اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

فصل

حمله بعضهم على نفي النّصرة في الآخرة ، والأكثرون حملوه على نفي النّصرة في الدنيا.

قال ابن الخطيب : والأول أولى ، لأنه ـ تعالى ـ جعله جزاء على صنعهم ولذلك قال : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) وهذه الصّفة لا تليق إلا بالآخرة ؛ لأنّ عذاب الدنيا وإن حصل ، فيصير كالحدود ؛ لأن الكفّار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(٨٧)

روي عن ابن عباس أن التّوراة لما نزلت أمر الله موسى بحملها فلم يطق ذلك ، فبعث لكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها ، فخفّفها الله على موسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ فحملها.

[قوله](١) : (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) التضعيف في «قفّينا» ليس للتّعدية ؛ إذ لو كان كذلك لتعدّى إلى اثنين ؛ لأنه قيل : التضعيف يتعدّى لواحد ، نحو : «قفوت زيدا» ، ولكنه ضمّن معنى «جئنا» كأنه قيل : وجئنا من بعده بالرّسل.

فإن قيل : يجوز أن يكون متعديا لاثنين على معنى أنّ الأول محذوف ، والثاني «بالرسل» والباء فيه زائدة تقديره : «وقفّينا من بعده الرسل».

فالجواب : أن كثرة مجيئه في القرآن كذلك يبعد هذا التّقدير ، وسيأتي لذلك مزيد بيان في «المائدة» [الآية : ٤٦] إن شاء الله تعالى.

و «قفّينا» أصله : قفّونا ، ولكن لما وقعت «الواو» رابعة قلبت «ياء» ، واشتقاقه من «قفوت» ، وقفوته إذا اتّبعت قفاه ، ثم اتّسع فيه ، فأطلق على تابع ، وإن بعد زمان التابع عن زمان المتبوع.

قال أميّة : [البسيط]

٦٤٦ ـ قالت لأخت له قصّيه عن جنب

وكيف تقفو ولا سهل ولا جبل (٢)

و «القفا» : مؤخّر العنق ، ويقال له : القافية أيضا ، ومنه الحديث : «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم» (٣).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر ديوانه : (٢٦) ، البحر : (١ / ٤٦٤) ، الدر المصون : ١ / ٢٩٢.

(٣) متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في الصحيح (٣ / ٢٤) كتاب التهجد ـ

٢٦١

والقفاوة : ما يدّخر من اللّبن وغيره لمن تريد إكرامه ، وقفوت الرجل : قذفته بفجور ، «وفلان قفوتي» : أي تهمتي ، وقفوتي أي خيرتي.

قال ابن دريد : كأنه من الأضداد.

ومنه : قافية الشعر ؛ لأنها يتلو بعضها بعضا ، ومعنى قفّينا : أي أتبعنا ، كقوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [المؤمنون : ٤٤].

و «ومن بعده» متعلق به ، وكذلك : «بالرّسل» وهو جمع رسول بمعنى مرسل ، وفعل غير مقيس في «فعيل» بمعنى «مفعول» وسكون العين لغة «الحجاز» وبها قرأ الحسن (١) ، والضم لغة «تميم» ، وبها قرأ السّبعة إلّا أبا عمر (٢) ، وفيما أضيف إلى «نا» أو «كم» أو هم» ، فإنه قرأ بالسكون لتوالي الحركات.

فصل في تعيين الرسل المقفى بهم

هؤلاء الرّسل : يوشع ، وشمويل ، وداود ، وسليمان ، وشعياء ، وأرمياء ، وعزير ، وحزقيل ، وإلياس ، ويونس ، وزكريا ، ويحيى ، وغيرهم.

وروي أن بعد موسى إلى أيام عيسى كانت الرسل متواترة ، ويظهر بعضهم في أثر البعض.

والشريعة واحدة في أيام عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه جاء بشريعة مجدّدة ، والدليل على ذلك قوله : (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ؛) لأنه يقتضي أنهم على حدّ واحد في الشريعة يتبع بعضهم بعضا فيها. وقال القاضي : إنّ الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شرعة الأوّل بحيث لا يؤدي إلا تلك بعينها من غير زيادة ولا نقصان ، مع أنّ تلك الشريعة محفوظة يمكن معرفتها بالتّواتر عن الأول ؛ لأن الرّسول إذا كان هذا حاله لم يمكن أن يعلم من جهة إلّا ما كان قد علم من قبل ، أو يمكن أن يعلم من قبل ، فكما لا يجوز أن يبعث الله رسولا لا شريعة معه أصلا ، فكذا هاهنا ، فثبت أنه لا بد وأن يكونوا قد بعثوا

__________________

ـ (١٩) باب عقد الشيطان على قافية الرأس (١٢) حديث رقم (١١٤٢) ومسلم في الصحيح (١ / ٥٣٨) كتاب صلاة المسافرين وقصرها (٦) باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح (٢٨) حديث رقم (٢٠٧ / ٧٧٦) وعن القافية قال في شرح السنة (٤ / ٣٣) وأراد بقافية الرأس مؤخر الرأس وأبو داود في السنن حديث رقم (١٣٠٦) ـ وابن ماجه في السنن حديث رقم (١٣٢٩) ـ وأحمد في المسند (٢ / ٢٤٣) وابن خزيمة في صحيحه حديث رقم (١١٣١) ـ والبيهقي في السنن (٢ / ٥٠١) ، (٣ / ١٥) ـ ومالك في الموطأ (١٧٦) وذكره المنذري في الترغيب ١ / ٤٤٢ ، ٤٤٦. والهندي في كنز العمال حديث رقم ٢١٣٧٨.

(١) وهي قراءة يحيى بن يعمر.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٦٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٢.

(٢) انظر شرح الطيبة : ٤ / ٣٥ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤٠٤ ، وانظر السابقة.

٢٦٢

بشريعة جديدة إن كانت الأولى محفوظة ، أو محيية لبعض ما اندرس من الشّريعة الأولى.

والجواب : لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل التعبّد بتلك الشريعة السّابقة بنوع آخر من الألطاف لا يعلمه إلا الله؟

فصل في لفظ عيسى

[قوله](١) : «عيسى» : علم أعجمي فلذلك لم ينصرف ، وقد تكلم النحويون في وزنه ، واشتقاقه على تقدير كونه عربيّ الوضع فقال سيبويه : وزنه «فعلى» والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة كياء «معزى» يعني بالياء لا الألف ، سمّاها ياء لكتابتها بالياء.

وقال الفارسي : ألفه ليست للتأنيث ك «ذكرى» ، بدلالة صرفهم له في النكرة.

وقال عثمان بن سعيد الصيرفي (٢) : وزنه «فعلل» فالألف عنده أصيلة بمعنى أنها منقلبة عن أصل. ورد عليه ذلك ابن الباذش بأن الياء والواو لا يكونان أصليين في بنات الأربعة ، فمن قال : إن «عيسى» مشتق من «العيس» : وهو بياض تخالطه شقرة ليس بمصيب ، لأن الأعجمي لا يدخله اشتقاق ولا تصريف.

وقال الزمخشري : «وقيل : عيسى بالسّريانية يشوع».

قوله : (ابْنَ مَرْيَمَ) عطف بيان له أو بدل ، ويجوز أن يكون صفة إلا أن الأول أولى ؛ لأن «ابن مريم» جرى مجرى العلم له ، وللوصف ب «ابن» أحكام تخصّه ، ستأتي إن شاء الله تعالى مبينة ، وقد تقدم اشتقاق «ابن» وأصله.

و «مريم» أصله بالسّريانية صفة بمعنى الخادم ، ثم سمّي به ؛ فلذلك لم ينصرف ، وفي لغة العرب : هي المرأة التي تكثر مخالطة الرجال ك «الزّير» من الرجال ، وهو الذي يكثر مخالطتهن.

قال رؤبة : [الرجز]

٦٤٧ ـ قلت لزير لم تصله مريمه (٣)

و «ياء» الزّير عن واو ؛ لأنه من «زار ـ يزور» فقلبت للكسرة قبلها ك «الريح» ، فصار لفظ «مريم» مشتركا بين اللّسانين ، ووزنه عند النحويين «مفعل» لا «فعيل» ، قال

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد أبو عمرو الداني الأموي المعروف في زمانه بابن الصيرفي الإمام العلامة الحافظ أستاذ الأستاذين وشيخ المقرئين ولد سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة أخذ القراءات عن خلف بن إبراهيم ، وأبي الحسن طاهر بن عبد المنعم وغيرهما وقرأ عليه أبو إسحاق بن إبراهيم ، والحسين بن علي وغيرهما. ينظر غاية النهاية : ١ / ٥٠٣.

(٣) ينظر ديوانه : (١٤٩) ، الكشاف : (١ / ١٦١) ، اللسان (زير) ، والدر : ١ / ٢٩٣.

٢٦٣

الزمخشري : لأن «فعيلا» ، بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو : «عثير وعليب» وقد أثبت بعضهم «فعيلا» ، وجعل منه نحو : «ضهيد» : اسم مكان و «مدين» على القول بأصالة ميمه و «ضهيأ» بالقصر ـ وهي المرأة التي لا تحيض ، أو لا ثدي لها ؛ مشتقّة من «ضاهأت» أي : «شابهت» ؛ لأنها شابهت الرجال في ذلك ، ويجوز مدّها قاله الزّجّاج.

وقال ابن جني : وأما «ضهيد وعثير» فمصنوعان فلا دلالة فيهما على ثبوت «فعيل» ، وصحة الياء في «مريم» على خلاف القياس ، إذ كان من حقّها الإعلال بنقل حركة الياء إلى الراء ، ثم قلب الياء ألفا نحو : «مباع» من البيع ، ولكنه شذّ كما شذ «مزيد ومدين».

وقال أبو البقاء (١) : ومريم علم أعجمي ، ولو كان مشتقّا من «رام ـ يريم» لكان مريما بسكون الياء. وقد جاء في الأعلام بفتح الياء نحو : [مزيد] وهو على خلاف القياس.

و «البيّنات» قيل : هي المعجزات المذكورة في سورة «آل عمران» و «المائدة».

وقيل : الإنجيل.

وقيل : أعم من ذلك.

قوله : (وَأَيَّدْناهُ) معطوف على قوله : (وَآتَيْنا عِيسَى).

وقرأ الجمهور : «وأيّدناه» على «فعّلناه» ، وقرأ مجاهد (٢) وابن محيصن ويروى عن أبي عمرو : «وآيدناه» على «أفعلناه» ، والأصل فيه : «أأيد» بهمزتين ثانيتهما ساكنة ، فوجب إبدال الثانية ألفا نحو : «أأمن» وبابه ، وصححت العين كما صحّت في «أغيلت وأغيمت» وهو تصحيح شاذ إلا في فعل التعجّب نحو : ما أبين وأطول.

وحكي عن أبي زيد أن تصحيح «أغيلت» مقيس.

فإن قيل : لم لا أعلّ «أيّدناه» كما أعلّ نحو : أبعناه حتى لا يلزم حمله على الشّاذ؟.

فالجواب : أنه لو أعلّ بأن ألقيت حركة العين على الفاء ، فيلتقي ساكنان العين واللام ، فتحذف العين لالتقاء الساكنين ، فتجتمع همزتان مفتوحتان ، فيجب قلب الثانية واوا نحو : «أوادم» فتتحرك الواو بعد فتحة ، فتقلب ألفا فيصير اللفظ : أأدناه ؛ لأدّى إلى إعلال الفاء والعين ، فلأجل ذلك رفض بخلاف أبعناه وأقمناه ، فإنه ليس فيه إلّا إعلال العين فقط ، قال أبو البقاء (٣) : فإن قلت : فلم لم تحذف الياء التي هي عين كما حذفت من نحو : «أسلناه» من «سال ـ يسيل»؟.

__________________

(١) ينظر الإملاء : ١ / ٤٩.

(٢) وقرأ بها حميد والأعرج.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٦٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤٠٣.

(٣) ينظر الإملاء : ١ / ٤٩.

٢٦٤

قيل : لو فعلوا ذلك لتوالى إعلالان :

أحدهما : قلب الهمزة الثانية ألفا ، ثم حذف الألف المبدلة من الياء لسكونها ، وسكون الألف قبلها ، فكان يصير اللّفط أدناه ، فتحذف الفاء والعين ، وليس «أسلناه» كذلك ؛ لأن هناك حذفت العين فقط.

وقال الزمخشري في «المائدة» : «أيّدتك على أفعلتك».

وقال ابن عطية : «على فاعلتك» ، ثم قال : «ويظهر أنّ الأصل في القراءتين : أفعلتك ، ثم اختلف الإعلال» والذي يظهر أن «أيّد» فعّل لمجيء مضارعه على يؤيّد بالتشديد ، ولو كان أيّد بالتشديد بزنة «أفعل» لكان مضارعه «يؤيد» ك «يؤمن» من «آمن» وأما آيد ـ بالمدّ ـ فيحتاج في نقل مضارعه إلى سماع ، فإن سمع «يؤايد» ك «يقاتل» فهو «فاعل» فإن سمع «يؤيد» ك «يكرم» و «آيد» فهو أفعل ، ذكر جميع ذلك أبو حيّان في «المائدة» ، ثم قال : إنه لم يظهر كلام ابن عطيّة في قوله : «اختلف الإعلال» ، وهو صحيح ، إلّا أن قوله : والذي يظهر أن «أيّد» في قراءة الجمهور «فعّل» لا «أفعل» إلى آخره فيه نظر ؛ لأنه يشعر بجواز شيء آخر متعذّر. كيف يتوهّم أن «أيّد» بالتشديد في قراءة الجمهور بزنة «أفعل» ، هذا ما لا يقع.

و «الأيد» : القوة.

قال عبد المطّلب : [الرجز]

٦٤٨ ـ ألحمد لله الأعزّ الأكرم

أيّدنا يوم زحوف الأشرم (١)

والصحيح أن «فعّل» و «أفعل» هنا بمعنى واحد وهو «قوّيناه» ، وقد فرق بعضهم بينهما ، فقال : «أما المدّ فمعناه : القوة ، وأما القصر فمعناه : التأييد والنصر» وهذا في الحقيقة ليس بفرق ، وقد أبدلت بعض العرب في آيد على أفعل الياء جيما فقالت : آجده أي قواه.

قال الزمخشري (٢) : «يقال : الحمد لله الذي آجدني بعد ضعف ، وأوجدني بعد فقر». وهذا كما أبدلوا من يائه جيما فقالوا : لا أفعل ذلك جد الدّهر أو مد الدهر ، وهو إبدال لا يطّرد.

ومن إبدال الياء جيما قول الراجز : [الرجز]

٦٤٩ ـ خالي عويف وأبو علجّ

ألمطعمان اللّحم بالعشجّ (٣)

يريد : «وأبو علي» و «بالعشي».

قوله : (بِرُوحِ الْقُدُسِ) متعلق ب «أيدناه».

__________________

(١) ينظر الدر المصون : ١ / ١٦٢.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٦٢.

(٣) تقدم.

٢٦٥

وقرأ (١) ابن كثير : «القدس» بإسكان الدال ، والباقون بضمها ، وهما لغتان : الضم ل «الحجاز» والإسكان ل «تميم» ، وقد تقدم ذلك ، وقرأ أبو حيوة (٢) : «القدّوس» بواو ، فيه لغة فتح القاف والدال معناه : الطّهارة أو البركة كما [تقدم عند قوله : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠]](٣) و «الروح» في الأصل : اسم للجزء الذي تحصل به الحياة في الحيوان ، قاله الرّاغب(٤).

فصل في المراد ب «روح القدس»

اختلفوا في «روح القدس» هنا على وجوه :

أحدها : أنه جبريل عليه‌السلام ؛ لقول حسّان : [الوافر]

٦٥٠ ـ وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس به كفاء (٥)

قال الحسن : القدس هو الله عزوجل ، وروحه : جبريل ، قال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) [النحل : ١٠٢] وقيل : سمي جبريل روحا للطافته ولمكانته من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب.

قال النحاس : وسمي جبريل روحا أو أضيف إلى القدس ؛ لأنه كان بتكوين الله عزوجل له روحا من غير ولادة والد ولده [وقيل : المراد بروح القدس الإنجيل كما قال في القرآن «روحا من أمرنا» لأنه الذي يوحى به](٦) ، وكذلك سمي عيسى روحا لهذا.

وقال ابن عبّاس وسعيد بن جبير : «هو الاسم الأعظم الذي كان يحيي به عيسى الموتى».

وقيل : هو الروح الذي نفخ فيه.

والقدس والقدّوس هو الله ، فنسب روح عيسى إلى نفسه تعظيما وتشريفا ، كما يقال : بيت الله ، وناقة الله ؛ قاله الربيع وغيره ، كقوله : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) وعلى هذا المراد به الروح الذي يحيى به الإنسان.

[واعلم أن إطلاق الروح على «جبريل» وعلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز](٧).

__________________

(١) ووافقه ابن محيصن.

انظر حجة القراءات : ١٠٥ ، والعنوان : ٧٠ ، والحجة : ٢ / ١٤٨ ، وشرح شعلة : ٢٦٨ ، وإتحاف : ١ / ٤٠٣.

(٢) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٦٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٤.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر المفردات : ٢٠٥.

(٥) ينظر ديوانه : (٦٠) ، تفسير ابن كثير : ١ / ١٢٢ ، روح المعاني : ٥ / ٣١٧ ، الدر المصون : ١ / ٢٩٤.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

٢٦٦

قوله : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) الهمزة هنا ـ للتوبيخ والتّقريع ، والفاء للعطف عطفت هذه الجملة على ما قبلها ، واعتني بحرف الاستفهام فقدّم ، وتقدم تحقيق ذلك ، وأن الزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف جملة ليعطف عليها ، وهذه الجملة يجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها من غير حذف شيء كأنه قال : ولقد آتينا يا بني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم فكلما جاءكم رسول.

ويجوز أن يقدّر قبلها محذوف أي : ففعلتم ما فعلتم فكلما جاءكم رسول ، وقد تقدّم الكلام في «كلما» عند قوله «كلّما أضاء» ، والناصب لها هنا استكبرتم.

و «جاء» يتعدّى بنفسه تارة كهذه الآية ، وبحرف الجر أخرى ، نحو : «جئت إليه» و «رسول» «فعول» بمعنى «مفعول» أي : مرسل ، وكون «فعول» بمعنى «المفعول» قليل ، جاء منه : «الرّكوب والحلوب» ، ويكون مصدرا بمعنى : الرّسالة قاله الزمخشري ؛ وأنشد : [الطويل]

٦٥١ ـ لقد كذب الواشون ما فهت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول (١)

أي : برسالة ، ومن عنده : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦].

قوله : (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) متعلّق بقوله : «جاءكم» و «ما» موصولة بمعنى الّذي ، والعائد محذوف لاستكمال الشّروط والتقدير : بما لا تهواه ، و «تهوى» مضارع «هوي» بكسر العين ولامه من ياء ؛ لأن عينه واو ، وباب «طويت وشويت» أكثر من باب «قوّة وحوة» ولا دليل في «هوي» لانكسار العين ، وهو مثل «شقي» من الشّقاوة ، وقولهم في تثنية مصدر هوي : هويان أدلّ على ذلك.

ومعنى تهوى : تحبّ وتختار ، وأصل الهوى : الميل ، سمي بذلك ؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار ، ولذلك لا يستعمل غالبا إلّا فيما لا خير فيه ، وقد يستعمل فيما هو خير ، ففي الحديث الصحيح قول عمر في أسارى «بدر» : «فهوي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت» (٢).

وعن عائشة رضي الله عنها : «والله ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك» (٣). وجمعه «أهواء».

__________________

(١) البيت لكثير ينظر ديوانه : ٢ / ٢٤٩ ، الكشاف : ٤ / ٤٩٧.

(٢) أخرجه مسلم «كتاب الجهاد» ٥٨ وأحمد (١ / ٣١ ـ ٣٢).

(٣) أخرجه مسلم في الصحيح ٣ / ١٣٨٤ ـ ١٣٨٥ عن ابن عباس بزيادة في أوله وآخره كتاب الجهاد والسير (٣٢) باب الامداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (١٨) حديث رقم (٥٨ / ١٧٦٣) وأبو داود في السنن ٢ / ٦٨ كتاب الجهاد باب في فداء الأسير بالمال حديث رقم ٢٦٩٠ ـ والترمذي في السنن ٤ / ١١٤ ـ ١١٥ كتاب السير (٢٢) باب ما جاء في قتل الأسارى والفداء (١٨) حديث رقم ١٥٦٧ وأحمد في المسند ٣ / ٢٤٣ ـ والحاكم في المستدرك ٢ / ٢٣٩ ، ٣٢٩ ، ٣ / ٢١ ، ٢٢.

٢٦٧

قال تعالى : (بِأَهْوائِهِمْ) [الأنعام : ١١٩] ولا يجمع على «أهوية» ، وإن كان قد جاء «ندى» و «أندية» ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٦٥٢ ـ في ليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر الكلب من ظلمائها الطّنبا (١)

وأما «هوى يهوي» بفتحها في الماضي وكسرها في المضارع فمعناه السّقوط ، و «الهويّ» بفتح الهاء ، ذهاب في انحدار.

و «الهويّ» : ذهاب في صعود وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.

وأسند الفعل إلى «الأنفس» دون المخاطب فلم يقل : «بما لا تهوون» تنبيها على أنّ النفس يسند إليها الفعل السيّىء غالبا نحو : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : ٥٣] (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) [يوسف : ١٨] و «استكبر» بمعنى : «تكبر».

قوله : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) «الفاء» عاطفة جملة «كذبتم» على «استكبرتم» ، و «فريقا» مفعول مقدم ، قدم لتتفق رؤوس الآي ، وكذا : «فريقا تقتلون» ، ولا بدّ من محذوف ، أي : فريقا منهم ، والمعنى أنه نشأ عن استكبارهم مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب ، ومبادرة آخرين بالقتل. وقدم التكذيب ؛ لأنه أول ما يفعلونه من الشّر ؛ ولأنه مشترك بين المقتول وغيره ، فإنّ المقتولين قد كذبوهم أيضا ، وإنما لم يصرّح به ؛ لأنه ذكر أقبح منه في الفعل. وجيء ب «تقتلون» مضارعا ، إما لكونه مستقبلا ؛ لأنهم كانوا يرومون قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك سحروه ، وسمّوا له الشاة ، وقال عليه الصلاة والسلام عند موته : «ما زالت أكلة خيبر تعاودني ، فهذا أوان انقطاع أبهري» (٢) ولما فيه من مناسبة رؤوس الآي والفواصل ، وإما أن يراد به الحال الماضية ؛ لأن الأمر فظيع ، فأريد استحضاره في النّفوس ، وتصويره في القلوب.

__________________

(١) البيت لمرة بن محكان ينظر لسان العرب (ندى) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥١٠ ، والمقتضب ٣ / ٤٨١ والخصائص ٣ / ٥٢ ، ٣ / ٢٣٧ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٩٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٥٦٣ ، والأغاني ٣ / ٣١٨ ، ولسان العرب (رجل) ، وشرح المفصل ١٠ / ١٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب ص ٣٢٩ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦٥٦ ، وأوضح المسالك ٤ / ٢٩٤ ، الدر المصون ١ / ٢٩٥.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح (٧ / ٧٣٧) كتاب المغازي (٦٤) باب مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووفاته (٨٣) حديث رقم (٤٤٢٨) عن عائشة رضي الله عنها «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم».

وقوله أوان بالفتح على الظرفية قال أهل اللغة الأبهر عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه وقال الخطابي يقال إن القلب متصل به اه.

وأبو داود في السنن كتاب الديات باب (٦).

والبيهقي في دلائل النبوة (٤ / ٢٦٤).

وذكره ابن حجر في فتح الباري ٨ / ١٣١ ، ١٠ / ٢٤٧.

وابن كثير في البداية والنهاية ٤ / ٢١٠.

والزبيدي في الإتحاف ٧ / ١٨٤.

٢٦٨

وأجاز الرّاغب أن يكون (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) معطوفا على قوله : «وآتيناه» ، ويكون «أفكلّما» مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار. والأظهر الأول وإن كان ما قاله محتملا.

فصل في بيان الذي استحق به بنو إسرائيل نهاية الذم

هذا نهاية الذّم ؛ لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه ، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه ، لإرادتهم الرّفعة في الدنيا ، وطلب لذاتها ، والتّرؤس على عامتهم ، وأخذ أموالهم بغير حقّ ، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك ، فيكذبونهم ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين ، ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل ، وبعضهم كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه الصلاة والسّلام ، فلما سمعت اليهود ذكر عيسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ قالوا : يا محمد لا مثل عيسى فعلت كما تزعم ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت فائتنا بما أتى به عيسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إن كنت صادقا ، فقال الله عزوجل : أفكلّما جاءكم يا معشر اليهود رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ، وتعظّمتم عن الإيمان به ، فطائفة كذبتم مثل عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وطائفة تقتلون أي : قتلتم مثل : زكريا ويحيى وشعيب ، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)(٨٨)

(قُلُوبُنا غُلْفٌ) مبتدأ وخبر ، والجملة في محلّ نصب بالقول قبله ، وقرأ الجمهور (١) : «غلف» بسكون اللام ، وفيها وجهان :

أحدهما : وهو الأظهر أن يكون جمع «أغلف» ك «أحمر وحمر» و «أصفر وصفر» ، والمعنى على هذا : أنها خلقت وجعلت مغشّاة لا يصل إليها الحقّ ، فلا تفهمه ونظيره : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) [فصلت : ٥] قال مجاهد وقتادة استعارة من الأغلف الذي لم يختتن.

والثاني : أن يكون جمع «غلاف» ، ويكون أصل اللام الضم ، فتخفف نحو : «حمار وحمر» ، «وكتاب وكتب» ، إلّا أن تخفيف «فعل» إنما يكون في المفرد غالبا نحو : «عنق» في «عنق» وأما «فعل» الجمع فقال ابن عطية : «لا يجوز تخفيفه إلّا في ضرورة» ، وليس كذلك ، بل هو قليل ، وقرأ ابن عبّاس والأعرج (٢) ـ ويروى عن أبي عمرو ـ بضمّ اللام ، وهو جمع «غلاف» ، ولا يجوز أن يكون «فعل» في هذه القراءة جمع أغلف ؛ لأن تثقيل

__________________

(١) انظر في قراءة الجمهور : الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٢٥٣.

(٢) وقرأ بها ابن محيصن ، وابن هرمز.

انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٥٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤٠٣ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٧٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٦٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٦.

٢٦٩

«فعل» الصحيح العين ، لا يجوز إلّا في شعر ، والمعنى على هذه القراءة : أن قلوبنا أوعية فهي غير محتاجة إلى علم آخر ، وهو قول ابن عباس وعطاء.

وقال الكلبي : «معناه أوعية لكلّ علم فهي لا تسمع حديثا إلا وعته إلّا حديثك لا تعقله ولا تعيه ، ولو كان فيه خير لفهمته ووعته».

وقيل : غلف كالغلاف الذي لا شيء فيه مما يدلّ على صحة قولك : التغليف كالتعمية في المعنى.

فصل في كلام المعتزلة

قالت المعتزلة : هذه الآية تدلّ على أنه ليس في قلوب الكفّار ما لا يمكنهم معه الإيمان ، لا غلاف ولا كنّ ولا سدّ على ما يقوله المجبرة ، لأنه لو كان كذلك لكان هؤلاء اليهود صادقين في هذا القول ، فلا يكذبهم الله في قوله : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) وإنما يذمّ الكاذب المبطل لا الصّادق المحق ، وقالوا : هذا يدل على أن معنى قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الكهف : ٥٧] و (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) [يس : ٨] ، (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) [يس : ٩] ليس المراد كونهم ممنوعين عن الإيمان ، بل المراد : إما منع الألطاف ، أو تشبيه حالهم في إصرارهم على الكفر بمنزلة المجبور على الكفر.

قالوا : ونظير ذم الله ـ تعالى ـ اليهود على هذه المقالة ذمه الكافرين على مثل هذه المقالة ، وهو قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] ولو كان الأمر على ما يقوله المجبرة لكان هؤلاء القوم صادقين ، وإذا كان الأمر كذلك لم يذمّوا.

قال ابن الخطيب : واعلم أنا بيّنا في تفسير «الغلف» ثلاثة أوجه ، فلا يجب الجزم بواحد منها من غير دليل.

سلمنا أن المراد منه ذلك الوجه لكن لم قلتم : إن الآية تدل على أن ذلك القول مذموم؟

فإن قيل : إنما لعنهم الله بسبب هذه المقالة.

فالجواب من وجوه :

أحدها : لا نسلم ، بل لعلّه ـ تعالى ـ حكى عن حالهم ، أو عنهم قولا ، ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم.

وثانيها : لعلّ المراد من قوله تعالى : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ، يعني : ليس قلوبنا في غلاف ولا في غطاء ، بل أفهامنا قويّة ، وخواطرنا منيرة ، ثم إنا تأملنا في دلائلك فلم نجد شيئا قويّا فلما ذكروا هذا الوصف

٢٧٠

الكاذب لا جرم لعنهم الله على كفرهم الحاصل بهذا القول.

وثالثها : أن قلوبهم لم تكن في أغطية ، بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] إلّا أنهم أنكروا تلك المعرفة وادّعوا أن قلوبهم غلف ، فكان كفرهم عنادا.

قوله : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ) «بل» : حرف إضراب ، والإضراب راجع إلى ما تضمّنه قولهم من أن قلوبهم غلف ، فردّ الله عليهم ذلك بأن سببه لعنهم بكفرهم السّابق ، والإضراب على قسمين : إبطال ، وانتقال.

فالأول ، نحو : «ما قام زيد بل عمرو» ، والانتقال كهذه الآية ، ولا تعطف «بل» إلا المفردات ، وتكون في الإيجاب والنفي والنهي ، ويزاد قبلها «لا» تأكيدا.

واللّعن : الطّرد والبعد ، ومنه : شأو لعين ، أي : بعيد ؛ قال الشّمّاخ : [الوافر]

٦٥٣ ـ ذعرت به القطا ونفيت عنه

مقام الذّئب كالرّجل اللّعين (١)

أي : الرجل البعيد ، وكان وجه الكلام أن يقول : «مقام الذّئب اللّعين كالرجل» والباء في «بكفرهم» للسبب ، وهي متعلّقة ب «لعنهم».

وقال الفارسي : النية به التقدم أي : وقالوا : قلوبنا غلف بسبب كفرهم ، فتكون الباء متعلقة ب «قالوا» ، وتكون «بل لعنهم» جملة معترضة ، وفيه بعد ، ويجوز أن تكون حالا من المفعول في «لعنهم» أي : لعنهم كافرين ، أي : ملتبسين بالكفر كقوله : (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) [المائدة : ٦١].

قوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) في نصب «قليلا» ستة أوجه :

أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : فإيمانا قليلا يؤمنون ؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله ، ويكفرون بالرسل.

الثاني : أنه حال من ضمير ذلك [المصدر](٢) المحذوف ، أي : فيؤمنونه أي : الإيمان في حال قلّته ، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه ، وتقدّم تقريره.

الثالث : أنه صفة لزمان محذوف ، أي : فزمانا قليلا يؤمنون ، وهو كقوله : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) [آل عمران : ٧٢].

الرابع : أنه على إسقاط الخافض ، والأصل : فبقليل يؤمنون ، فلما حذف حرف الجرّ انتصب ، ويعزى لأبي عبيدة.

__________________

(١) ينظر ديوانه : ص ٣٢١ ، وجمهرة اللغة : ص ٩٤٩ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٣٤٧ ، وشرح المفصل : ٣ / ١٣ ، ولسان العرب (لعن) ، والمعاني الكبير : ١ / ١٩٤ ، والمنصف : ١ / ١٠٩ ، ومجالس ثعلب : ٢ / ٥٤٣ ، والمحتسب : ١ / ٣٢٧ ، والدر : ١ / ٢٩٦.

(٢) سقط في ب.

٢٧١

الخامس : أن يكون حالا من فاعل «يؤمنون» أي : فجمعا قليلا يؤمنون ، أي : المؤمن فيهم قليل ، قال معناه ابن عباس وقتادة والأصم وأبو مسلم.

قال ابن الخطيب : «وهو الأولى ؛ لأن نظيره قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٥٥] ، ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها [ذكر](١) القوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم».

وقال المهدوي : ذهب قتادة إلى أن المعنى : فقليل منهم يؤمن ، وأنكره النحويون ، وقالوا : لو كان كذلك للزم رفع «قليل».

وأجيب : بأنه لا يلزم الرّفع مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قتادة لما تقدم من أنّ نصبه على الحال واف بهذا المعنى. و «ما» على هذه الأقوال كلها مزيدة للتأكيد.

السادس : أن تكون «ما» نافية ، أي فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا ، ومثله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [الأعراف : ٣] (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الأعراف : ٣] ، كما يقال : قليلا ما يغفل أي : لا يعقل ألبتة.

قال الكسائي : «تقول العرب : مررنا بأرض قليلا ما تنبت» ، يريدون : لا تنبت شيئا ، وهذا قول الواقديّ. وهو قوي من جهة المعنى ، وإنما يضعف من جهة تقديم ما في حيّزها عليها قاله أبو البقاء [وإليه ذهب ابن الأنباري](٢) ، إلا أن تقديم ما في حيّزها عليها لم يجزه البصريون ، وأجازه الكوفيون.

قال أبو البقاء (٣) : «ولا يجوز أن تكون «ما» مصدرية ؛ لأن «قليلا» يبقى بلا ناصب» ، يعني : أنك إذا جعلتها مصدرية كان ما بعدها صلتها ، ويكون المصدر مرفوعا ب «قليلا» على أنه فاعل به فأين الناصب له؟ وهذا بخلاف قوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) [الذاريات : ١٧] فإن «ما» ـ هاهنا ـ يجوز أن تكون مصدرية ؛ لأن «قليلا» منصوب ب «كان» وقال الزمخشري : «ويجوز أن تكون القلّة بمعنى العدم».

وقال أبو حيّان : وما ذهب إليه من أن «قليلا» يراد به النّفي فصحيح ، لكن في غير هذا التركيب ، أعني قوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) لأن «قليلا» انتصب بالفعل المثبت ، فصار نظير : «قمت قليلا» أي : قمت قياما قليلا ، ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت ، وجعلت «قليلا» منصوبا نعتا لمصدر ذلك الفعل يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة ، أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا وعدم وقوعه بالكلية ، وإنما الذي نقل النحويون : أنه قد يراد بالقلّة النفي المحض في قولهم : «أقل رجل يقول ذلك وقلّما يقوم زيد» ، وإذا تقرر هذا فحمل القلّة على النفي المحض ـ هنا ـ ليس بصحيح» انتهى.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر الاملاء : ١ / ٥٠.

٢٧٢

وأجيب [بأن ما](١) قاله الزمخشري (٢) من أن معنى التقليل ـ هنا ـ النّفي قد قال به الواقديّ قبله ، كما تقدم فإنه قال : «أي : لا قليلا ولا كثيرا» ، كما تقول : قلّما يفعل كذا ، أي : ما يفعله أصلا.

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٨٩)

اتفقوا على أنّ هذا الكتاب غير ما هو معهم ، وما ذاك إلّا القرآن.

قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه في محلّ رفع صفة ل «كتاب» ، فيتعلّق بمحذوف ، أي كتاب كائن من عند الله.

والثّاني : أن يكون في محلّ نصب لابتداء غاية المجيء قاله أبو البقاء.

وقد رد أبو حيان هذا الوجه فقال لا يقال : إنه يحتمل أن يكون «من عند الله» متعلقا ب «جاءهم» ، فلا يكون صفة ، للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما يعني أنه ليس معمولا للموصوف ولا للصفة ، فلا يفتقر الفصل به بينهما.

والجمهور على رفع «مصدق» على أنه صفة ثانية ، وعلى هذا يقال : قد وجد صفتان إحداهما صريحة ، والأخرى مؤولة ، وقد قدّمت المؤولة.

وقد تقدم أن ذلك غير ممتنع ، وإن زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا ضرورة.

والذي حسن تقديم غير الصريحة أن الوصف بكينونته من عند الله آكد ، وأن وصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله.

وقرأ (٣) ابن أبي عبلة : «مصدقا» نصبا ، وكذلك هو في مصحف أبيّ ، ونصبه على الحال ، وفي صاحبها قولان :

أحدهما : أنه «كتاب».

فإن قيل : كيف جاءت الحال من النكرة؟

فالجواب : أنها قربت من المعرفة لتخصيصها بالصفة وهو (مِنْ عِنْدِ اللهِ) كما تقدم.

على أن سيبويه أجاز مجيئها منها بلا شرط ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري.

والثاني : أنه الضّمير الذي تحمله الجار والمجرور لوقوعه صفة ، والعامل فيها إما

__________________

(١) في ب : عما.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٦٤.

(٣) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٧١ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٧.

٢٧٣

الظرف ، أو ما يتعلق به ، ولهذا اعترض بعضهم على سيبويه في قوله : [مجزوء الوافر]

٦٥٤ ـ لميّة موحشا طلل

يلوح كأنّه خلل (١)

إن «موحشا» حال من «طلل» ، وساغ ذلك لتقدمه ، فقال : لا حاجة إلى ذلك ، إذ يمكن أن يكون حالا من الضمير المستكنّ في قوله : «لمية» الواقع خبرا ل «طلل» ، وجوابه في موضع غير هذا. واللام في «لما معهم» وقعت لتعدية «مصدق» لكونه فرعا. و «ما» موصولة ، والظّرف صلتها ، ومعنى كونه مصدقا ، أي : موافقا لما معهم من التوراة في أمر يتعلّق بتكاليفهم بتصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النبوة ، وما يدلّ عليها من العلامات والنعوت ، فإنهم عرفوا أنه ليس بموافق لما معهم في سائر الشّرائع ، وعلمنا أنه لم ترد الموافقة في أدلّة القرآن ؛ لأن جميع كتب الله كذلك ، فلم تبق إلّا الموافقة فيما ذكرناه.

قوله : (وَكانُوا) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون معطوفا على «جاءهم» فيكون جواب «لما» مرتبا على المجيء والكون.

والثاني : أن يكون حالا ، أي : وقد كانوا ، فيكون جواب «لما» مرتبا على المجيء بقيد في مفعوله ، وهم كونهم يستفتحون.

قال أبو حيان : وظاهر كلام الزمخشري أن «وكانوا» ليست معطوفة على الفعل بعد «لما» ، ولا حالا ، لأنه قدر جواب «لما» محذوفا قبل تفسيره يستفتحون ، فدلّ على أن قوله : (وَكانُوا) جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله : (وَلَمَّا). وهذا هو الثالث.

و «من قبل» متعلق ب «يستفتحون» ، والأصل : من قبل ذلك ، فلما قطع بني على الضم.

و «يستفتحون» في محل نصب على أنه خبر «كان».

واختلف النحويون في جواب «لما» الأولى والثانية.

فذهب الأخفش (٢) والزّجاج (٣) إلى أن جواب الأولى محذوف تقديره : ولما جاءهم كتاب كفروا به ، وقدّره الزمخشري : «كذبوا به واستهانوا بمجيئه». وهو حسن ، ونظيره قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [الرعد : ٣١] أي : لكان هذا القرآن.

__________________

(١) البيت لكثير عزة في ديوانه ٥٠٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢١١ ، وشرح التصريح ١ / ٣٧٥ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٤٩ ، والكتاب ٤ / ١٢٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٦٣ ، وأسرار العربية ١٤٧ ، وأوضح المسالك ٢ / ٣١٠ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٣ ، والخصائص ٢ / ٤٩٢ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٤٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ١٦٦٤ و ١٨٢٥ ، وشرح قطر الندى ٢٣٦ ، ولسان العرب [خلل] ، مغني اللبيب ١ / ٨٥ و ٢ / ٤٣٦ ، الدر ١ / ٢٩٨.

(٢) ينظر معاني القرآن : ١ / ١٣٦.

(٣) ينظر معاني القرآن : ١ / ١٤٦.

٢٧٤

وذهب الفرّاء إلى أن جوابها الفاء الداخلة على «لما» ، وهو عنده نظير قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ) [البقرة : ٣٨] قال : ولا يجوز أن تكون الفاء ناسقة ، إذ لا يصلح موضعها «الواو».

و «كفروا» جواب «لما» الثانية على القولين.

وقال أبو البقاء (١) : في جواب «لما» الأولى وجهان :

أحدهما : جوابها «لما» الثانية وجوابها ، وهذا ضعيف ؛ لأن «الفاء» مع «لما» الثانية ، و «لما» لا تجاب بالفاء إلّا أن يعتقد زيادة «الفاء» على ما يجيزه الأخفش.

قال شهاب الدين (٢) : ولو قيل برأي الأخفش في زيادة «الفاء» من حيث الجملة ، فإنه لا يمكن هاهنا لأن «لما» لا يجاب بمثلها ، لا يقال : «لما جاء زيد لما قعد أكرمتك» على أن يكون «لما قعد» جواب «لما جاء» والله أعلم.

وذهب المبرد إلى أن «كفروا» جواب «لما» الأولى ، وكررت الثّانية لطول الكلام ، ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيده كقوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) إلى قوله : (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون : ٣٥] ، وهو حسن لو لا أن «الفاء» تمنع من ذلك.

وقال أبو البقاء بعد أن حكى وجها أول : والثاني : أن «كفروا» جواب الأولى والثانية ؛ لأن مقتضاها واحد.

وقيل : الثانية تكرير ، فلم تحتج إلى جواب.

فقوله : وقيل : الثانية تكرير ، هو قول المبرّد ، وهو في الحقيقة ليس مغايرة للوجه الذي ذكره قبله من كون «كفروا» جوابا لهما بل هو هو.

فصل في الاستفتاح

اختلفوا في هذا الاستفتاح ، فقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والسّدي : نزلت في بني «قريظة» و «النضير» كانوا يستفتحون على «الأوس» و «الخزرج» برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل المبعث (٣).

وقال أبو مسلم : كانوا يقولون لمخالفيهم : غدا القتال هذا نبي قد أظلّ زمان مولده ، ويصفونه بأنه نبي ، ومن صفته كذا ، ويتفحّصون عنه على الذين كفروا ، أي : على مشركي العرب.

وقيل : إن اليهود وقبل مبعث النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يستفتحون أي : يسألون الفتح

__________________

(١) ينظر الاملاء : ١ / ٥٠.

(٢) ينظر الدر المصون : ١ / ٢٩٨.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤) عن ابن عباس والأثر ذكره ابن هشام في «السيرة النبوية» (٢ / ١٩٦).

٢٧٥

والنصر ، وكانوا يقولون : اللهم افتح علينا ، وانصرنا بالنبي الأمّيّ [المبعوث](١) في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة ، وكانوا يستنصرون ، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظلّ زماننا نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما جاءهم ما عرفوا يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير بني إسرائيل ، وعرفوا نعته وصدقه كفروا به بغيا (٢).

[وقيل :](٣) نزلت في أحبار اليهود كانوا إذا قرأوا وذكروا محمدا في التوراة ، وأنه مبعوث من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصّفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث وهذه الآية دلّت على أنهم كانوا عارفين بنبوته.

فإن قيل : التوراة نقلت نقلا متواترا ، فإما أن يقال : إنه حصل فيها نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التّفصيل أعني بيان أن الشّخص الموصوف بالصّورة الفلانية ، والسيرة الفلانية سيظهر في السّنة الفلانية في المكان الفلاني ، أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه ، فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شهادة التوراة على صدق محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب؟ وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة [كون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا فكيف قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) والجواب : أن الوصف المذكور في التوراة](٤) كان وصفا إجماليا ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف ، بل كانت كالمؤكدة ، فلهذا ذمهم الله ـ تعالى ـ على الإنكار.

قال ابن الخطيب (٥) : وأما كفرهم فيحتمل أنهم كانوا يظنّون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل ، وكانوا يرغبون النّاس في دينه ، ويدعونهم إليه ، فلما بعث الله محمدا من العرب من نسل إسماعيل عظم ذلك عليهم ، فأظهروا التكذيب ، وخالفوا طريقهم الأول. وهذا فيه نظر ؛ لأنهم كانوا عالمين أنه من العرب.

ويحتمل أنهم لأجل اعترافهم بنبوّته كان يوجب عليهم زوال رياستهم وأموالهم ، فأبوا وأصرّوا على الإنكار.

ويحتمل أنهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصّة ، فلا جرم كفروا به.

قوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) جملة من مبتدأ أو خبر متسببة عمّا تقدم ، والمصدر ـ هنا ـ مضاف للفاعل ، وأتى ب «على» تنبيها على أن اللّعنة قد استعلت عليهم

__________________

(١) في ب : الذي يظهر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٣٥ ، ٣٣٦).

(٣) في أ : وقد.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٦٥.

٢٧٦

وشملتهم. وقال : (عَلَى الْكافِرِينَ) ولم يقل : «عليهم» إقامة للظّاهر مقام المضمر ، لينبّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفر.

قوله تعالى : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)(٩٠)

«بئس» : فعل ماض غير متصرّف ، معناه الذّمّ ، فلا يعمل إلّا في معرّف ب «أل» أو فيما أضيف إلى ما هما فيه ، أو في مضمر مفسّر بنكرة ، أو في «ما» على قول سيبويه.

وفيه لغات : بئس ـ بكسر العين وتخفيف ـ هذا الأصل ، وبئس ـ بكسر الفاء إتباعا للعين ، وتخفيف هذا الإتباع ، وهو أشهر الاستعمالات ومثلها «نعم» في جميع ما تقدم من الأحكام واللغات.

قال ابن الخطيب : ما كان ثانيه حرف حلق وهو مكسور يجوز فيه أربع لغات :

الأول : على الأصل أعني : بفتح الأول وكسر الثاني.

والثاني : إتباع الأول للثاني ، وهو أن يكون بكسر النون والعين ، كما يقال : «فخذ» بكسر الفاء والخاء ، وهم وإن كانوا يفرّون من الجمع بين الكسرتين إلّا أنهم جوّزوه ها هنا ؛ لكون الحرف الحلقيّ مستتبعا لما يجاوره.

الثالث : إسكان الحرف الحلقيّ المكسور ، وترك ما قبله ما كان ، فيقال : نعم وبأس بفتح الأول وإسكان الثاني ؛ كما يقال : «فخذ».

الرابع : أن يسكن الحرف الحلقيّ ، وتنقل كسرته إلى ما قبله فيقال : «نعم» بكسر النون وإسكان العين ؛ كما يقال : «فخذ» بكسر الفاء وإسكان الخاء.

واعلم أن هذا التغيير الأخير ، وإن كان في حدّ الجواز عند إطلاق هاتين الكلمتين ، إلّا أنهم جعلوه لازما لهما ؛ لخروجهما عمّا وضعت له الأفعال الماضية من الإخبار عن وجود المصدر في الزمان والماضي ، وصيرورتهما كلمتي مدح وذمّ ، ويراد بهما المبالغة في المدح والذم ؛ ليدلّ هذا التّغيير اللازم في اللّفظ على التغيير عن الأصل ، وفي المعنى ؛ فيقولون : «نعم الرّجل زيد» ولا يذكرونه على الأصل إلا في ضرورة الشّعر ؛ كما أنشد المبرّد : [الرمل]

٦٥٥ ـ ففداء لبني قيس على

ما أصاب النّاس من شرّ وضر

ما أقلّت قدماي إنّهم

نعم السّاعون في الأمر المبر (١)

__________________

(١) البيتان لطرفة. ينظر ديوانه : (٥٨) ، المقتضب : ٢ / ١٣٨ ، الأمالي الشجرية : ٢ / ٥٥ ، خزانة الأدب : ٩ / ٣٧٦ ، الكتاب : ٤٠ / ٤٤٠ ، الإنصاف : ١ / ١٢٢ ، شرح الكافية للرضي : ٢ / ٣٠١ ، الهمع : ٢ / ٨٤ ، الدرر : ٢ / ١٠٨ ، الفخر : ٣ / ١٢٨٢ ، الحجة : ٣٩٨.

٢٧٧

وهما فعلان من نعم ينعم وبئس يبأس.

والدليل عليه دخول التاء التي هي علامة التأنيث فيهما ، فيقال : نعمت وبئست.

وزعم الكوفيون أنهما اسمان ؛ مستدلين بدخول حرف الجر عليهما في قول حسان : [الطويل]

٦٥٦ ـ ألست بنعم الجار يؤلف بيته

من النّاس ذا مال كثير ومعدما (١)

وبما روي أن أعرابيّا بشر بمولودة فقيل له : نعم المولودة مولودتك! فقال : «والله ما هي بنعم المولودة : نصرتها بكاء ، وبرّها سرقة» و «نعم السّير على بئس العير». وقوله : [الرجز]

٦٥٧ ـ صبّحك الله بخير باكر

بنعم طير وشباب فاخر (٢)

وخرجه البصريون على حذف موصوف ، قامت صفته مقامه ، تقديره : والله ما هي بمولودة مقول فيها : نعم المولودة.

فصل في نعم وبئس

اعلم أنّ «نعم وبئس» أصلان للصّلاح والرّداءة ، ويكون فاعلهما اسما يستغرق الجنس إما مظهرا وإما مضمرا ، فالمظهر على وجهين :

الأول : كقولك : «نعم الرجل زيد» لا تريد رجلا دون رجل ، وإنما تقصد الرّجل على الإطلاق.

والثاني : نحو قولك : «نعم غلام الرّجل زيد».

وأما قوله : [البسيط]

٦٥٨ ـ فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم

وصاحب الرّكب عثمان بن عفانا (٣)

فنادر.

وقيل : كان ذلك لأجل أن قوله : «وصاحب الركب» قد دل على المقصود ؛ إذ المراد واحد ، فإذا أتى بالمركّب بالألف واللام ، فكأنه قد أتى به في القوم ، وأما المضمر فكقولك : «نعم رجلا زيد» الأصل : نعم الرجل رجلا زيد الأصل ثم ترك ذكر الأول ؛ لأن النكرة المنصوبة تدل عليه.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٢١٩) ، ابن يعيش : (٧ / ١٢٧).

(٢) ينظر الهمع : ٢ / ٨٤ ، العيني : ٤ / ٥٢ ، الأشموني : ٣ / ٢٧ ، الدرر : ٢ / ١٠٨ ، الدر المصون : ١ / ٢٩٩.

(٣) البيت لكثير بن عبد الله النهشلي ينظر في الدرر : ٥ / ٢١٣ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ١٠٠ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ١٧ ، وله أو لأوس بن مغراء أو لحسان بن ثابت في خزانة الأدب : ٩ / ٤١٥ ، ٤١٧ ، وشرح المفصل : ٧ / ١٣١ ، وليس في ديوان حسان ، وبلا نسبة في شرح الأشموني : ٢ / ٣٧١ ، والمقرب : ١ / ٦٦ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٨٦.

٢٧٨

ف «رجلا» نصب على التمييز ، مثله في قولك : عشرون رجلا والمميّز لا يكون إلا نكرة ، ألا ترى أن أحدا لا يقول : «عشرون الدّرهم» ولو أدخلوا الألف واللام على هذا فقالوا : «نعم الرجل» بالنصب لكان نقضا للغرض ، إذ لو كانوا يريدون الإتيان بالألف واللام لرفعوا ، وقالوا : «نعم الرجل» وكفوا أنفسهم مؤنة الإضمار ، وإنما أضمروا الفاعل قصدا للاختصار ، إذ كان «نعم رجلا» يدل على الجنس الذي فضل عليه.

فصل في إعراب المخصوص بالمدح في أسلوب «نعم»

إذا قلت : «نعم الرجل زيد» فهو على [وجهين](١) :

أحدهما : أن يكون مبتدأ مؤخرا ، كأنه قيل : «زيد نعم الرجل» أخرت «زيدا» والنية به التقديم كما تقول : مررت به المسكين تريد : المسكين مررت به ، فأما الراجع إلى المبتدأ ، فإن الرجل لما كان شائعا ينتظر فيه الجنس كان «زيد» داخلا تحته ، فصار بمنزلة الذكر الذي يعود إليه.

والوجه الآخر : أن يكون «زيد» في قولك : «نعم الرجل زيد» خبر مبتدأ محذوف ، كأنه لما قيل : نعم الرجل قيل : من هذا الذي أثنى عليه؟ فقيل : زيد ، أي : هو زيد.

فصل في شرط نعم وبئس

ولا بد بعد هذين الفعلين من مخصوصين من المدح أو الذم ، وقد يحذف لقرينة وأما «ما» الواقعة بعد «بئس» كهذه الآية ، فاختلف فيها النحاة ، هل لها محلّ من الإعراب أم لا؟

فذهب الفراء (٢) : إلى أنها مع «بئس» شيء واحد ركّب تركيب «حبّذا» ، نقله ابن عطية عنه ونقل عنه المهدوي أنه يجوز أن تكون «ما» مع «بئس» بمنزلة «كلما» ، فظاهر هذين النقلين أنها لا محل لها.

وذهب الجمهور أن لها محلّا ، ثم اختلفوا في محلّها هل هو رفع أو نصب؟

فذهب الأخفش إلى أنها في محلّ نصب على التمييز ، والجملة بعدها في محل نصب صفة لها ، وفاعل «بئس» مضمر تفسره «ما» ، والمخصوص بالذم هو قوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) لأنه في تأويل مصدر ، والتقدير : بئس هو شيئا اشتروا به أنفسهم كفرهم ، وبه قال الفارسي [في أحد قوليه](٣) ، واختاره الزّمخشري ، ويجوز على هذا أن يكون المخصوص بالذّم محذوفا و «اشتروا» صفة له في محلّ رفع تقديره : بئس شيئا شيء أو كفر اشتروا به ، كقوله : [الطويل]

__________________

(١) في ب : قسمين.

(٢) ينظر معاني القرآن : ١ / ٥٧.

(٣) سقط في ب.

٢٧٩

٦٥٩ ـ لنعم الفتى أضحى بأكناف حائل

 .......... (١)

أي : فتى أضحى.

و «أن يكفروا» بدل من ذلك المحذوف أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أن يكفروا. وذهب الكسائي إلى أن «ما» منصوبة المحلّ أيضا ، [لكنه](٢) قدر بعدها «ما» موصولة أخرى بمعنى «الذي» ، وجعل الجملة من قوله : «اشتروا» صلتها ، و «ما» هذه الموصولة هي المخصوص بالذم ، والتقدير : بئس شيئا الذي اشتروا به أنفسهم ، فلا محلّ ل «اشتروا» على هذا ، أو يكون «أن يكفروا» على هذا القول خبرا لمبتدأ محذوف كما تقدم.

فتلخّص في الجملة الواقعة بعد «ما» على القول بنصبها ثلاثة أقوال :

الأول : أنها صفة لها ، فتكون في محلّ نصب ، أو صلة ل «ما» المحذوفة ، فلا محلّ لها ، أو صفة للمخصوص بالذم فتكون في محل رفع.

وذهب سيبويه : إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل «بئس» ، فقال سيبويه : هي معرفة تامّة ، التقدير : بئس الشيء ، والمخصوص بالذم على هذا محذوف ، أي : شيء اشتروا به أنفسهم وعزي هذا القول ـ أيضا ـ للكسائي.

وذهب الفراء والكسائي ـ أيضا ـ إلى أن «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، والجملة بعدها صلتها ، ونقله ابن عطية عن سيبويه وهو أحد قولي الفارسي ، والتقدير : بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ، ف «أن يكفروا» هو المخصوص بالذم.

قال أبو حيّان : وما نقله ابن عطية عن سيبويه وهم عليه ونقل المهدوي وابن عطيّة عن الكسائي أيضا أن «ما» يجوز أن تكون مصدرية (٣) ، والتقدير : بئس اشتراؤهم ، فتكون «ما» وما في حيّزها في محل رفع.

قال ابن عطية (٤) : وهذا معترض ؛ لأن «بئس» لا تدخل على اسم معيّن يتعرف بالإضافة إلى الضمير.

قال أبو حيّان (٥) : وهذا لا يلزم ، إلّا إذا نصّ أنه مرفوع «بئس» ؛ أما إذا جعله المخصوص بالذم ، وجعل فاعل «بئس» مضمرا ، والتمييز محذوفا لفهم المعنى ، والتقدير : بئس اشتراء اشتراؤهم ، فلا يلزم الاعتراض.

قال شهاب الدين (٦) : وبهذا أعني : بجعل فاعل «بئس» مضمرا فيها جوز أبو البقاء

__________________

(١) ينظر الإملاء : (١ / ٥١) ، التبيان : ١ / ٩١ ، الدر المصون : ١ / ٢٩٩.

(٢) في ب : لأنه.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٨.

(٤) ينظر البحر المحيط : (١ / ٤٧٣).

(٥) ينظر الدر المصون : ١ / ٣٠٠.

(٦) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٦٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٠١.

٢٨٠