اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاء الحاضرين في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وقد قيل ذلك](١) ويؤيده قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ).

قيل : يعني بهم الذين أسلموا في زمانه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كعبد الله بن سلام وأضرابه ، فيكون التفاتا على القراءتين.

ثم قال ابن الخطيب : الآية تحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون المراد من تقدم من بني إسرائيل ، لأنه ـ تعالى ـ قد ساق الكلام الأول في إظهار النعم بإقامة الحجج ثم بيّن بعد أنهم تولوا إلا قليلا ، فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه ، فإنّ أول الكلام في المتقدمين ، فالظاهر يقتضي أن آخره فيهم ، إلا بدليل يوجب الانصراف عن الظاهر.

وثانيها : أنه خطاب للحاضرين في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني : أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم ؛ لأنه خطاب مشافهة ، وهو بالحاضرين أليق.

وثالثها : أن يكون المراد بقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) من تقدم ؛ لأنه ـ تعالى ـ لما بين أنه ـ تعالى ـ أنعم عليهم بتلك النّعم ثم تولّوا عنها بعد ذلك كان ذلك دالّا على نهاية قبح أفعالهم ، ويكون قوله : وأنتم معرضون مختصّا بمن كان في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : أنكم بمنزلة المتقدّمين الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق ، فإنكم بعد اطّلاعكم على صدق دلائل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرضتم عنه ، فكنتم بهذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين [الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق بذلك الشّرك](٢) في ذلك التولي والله أعلم (٣).

و «قليلا» منصوب على الاستثناء ؛ لأنه من موجب.

وقال القرطبي : المستثنى عند سيبويه منصوب ؛ لأنه مشبه بالمفعول.

وقال محمد بن يزيد : هو المفعول حقيقة ؛ لأن معناه : استثنيت قليلا.

وروي عن أبي عمرو (٤) وغيره : «إلّا قليل» بالرفع ، وفيه ستّة أقوال :

أصحها : أن رفعه على الصفة بتأويل «إلّا» وما بعدها بمعنى «غير» ، وقد عقد سيبويه رحمه‌الله في كتابه لذلك بابا فقال : «هذا باب ما يكون فيه «إلّا» وما بعدها وصفا بمنزلة غير ومثل» وذكر من أمثله هذا الباب : «لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا» و (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢].

قال : [الطويل]

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) زاد بعده في أ : وجواب هذا يأتي آخر الآية عند جواب أبي البقاء.

(٤) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٥٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٨٠.

٢٤١

٦٢٣ ـ ..........

قليل بها الأصوات إلّا بغامها (١)

وسوّى بين هذا وبين قراءة : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) [النساء : ٩٥] برفع «غير» وجوز في نحو : «ما قام القوم إلا زيد» بالرفع البدل والصّفة ، وخرج على ذلك قوله : [الوافر]

٦٢٤ ـ وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان (٢)

كأنه قيل : «وكلّ أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه» ؛ كما قال الشّمّاخ : [الطويل]

٦٢٥ ـ وكلّ خليل غير هاضم نفسه

لوصل خليل صارم أو معارز (٣)

وأنشد غيره : [الرمل]

٦٢٦ ـ لدم ضائع تغيّب عنه

أقربوه إلّا الصّبا والجنوب (٤)

وقوله : [البسيط]

٦٢٧ ـ وبالصّريمة منهم منزل خلق

عاف تغيّر إلّا النّؤي والوتد (٥)

والفرق بين الوصف ب «إلّا» والوصف بغيرها أنّ «إلّا» توصف بها المعارف والنكرات ، والظاهر والمضمر.

__________________

(١) عجز بيت لذي الرمة وصدره :

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

ينظر ديوانه (٦٣٣٨) ، الكتاب : (٢٣٢) ، المقتضب : (٤ / ٤٠٩) ، مغني اللبيب : (١ / ٧٢ ، ٣١٦) ، الهمع : (١ / ٢٢٩) شرح الأشموني : (٢ / ١٥٦) ، الدرر : (١ / ١٩٤) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٠) ، البحر : (١ / ٤٥٥).

(٢) البيت لعمرو بن معديكرب ينظر ديوانه : ص ١٧٨ ، والكتاب : ٢ / ٣٣٤ ، ولسان العرب (ألا) ، والممتع في التصريف : ١ / ٥١ ، ولحضرمي بن عامر في تذكرة النحاة : ص ٩٠ ، وحماسة البحتري : ص ١٥١ ، والحماسة البصرية : ٢ / ٤١٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٤٦ ، والمؤتلف والمختلف : ص ٨٥ ، ولعمرو أو لحضرمي في خزانة الأدب : ٣ / ٤٢١ ، والدرر : ٣ / ١٧٠ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٢١٦ ، والأشباه والنظائر : ٨ / ١٨٠ ، وأمالي المرتضى : ٢ / ٨٨ ، والإنصاف : ٢ / ٢٦٨ ، والجنى الداني : ص ٥١٩ ، وخزانة الأدب : ٩ / ٣٢١ ، ٣٢٢ ، ورصف المباني : ص ٩٢ ، وشرح الأشموني : ١ / ٢٣٤ ، وشرح المفصل : ٢ / ٨٩ ، والعقد الفريد : ٣ / ١٠٧ ، ١٣٣ ، وفصل المقال : ص ٢٥٧ ، ومغني اللبيب : ١ / ٧٢ ، والمقتضب : ٤ / ٤٠٩ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٢٩ ، والدر : ١ / ٢٨١.

(٣) ينظر ديوانه : (٤٣) ، شواهد الكتاب : (١ / ٣٧١) ، الكشاف : (٤ / ٤١٦) ، البحر : (١ / ٢٨٨) ، أمالي القالي : (١ / ١٩٥) ، مقاييس اللغة : (٤ / ٢٦١) ، الدر المصون : (١ / ٢٨١) ، البحر المحيط : ١ / ٤٥٦.

(٤) ينظر الدرر : ٣ / ١٦٩ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ١٠٥ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٨١.

(٥) البيت للأخطل ، ينظر ديوانه (٤٣٤) ، التبيان : (٨٥٨) ، حاشية الشيخ يس : (١ / ١٨٥) ، روح المعاني : (١ / ٣١٠) ، البحر : (١ / ٤٥٦) ، الدر المصون : (١ / ٢٨١).

٢٤٢

وقال بعضهم : «لا توصف بها إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس ، فإنه في قوة النكرة».

وقال المبرّد : «شرطه صلاحية البدل في موضعه».

الثاني : أنه عطف بيان ، قاله ابن عصفور.

وقال : «إنما يعني النحويون بالوصف ب «إلّا» عطف البيان» ، [وفيه نظر](١).

الثالث : أنه مرفوع بفعل محذوف ، كأنه قال : امتنع قليل.

الرابع : أن يكون مبتدأ وخبره محذوف ، أي : إلّا قليل منكم لم يتولّوا ، كما قالوا «ما مررت بأحد إلّا رجل من بني تميم خير منه».

الخامس : أنه توكيد للضمير المرفوع ، ذكر هذه الأوجه أبو البقاء.

وقال : سيبويه وأصحابه يسمونه نعتا ووصفا يعني التوكيد ، وفي هذه الأوجه التي ذكرها ما لا يخفى ، ولكنها قد قيلت.

السادس : أنه بدل من الضمير «تولّيتم».

قال ابن عطية : وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي ؛ لأنّ «توليتم» معناه النفي كأنه قال : لم تفوا بالميثاق إلا قليل ، وهذا الذي ذكره من جواز البدل منعه النحويون ، فلا يجيزون «قام القوم إلا زيد» على البدل.

قالوا : لأن البدل يحلّ محلّ المبدل منه فيؤول إلى قولك : «قام إلا زيد» ، وهو ممتنع.

وأما قوله : إنه في تأويل النفي ، فما من موجب إلّا يمكن فيه ذلك ، ألا ترى أن قولك : «قام القوم إلا زيد» في حكم قوله : «لم يجلسوا إلّا زيد» ، فكل موجب إذا أخذت نفي نقيضه أو ضده كان كذلك ، ولم تعتبر العرب هذا في كلامها ، وإنما أجاز النحويون : «قام القوم إلا زيد» بالرفع على الصفة كما تقدم تقديره.

و «منكم» صفة ل «قليلا» فهي في محل نصب ، أو رفع على حسب القراءتين ، والظاهر أن القليل مراد بهم الأشخاص لوصفه بقوله : (مِنْكُمْ).

وقال ابن عطية : «ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان ، أي : لم يبق حين عصوا وكفروا آخرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا إيمان قليل ، إذ لا ينفعهم ، والأول أقوى» انتهى.

وهذا قول بعيد جدّا أو ممتنع.

(وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال من فاعل «تولّيتم» وفيها قولان :

__________________

(١) سقط في ب.

٢٤٣

أحدهما : أنها حال مؤكّدة ؛ لأن التولّي والإعراض مترادفان ، وقيل مبيّنة ، فإن التولي باليدين والإعراض بالقلب ، قاله أبو البقاء.

وقال بعده : وقيل : «تولّيتم» يعني آباءهم ، (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) يعني أنفسهم ، كما قال : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤١] أي آباءهم انتهى.

وهذا يؤدّي إلى أن جملة قوله : (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) لا تكون حالا ؛ لأن فاعل التولّي في الحقيقة ليس هو صاحب الحال والله أعلم.

وكذلك تكون «مبيّنة» إذا اختلف متعلّق التولي والإعراض كما قال بعضهم : ثم توليتم عن أخذ ميثاقكم ، وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : التولّي والإعراض مأخوذان من سلوك الطريق ، وذلك أنه إذا سلك طريقا ورجع عوده على بدئه سمي ذلك توليا ، وإن سلك في عرض الطريق سمي إعراضا.

وجاءت الحال جملة اسمية مصدرة ب «أنتم» ؛ لأنه أكد.

وجيء بخبر المبتدأ اسما ، لأنه أولّ على الثبوت فكأنه قيل : وأنتم عادتكم التولي والإعراض عن الحق.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٨٥)

هذا الخطاب كله كالذي قبله ، وقوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) كقوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) في الإعراب سواء.

و «تسفكون» من «أسفك» الرّباعي.

وقرأ طلحة بن مصرف ، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء وهي لغة ، وأبو نهيك «تسفّكون» بضم التاء ، وفتح السين ، وتشديد الفاء.

و (وَلا تُخْرِجُونَ) معطوف.

فإن قيل : الإنسان ملجأ إلى ألّا يقتل نفسه فأي فائدة في النهي عنه؟

فالجواب من أوجه :

أحدها : أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل «الهند» أنهم يقدرون في قتل النفس التّخلّص من عالم الفساد ، واللحوق بعالم النور والصلاح ، أو كثير ممن صعب

٢٤٤

عليه الزمان ، وثقل عليه أمر من الأمور ، فيقتل نفسه ، فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صحّ كونه مكلفا به.

وثانيها : المراد لا يقتل بعضكم بعضا ، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتّصل به نسبا ودينا كقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤].

وثالثها : أنه إذا قتل غيره ، فكأنما قتل نفسه ؛ لأنه يقتصّ منه بإقامة المسبّب مقام السّبب ، وهو قريب من قولهم : «القتل أنفى للقتل» ؛ وقال : [الطويل]

٦٢٨ ـ سقيناهم كأسا سقونا بمثلها

ولكنّهم كانوا على الموت أصبرا (١)

وقيل : لا تفسكوها بارتكاب أنفسكم ما يوجب سفكها كالارتداد نحوه وهو قريب مما قبله.

ورابعها : لا تتعرضوا لمقاتلة من يقتلكم ، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم.

وخامسها : لا تسفكوا دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا ، فتكونوا مهلكين لأنفسكم.

قوله : (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ) فيه وجهان.

الأول : لا تفعلون ما تستحقّون بسببه أن تخرجوا من دياركم.

الثاني : المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضا من ديارهم ؛ لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة.

(مِنْ دِيارِكُمْ) متعلّق ب «تخرجون» ، و «من» لابتداء الغاية ، و «ديار» جمع دار الأصل : دور ؛ لأنه من دار ـ يدور ـ دورانا ، فأصل ديار : دوار ، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، واعتلالها في الواحد.

وهذه قاعدة مطّردة [في كل جمع على «فعال» صحيح اللام قد اعتلت عين مفرده ، أو سكنت حرف علة نحو :](٢) ديار وثياب ، ولذلك صحّ «رواء» لاعتلال لامه ، و «طوال» لتحرك عين مفرده ، وهو «طويل».

فأما «طيال» في «طوال» فشاذّ ، وحكم المصدر حكم هذا نحو : قام ـ قياما ، وصام ـ صياما ، ولذلك صح «لواذ» لصحة فعله في قولهم : «لاوذ».

وأما ديّار فهو من لفظة الدار ، وأصله : ديوار ، فاجتمع الياء والواو فأعلا على القاعدة المعروفة فوزنه : «فيعال» لا «فعّال» ، إذ لو كان «فعّالا» لقيل : دوّار ك «صوّام وقوّام» والدّار : مجتمع القوم من الأبنية.

__________________

(١) البيت للنابغة الجعدي ينظر ديوانه : ص ٧٢ ، والدرر : ٥ / ٢٩٥ ، وأمالي الزجاجي : ص ١٠ ، وحاشية يس : ١ / ٢٤٩ ، همع الهوامع : ٢ / ١٠٤ ، والدر المصون : ١ / ٢٨٣.

(٢) سقط في : أ.

٢٤٥

وقال الخليل : كل موضع حلّه الناس ، وإن لم يكن أبنية.

[وقيل : سميت دارا لدورها على سكانها ، كما سمي الحائط حائطا لإحاطته على ما يحويه](١).

و «النفس» مأخوذ من النّفاسة ، فنفس الإنسان أشرف ما فيه.

وقوله : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ).

قال أبو البقاء (٢) : فيه وجهان :

أحدهما : أن «ثمّ» على بابها في إفادة العطف والتراخي ، والمعطوف عليه محذوف تقديره: فقبلتم ، ثم أقررتم.

والثاني : أن تكون «ثم» جاءت لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر عنه ، كقوله تعالى : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) [يونس : ٤٦].

قوله : (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) كقوله : (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) [البقرة : ٨٣] وفيها وجوه :

أحدها : أقررتم بالميثاق ، ثم اعترفتم على أنفسكم بلزومه ، وأنتم تشهدون عليها ، كقولك : فلان مقرّ على نفسه بكذا ، شاهد عليها.

وثانيها : اعترفتم بقبوله ، وشهد بعضكم على بعض بذلك ؛ لأنه كان شائعا بينكم مشهورا.

وثالثها : وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق.

ورابعها : أن المراد بهذا الإقرار الذي هو الرّضا بالأمر والصبر عليه ، كما يقال فلان لا يقر على الضّيم ، فيكون المعنى أنه ـ تعالى ـ أمركم بذلك ، ورضيتم به ، وأقمتم عليه ، وشهدتم على وجوبه وصحته.

فإن قيل : لم قال : (أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) والمعنى واحد؟

فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أقررتم يعني أسلافكم ، وأنتم تشهدون الآن على إقرارهم.

الثاني : أقررتم في وقت الميثاق الذي مضى ، وأنتم بعد ذلك تشهدون [بقلوبكم](٣).

الثالث : أنه للتأكيد.

قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) فيه سبعة أقوال :

أحدها : وهو الظاهر أن «أنتم» في محل رفع بالابتداء ، وهؤلاء خبره و «تقتلون»

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر الإملاء : ١ / ٤٨.

(٣) سقط في ب.

٢٤٦

حال ، والعامل فيها اسم الإشارة لما فيه من معنى الفعل ، وهي حال منه ليتّحد ذو الحال وعاملها.

وقد قالت العرب : «ها أنت ذا قائما» و «ها أنا ذا قائما» و «ها هوذا قائما» فأخبروا باسم الإشارة عن الضّمير في اللّفظ والمعنى على الإخبار بالحال ، فكأنه قال : «أنت الحاضر» ، «وأنا الحاضر» ، «وهو الحاضر» في هذه الحال.

ويدل على أن الجملة من قوله : (تَقْتُلُونَ) حال وقوع الحال الصريحة موقعها كما تقدم في : «ها أنا ذا قائما» ونحوه ، وإلى هذا المعنى نحا الزمخشري فقال : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم ، والمعنى : ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون : يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقربين ، تنزيلا لتغير الصّفة منزلة تغير الذّات كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به.

وقوله : (تَقْتُلُونَ) بيان لقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ).

واعترضه أبو حيّان فقال : الظاهر أن المشار إليهم بقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) هم المخاطبون أولا ، فليسوا قوما آخرين ، ألا ترى أن التقدير الذي قدّره الزمخشري من تقدير [تغير الصّفة منزلة](١) تغيّر الذات لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائما ، ولا في نحو : ها أنتم هؤلاء ، بل المخاطب هو المشار إليه من غير تغيّر.

وأجيب بأن هذا الإيراد بعيد غير واضح.

والثاني : أن «أنتم» أيضا مبتدأ ، و «هؤلاء» خبره ، ولكن بتأويل حذف مضاف تقديره : ثم أنتم مثل هؤلاء ، و «تقتلون» حال أيضا ، العامل فيها معنى التشبيه ، إلا أنه يلزم منه الإشارة إلى غائبين ؛ لأن المراد بهم أسلافهم على هذا ، وقد يقال : إنه نزل الغائب منزلة الحاضر.

الثالث : ونقله «ابن عطية» عن شيخه «ابن الباذش» (٢) أن «أنتم» خبر مقدم ، و «هؤلاء» مبتدأ مؤخر. وهذا فاسد ؛ لأن المبتدأ أو الخبر متى استويا تعريضا وتنكيرا لم يجز تقدم الخبر ، وإن ورد منه ما يوهم فمتأول.

الرابع : أن «أنتم» مبتدأ و «هؤلاء» منادى حذف منه حرف النّداء ، وتقتلون خبر المبتدأ ، وفصل بالنداء بين المبتدأ وخبره.

وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به «الفراء» وجماعة ؛ أنشدوا : [البسيط]

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري الغرناطي أبو جعفر المعروف بابن الباذش النحوي إمام من أئمة النحو توفي في جمادى الآخرة سنة أربعين وخمسمائة.

ينظر بغية الوعاة : ١ / ٣٣٨.

٢٤٧

٦٢٩ ـ إنّ الألى وصفوا قومي لهم فبهم

هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا (١)

أي : يا هذا ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، ولذلك لحّن المتنبي في قوله : [الكامل]

٦٣٠ ـ هذي برزت لنا فهجت رسيسا

 .......... (٢)

وفي البيت كلام طويل.

الخامس : أن «هؤلاء» موصول بمعنى «الذي» ، و «تقتلون» صلته ، وهو خبر عن «أنتم» أي : أنتم الذين تقتلون. وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به «الفراء» وجماعة ؛ أنشدوا : [البسيط]

٦٣١ ـ ..........

نجوت وهذا تحملين طليق (٣)

أي : والذي تحملين ، ومثله : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) [طه : ١٧] يعني : وما التي؟

السادس : أنّ «هؤلاء» منصوب على الاختصاص ، بإضمار «أعني» و «أنتم» مبتدأ ، و «يقتلون» خبره ، اعترض بينهما بجملة الاختصاص ، وإليه ذهب ابن كيسان. وهذا لا يجوز ؛ لأن النحويين قد نصّوا على أن الاختصاص لا يكون بالنكرات ، ولا أسماء الإشارة ، والمستقرأ من لسان العرب أن المنصوب على الاختصاص : إما «أي» نحو : «اللهم اغفر لنا أيتها العصابة» أو معرف ب «أل» نحو : نحن العرب أقرى النّاس للضيف ، أو بالإضافة نحو : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، وقد يجيء كقوله : [الرجز]

٦٣٢ ـ بنا تميما يكشف الضّباب (٤)

__________________

(١) ينظر شرح الأشموني : ٢ / ٤٤٣ ، شرح عمدة الحافظ : ٢٩٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٨٤.

(٢) صدر بيت وعجزه :

ثم انصرفت وما شفيت خسيسا

ينظر ديوانه : (١ / ٣٢٧) ، شرح المفصل : (٢ / ١٦) ، المقرب : ١ / ١٧٧ ، الأشموني : (٣ / ١٣٧) ، مغني اللبيب : (٢ / ٦٤١) ، حاشية الشيخ يس (١ / ٣٢٧) ، الدر المصون : ١ / ٢٨٤.

(٣) هذا عجز بيت ليزيد بن مفرغ وصدره :

عدس ما لعباد عليك إمارة

ينظر ديوانه : ص ١٧٠ ، والإنصاف : ٢ / ٧١٧ ، وتخليص الشواهد : ص ٤٥٠ ، وجمهرة اللغة : ص ٦٤٥ ، وخزانة الأدب : ٦ / ٤١ ، ٤٢ ، ٤٨ ، وشرح التصريح : ١ / ١٣٩ ، والدرر : ١ / ٢٦٩ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨٥٩ ، والشعر والشعراء : ١ / ٣٧١ ، وشرح المفصل : ٤ / ٧٩ ، ولسان العرب (حدس) ، (عدس) والمقاصد النحوية : ١ / ٤٤٢ ، ٣ / ٢١٦ ، وأوضح المسالك ١ / ١٦٢ ، وأمالي ابن الحاجب : ص ٣٦٢ ، وشرح الأشموني : ١ / ٧٤ ، وشرح شذور الذهب : ص ١٩٠ ، وقطر الندى : ص ١٠٦ ، والمحتسب : ٢ / ٩٤ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٤٦٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٨٤ ، والدر المصون : ١ / ٢٨٤.

(٤) البيت لرؤبة. ينظر ديوانه : (١٦٥) ، الكتاب : (٢ / ٧٥) ، شرح المفصل : (٢ / ١٨) ، الخزانة : (٢ / ٤١٣) ، البحر المحيط : (٥ / ٤٥٩) ، شرح الأشموني : (٣ / ١٨٣) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٥).

٢٤٨

وأكثر ما يجيء بعد ضمير تكلّم كما تقدم ، وقد يجيء مخاطب كقولهم : «بك الله نرجو الفضل».

السابع : أن يكون «أنتم هؤلاء» على ما تقدّم من كونهما مبتدأ أو خبر ، والجملة من «تقتلون» مستأنفة مبينة للجملة قبلها ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى ، وبيان حماقتكم وقلّة عقولكم أنكم تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، وهذا ذكره الزّمخشري في سورة آل عمران في قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ) [آل عمران : ٦٦] ولم يذكر هنا ، وسيأتي بنصه إن شاء الله تعالى.

قوله : (تَظاهَرُونَ) هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل «تخرجون» وفيها خمس قراءات : «تظّاهرون» بتشديد الظّاء ، والأصل : تتظاهرون فأدغم لقرب الظاء من التاء.

و «تظاهرون» مخففا ، والأصل كما تقدم ، إلا أنه خفّفه بالحذف ، وهل المحذوف الثانية وهو الأولى ؛ لحصول الثقل بها ، ولعدم دلالتها على معنى المضارعة ، أو الأولى ؛ كما زعم هشام ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٦٣٣ ـ تعاطسون جميعا حول داركم

فكلّكم يا بني حمدان مزكوم (١)

أراد : تتعاطسون فحذف.

و «تظّهّرون» بتشديد الظاء والهاء.

و «تظاهرون» من «تظاهر» و «تتظاهرون» على الأصل من غير حذف ، ولا إدغام وكلهم يرجع إلى معنى المعاونة والتّناصر من المظاهرة ، كأن كل واحد منهم يسند ظهره للآخر ليتقوّى به ، فيكون له كالظّهر ؛ قال : [الطويل]

٦٣٤ ـ تظاهرتم أستاه بيت تجمّعت

على واحد لا زلتم قرن واحد (٢)

قال ابن الخطيب (٣) : الآية تدلّ على أن الظّلم كما هو محرم ، فإعانة الظالم على ظلمه محرمة.

فإن قيل : أليس أن الله ـ تعالى ـ لما أقدر الظّالم على الظّلم ، وأزال العوائق والموانع ، وسلط عليه الشهوة الدّاعية إلى الظلم كان قد أعانه على الظلم ، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحة لوجب ألّا يوجد ذلك من الله تعالى؟

والجواب : أنه ـ تعالى ـ وإن مكّن الظّالم من ذلك فقد زجره عن الظلم بالتّهديد

__________________

(١) ينظر البحر : (١ / ٤٥٩) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٥).

(٢) ينظر القرطبي : ٢ / ١٦ ، الدر المصون : ١ / ٢٨٥.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٥٧.

٢٤٩

والزجر ، بخلاف المعين للظالم على ظلمه ، فإنه يرغبه فيه ، ويحسنه له ويدعوه إليه فظهر الفرق.

و «الإثم» في الأصل : الذنب ، وجمعه «آثام» ، ويطلق على الفعل الذي يستحقّ به صاحبه الذّم واللوم.

وقيل : هو ما تنفر منه النفس ، ولا يطمئنّ إليه القلب ، فالإثم في الآية يحتمل أن يكون مرادا به [أحد](١) هذه المعاني ويحتمل أن يتجوّز به عما يوجب الإثم من إقامة السّبب مقام السّبب مقام المسبب ؛ كقوله : [الوافر]

٦٣٥ ـ شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول (٢)

فعبر عن الخمر بالإثم ، لما كان مسبّبا عنها.

فصل في معنى العدوان واشتقاقه

و «العدوان» : التجاوز في الظلم ، وقد تقدم في (يَعْتَدُونَ) [البقرة : ٦١] وهو مصدر ك «الكفران والغفران» والمشهور ضمّ فائه ، وفيه لغة بالكسر.

قوله : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) «إن» شرطية ، و «يأتوكم» مجزوم بها بحذف النون ، والمخاطب مفعول.

و «أسارى» حال من الفاعل في «يأتوكم».

وقرأ الجماعة غير حمزة «أسارى» وقرأ هو (٣) : «أسرى» وقرىء (٤) : «أسارى» بفتح الهمزة. فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه :

أحدها : أنه جمع جمع «كسلان» لما جمعهما من عدم النّشاط والتصرف ، فقالوا : «أسير وأسارى» بضم الهمزة ك «كسلان وكسالى» و «سكران وسكارى» ، كما أنه قد شبه كسلان وسكران به فجمعا جمعه الأصلي الذي هو على «فعلى» فقالوا : كسلان وكسلى ، وسكران وسكرى لقولهم : أسير وأسرى.

قال سيبويه : فقالوا في جمع كسلان كسلى شبّهوه ب «أسرى». كما قالوا : أسارى شبّهوه ب «كسالى» ، ووجه الشبه أنّ الأسر يدخل على المرء كرها كما يدخل الكسل.

__________________

(١) في ب : ما ذكرت من.

(٢) ينظر شواهد البحر : (١ / ٤٥٩) ، الغريبين : (١ / ١٨) ، اللسان : (أثم) ، التهذيب : (١٥ / ١٦١) ، تفسير معالم التنزيل : (٢ / ١٨٦) ، روح المعاني : (٨ / ١١٢) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٥).

(٣) انظر السبعة : ١٦٣ ، والكشف : ١ / ٢٥١ ، وحجة القراءات : ١٠٤ ، والعنوان : ٧٠ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٤٣ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٥ ، وشرح شعلة : ٢٦٨ ، وإتحاف : ١ / ٤٠١.

(٤) انظر الدر المصون : ١ / ٢٨٦ ، معاني القرآن للزجاج : ١ / ١٤٠ ، وقال : «لا أعلم أحدا قرأ بها» ، ونقل القرطبي (٢ / ١٦) عن ابن فارس قوله : وقيل : أسارى ـ بفتح الهمزة ـ وليست بالعالية.

٢٥٠

قال بعضهم : والدّليل على اعتبار هذا المعنى أنهم جمعوا «مريضا وميتا وهالكا» على «فعلى» فقالوا : «مرضى وموتى وهلكى» لما جمعها المعنى الذي في «قتلى وجرحى».

الثّاني : أنّ «أسارى» جمع «أسير» ، وقد وجدنا «فعيلا» يجمع على «فعالى» قالوأ : شيخ قديم ، وشيوخ قدامى. وفيه نظر ، فإن هذا شاذّ لا يقاس عليه.

الثالث : أنه جمع «أسير» أيضا ، وإنما ضموا الهمزة من «أسارى» وكان أصلها الفتح ك «نديم وندامى» كما ضمت الكاف والسين من «كسالى» و «سكارى» وكان الأصل فيهما الفتح نحو : «عطشان وعطاشى».

الرابع : أنه جمع «أسرى» الذي هو جمع «أسير» فيكون جمع الجمع.

وأما قراءة حمزة فواضحة ؛ لأن «فعلى» ينقاس في «فعيل» نحو : «جريح وجرحى» و «قتيل وقتلى» و «مريض ومرضى».

وأما «أسارى» بالفتح فقد تقدم أنها أصل أسارى بالضم عند بعضهم ، ولم يعرف أهل اللّغة فرقا بين «أسارى» و «أسرى» إلّا ما حكاه أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء ، فإنه قال : «ما كان في الوثاق فهم الأسارى ، وما كان في اليد ، فهم الأسرى» ونقل بعضهم عنه الفرق بمعنى آخر ، فقال : «ما جاء مستأسرا فهم الأسرى ، وما صار في أيديهم ، فهم الأسارى» ، وحكى النقّاش عن ثعلب ؛ أنه لما سمع هذا الفرق قال : «هذا كلام المجانين» ، وهي جرأة منه على أبي عمرو ، وحكي عن المبرّد أنه يقال : «أسير وأسراء» ك «شهيد وشهداء» و «الأسير» : مشتقّ من «الإسار» وهو القيد الذي يربط به من المحمل ، فسمي الأسير أسيرا ، وإن لم يربط ، والأسر : الخلق في قوله : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) [الإنسان : ٢٨] وأسرة الرّجل : من يتقوّى بهم ، والأسر : احتباس البول ، ورجل مأسور : أصابه ذلك ؛ وقالت العرب : أسر قتبه: أي شدّه ؛ قال الأعشى : [المتقارب]

٦٣٦ ـ وقيّدني الشّعر في بيته

كما قيّد الآسرات الحمارا (١)

يريد : أنه بلغ في الشعر النّهاية ؛ حتى صار له كالبيت الذي لا يبرح عنه.

قوله : (تُفادُوهُمْ) قرأ نافع وعاصم (٢) والكسائي : «تفادوهم» ، وهو جواب الشرط ، فلذلك حذفت نون الرفع ، وقرأ الباقون : «تفدوهم» ، وهل القراءتان بمعنى واحد ، ويكون معنى «فاعل» مثل معنى «فعل» المجرد مثل : «عاقبت وسافرت» أو بينهما فرق؟ خلاف مشهور ، ثم اختلف الناس في ذلك الفرق ما هو؟

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٨٩) ، اللسان (حمر) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٦).

(٢) انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٤٣ ، وحجة القراءات : ١٠٤ ، والعنوان : ٧٠ ، وإتحاف : ١ / ٤٠٢ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٥ ، وشرح شعلة : ٢٦٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٥٩.

٢٥١

فقيل : معنى «فداه» أعطى فيه فداء من مال ، و «فاداه» : أعطى فيه أسيرا مثله ؛ وأنشد : [الطويل]

٦٣٧ ـ ولكنّني فاديت أمّي بعدما

علا الرّأس منها كبرة ومشيب (١)

وهذا القول يرده قول العباس رضي الله عنه : فاديت نفسي وفاديت عقيلا ، ومعلوم أنه لم يعط أسيره في مقابلة نفسه ولا ولده.

وقيل : تفدوهم بالصّلح ، وتفادوهم بالعنف.

وقيل : تفدوهم تعطوا فديتهم ، وتفادوهم تطلبون من أعدائكم فدية الأسير الذي في أيديكم ؛ ومنه : [الوافر]

٦٣٨ ـ قفي فادي أسيرك إنّ قومي

وقومك ما أرى لهم اجتماعا (٢)

والظاهر أن «تفادوهم» على أصله من اثنين ، وذلك أن الأسير يعطى المال والأسير يعطى الإطلاق ، وتفدوهم على بابه من غير مشاركة ، وذلك أن الفريقين يفدي صاحبه من الآخر بمال أو غيره ، فالفعل على الحقيقة من واحد.

و «الفداء» ما يفتدى به ، فإذا كسروا فاءه ، جاز فيه وجهان :

المدّ والقصر ، فمن المدّ قول النابغة : [البسيط]

٦٣٩ ـ مهلا ، فداء لك الأقوام كلّهم

وما أثمّر من مال ومن ولد (٣)

ومن القصر قوله : [الطويل]

٦٤٠ ـ ..........

فدى لك من ربّ طريفي وتالدي (٤)

ومن العرب من يكسر : «فدى» مع لام الجر خاصّة ، نحو : «فدى لك أبي وأمي» يريدون الدعاء له بذلك ، وفدى وفادى يتعدّيان لاثنين أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف جر ، تقول : «فديت أو فاديت الأسير بمال» ، وهو محذوف في الآية الكريمة.

__________________

(١) البيت لنصيب. ينظر اللسان (فدى) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٧).

(٢) ينظر : القرطبي : ٢ / ٢٢ ، البحر المحيط : ١ / ٤٦٠ ، روح المعاني : ١ / ٣١٢ ، الدر المصون : ١ / ٢٨٧.

(٣) ينظر ديوانه : ص ٢٦ ، الأشباه والنظائر : ٧ / ٩٠ ، خزانة الأدب : ٦ / ١٨١ ، لسان العرب (فدى) ، شرح المفصل : ٤ / ٧٣ ، القرطبي : (٢ / ١٧) ، البحر : (١ / ٤٤٩) ، شرح القصائد لابن النحاس : ٢ / ١٧٣ ، الشعر والشعراء : (١٧٣) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٧).

(٤) عجز بيت وصدره في الديوان هكذا :

تخبّ إلى النعمان حتى تناله

ينظر ديوانه : ١٧٠ ، الشعر والشعراء : (١ / ١٦٩) ، البحر : ١ / ٤٤٩ ، الطبري : ١ / ٤٨ ، روح المعاني : ١ / ٧٨ ، المحرر الوجيز : ١ / ١٠٤ ، الدر المصون : ١ / ٢٨٧.

٢٥٢

قال ابن عطية : وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج ، فيظهر التّضادّ المقبح لفعلهم في الإخراج.

يعني : أنه لا يناسب من أسأتم إليه بالإخراج من داره أن تحسنوا إليه بالفداء.

فصل فيما أخذ الله على بني إسرائيل

قال السّدي : إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ألّا يقتل بعضهم بعضا ، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم ، وأيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه ، وكانت «قريظة» حلفاء «الأوس» ، «والنضير» حلفاء «الخزرج» ، وكانوا يقتلون في حرب سنين ، فيقاتل «بنو قريظة» مع حلفائهم ، «وبنو النضير» مع حلفائهم ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم ، وأخرجوهم منها ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه ، وإن كان الأسير من عدوّهم ، فتعيّرهم العرب ، ويقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم ، فيقولون : فلم تقاتلونهم؟ قالوا : إنا نستحي أن تذلّ حلفاؤنا ، فعيّرهم الله تعالى ، فقال: (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ).

وفي الآية تقديم وتأخير ، ونظمها : وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ، وهو محرم عليكم إخراجهم ، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم فكان الله ـ تعالى ـ أخذ عليهم أربعة عهود : ترك القتال ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم ، وفداء أسرائهم ، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء ، فقال عزوجل : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة : ٨٥].

وقال مجاهد : يقول : إن وجدته في يد غيرك فديته ، وأنت تقتله بيدك (١).

قوله : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ) فيه وجوه.

والظاهر منها : أن يكون «هو» ضمير الشأن والقصّة ، فيكون في محلّ رفع بالابتداء ، و «محرم» خبر مقدم ، وفيه ضمير قائم مقام الفاعل ، و «إخراجهم» مبتدأ مؤخر ، والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محل رفع خبرا لضمير الشأن ، ولم تحتج هنا إلى عائد على المبتدأ ؛ لأن الخبر نفس المبتدأ أو عينه.

وهذه الجملة مفسرة لهذا الضمير ، وهو أحد المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده وقد تقدّمت ، وليس لنا من الضّمائر ما يفسّر بجملة غير هذا الضمير ، ومن شرطه أن يؤتى به في مواضع التّعظيم ، وأن يكون معمولا للابتداء أو نواسخه فقط ، وأن يفسر بجملة مصرح بجزئيها ، ولا يتبع بتابع من التّوابع الخمسة ، ويجوز تذكيره وتأنيثه مطلقا خلافا لما فصل ، فتذكيره باعتبار الأمر والشأن ، وتأنيثه باعتبار القصّة فتقول :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٠٩) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.

٢٥٣

«هو زيد قائم» ، ولا يثنى ولا يجمع ، ولا يحذف إلا في مواضع تذكر إن شاء الله تعالى ، والكوفيّون يسمونه ضمير المجهول ، وله أحكام كثيرة.

الوجه الثاني : أن يكون «هو» ضمير الشأن أيضا ، و «محرم» خبره ، و «إخراجهم» مرفوع على أنه مفعول لم يسمّ فاعله. وهذا مذهب الكوفيين ، وإنما فرّوا من الوجه الأول ؛ لأن عندهم أن الخبر المحتمل ضميرا مرفوعا لا يجوز تقديمه على المبتدأ ، فلا يقال : قائم زيد على أن يكون «قائم» خبرا مقدما ، وهذا عند البصريين ممنوع لما عرفته أن ضمير الشأن لا يفسّر إلا بجملة ، والاسم المشتق الرافع لما بعده من قبيل المفردات لا الجمل ، فلا يفسر به ضمير الشّأن.

الثّالث : أن يكون «هو» كناية عن الإخراج ، وهو مبتدأ ، و «محرم» خبره ، و «إخراجهم» بدل منه ، وهذا على أحد القولين.

وهو جواز إبدال الظّاهر من المضمر قبله ليفسره ، واستدلّ من أجاز ذلك بقوله : [الطويل]

٦٤١ ـ على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم (١)

ف «حاتم» بدل عن الضمير في «جوده».

الرابع : أن يكون «هو» ضمير الإخراج المدلول عليه بقوله : (وَتُخْرِجُونَ) و «محرّم» خبره ، و «إخراجهم» بدل من الضمير المستتر في «محرم».

الخامس : كذلك ، إلا أن «إخراجهم» بدل من «هو». نقل هذين الوجهين أبو البقاء ، وفي هذا الأخير نظر ، وذلك أنك إذا جعلت «هو» ضمير الإخراج المدلول عليه بالفعل كان الضمير مفسرا به نحو : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] فإذا أبدلت منه «إخراجهم» الملفوظ به كان مفسّرا به أيضا ، فيلزم تفسيره بشيئين ، إلّا أن يقال : هذان الشيئان في الحقيقة شيء واحد فيحتمل ذلك.

السادس : أجاز الكوفيون أن يكون «هو» عمادا ، وهو الذي يسميه البصريون ضمير الفصل قدّم مع الخبر ، والأصل : وإخراجهم هو محرم عليكم ، و «إخراجهم» مبتدأ ، و «محرم» خبره ، و «هو» عماد ، فلما قدم الخبر قدم معه.

قال الفراء : لأن الواو ـ هنا ـ تطلب الاسم ، وكل موضع نطلب فيه الاسم فالعماد جائز وهذا عند البصريين ممنوع من وجهين :

أحدهما : أنّ الفصل عندهم من شرطه أن يقع بين معرفتين أو بين معرفة ونكرة

__________________

(١) البيت للفرزدق. ينظر ديوانه : ٢ / ٢٩٧ ، العيني : ٣ / ١٨٦ ، الشذور (٢٤٥) ، الكامل : (٢٣٤) ، ابن يعيش : ٣ / ٦٩ ، الكشاف : ٤ / ٥١٩ ، الدر المصون : ١ / ٢٨٨.

٢٥٤

قريبة من المعرفة في امتناع دخول أل ك «أفعل من» ومثل وأخواتها.

والثاني : أن الفصل عندهم لا يجوز تقديمه مع ما اتصل به.

والسابع : قال ابن عطية (١) : وقيل في «هو» : إنه ضمير الأمر ، والتقدير : والأمر محرم عليكم ، وإخراجهم في هذا القول بدل من «هو».

وقال أبو حيّان : وهذا خطأ من وجهين :

أحدهما : تفسير ضمير الأمر بمفرده ، وذلك لا يجيزه بصري ولا كوفي ، أما البصري فلاشتراطه جملة ، وأما الكوفي فلا بد أن يكون المفرد قد انتظم منه [نحو «ظننته قائما الزيدان».

والثاني : أنه جعل «إخراجهم»](٢) بدلا من ضمير الأمر ، وقد تقدم «ألّا يتبع بتابع».

الثامن : قال ابن عطيّة (٣) أيضا : وقيل : هو فاصلة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وليست هنا بالتي هي عماد ، و «محرّم» على هذا ابتداء ، و «إخراجهم» خبر.

قال : أبو حيان والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب ، أي : يكون «إخراجهم» مبتدأ مؤخرا ، و «محرم» خبر مقدم قدّم مع الفصل كما تقدم ، وهو الموافق للقواعد ، ولا يلزم منه الإخبار بمعرفة عن نكرة من غير ضرورة تدعو إلى ذلك.

التاسع : نقله ابن عطيّة أيضا عن بعضهم أن «هو» الضمير المقدر في «محرم» قدم وأظهر.

قال الشيخ : وهذا ضعيف جدّا ؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى انفصال هذا الضمير بعد استتاره وتقديره ، وأيضا فإنه يلزم خلوّ اسم المفعول من ضمير ؛ إذ على هذا القول يكون «محرم» خبرا مقدما ، و «إخراجهم» مبتدأ مؤخرا ولا يوجد اسم فاعل ، ولا مفعول خاليا من الضمير إلّا إذا رفع الظّاهر ، ثم يبقى هذا الضمير لا ندري ما إعرابه ، إذ لا يجوز مبتدأ ، ولا فاعلا مقدما وفي قول الشيخ (٤) : «يلزم خلوّه من ضمير» نظر ؛ إذ هو ضمير مرفوع به ، فلم يخل منه غاية ما في الباب أنه انفصل للتقديم.

وقوله : «لا ندري ما إعرابه»؟ قد دري ، وهو الرفع بالفاعلية.

وقوله : والفاعل لا يقدم «ممنوع» فإن الكوفي يجيز تقديم الفاعل ، فيحتمل أن يكون هذا القائل يرى ذلك ، ولا شكّ أن هذا قول رديء منكر لا ينبغي أن يجوز مثله في الكلام ، فكيف في القرآن! فالشيخ معذور ، والعجب من ابن عطية كيف يورد هذه الأشياء حاكيا لها ولم يعقّبها بنكير؟

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٥.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٥.

(٤) في أ : وأجيب عن قوله.

٢٥٥

وهذه الجملة يجوز أن تكون محذوفة من الجمل المذكورة قبلها ، وذلك أنه قد تقدم ذكر أربعة أشياء كلها محرمة وهي قوله : تقتلون أنفسكم وتخرجون [فريقا منكم من ديارهم](١) ، وتظاهرون ، وتفادون (٢) فيكون التقدير : تقتلون أنفسكم وهو محرّم عليكم قتلها وكذلك مع البواقي.

ويجوز أن يكون خصّ الإخراج بذكر التحريم ، وإن كانت كلها حراما ، لما فيه من معرّة الجلاء والنّفي الذي لا ينقطع شرّه إلا بالموت والقتل ، وإن كان أعظم منه إلّا أن فيه قطعا للشر ، فالإخراج من الدّيار أصعب الأربعة بهذا الاعتبار.

و «المحرم» : الممنوع ، فإن التّحريم هو المنع من كذا ، والحرام : الشّيء الممنوع منه ، يقال : حرام عليك وحرم عليك وسيأتي تحقيقه في «الأنبياء» إن شاء الله تعالى.

فصل في المراد بالكفر والإيمان في الآية

اختلف العلماء في قوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) قال ابن عباس وقتادة وابن جريج : «إخراجهم كفر ، وفداؤهم إيمان ؛ لأنه ذمهم على المناقضة ، إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض» (٣).

فإن قيل : هب أن ذلك الإخراج كان معصية ، فلم سماها كفرا؟ مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر.

فالجواب : لعلّهم صرحوا بأن ذلك الإخراج غير واجب مع أنّ صريح التوراة كان دالّا على وجوبه.

الثاني : أن المراد تمسّكهم بنبوة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع التكذيب بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع أن الحجّة في أمرهما سواء.

قوله : «فما جزاء من يفعل» «ما» يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون نافية ، و «جزاء» مبتدأ ، و «إلا خزي» خبره وهو استثناء مفرّغ وبطل عملها عند الحجازيين لانتقاض النفي ب «إلّا» ، وفي ذلك خلاف وتفصيل وتلخيصه : أن خبرها الواقع بعد «إلا» جمهور البصريين على وجوب رفعه مطلقا سواء كان هو الأول ، أو منزلا منزلته ، أو صفة ، أو لم يكن ، ويتأولون قوله : [الطويل]

٦٤٢ ـ وما الدّهر إلّا منجنونا بأهله

وما صاحب الحاجات إلّا معذّبا (٤)

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : وتفدون.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣١٠) عن ابن عباس وقتادة وابن جريج.

(٤) البيت لأحد بني سعد ينظر شرح شواهد المغني : ص ٢١٩ ، وأوضح المسالك : ١ / ٢٧٦ ، وتخليص الشواهد : ص ٢٧١ ، وخزانة الأدب : ٤ / ١٣٠ ، ٩ / ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، والجنى الداني : ص ٣٢٥ ، والدرر : ٢ / ٩٨ ، ٣ / ١٧١ ، وشرح التصريح : ١ / ١٩٧ ، وشرح المفصل : ٨ / ٧٥ ، والمقاصد النحوية : ـ

٢٥٦

على أن الناصب ل «منجنونا» و «معذبا» محذوف ، أي : يدور دوران منجنون ، ويعذب معذّبا تعذيبا.

وأجاز يونس النصب مطلقا ، وإن كان النّحّاس نقل عدم الخلاف في رفع ما زيد إلّا أخوك فإن كان الثّاني منزلا منزلة الأوّل نحو : «ما أنت إلّا عمامتك تحسينا وإلّا رداءك تزيينا».

فأجاز الكوفيون نصبه ، وإن كان صفة نحو : «ما زيد إلا قائم» فأجاز الفراء نصبه أيضا.

والثاني : أن تكون استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، و «جزاء» خبره ، و «إلّا خزي» بدل من «جزاء» نقله أبو البقاء.

و «الجزاء» : المقابلة خيرا كان أو شرّا.

و «من» موصولة ، أو نكرة موصوفة ، و «يفعل» لا محلّ لها على الأول ، ومحلها الجر على الثاني.

«منكم» في محلّ نصب على الحال من فاعل «يفعل» ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : يفعل ذلك حال كونه منكم.

و «الخزي» : الهوان والذّل والمقت ، يقال : أخزاه الله إذا مقته وأبعده ، ويقال : خزي ـ بالكسر ـ يخزى خزيا فهو خزيان ، وامرأة خزيا ، والجمع خزايا. وقال ابن السّكّيت : الخزي الوقوع في بليّة ، وخزي الرجل في نفسه يخزى خزاية إذا استحيا.

وإذا قيل : أخزاه الله ، كأنه قيل : أوقعه موقعا يستحيى منه ، فأصله على هذا الاستحياء.

قوله : «في الحياة» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون في محلّ رفع ؛ لأنه صفة ل «خزي» فيتعلّق بمحذوف ، أي : خزي كائن في الحياة.

الثّاني : أن يكون محلّه النصب على أنه ظرف ل «خزي» ، فهو منصوب به تقديرا. و «الدّنيا» «فعلى» تأنيث الأدنى من الدّنو ، وهو القرب ، وألفها للتأنيث ، ولا تحذف منها «أل» إلا لضرورة كقوله : [الرجز]

٦٤٣ ـ يوم ترى النّفوس ما أعدّت

في سعي دنيا طالما قد مدّت (١)

وياؤها عن واو ، وهذه قاعدة مطردة ، وهي : كل «فعلى» صفة لامها واو تبدل ياء ، نحو : «الدنيا والعليا».

__________________

ـ ٢ / ٩٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٢٣ ، ٢٣٠ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٢١ ، ورصف المباني : ص ٣١١ ، والدر المصون : ١ / ٢٨٩.

(١) تقدم برقم ٦٢٢.

٢٥٧

فأما قولهم : «القصوى» عند غير «تميم» ، و «الحلوى» عند الجميع فشاذّ.

فلو كانت «فعلى» اسما صحّت الواو ؛ كقوله : [الطويل]

٦٤٤ ـ أدارا بحزوى هجت للعين عبرة

فماء الهوى يرفضّ أو يترقرق (١)

وقد استعملت استعمال الأسماء ، فلم يذكر [موصوفها ، قال تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) [الأنفال : ٦٧] وقال ابن السّراج في «المقصور والممدود» : و «الدنيا»](٢) مؤنّثة مقصورة ، تكتب بالألف ، هذه لغة «نجد» «وتميم» ، إلّا أن «الحجاز» ، «وبني أسد» يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو ، فيقولون : دنوى مثل شروى وكذلك يفعلون بكل «فعلى» موضع لامها واو ، ويفتحون أولها ، ويقلبون باءها واوا ، وأما أهل اللغة الأولى ، فيضمون الدال ، ويقلبون من الواو ياء لاستثقالهم الواو مع الضمة.

فصل في المراد بالخزي في الآية

اختلفوا في هذا الخزي على وجوه :

أحدها : قال الحسن : وهو الجزية والصّغار ، وهو ضعيف ؛ لأن الجزية لم تكن ثابتة في شريعتهم ، بل إن حملنا الآية على خطاب الذين كانوا في زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيصحّ.

الثاني : خزي «بني قريظة» بالقتل والسّبي ، وخزي بني النّضير بالجلاء والنفي عن منازلهم إلى «أذرعات» و «أريحا» من «الشام» ، وهذا أيضا إنما يصحّ إذا حملنا الآية على الحاضرين في زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثالث : قال ابن الخطيب (٣) وهو الأولى : إنّ المراد منه الذّمّ العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض ، والتنكير في قوله : «خزي» يدلّ على أن الذّم واقع في النهاية العظمى.

[وقوله](٤) يردّون [قرىء](٥) بالغيبة (٦) على المشهور وفيه وجهان.

أحدها : أن يكون التفاتا ، فيكون راجعا إلى قوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ) فخرج من ضمير الخطاب إلى الغيبة.

__________________

(١) البيت لذي الرمة. ينظر ديوانه : ص ٤٥٦ ، خزانة الأدب : ٢ / ١٩٠ ، شرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٨٨ ، الكتاب : ٢ / ١٩٩ ، المقاصد النحوية : ٤ / ٣٣٦ ، ٥٧٩ ، الأغاني : ١٠ / ١١٩ ، أوضح المسالك : ٤ / ٣٨٨ ، شرح الأشموني : ٢ / ٤٤٥ ، المقتضب : ٤ / ٢٠٣ ، العيني : ٤ / ٢٣٦ ، شرح التصريح : ٢ / ٢٨٠ ، الدر : ١ / ٢٩٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٥٩.

(٤) في ب : وقرىء.

(٥) سقط في ب.

(٦) وهي قراءة الجمهور.

٢٥٨

والثّاني : أنه لا التفات فيه ، بل هو راجع إلى قوله : «من يفعل».

وقرأ الحسن (١) : «تردّون» بالخطاب وفيه الوجهان المتقدمان :

فالالتفات نظرا لقوله : «من يفعل» ، وعدم الالتفات نظرا لقوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ).

وكذلك : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) قرىء في المشهور بالغيبة والخطاب والكلام فيهما كما تقدم.

فإن قيل : عذاب الدّهري الذي ينكر الصّانع يجب أن يكون أشدّ من عذاب اليهود ، فكيف يكون في حقّ اليهود (يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ)؟

فالجواب : المراد منه أشد من الخزي الحاصل في الدنيا ، فلفظ الأشد وإن ـ كان مطلقا ـ إلّا أن المراد أشد من هذه الجهة.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٨٦)

قد تقدم إعراب نظائرها إلا أنّ بعضهم ذكر وجوها مردودة لا بدّ من التنبيه عليها ، فأجاز أن يكون «أولئك» مبتدأ ، و (الَّذِينَ اشْتَرَوُا) خبره ، و (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) خبرا ثانيا ل «أولئك».

قال : ودخلت الفاء في جواب الخبر لأجل الموصول المشبه بالشرط وهذا خطأ فإن قوله : (فَلا يُخَفَّفُ) لم يجعله خبرا للموصول حتى تدخل «الفاء» في خبره ، وإنما جعله خبرا عن «أولئك» وأين هذا من ذاك؟

وأجاز أيضا أن يكون الذين مبتدأ ثانيا ، و «فلا يخفف» خبره ، دخلت لكونه خبرا للموصول ، والجملة خبرا عن «أولئك».

قال : ولم يحتج هذا إلى عائد ؛ لأن «الذين» هم «أولئك» كما تقول : «هذا زيد منطلق» ، وهذا أيضا خطأ لثلاثة أوجه :

أحدها : خلوّ الجملة من رابط ، وقوله : «لأن الذين» هم «أولئك» لا يفيد ، فإن الجملة المستغنية لا بدّ وأن تكون نفس المبتدأ.

وأما تنظيره ب «هذا زيد منطلق» فليس بصحيح ، فإن «هذا» مبتدأ و «زيد» خبره ، و «منطلق» خبر ثان ، ولا يجوز أن يكون «زيد» مبتدأ ثانيا ، و «منطلق» خبره ، والجملة خبر عن الأول ، للخلو من الرابط.

__________________

(١) وقرأ بها ابن هرمز.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٦٢ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٠.

٢٥٩

الثاني : أن الموصول ـ هنا ـ لقوم معيّنين وليس عامّا ، فلم يشبه الشرط ، فلم تدخل «الفاء» في خبره.

الثالث : أن صلته ماضية لفظا ومعنى ، فلم تشبه فعل الشرط في الاستقبال ، فلا يجوز دخول الفاء في الخبر.

فتعيّن أن يكون «أولئك» مبتدأ والموصول بصلته خبره ، و «فلا يخفف» معطوف على الصّلة ، ولا يضر تخالف الفعلين في الزمان ، فإن الصّلات من قبيل الجمل ، وعطف الجمل لا يشترط فيه اتحاد الزمان ، فيجوز أن تقول : جاء الذي قتل زيدا أمس ، وسيقتل عمرا غدا ، وإنما الذي يشترط فيه ذلك حيث كانت الأفعال منزلة منزلة المفردات.

وقيل : دخلت «الفاء» بمعنى جواب الأمر كقوله : أولئك الضّلال انتبه فلا خير فيهم.

فصل في تفسير تخفيف العذاب

حمل بعضهم عدم التخفيف على عدم الانقطاع ؛ لأنه لو انقطع لكان قد خفف ، وحمله آخرون على الشدّة لا على الدوام ، أو في كلّ الأوقات ، فإذا وصف عذابهم بأنه لا يخفّف عنهم اقتضى ذلك نفي جميع ما ذكرناه.

قوله : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يجوز في «هو» وجهان :

أحدهما : أن يكون في محلّ رفع بالابتداء ، وما بعده خبره ، ويكون قد عطف جملة اسمية على جملة فعلية وهي : «فلا يخفف».

والثاني : أن يكون مرفوعا بفعل محذوف يفسره هذا الظاهر ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، فلما حذف الفعل انفصل الضّمير ؛ ويكون كقوله : [الطويل]

٦٤٥ ـ فإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها

فليس إلى حسن الثّناء سبيل (١)

وله مرجّح على الأول بكونه قد عطف جملة فعلية على مثلها ، وهو من المواضع المرجح فيها الحمل على الفعل في باب الاشتغال. وليس المرجح كونه تقدمه «لا» النافية ، فإنها ليست من الأدوات المختصة بالفعل ولا الأولى به ، خلافا لابن السيد حيث زعم أنّ «لا» النافية من المرجّحات لإضمار الفعل ، وهو قول [مرغوب عنه](٢) ولكنه قوي من حيث البحث. فقوله : (يُنْصَرُونَ) لا محلّ له على هذا ؛ لأنه مفسّر ، ومحلّه الرفع على الأولى لوقوعه موقع الخبر.

__________________

(١) البيت للسموأل في ديوانه : ٩٠ ، والدرر : ١ / ١٩٩ ، وله أو للجلاح الحارثي (عبد الملك بن عبد الرحيم) في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١١١ ، والمقاصد النحوية : ٢ / ٧٧ ، خزانة الأدب : ٩ / ٤٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٦٣ ، و ٢ / ٥٩ ، والدر : ١ / ٢٩١.

(٢) في ب : غريب.

٢٦٠