قيل : إنما دخلت «كلّ» للتوكيد.

فالجواب : أن أصل المؤكّد يأتي بعد ما يؤكده لا قبله.

قوله : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) يجوز في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أن تكون [استئنافية استؤنفت](١) للإخبار بأنهم يكفرون بما عدا التّوراة ، فلا محل لها من الإعراب.

والثاني : أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : وهم يكفرون ، والجملة في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيها «قالوا» ، أي قالوا : نؤمن حال كونهم كافرين بكذا ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها «نؤمن».

__________________

(١) في أ : استفهامية لا.

٢٨٥

قال أبو البقاء (١) : إذ لو كان كذلك لكان لفظ الحال ونكفر ، أي ونحن نكفر. يعني : فكان يجب المطابقة.

ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لما تقدم من أن المضارع المثبت لا يقترن بالواو ، وهو نظير قوله : [المتقارب]

٦٦٢ ـ ..........

نجوت وأرهنهم مالكا (٢)

وحذف الفاعل من قوله تعالى : (بِما أَنْزَلَ) وأقيم المفعول مقامه للعلم به ، إذ لا ينزّل الكتب السماوية إلا الله ، أو لتقدم ذكره في قوله : (بِما أَنْزَلَ اللهُ).

قوله : (بِما وَراءَهُ) متعلّق ب «يكفرون» و «ما» موصولة ، والظرف صلتها ، فمتعلّقه فعل ليس إلا ـ و «الهاء» في «وراءه» تعود على «ما» في قوله : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ).

و «وراء» من الظروف المتوسّطة التصرف ، وهو ظرف مكان ، والمشهور أنه بمعنى «خلف» وقد يكون بمعنى «أمام» قال تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩].

وقال : (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) [الإنسان : ٢٧] فهو من الأضداد ، وفسره الفراء ـ هنا ـ بمعنى «سوى» التي بمعنى «غير».

وفسره أبو عبيدة وقتادة بمعنى «بعد».

وفي همزه قولان :

أحدهما : أنه أصل بنفسه [وإليه ذهب ابن جني مستدلا](٣) بثبوتها في التصغير في قولهم : «وريئة».

الثاني : أنها مبدلة من ياء ، لقولهم : تواريت.

قال أبو البقاء (٤) : ولا يجوز أن تكون الهمزة بدلا من واو ؛ لأن ما فاؤه واو ، لا تكون لامه واوا إلّا ندورا نحو : «واو» اسم حرف هجاء ، وحكم «وراء» حكم «قبل» و «بعد» في كونه إذا أضيف أعرب ، وإذا قطع بني على الضم.

وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر : [الطويل]

٦٦٣ ـ إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن

لقاؤك إلّا من وراء وراء (٥)

__________________

(١) ينظر الإملاء : ١ / ٥١.

(٢) تقدم برقم ٤٤٥.

(٣) في ب : وذلك بدليل.

(٤) ينظر الإملاء : ١ / ٥١.

(٥) البيت لعتي بن مالك ينظر لسان العرب (ورى) ، خزانة الأدب ٦ / ٥٠٤ ، والدرر ٣ / ١١٣ ، وشرح التصريح ٢ / ٥٢ ، وشرح شذور الذهب ص ١٣٤ ، وشرح المفصل ٤ / ٨٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٢١٠ ، الدر ١ / ٣٠٣.

٢٨٦

وفي الحديث عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : «كنت خليلا من وراء وراء» (١).

وثبوت الهاء في تصغيرها شاذّ ؛ لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تثبت الهاء في مصغره إلا في لفظتين شذتا وهما : «وريئة» و «قديديمة» : تصغير «وراء» و «قدام».

وقال ابن عصفور : لأنهما لم يتصرفا فلو لم يؤنّثا في التصغير لتوهّم تذكيرهما.

والوراء : ولد الولد أيضا.

قوله : (وَهُوَ الْحَقُّ) مبتدأ أو خبر ، والجملة في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيها قوله (يَكْفُرُونَ) [وصاحبها فاعل يكفرون](٢) وأجاز أبو البقاء (٣) أن يكون العامل الاستقرار الذي في قوله : (بِما وَراءَهُ) أي بالذي استقرّ وراءه ، وهو الحق.

وهذا إشارة إلى وجوب الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه لما ثبت نبوّته بالمعجزات التي ظهرت عليه ، ثم إنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أخبر أن هذا القرآن منزّل من عند الله ، وأن فيه أمر المكلفين به ، فكان الإيمان به محقّق لا محالة.

قوله : (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة ، لأن قوله : (وَهُوَ الْحَقُّ) قد تضمّن معناها ، والحال المؤكدة : إما أن تؤكد عاملها ، نحو : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة : ٦٠] وإما أن تؤكد مضمون جملة ، فإن كان الثاني التزم إضمار عاملها ، وتأخيرها عن الجملة ، ومثله أنشد سيبويه : [البسيط]

٦٦٤ ـ أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للنّاس من عار (٤)

والتقدير : وهو الحق أحقّه مصدقا ـ وابن دارة أعرف معروفا ، هذا تقرير كلام النحويين ، وأما أبو البقاء ، فإنه قال : مصدقا حال مؤكّدة ، والعامل فيها ما في «الحق» من معنى الفعل ، إذ المعنى : وهو ثابت مصدقا ، وصاحب الحال الضمير المستتر في «الحقّ» عند قوم ، وعند آخرين صاحب الحال ضمير دلّ عليه الكلام ، و «الحق» : مصدر لا يتحمّل الضمير على حسب تحمّل اسم الفاعل له عندهم.

فقوله : «وعند آخرين» هو القول الذي قدّمناه وهو الصواب ، و «ما» في قوله : «لما

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصحيح (١ / ١٨٦ ـ ١٨٧) كتاب الإيمان (١) باب أدنى أهل الجنة منزلة حديث رقم (٣٢٩ / ١٩٥).

والحديث ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (٤ / ٤٤٠).

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر الإملاء : ١ / ٥٢.

(٤) البيت لسالم بن دارة ينظر خزانة الأدب : ١ / ٤٦٨ ، ٢ / ١٤٥ ، ٣ / ٣٦٥ ، ٢٦٦ ، شرح أبيات سيبويه : ١ / ٥٤٧ ، الخصائص : ٢ / ٢٦٨ ، ٣١٧ ، ٣٤٠ ، ٣ / ٦٠ ، الدرر : ٤ / ١١ ، شرح المفصل : ٢ / ٦٤ ، الكتاب : ٢ / ٧٩ ، المقاصد النحوية : ٣ / ١٨٦ ، وشرح الأشموني : ١ / ٢٥٥ ، شرح شذور الذهب : ص ٣٢٠ ، شرح ابن عقيل : ص ٣٣٨ ، همع الهوامع : ١ / ٢٤٥ ، والدر : ١ / ٣٠٣.

٢٨٧

معهم» في موضع خفض باللام ، و «معهم» صلتها ، و «معهم» نصب بالاستقرار.

فصل في بيان ما تشير إليه الآية

وهذا أيضا إشارة إلى وجوب الإيمان بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من وجهين :

الأول : أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يتعلم [علما](١) ، ولا استفاد من أستاذ ، فلما أخبر بالحكايات والقصص موافقا لما في التوراة من غير تفاوت أصلا علمنا أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما استفادها من الوحي والتنزيل.

والثاني : أن القرآن يدلّ على نبوته ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فلما أخبر الله ـ تعالى ـ عنه أنه مصدق للتوراة ، وجب اشتمال التّوراة على الإخبار عن نبوته ، وإلّا لم يكن القرآن مصدقا للتوراة ، بل مكذبا لها ، وإذا كانت التوراة مشتملة على نبوته عليه الصّلاة والسّلام ، وهم قد اعترفوا بوجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن.

قوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ) الفاء جواب شرط مقدر وتقديره : إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم قتلتم الأنبياء؟ وهذا تكذيب لهم ؛ [لأن الإيمان بالتوراة مناف لقتل أشرف خلقه وذلك](٢) لأن التوراة دلّت على أن المعجزات تدلّ على الصدق ، وتدل على أنّ من كان صادقا في ادعاء النبوة كان قتله كفرا ، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قتل يحيى وزكريا وعيسى ـ عليهم‌السلام ـ كفرا فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادّعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة؟

و «لم» جار ومجرور ، واللام حرف ، و «ما» استفهامية في محلّ جر ، أي : لأي شيء؟ ولكن حذفت ألفها فرقا بينها وبين «ما» الخبرية.

وقد تحمل الاستفهامية على الخبرية فتثبت ألفها ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٦٦٥ ـ على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في التّراب (٣)

وهذا ينبغي أن يخصّ بالضرورة ، كما نص عليه بعضهم ، والزمخشري يجيز ذلك ، ويخرج عليه بعض آي القرآن ، كما قد تحمل الخبرية على الاستفهامية في الحذف في قولهم : اصنع بم شئت وهذا لمجرد التشبيه اللفظي.

وإذا وقف على «ما» الاستفهامية المجرورة ، فإن كانت مجرورة باسم وجب لحاق

__________________

(١) في ب : من علم.

(٢) سقط في ب.

(٣) البيت لحسان بن ثابت. ينظر ديوانه : (٧٩) ، ابن يعيش : ٤ / ٩ ، الأمالي الشجرية : ٢ / ٢٣٣ ، ٤ / ٢١٦ ، الهمع : ٢ / ٢١٧ ، الدرر : ١ / ٩٠ ، شواهد الشافية (٢٢٤) ، المغني : ١ / ٢٩٩ ، الأشموني : ٤ / ٢١٦ ، الخزانة : ٦ / ٩٩ ، معاني الفراء : ٢ / ٩٢ ، الدر المصون : ١ / ٣٠٤.

٢٨٨

هاء السّكت نحو مجيء «مه» ، وإن كانت مجرورة بحرف فالاختيار اللحاق ، والفرق أن الحرف يمتزج بما يدخل عليه فتقوى به الاستفهامية ، بخلاف الاسم المضاف إليها ، فإنه في نيّة الانفصال ، وهذا الوقف إنما يجوز ابتداء ، أو بقطع نفس ، ولا جرم أن بعضهم منع الوقف على هذا النحو قال : «إنه إن وقف بغير هاء كان خطأ ؛ لنقصان الحرف ، وإن وقف بها خالف السّواد».

لكن البزي قد وقف بالهاء ، ومثل ذلك لا يعد مخالفة للسّواد ، ألا ترى إلى إثباتهم بعض ياءات الزوائد.

والجار متعلق بقوله : (تَقْتُلُونَ) ، ولكنه قدّم عليه وجوبا ؛ لأن مجروره له صدر الكلام ، والفاء وما بعدها من «تقتلون» في محلّ جزم ، وتقتلون ـ وإن كان بصيغة المضارع ، فهو في معنى الماضي [لفهم المعنى](١) ، وأيضا فمعه قوله : (مِنْ قَبْلُ) [وأيضا فإن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ إنما كانوا في ذلك الزمان ، وأيضا فالحاضرون لم يفعلوا ذلك ولا يتأتى لهم قتل الماضين](٢) ، وجاز إسناد القتل إليهم وإن لم يتعاطوه ؛ لأنهم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم جعلوا كأنهم فعلوا هم أنفسهم.

فإن قيل : كيف جاز قوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ) من قبل ، ولا يجوز أن يقال : أنا أضربك أمس؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصّفة اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله : ويحك لم تكذب؟ كأنك قلت : لم يكن هذا من شأنك.

قال الله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) [البقرة : ١٠٢] ولم يقل : ما تلت الشياطين ؛ لأنه أراد من شأنها التلاوة.

والثاني : كأنه قال : لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم مؤمنين بالتوراة؟

قال بعضهم : جاء «تقتلون» بلفظ الاستقبال ، وهو بمعنى المضيّ لما ارتفع الإشكال بقوله : (مِنْ قَبْلُ) وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل وبالعكس.

قال الحطيئة : [الكامل]

٦٦٦ ـ شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه

أنّ الوليد أحقّ بالعذر (٣)

شهد بمعنى يشهد.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر ديوانه : ص ١٧٩ ، لسان العرب (حسب) ، سر صناعة الإعراب : ١ / ٣٩٨ ، مجالس ثعلب : ص ٤٥٦.

٢٨٩

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

في «إن» قولان :

أحدهما : أنها شرطية ، وجوابه محذوف تقديره : إن كنتم مؤمنين فلم فعلتم ذلك؟ ويكون الشرط وجوابه قد ذكر مرتين فحذف الشّرط من الجملة الأولى ، وبقي جوابه وهو : فلم تقتلون ، وحذف الجواب من الثّانية ، وبقي شرطه ، فقد حذف من كلّ واحدة ما أثبت في الأخرى.

قال ابن عطية (١) رحمه‌الله : جوابها متقدم ، وهو قوله «فلم» وهذا إنما يتأتى على قول الكوفيين ، وأبي زيد.

والثاني : أن «إن» نافية بمعنى «ما» أي : ما كنتم مؤمنين لمنافاة ما صدر منكم الإيمان.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)(٩٢)

«بالبيّنات» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون حالا من «موسى» أي : جاءكم ذا بيّنات وحجج ، أو ومعه البينات.

وثانيهما : أن يكون مفعولا ، أي : بسبب إقامة البيّنات ، وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [الإسراء : ١٠١] وهي : العصا والسّنون واليد والدم والطّوفان والجراد والقمل والضفادع وفلق البحر.

وقيل : البينات التوراة وما فيها من الدّلالات.

واللام في «لقد» لام القسم.

(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) توبيخ ، وهو أبلغ من «الواو» في التّقريع بها والنظر في الآيات ، أي بعد النظر في الآيات والإتيان بها اتّخذتم ، [وهذا يدلّ على أنهم إنما فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات ، وذلك أعظم لجرمهم](٢). وما بعده من الجمل قد تقدم مثله ، والسبب في تكريرها أنه ـ تعالى ـ لما حكى طريقة اليهود في زمان محمد عليه الصّلاة والسّلام ، وصفهم بالعناد والتكذيب ، ومثلهم بسلفهم في [قتلهم](٣) الأنبياء الذي يناسب التكذيب ؛ بل يزيد عليه إعادة ذكر موسى ـ عليه‌السلام ـ وما جاء به من البيّنات ، وأنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذوا العجل إلها وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه ، والتمسّك بدينه ، فكذلك القول في حالي معكم وإن بالغتم في التّكذيب والإنكار.

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٩.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : قتل.

٢٩٠

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩٣)

قوله : (وَاسْمَعُوا) أي أطيعوا وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط ، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه ، ومنه قولهم : سمع الله لمن حمده ، أي : قبل وأجاب ؛ قال : [الوافر]

٦٦٧ ـ دعوت الله حتّى خفت ألّا

يكون الله يسمع ما أقول (١)

أي يقبل.

وقال الرّاجز : [الرجز]

٦٦٨ ـ والسّمع والطّاعة والتّسليم

خير وأعفى لبني تميم (٢)

فصل في التكرار

وفي هذا التكرير وجهان :

أحدهما : أنه للتأكيد ، وإيجاب الحجّة على الخصم.

الثاني : كرره لزيادته على دلالة وهي قولهم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [فرفع الجبل لا شك أنه من أعظم المعجزات ، ومع ذلك أصرّوا على كفرهم ، وصرحوا بقولهم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [النساء : ٤٦]](٣).

وأكثر المفسرين ذكروا أنهم قالوا هذا القول.

وقال أبو مسلم : يجوز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان ، فعبر عن ذلك بالقول ، وإن لم يقولوه كقوله تعالى : (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] وكقوله : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] والأول أولى ؛ لأن هذا صرف للكلام عن ظاهره بغير حاجة.

قوله : (وَأُشْرِبُوا) يجوز أن يكون معطوفا على قوله. (قالُوا : سَمِعْنا) ، ويجوز أن يكون حالا من فاعل «قالوا» أي : قالوا ذلك ، وقد أشربوا. ولا بد من إضمار «قد» ليقرب الماضي إلى الحال خلافا للكوفيين ، حيث قالوا : لا يحتاج إليها ، ويجوز أن يكون مستأنفا لمجرد الإخبار بذلك.

__________________

(١) ينظر اللسان : (سمع) ، القرطبي : ٣ / ٣١ ، روح المعاني : ١ / ٣٢٥.

(٢) البيت لجبير بن الضحاك. ينظر الطبري : ٢ / ٣٥٦ ، القرطبي : ٢ / ٢٣.

(٣) سقط في ب.

٢٩١

واستضعفه أبو البقاء ـ رحمه‌الله تعالى ـ قال : لأنه قال بعد ذلك : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ) فهو جواب قولهم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) فالأولى ألا يكون بينهما أجنبي.

و «الواو» في «أشربوا» وهي المفعول الأول قامت مقام الفاعل ، والثاني هو «العجل» ؛ لأن «شرب» يتعدّى بنفسه ، فأكسبته الهمزة مفعولا آخر ، ولا بد من حذف مضافين قبل «العجل» والتقدير : وأشربوا حبّ عبادة العجل.

وحسن حذف هذين المضافين للمبالغة في ذلك حتى كأنه تصوّر إشراب ذات العجل ، والإشراب مخالطة المائع بالجامد ، ثم اتّسع فيه حتى قيل في الألوان نحو : أشرب بياضه حمرة ، والمعنى : أنهم داخلهم حبّ عبادته ، كما داخل الصّبغ الثوب.

ومنه قول الشاعر : [الوافر]

٦٦٩ ـ إذا ما القلب أشرب حبّ شيء

فلا تأمل له الدّهر انصرافا (١)

وعبر بالشرب دون الأكل ؛ لأن الشرب يتغلغل في باطن الشيء ، بخلاف الأكل فإنه مجاور ؛ ومنه في المعنى : [الطويل]

٦٧٠ ـ جرى حبّها مجرى دمي في مفاصلي

 .......... (٢)

وقال بعضهم : [الوافر]

٦٧١ ـ تغلغل حبّ عثمة في فؤادي

فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب

ولا حزن ولم يبلغ سرور

أكاد إذا ذكرت العهد منها

أطير لو أنّ إنسانا يطير (٣)

فهذا وجه الاستعارة.

وقيل : الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض ، فكذلك كانت تلك المحبة مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.

وقيل : الإشراب هنا حقيقة ؛ لأنه يروى أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ برد العجل بالمبرد ، ثم جعل تلك البرادة في الماء ، وأمرهم بشربه ، فمن كان يحب العجل ظهرت البرادة على شفتيه.

__________________

(١) ينظر روح المعاني : ١ / ٣٢٦ ، البحر المحيط : ١ / ٤٧٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٠٥.

(٢) صدر بيت وعجزه :

فأصبح لي عن كل شغل بها شغل

ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٧٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٠٥.

(٣) الأبيات لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة. ينظر الحماسة : ٢ / ١٠٥ ، المحتسب : ٢ / ١٤٤ ، مجالس ثعلب : ١ / ٢٣٦ ، القرطبي : ٢ / ٢٣ ، اللسان (معع) ، شرح ديوان الحماسة : (٣ / ١٣٥٤) ، روح المعاني : ١ / ٣٢٦ ، الدر المصون : (١ / ٣٠٥.

٢٩٢

روى القشيري ـ رحمه‌الله ـ أنه ما شربه أحد إلا جنّ.

قال القرطبي رحمه‌الله : أما تذريته في الماء فقد دلّ عليه قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي (١) الْيَمِّ نَسْفاً) [طه : ٩٧] ، وأما شرب الماء وظهور البرادة على الشّفاه وهذا وإن كان قال به السّدي وابن جريج وغيرهما فردّه قوله : (فِي قُلُوبِهِمُ).

فصل في فاعل الإشراب

قوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ) يدلّ على أن فاعلا غيرهم فعل بهم ذلك ، ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله تعالى.

أجاب المعتزلة بوجهين :

الأول : ما أراد الله ـ تعالى ـ أن غيرهم فعل بهم ذلك ، لكنهم لفرط ولوعهم وإلفهم بعبادته أشربوا قلوبهم حبّه ، فذكر ذلك على ما لم يسمّ فاعله كما يقال : فلان معجب بنفسه.

والثاني : أن المراد من «أشرب» أي : زيّنه لهم ، ودعاهم إليه كالسّامري ، وإبليس ، وشياطين الإنس والجن.

وأجابوا : بأن هذا صرف اللّفظ عن ظاهره ، وذلك لا يجوز المصير إليه إلّا بدليل منفصل ، وقد أقيمت الدلائل العقلية القطعية على أن محدث الأشياء هو الله ـ تعالى ـ فلا حاجة لنا إلى ترك هذا الظاهر.

قوله : (بِكُفْرِهِمْ) فيه وجهان :

أظهرهما : أن «الباء» سببية متعلّقة ب «أشربوا» أي : أشربوا بسبب كفرهم السّابق.

والثاني : أنها بمعنى «على» يعنون بذلك أنها للحال ، وصاحبها في الحقيقة ذلك المضاف المحذوف أي : أشربوا حبّ عبادة العجل مختلطا بكفرهم ، والمصدر مضاف للفاعل ، أي : بأن يكفروا.

قوله : (قُلْ : بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ) كقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا).

والمعنى : فبئسما يأمركم به إيمانكم الذي زعمتم في قولكم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١].

وقيل : إن هذا خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر له بأن يوبّخهم أي : قل لهم يا محمد : بئس هذه الأشياء التي فعلتم ، وأمركم بها [إيمانكم](١) أي : بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل وإضافة الأمر إلى إيمانهم كما قالوا لشعيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) [هود : ٨٧].

__________________

(١) سقط في ب.

٢٩٣

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يجوز فيها الوجهان السابقان من كونها نافية وشرطية ، وجوابها محذوف تقديره : فبئسما يأمركم.

وقيل : تقديره : فلا تقتلوا أنبياء الله ، ولا تكذّبوا الرّسل ولا تكتموا الحق ؛ وأسند الإيمان إليهم تهكّما بهم ، ولا حاجة إلى حذف صفة ، أي : إيمانكم الباطل ، أو حذف مضاف ، أي : صاحب إيمانكم.

وقرأ الحسن : «بهو إيمانكم» بضم الهاء مع الواو.

فإن قيل : الإيمان عرض ، ولا يصح الأمر والنهي.

فالجواب : أن الدّاعي إلى الفعل قد يشبه بالأمر كقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥].

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٩٥)

وهذا نوع آخر من قبائح أفعالهم ، وهو زعمهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون النّاس ، ويدلّ عليه أنه لا يجوز أن يقال للخصم : إن كان كذا أو كذا فافعل كذا ، والأول مذهبه ، ليصحّ إلزام الثاني عليه.

ويدلّ على ذلك أيضا قولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] وقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠].

وأيضا اعتقادهم في أنفسهم أنهم هم المحقّون ؛ لأن النسخ غير جائز في شرعهم ، وأن سائر الفرق مبطلون ، وأيضا اعتقادهم أن انتسابهم إلى أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أعني : يعقوب وإسماعيل وإسحاق وإبراهيم ـ عليهم‌السلام ـ يخلصهم من [عقاب](١) الله ـ تعالى ـ ويوصلهم إلى ثوابه ، فكذّبهم الله ـ تعالى ـ وألزمهم الحجّة ، فقال : قل لهم يا محمد : إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجنّة خالصة من دون النّاس ، فتمنوا الموت أي : فأريدوه واسألوه ؛ لأن من علم أن الجنة مأواه حنّ إليها ؛ لأن نعم الدنيا على قلّتها كانت منغصة عليهم بسبب ظهور محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومنازعته لهم بالجدال والقتال ، ومن كان في النّعم القليلة المنغصة ، وهو يتيقّن بعد الموت أنه ينتقل إلى تلك النعم العظيمة ، فإنه لا بد وأن يرغب في الموت.

وقيل : إن الله ـ تعالى ـ صرفهم عن إظهار التمنّي ، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) في ب : عذاب.

٢٩٤

وقيل : فتمنّوا الموت : ادعوا بالموت على الفرقة الكاذبة. روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو تمنوا الموت لشرق كلّ إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلّا مات» (١).

قوله : (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) شرط جوابه «فتمنّوا».

و «الدار» اسم «كان» وهي الجنة ، والأولى أن يقدّر حذف مضاف ، أي : نعيم الدار الآخرة ؛ لأن الدّار الآخرة في الحقيقة هي انقضاء الدّنيا ، وهي للفريقين. واختلفوا في خبر كان» على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه «خالصة» ، فيكون «عند» ظرف ل «خالصة» ، أو للاستقرار الذي في «لكم» ، ويجوز أن تكون حالا من «الدار» ، والعامل فيه «كان» ، أو الاستقرار.

وأما «لكم» فيتعلق ب «كان» ؛ لأنها تعمل في الظرف وشبيهه.

قال أبو البقاء رحمه‌الله تعالى : ويجوز أن تكون للتبيين ، فيكون موضعها بعد «خالصة» أي : خالصة لكم فتتعلّق بنفس «خالصة» ، وهذا فيه نظر ؛ لأنه متى كانت للبيان تعلّقت بمحذوف تقديره : أعني لكم ، نحو : سقيا لك ، تقديره : أعني بهذا الدعاء لك ، وقد صرح غيره في هذا الموضع بأنها للبيان ، وأنها متعلّقة حينئذ بمحذوف كما تقدم ، ويجوز أن يكون صفة ل «خالصة» في الأصل قدّم عليها فصار حالا منها ، فيتعلّق بمحذوف.

الثاني : أن الخبر «لكم» فيتعلّق بمحذوف وينصب خالصة حينئذ على الحال ، والعامل فيها إما «كان» ، أو الاستقرار في «لكم» و «عند» منصوب بالاستقرار أيضا.

الثالث : أن الخبر هو الظّرف ، و «خالصة» حال أيضا ، والعامل فيها إما «كان» أو الاستقرار ، وكذلك «لكم» ، وقد منع من هذا الوجه قوم فقالوا : لا يجوز أن يكون الظرف خبرا ؛ لأن هذا الكلام لا يستقل.

وجوز ذلك المهدوي ، وابن عطية ، وأبو البقاء ، واستشعر أبو البقاء هذا الإشكال ، وأجاب عنه بأن قال : وسوغ أن يكون «عند» خبر «كان لكم» يعني لفظ «لكم» سوغ وقوع «عند» خبرا ، إذ كان فيه تخصيص وتبيين ، ونظيره قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] ، لو لا «له» لم يصحّ أن يكون «كفوا» خبرا.

و (مِنْ دُونِ النَّاسِ) في محلّ نصب ب «خالصة» ؛ لأنك تقول : خلص كذا من كذا ، والمراد به سوى لا معنى المكان ، كما يقول القائل لمن وهب منه ملكا : هذا لك دون النّاس.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٦٣) عن ابن عباس موقوفا وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٧٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

٢٩٥

وقرأ الجمهور : «فتمنّوا الموت» بضم الواو ، ويروى عن أبي عمرو (١) فتحها تخفيفا واختلاس الضمة ، وقرأ ابن أبي (٢) إسحاق بكسرها على التقاء السّاكنين تشبيها بواو (لَوِ اسْتَطَعْنا) [التوبة : ٤٢] المراد بها عندية المنزلة.

قال ابن الخطيب : «ولا بعد أيضا في حمله على [المكان](٣) فلعل اليهود كانوا مشبّهة ، فاعتقدوا العنديّة المكانية».

وقوله تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) هذا أمر متعلّق على أمر مفقود ، وهو كونهم صادفين ، فلا يكون الأمر موجودا ، أو الغرض إظهار كذبهم في دعواهم ، وفي هذا التمني قولان :

أحدهما : قول ابن عباس : إنهم أمروا بأن يدعو الفريقان بالموت على الفرقة الكاذبة.

والثاني : أن يقولوا : ليتنا نموت وهذا أولى ؛ لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ.

قال عليه الصلاة والسلام : «لو تمنّوا الموت لغصّ كلّ إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهوديّ إلّا مات» وقال عليه الصلاة والسلام : «لو أنّ اليهود تمنّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النّار ولو خرج الّذين يباهلون [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٤) ، لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا» (٥).

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٩١].

فصل في سؤالات واردة

السؤال الأول : لعلّهم كانوا يعلمون أن نعم الآخرة عظيمة لا سبيل إليها إلّا بالموت ، والذي يتوقف عليه المطلوب يجب أن يكون مطلوبا لكونه وسيلة إلى ذلك المطلوب ، إلّا أنه يكون مكروها نظرا إلى ذاته ، والموت مما لا يحصل إلا بالآلام العظيمة ، وما كانوا يطيقونها ، فلا جرم ما تمنوا الموت.

السؤال الثاني : أنه كان لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون إنّك تدّعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر ، فإن كان الأمر

__________________

(١) حكاه عنه الأهوازي.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨١ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٧٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٠٧.

(٢) انظر السابق.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (١ / ١٤٨) والطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٦٢) وأبو يعلى كما في «مجمع الزوائد» (٨ / ٢٢٨).

وقال الهيثمي : وفي الصحيح طرف من أوله ثم قال : ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.

٢٩٦

كذلك فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك ، فإنّا نراك ونرى أمتك في الضّر الشديد ، والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال ، وبعد الموت فإنكم تتخلّصون إلى نعيم الجنّة ، فوجب أن ترضوا بقتلكم.

السؤال الثالث : لعلّهم كانوا يقولون : الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم ، لكن بشرط الاحتراز عن الكبائر ، فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلدا في النار أبدا ؛ لأنهم كانوا وعدوا به ، أو لأنهم جوّزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذبا ، فلأجل هذا ما تمنّوا الموت ، وليس لأحد أن يدفع هذا السّؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسّهم النار إلّا أياما معدودة ؛ لأن كلّ يوم من أيام القيامة كألف سنة ، فكانت هذه الأيام ، وإن كانت قليلة بحسب العدد ، لكنها طويلة بحسب المدة ، فلا جرم ما تمنّوا الموت بسبب الخوف.

السؤال الرابع : أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ نهى عن تمنّي الموت فقال : «لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به ولكن ليقل : اللهمّ أحيني إن كانت الحياة خيرا لي وتوفّني (١) إن كانت الوفاة خيرا لي» (٢) وأيضا قال تعالى في كتابه : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) [الشورى : ١٨] فكيف يجوز أن ينهى عن الاستعجال ، ثم إنه يتحدّى القوم بذلك؟

السؤال الخامس : أنّ لفظ التمني بين التمنّي الذي هو المعنى القائم بالقلب ، وبين اللفظ الدّال على ذلك المعنى ، وهو قول القائل : ليتني متّ ، فلليهود أن يقولوا : إنك طلبت منا التمني ، والتمنّي لفظ مشترك ، فإن ذكرناه باللّسان ، فله أن يقول : ما أردت به هذا اللّفظ ، وإنما أردت به المعنى الذي في القلب ، وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقلب ، فله أن يقول : كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم ، ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه.

السؤال السادس : هب أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنّوا الموت ، فلم قلتم : إنهم لم يتمنوا الموت؟ والاستدلال بقوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) ضعيف ؛ لأن

__________________

(١) في أ : وأمتني.

(٢) متفق عليه من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في الصحيح (١١ / ٣٥٧) كتاب الرقاق (٨١) باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (٤١) حديث رقم (٦٥٠٧) ومسلم في الصحيح (٤ / ٢٠٦٥) كتاب الذكر والدعاء والاستغفار (٤٨) باب من أحب لقاء الله (٥) حديث رقم (١٤ / ٢٦٨٣) بسياق موجز دون ذكره السيدة عائشة رضي الله عنها ثم انفرد وساقه من رواية عائشة رضي الله عنها في (٤ / ٢٠٦٥ ـ ٢٠٦٦) حديث رقم (١٥ ، ١٦ / ٢٦٨٤) وفيه لفظه : والموت قبل لقاء الله وأبو داود في الجنائز باب ١٣ ـ والنسائي في السنن (٤ / ٣) وابن ماجه في السنن حديث رقم (٤٢٦٥) ـ وأحمد في المسند (٢ / ٢٦٣) ، (٣ / ٢٥٨) ، (٥ / ١٠٩) ـ والحاكم في المستدرك (٣ / ٤٤٣) والطبراني في الكبير (٤ / ٧٤) ، (١٨ ، ٣٦). وأبو نعيم في الحلية (١ / ١٤٤ ، ١٤٥) ، (٤ / ١٤٧) والخطيب في التاريخ (٥ / ٢٣٥).

٢٩٧

الاستدلال بهذا إنما يصحّ لو ثبت كون القرآن حقّا ، والنزاع ليس إلا فيه.

والجواب كون الموت متضمنا للآلام يكون كالصارف عن تمنّيه.

قلنا : كما أن الألم الحاصل عند الحجامة لا يصرف عن الحجامة للعلم الحاصل ؛ لأن المنفعة الحاصلة عن الحجامة عظيمة وجب أن يكون الأمر هاهنا كذلك.

وقوله : لو قلبوا الكلام على محمد لزمه أن يرضى بالقتل.

قلنا : الفرق بين محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبينهم أن محمدا كان يقول : إني [مبعوث](١) لتبليغ الشّرائع إلى أهل التّواتر ، وهذا المقصود لم يحصل بعد فلأجل هذا لا أرضى بالقتل ، وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق.

وقوله ثالثا : كانوا خائفين من العقاب.

قلنا : القوم ادعوا أن الآخرة خالصة لهم ، وذلك يؤمنهم من الامتزاج.

وقوله رابعا : نهي عن تمني الموت.

قلنا : هذا النهي طريقه الشرع ، فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات.

فصل في بيان متى يتمنى الموت

روي أن عليّا ـ رضي الله عنه ـ كان يطوف بين الصّفّين في [غلالة](٢) ، فقال له ابنه الحسن ـ رضي الله عنه ـ ما هذا بزيّ المحاربين ، فقال : يا بنيّ ، لا يبالي أبوك أعلى الموت سقط أم عليه [يسقط].

وقال عمار ـ رضي الله عنه ـ ب «صفين» : [الرجز]

٦٧٢ ـ الآن ألاقي الأحبّه

محمدا وحزبه (٣)

وقد ظهر عن الأنبياء في كثير من الحالات تمنّي الموت على أن هذا النهي مختصّ بسبب مخصوص ، فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حرّم أن يتمنّى الإنسان الموت عند الشّدائد ؛ لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضا بما قسم الله ـ تعالى ـ فأين هذا مما نحن فيه؟

وقولهم خامسا : «إنهم ما عرفوا المراد التمنّي باللسان أم بالقلب؟».

قلنا : التمني في لغة العرب لا يعرف إلا بما يظهر بالقول ، كما أن الخبر لا يعرف إلّا بما يظهر بالقول ، ومن المحال أن يقول عليه الصلاة والسلام : «تمنّوا الموت» ، ويريد بذلك [ما لا يمكن الوقوف عليه] ، مع أن الغرض بذلك لا يتمّ إلّا بظهوره.

__________________

(١) في ب : بعثت.

(٢) في أ : غلالته.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٦٠ ، الكشاف : ١ / ٢٩٧.

٢٩٨

وقوله سادسا : ما الدليل على أنه ما وجد التمنّي؟ قلنا من وجوه :

أحدها : لو حصل ذلك لنقل نقلا متواترا ؛ لأنه أمر عظيم ، فإنه بتقدير عدمه يثبت القول بصحّة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبتقدير حصول هذا التمنّي يبطل القول بنبوّته ، وما كان كذلك كان من الوقائع العظيمة ، فوجب أن ينقل نقلا متواترا ، ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد.

وثانيها : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع تقدّمه في الرأي والحزم ، وحسن النّظر في العاقبة ، والوصول إلى الرياسة العظيمة التي انقاد لها المخالف قهرا والموافق طوعا ، لا يجوز وهو غير واثق من جهة ربّه بالوحي النازل عليه أن يتحدّاهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه ، ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجّة ؛ لأن العاقل الذي لم [يعرف](١) الأمور لم يرض بذلك ، فكيف الحال في أعقل العقلاء؟ فثبت أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما أقدم على هذه الأدلة إلا بوحي من الله ـ تعالى ـ إليه بأنهم لا يتمنونه.

وثالثها : ما روى ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «لو تمنّوا الموت لشرقوا به ولماتوا» وقد نطق القرآن بذلك في قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) أي : ولو تمنّوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم ردّا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإبطالا لحجّته. والحديثان المتقدّمان ، وبالجملة الأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا الموت بلغت مبلغ التواتر.

قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) خبر قاطع عن أنّ ذلك لا يقع في المستقبل ، وهذا إخبار عن الغيب ؛ لأن مع توفّر الدواعي على تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر أنهم لا يأتون بذلك ، فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضدّه ، فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي.

قوله : «أبدا» منصوب ب «يتمنّوه» ، وهو ظرف زمان يقع للقليل والكثير ، ماضيا كان أو مستقبلا.

قال القرطبي : كالحين والوقت ، وهو ـ هاهنا ـ من أول العمر إلى الموت تقول : ما فعلته أبدا.

وقال الراغب هو عبارة عن مدّة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان ، وذلك أنه يقال : زمان كذا ، ولا يقال : أبد كذا ، وكان من حقّه على هذا ألّا يثنى ولا يجمع ، وقد قالوا : آباد ، فجمعوه لاختلاف أنواعه.

وقيل : آباد لغة مولّدة ، ومجيئه بعد «لن» يدلّ على أن نفيها لا يقتضي التأبيد ، وقد تقدم غير ذلك ، ودعوى التأكيد فيه بعيدة.

__________________

(١) في أ : يعرف.

٢٩٩

فصل في بيان أن بالآية غيبين

واعلم أن هذا إخبار عن غيب آخر ؛ لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد في شيء من الأزمنة ، ولا شك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات (١) فهما غيبان ، وقال هنا : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) [البقرة : ٩٥] فنفى ب «لن» ، وفي الجمعة ب «لا» [قال صاحب «المنتخب» :](٢) وذلك لأن دعواهم ـ هنا ـ أعظم من دعواهم هناك؟ لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية ؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، فإنهم ادعوا هنا أنّ الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ، وادعوا في سورة «الجمعة» أنهم أولياء لله من دون النّاس ، والسعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب ؛ ومرتبة الولاية ـ وإن كانت شريفة ـ إلا أنها لا تراد ليتوسّل بها إلى الجنة ، فلما كانت الأولى أعظم لا جرم ورد النفي ب «لن» ؛ لأنه أبلغ من النفي ب «لا».

قوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بيان للعلّة التي لها لا يتمنّون ؛ لأنهم إذا علموا سوء طرقهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى عدم تمنّي الموت ، وهذه الجملة متعلّقة ب «يتمنّوه» ، والباء للسببية ، أي : بسبب اجتراحهم العظائم ، و «أيديهم» في محلّ رفع حذفت الضمة من الباء لثقلها مع الكسرة.

و «ما» يجوز فيها ثلاثة أوجه :

أظهرها : كونها موصولة بمعنى «الذي».

والثاني : نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف ، أي : بما قدّمته ، فالجملة لا محلّ لها على الأولى ، ومحلّها الجر على الثاني.

والثالث : أنها مصدرية أي : بتقدمة أيديهم.

ومفعول «قدمت» محذوف أي : بما قدمت أيديهم الشّر ، أو التبديل ونحوه.

قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ابتداء وخبر ، وهذا كالزّجر والتهديد ؛ لأنه إذا كان عالما بالسر والنجوى لا يخفى عليه شيء صار ذلك من أعظم الصّوارف للمكلّف عن المعاصي ، وإنما ذكر الظالمين ؛ لأن كلّ كافر ظالم ، وليس كلّ ظالم كافرا ، فذكر الأعم ؛ لأنه أولى بالذكر.

قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٩٦)

فأخبر تعالى أولا بأنهم لا يتمنّون الموت ، ثم أخبر عنهم هنا بأنهم في غاية الحرص ؛ لأن ثم قسما آخر ، وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنّى الموت ، ولا يتمنّى الحياة.

__________________

(١) في أ : الأشخاص.

(٢) سقط في ب.

٣٠٠