اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

بعمومه ، ولم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة : إن اللفظ لا يفيده ، بل عدل إلى الاستثناء ، فقال إنه عليه الصلاة والسلام قال : «إلّا بحقّها».

الثاني : أن هذا الجمع يؤكّد بما يقتضي الاستغراق ، فوجب أن يفيد الاستغراق لقوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر : ٣٠] وما كان كذلك فوجب أن يكون المؤكد في أصله الاستغراق ؛ لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد إجماعا ، والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتا في الأصل.

الثالث : صحّة الاستثناء منه.

الرابع : أن المعرف يقتضي الكثرة فوق المنكر ؛ لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف ولا ينعكس ، ومعلوم أن المنتزع [منه أكثر من المنتزع](١).

النوع الثاني : صيغ الجموع المقرونة بحرف «الذي» كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [النحل : ٢٨] (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) [يونس : ٢٧] (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة : ٢٤] (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) [النساء : ١٨] فلو لم يكن الفاسق من أهل الوعيد لم يكن له في التوبة حاجة.

النوع الثالث : لفظة «ما» كقوله (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٨٠].

النوع الرابع : لفظة «كل» كقوله : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) [يونس : ١٥٤].

النوع الخامس : ما يدلّ على أنه ـ سبحانه ـ لا بد وأن يفعل ما توعدهم به وهو قوله : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق : ٢٨ ، ٢٩] صريح في أنه ـ تعالى ـ لا بد وأن يفعل ما دلّ اللفظ عليه ، وكذا الكلام في الصّيغ الواردة في الحديث.

والجواب من وجوه :

أحدها : لا نسلم أن صيغة «من» في [معرض](٢) الشرط للعموم ، ولا نسلّم أن صيغة الجمع إذا كانت معرفة بالألف واللام كانت للعموم ، والذي يدلّ عليه أمور :

الأول : أنه يصحّ إدخال لفظتي الكل والبعض على هاتين اللّفظتين ، فيقال : كل من

__________________

ـ وأبو داود في السنن حديث رقم (١٥٥٦) ، (٢٦٤٠).

والترمذي في السنن حديث رقم (٢٦٠٦) ، (٢٦٠٧).

والنسائي في السنن (٧ / ٧٧ ، ٧٨ ، ٧٩) ، (٨ / ٨١).

وابن ماجه في السنن حديث رقم (٣٩٢٧ ، ٣٩٢٨ ، ٣٩٢٩).

وأحمد في المسند (١ / ١١ ، ١٩ ، ٣٥ ، ٤٨) ، (٢ / ٣٧٧ ، ٤٢٣).

والطبراني في الكبير : ٢ / ١٩٨ ، ٣٤٧ ، ٦ / ١٦١.

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : معنى.

٢٢١

دخل داري أكرمته ، وبعض من دخل داري أكرمته ، ويقال أيضا : كل الناس كذا ، وبعض الناس كذا ، ولو كانت لفظة «من» في معرض الشرط تفيد العموم لكان إدخال لفظة «كل» عليها تكريرا ، وإدخال لفظة «بعض» عليها نقضا ، وكذلك في [لفظ الجمع](١) المعرف.

الثاني أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله تارة للاستغراق ، وأخرى للبعض ، فإن أكثر العمومات مخصوصة ، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل ، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص ، وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أن يفيد الاستغراق أو لا يفيد.

الثالث : أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا محالة ، سلمنا أنها تفيد معنى ولكن إفادة قطعية أو ظنية ، الأول ممنوع وباطل قطعا ؛ لأن من المعلوم بالضرورة أنّ الناس كثيرا ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل ، والجمع على سبيل المبالغة كقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] وإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية ، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية ، سلّمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية ، ولكن لا بد من اشتراط ألّا يوجد شيء من المخصصات ، فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام ، فلم قلتم : إنه لم يوجد شيء من المخصصات؟ أقصى ما في الباب أن يقال : بحثنا فلم نجد شيئا من المخصصات ، لكن عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.

وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات ، وهذا الشرط غير معلوم [كانت الدلالة متوقفة على شرط غير معلوم](٢) فوجب ألّا تحصل الدلالة ، ومما يؤكد هذا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦] حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون ، ثم إنا شاهدنا قوما منهم قد آمنوا ، فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين :

إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول ، أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى ، إلّا أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانوا يعلمون من أجلها أن مراد الله ـ تعالى ـ من هذا العموم هو الخصوص ، وأما ما كان هناك فلم يجوز مثله هاهنا؟ سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص لكن آيات العفو مخصصة لها ، والرجحان معنا ؛ لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام ، والخاصّ مقدم على العام لا محالة ، سلّمنا أنه لا يوجد المخصّص ، ولكن عمومات الوعيد معارضة بعمومات الوعد ، ولا بدّ من الترجيح ، وهو معنى من وجوه :

__________________

(١) في ب : جمع اللفظ.

(٢) سقط في ب.

٢٢٢

أحدها : أنّ الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد.

الثاني : أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه ، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى.

الثالث : أن الوعيد حق الله ـ تعالى ـ والوعد حق العبد ، وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى ، سلّمنا أنه لم يوجد المعارض ، ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكفّار ، فلا تكون قاطعة في العمومات.

فإن قيل : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.

قلنا : هب أنه كذلك ، ولكن لما رأينا كثيرا من الألفاظ العامة وردت في الأسباب الخاصة ، والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أنّ إفادتها للعموم لا تكون قوية. والله أعلم.

فهذا أصل البحث في دلائل الفريقين ، وأما دلائل الفريقين من الكتاب والسّنة فكثيرة ، فمنها على هذه الأصل حجّة من قال بالعفو في حق العبد (١) ، [وبعض](٢) الآيات الدالة على أنه ـ تعالى ـ غفور رحيم غافر غفار ، وهذا لا يحسن إلّا في حق من يستحق العذاب.

[فإن قيل](٣) : لم لا يجوز حمله على تأخير العقاب كقوله في قصة اليهود : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) [البقرة : ٥٢] والمراد تأخير العقاب إلى الآخرة ، وكذا قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] وكذا قوله : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٤].

فالجواب : العفو أصله الإزالة من عفا أمره ، كما قال تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة : ١٧٨] وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم ، بل الإسقاط المطلق ، فإن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال : إنه عفى فيه ، ولو أسقطه يقال : إنه عفى عنه.

الثانية : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وهذا يتناول صاحب [الصغيرة وصاحب الكبيرة](٤) قبل التوبة ؛ لأن الغفران للتائبين وأصحاب الصغائر واجب غير معلّق على المشيئة.

فإن قيل : لا نسلم أن تلك المغفرة تدلّ على أنه ـ تعالى ـ لا يعذب العصاة في الآخرة ؛ لأن المغفرة إسقاط العقاب ، وهو أعم من إسقاطه دائما أو لا دائما واللفظ الموضوع بإزار القدر المشترك لا إشعار له بكل واحد ، فيجوز أن يكون المراد أن الله ـ تعالى ـ لا يؤخّر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء ، ويؤخر عقاب ما دون ذلك في الدنيا لمن يشاء. فحصل بذلك تخويف كل الفريقين.

__________________

(١) في أ : البعض.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : الكبائر والصغائر.

٢٢٣

سلمنا أنّ الغفران عبارة عن الإسقاط على الدوام ، فلم لا يمكن حمله على مغفرة التائب ، ومغفرة صاحب الصغيرة؟

وأيضا لا نسلم أن قوله : (ما دُونَ ذلِكَ) يفيد العموم لصحة إدخال لفظ «كل» و «بعض» على البدل ، [مثل أن](١) يقال : ويغفر كل ما دون ذلك ، وهو يمنع العموم.

سلمنا أنه للعموم ، ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة.

فالجواب : أما إذا حملنا المغفرة على التأخير ، وجب أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر [من عقاب المؤمنين](٢) ، وإلّا لم يكن في التفضيل فائدة ، وليس كذلك لقوله تعالى : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ) [الزخرف : ٣٣].

قوله : لم قلتم : إن قوله : (ما دُونَ ذلِكَ) يفيد العموم؟

قلنا : لأن قوله «ما» تفيد الإشارة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك وهذه الماهيّة ماهية واحدة ، وقد حكم قطعا بأنه يغفرها ، ففي كل صغيرة متحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران.

الثالثة : قال يحيى بن معاذ : إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي لعمومات الوعد وهي كثيرة ثم نقول : لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه :

أحدها : أن عمومات الوعد أكثر ، والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع.

وثانيها : قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] [يدلّ علىأن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة ، فوجب أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة](٣) ترك العمل به في حسنات الكفّار ، [فإنها لا تذهب سيئاتهم](٤) فيبقى معمولا به في الباقي.

وثالثها : تضعف الحسنة ، كما قال تعالى : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) [البقرة : ٢٦١] ثم زاد فقال : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) وفي جانب السّيئة قال : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [الأنعام : ١٦٠].

ورابعها : قال في آية الوعد : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) [النساء : ١٢٢].

ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقّا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

٢٢٤

وخامسها : أن القرآن مملوء من كونه تعالى غافرا غفورا رحيما كريما عفوّا رحمانا. والأخبار في هذا قد بلغت حدّ التواتر ، وكل ذلك يوحب رجحان الوعد ، وليس في القرآن ما يدل على أنه ـ تعالى ـ بعيد عن الرحمة والكرم والعفو ، وكل ذلك يوجب رجحان جانب الوعد.

سادسها : أن الإنسان [هذا أتى](١) بأفضل الخيرات وهو الإيمان ولم يأت بأقبح القبائح وهو الكفر [بل أتى بالشر الذي هو في طبقة القبائح ليس في الغاية والسيد إذا أتى عبده من الطاعات ، وأتى بمعصية متوسطة ، فلو تولى بتلك المعصية على الطاعة لعد لئيما مؤذيا](٢).

فصل في الاستدلال بالآية

قد شرط في هذه الآية شرطان :

أحدهما : اكتساب السّيئة.

والثاني : إحاطة تلك السيئة بالعبد ، وذلك يدل على أنه لا بدّ من وجود الشرطين ولا يكفي وجود أحدهما ، وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو إعتاق أنه لا يحنث بوجود أحدهما.

قوله تعالى :(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٨٢)

اعلم أنه سبحانه وتعالى ما ذكر في القرآن آية وعيد إلا وذكر في جنبها آية وعد ، وذلك لفوائد :

أحدها : أن يظهر سبحانه بذلك عدله ؛ لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرّين على الكفر ، وجب أن يحكم بالنّعيم الدائم على المصرين على الإيمان.

وثانيها : أنّ المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عليه الصلاة والسلام : «المؤمن لو وزن خوفه ورجاؤه لاعتدلا» وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق.

وثالثها : أن يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كمال حكمته ، فيصير ذلك سببا [للعرفان](٣).

فإن قيل : دلّت الآية على أن العمل الصالح خارج عن الإيمان ؛ لأنه لو دلّ الإيمان على العمل الصالح لعد الإيمان تكريرا.

أجاب القاضي : بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلّا أن

__________________

(١) في أ : أن ما هو.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : للغفران.

٢٢٥

قوله : «آمن» لا يفيد إلا أنه فعل فعلا واحدا من أفعال الإيمان ، فلهذا حسن أن يقول : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

والجواب : أن فعل الماضي يدلّ على حصول المصدر في زمان معين والإيمان هو المصدر فلو دلّ ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله : «آمن» دليلا على صدور كل تلك الأعمال منه.

فصل في مرتكب الكبيرة

هذه الآية تدلّ على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة ؛ لأنه أتى بالإيمان والأعمال الصالحات ، ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة ، ولم يتب عنها ، فهذا الشّخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن ، وعمل الصالحات [في ذلك الوقت ، ومن صدق عليه ذلك صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات](١) وإذا صدق عليه ذلك وجب اندراجه تحت قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

فإن قيل قوله تعالى : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع [الأعمال](٢) ، ومن جملة الصّالحات التوبة ، فإذا لم يأت بها لم يكن آتيا بالصالحات ، فلا يندرج تحت [الآية](٣).

قلنا : [لو سلمنا أنه قبل](٤) الإتيان بالكبيرة [صدق](٥) عليه أنه آمن وعمل الصالحات [لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد ، بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات](٦) في كل الأوقات ، لكن قولنا : آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا : إنه كذلك في كل الأوقات ، أو في بعض الأوقات ، والمعتبر في الآية هو القدر المشترك ، فثبت أنه مندرج تحت حكم الوعد.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)(٨٣)

«إذ» معطوف على الظرف قبله ، وقد تقدم ما فيه من كونه متصرفا أو لا.

و «أخذنا» في محلّ خفض ، أي : واذكر وقت أخذنا ميثاقهم ، أو نحو ذلك.

(لا تَعْبُدُونَ) قرأ ابن كثير (٧) وغيره والكسائي بالياء ، والباقون بالتاء.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : قولنا.

(٤) في أ : قد بينا أن.

(٥) في أ : مصدق.

(٦) سقط في ب.

(٧) وبها قرأ حمزة ، ووافقه : ابن محيصن ، والحسن ، والأعمش.

٢٢٦

فمن قرأ بالغيبة فلأن الأسماء الظّاهرة حكمها الغيبة ، ومن قرأ بالخطاب هو التفات ، وحكمته أنه أدعى لقبول المخاطب الأمر والنهي الواردين عليه.

وجعل أبو البقاء قراءة الخطاب (١) على إضمار القول.

قال : يقرأ بالتاء على تقدير : قلنا لهم : لا تعبدون إلا الله وكونه التفاتا أحسن.

وفي هذه الجملة المنفيّة من الإعراب ثمانية أوجه :

أظهرها : أنها مفسرة لأخذ الميثاق ، وذلك لأنه ـ تعالى ـ لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان في ذلك إبهام للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجملة مفسرة له ، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب.

الثاني : أنها في محلّ نصب على الحال من «بني إسرائيل» وفيها حينئذ وجهان :

أحدهما : أنها حال مقدّرة بمعنى : أخذنا ميثاهم مقدّرين التوحيد أبدا ما عاشوا.

والثّاني : أنّها حال مقارنة بمعنى : أخذنا ميثاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد ، قاله أبو البقاء [وسبقه إلى ذلك قطرب والمبرد](٢).

وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك على الصحيح ، خلافا لمن أجاز مجيئها من المضاف إليه مطلقا ، لا يقال : المضاف إليه معمول له في المعنى ل «ميثاق» ؛ لأن ميثاقا إما مصدر أو في حكمه ، فيكون ما بعده إما فاعلا أو مفعولا ، وهو غير جائز ؛ لأن من شرط عمل المصدر غير الواقع موقع الفعل أن ينحل إلى حرف مصدري ، وفعل هذا لا ينحل لهما ، لو قدرت : وإذ أخذنا أن نواثق بني إسرائيل ، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل ، لم يصح ألا ترى أنك لو قلت : أخذت علم زيد لم يتقدر بقول : أخذت أن يعلم زيد ، ولذلك منع ابن الطّراوة (٣) في ترجمة سيبويه : «هذا باب علم ما الكلم من العربية» أن يقدر المصدر بحرف مصدري والفعل ، ورده وأنكر على من أجازه.

__________________

ـ انظر العنوان : ٧٠ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٢١ ، والسبعة : ١٧٢ ، وشرح شعلة : ٢٦٦ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٣ ، وإتحاف : ١ / ٤٠٠ ، وحجة القراءات : ١٠٢.

(١) زاد في أ : فهو التفات وحكمته.

(٢) سقط في ب.

(٣) سليمان بن محمد بن عبد الله السبائي المالقي ، أبو الحسين ابن الطراوة : أديب ، من كتّاب الرسائل ، له شعر ، وله آراء في النّحو تفرّد بها.

تجول كثيرا في بلاد الأندلس ، وألّف «الترشيح» في النحو ، مختصر ، و «المقدمات على كتاب سيبويه» و «مقالة في الاسم والمسمى».

قال ابن سمحون : ما يجوز على الصراط أعلم منه بالنحو! توفي سنة ٥٢٨ ه‍.

انظر بغية الوعاة : ٢٦٣ ، الأعلام : ٣ / ١٣٢.

٢٢٧

الثالث : أن يكون جوابا لقسم محذوف دلّ عليه لفظ الميثاق ، أي : استحلفناهم ، أو قلنا لهم : بالله لا تعبدون ، ونسب هذا الوجه لسيبويه ، ووافقه الكسائي والفرّاء والمبرد.

الرابع : أن يكون على تقدير حذف حرف الجر ، وحذف «أن» ، والتقدير : أخذنا ميثاقهم على ألّا تعبدوا بألّا تعبدوا ، فحذف حرف الجر ؛ لأن حذفه مطرد مع «أنّ وأن» كما تقدم ، ثم حذفت «أن» الناصبة ، فارتفع الفعل بعدها ؛ كقول طرفة : [الطويل]

٦١٣ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللّذّات ، هل أنت مخلدي (١)

وحكي عن العرب : «مره يحفرها» أي : بأن يحفرها ، والتقدير : عن أن يحضر ، أو بأن يحفرها ، وفيه نظر ، فإن [إضمار](٢) «أن» لا ينقاس ، إنما يجوز في مواضع عدها النحويون ، وجعلوا ما سواها شاذّا قليلا ، وهو الصحيح خلافا للكوفيين ، وإذا حذفت «أن» ، فالصحيح جواز [النصب والرفع](٣) ، وروي : «مره يحفرها» و «أحضر الوغى» بالوجهين ، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافا لأبي الحسن ، حيث التزم رفعه.

وأيد الزمخشري هذا الوجه الرابع بقراءة عبد الله : «لا تعبدوا» على النهي ، قال : إلّا أنه جاء على لفظ الخبر لقوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) [البقرة : ٢٣٣] ، قال : والذي يؤكد كونه نهيا [قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)](٤) فإنه تنصره قراءة عبد الله وأبي : «لا تعبدوا».

الخامس : أن يكون في محلّ نصب بالقول المحذوف ، وذلك القول حال تقديره : قائلين لهم : لا تعبدون إلا الله ، ويكون خبرا في معنى النهي ، ويؤيده قراءة أبي المتقدمة ، ولهذا يصح عطف «قولوا» عليه ، وبه قال الفرّاء.

السادس : أنّ «أن» الناصبة مضمرة كما تقدم ، ولكنها هي وما في حيّزها في محلّ نصب على أنها بدل من «ميثاق» ، وهذا قريب من القول الأول من حيث إن هذه الجملة مفسرة للميثاق ، وفيه النظر المتقدم أعني حذف أن في غير المواضع المقيسة.

السابع : أن يكون منصوبا بقول محذوف ، وذلك القول ليس حالا ، بل مجرد إخبار ، والتقدير : وقلنا لهم ذلك ، ويكون خبرا في معنى النهي.

قال الزمخشري : كما تقول : تذهب إلى فلان تقول له : كذا تريد الأمر ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي ؛ لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء ، فهو يخبر عنه ، وتنصره قراءة عبد الله وأبيّ : «لا تعبدوا» ولا بد من إرادة القول بهذا.

الثامن : أن يكون التقدير : «ألّا تعبدون» وهي «أن» المفسرة ؛ لأن في قوله : (أَخَذْنا

__________________

(١) تقدم برقم ٥٢٥.

(٢) في أ : الجاري.

(٣) في ب : النصب والرفع.

(٤) سقط في ب.

٢٢٨

مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إيهاما كما تقدم ، وفيه معنى القول ، ثم حذفت «أن» المفسرة ، ذكره الزّمخشري.

وفي ادعاء حذف حرف التفسير نظر لا يخفى.

قوله : (إِلَّا اللهَ) استثناء مفرغ ؛ لأن ما قبله مفتقر إليه وقد تقدم تحقيقه أولا.

وفيه التفات من التكلّم إلى الغيبة ، إذ لو جرى الكلام على نسقه لقيل : لا تعبدون إلّا إيانا ، لقوله : (أَخَذْنا).

وفي هذا الالتفات من الدّلالة على عظم هذا الاسم والتفرد به ما ليس في المضمر ، وأيضا الأسماء الواقعة ظاهرة ، فناسب أن يجاور الظاهر الظاهر.

فصل في مدلول «الميثاق

هذا الميثاق يدلّ على تمام ما لا بد منه في الدين ، لأنه ـ تعالى ـ لما أمر بعبادته ، ونهى عن عبادة غيره ، وذلك مسبوق بالعلم بذاته سبحانه ، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد ، ومسبوق أيضا بالعلم بكيفية تلك العبادة الّتي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة ، فقوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) يتضمّن كلّ ما اشتمل عليه علم الكلام والفقه والأحكام.

وقال مكّي : «هذا الميثاق هو الذي أخذه عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذّر» و (بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن تتعلق الباء ب «إحسانا» على أنه مصدر واقع [موقع](١) فعل الأمر ، والتقدير وأحسنوا بالوالدين ، والباء ترادف «إلى» في هذا المعنى ، تقول : أحسنت به وإليه ، بمعنى أن يكون على هذا الوجه ثمّ مضاف محذوف ، وأحسنوا بر الوالدين بمعنى : أحسنوا إليهما برّهما.

قال ابن عطية (٢) : يعترض على هذا القول ، أن يتقدّم على المصدر معموله ، وهذا الاعتراض لا يتم على مذهب الجمهور ، فإن مذهبهم جواز تقديم معمول المصدر النّائب عن فعل الأمر عليه ، تقول : «ضربا زيدا» وإن شئت : «زيدا ضربا» وسواء عندهم إن جعلنا العمل للفعل المقدر ، أم للمصدر النائب عن فعله ، فإن التقديم عندهم جائز ، وإنما يمتنع تقدم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل كما تقدم وإنما يتم على مذهب أبي الحسن ، فإنه منع تقديم معمول المصدر النائب عن الفعل ، ويخالف الجمهور في ذلك.

الثاني : أنها متعلّقة بمحذوف وذلك المحذوف يجوز أن يقدر فعل أمر مراعاة

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٢.

٢٢٩

لقوله : (لا تَعْبُدُونَ) فإنه في معنى النهي كما تقدم ، كأنه قال : لا تعبدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين ، ويجوز أن يقدر خبرا مراعاة للفظ «لا تعبدون» والتقدير : وتحسنون [وإن كان معناه الأمر ، وبهذين](١) الاحتمالين قدره الزمخشري ، وينتصب «إحسانا» حينئذ على المصدر المؤكّد لذلك الفعل المحذوف.

وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكّد منصوص على عدم جوازه ، وفيه بحث ليس هذا موضعه.

الثالث : أن يكون التقدير : واستوصوا بالوالدين ، ف «الباء» متعلّقة [بهذا الفعل المقدر](٢) أيضا ، وينتصب «إحسانا» حينئذ على أنه مفعول به.

الرابع : تقديره : ووصّيناهم بالوالدين ، فالباء متعلّقة بالمحذوف أيضا ، وينتصب «إحسانا» [حينئذ](٣) على أنه مفعول لأجله ، أي : لأجل إحساننا إلى الموصى بهم من حيث إنّ الإحسان متسبّب عن وصيتنا بهم ، أو الموصى لما يترتب الثواب منّا لهم إذا أحسنوا إليهم.

الخامس : أن تكون الباء وما عملت فيه عطفا على قوله : (لا تَعْبُدُونَ) إذا قيل بأن «أن» المصدرية مقدرة فينسبك منها ومما بعدها مصدر يعطف عليه هذا المجرور ، والتقدير : أخذنا ميثاقهم بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين ، أي : وببرّ الوالدين ، أو : بإحسان إلى الوالدين ، فتتعلّق «الباء» حينئذ ب «الميثاق» لما فيه من معنى الفعل ، فإن الظرف وشبهه تعمل فيه روائح الأفعال ، وينتصب «إحسانا» حينئذ على المصدر من ذلك المضاف المحذوف ، وهو «البر» لأنه بمعناه ، أو الإحسان الذي قدرناه.

والظّاهر من هذه الأوجه هو الثّاني ، لعدم الإضمار اللازم في غيره ، أو لأن ورود المصدر نائبا عن فعل الأمر مطّرد شائع.

وإنما تقدّم المعمول اهتماما به وتنبيها على أنه أولى بالإحسان إليه ممن ذكر معه.

و «الوالدان» الأب والأم ، يقال لكل واحد منهما : والد ؛ قال : [الطويل]

٦١٤ ـ عجبت لمولود وليس له أب

وذي ولد لم يلده أبوان (٤)

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : بالمحذوف.

(٣) سقط في ب.

(٤) البيت لرجل من أزد السراة ينظر شرح التصريح : ٢ / ١٨ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٢٥٧ ، وشرح شواهد الشافية : ص ٢٢ ، والكتاب : ٢ / ٢٦٦ ، ٤ / ١١٥ ، وله أو لعمرو الجنبي في خزانة الأدب : ٢ / ٣٨١ ، والدرر : ١ / ١٧٣ ، ١٧٤ ، وشرح شواهد المغني ، وأوضح المسالك : ٣ / ٥١ ، والجنى الداني : ص ٤٤١ ، والخصائص : ٢ / ٣٣٣ ، ورصف المباني : ص ١٨٩ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٢٩٨ ، وشرح المفصل : ٤ / ٤٨ ، ٩ / ١٢٦ ، والمقرب : ١ / ١٩٩ ، ومغني اللبيب : ١ / ١٣٥ ، وهمع الهوامع : ١ / ٥٤ ، ٢ / ٢٦ ، الدر المصون : ١ / ٢٧٧.

٢٣٠

وقيل : لا يقال في الأم : والدة بالتاء ، وإنما قيل فيها وفي الأب : والدان تغليبا للذكر.

و «الإحسان» : الإنعام على الغير.

وقيل : بل هو أعم من الإنعام.

وقيل : هو النّافع لكل شيء.

فصل في وجوه ذكر البر بالوالدين مع عبادة الله

قال ابن الخطيب (١) : إنما أراد عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه :

أحدها : أن نعمة الله على العبد أعظم النعم ، فلا بد من تقديم شكره على شكر غيره ، ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعظم النّعم ؛ لأن الوالدين هما الأصل في وجود الولد ، ومنعمان عليه بالتربية ، فإنعامهما أعظم الإنعام بعد إنعام الله تعالى.

وثانيها : أن الله سبحانه وتعالى المؤثر في وجود الإنسان في الحقيقة ، والوالدان مؤثران في وجوده بحسب العرف الظاهر ، فلأنه المؤثر الحقيقي أردفه بذكر المؤثر بحسب العرف الظّاهر.

وثالثها : أن الله سبحانه وتعالى لا يطلب على إنعامه على العبد عوضا ألبتّة ، وإنعام الوالدين كذلك ، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضا.

ورابعها : أن الله لا يملّ من الإنعام على العبد ، ولو أتى العبد بأعظم الجرائم ، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه ، وكذلك الوالدان لا يملّان الولد ولا يقطعان عنه موادتهما وإن كان الولد مسيئا إلى الوالدين.

وخامسها : كما أن الوالد المشفق يتصرّف في مال ولده بالاسترباح ، وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان ، فكذلك الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ يتصرف في طاعة العبد ، فيصونها عن الضياع ويضاعفها كما قال : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١].

فلما تشابها من هذه الحيثيات كانت نعم الوالدين قليلة بالنسبة إلى نعم الله تعالى ، [بل النعم كلها من الله ـ تعالى ـ فلا](٢) جرم ذكر الإحسان إلى الوالدين عقب ذكر عبادة الله تعالى.

فصل في وجوب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين

اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين لقوله في هذه الآية : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) بغير تقييد بكونهما مؤمنين أم لا ، وقد ثبت في أصول الفقه أن

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٥٠.

(٢) سقط في ب.

٢٣١

الحكم المرتب على الوصف يشعر بغلبة الوصف فالأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما والدين ، وذلك يقتضي العموم ، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) [الإسراء : ٢٣] وهذا نهاية المبالغة في المنع من إيذائهما إلى أن قال : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء : ٢٤] فصرّح ببيان السّبب في وجوب هذا التعظيم ، وكذلك قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء ١٧] وقوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥] صريح في الدّلالة.

و «ذي القربى» وما بعده عطف على المجرور بالباء ، وعلامة الجر فيها الياء ؛ لأنها من الأسماء الستة التي ترفع بالواو ، وتنصب بالألف ، وتجر بالياء بشروط مذكورة ، وهل إعرابها بالحروف أو بغيرها؟ عشرة مذاهب للنّحويين فيها.

وهي من الأسماء اللّازمة للإضافة لفظا ومعنى إلى أسماء الأجناس الظاهرة ؛ ليتوصّل بذلك إلى وصف النكرة باسم الجنس ؛ نحو : «مررت برجل ذي مال» وإضافته إلى المضمر ممنوعة إلا في ضرورة أو نادر كلام ؛ كقوله : [الوافر]

٦١٥ ـ صبحنا الخزرجيّة مرهفات

أبان ذوي أرومتها ذووها (١)

وأنشد الكسائيّ : [الرمل]

٦١٦ ـ إنّما يعرف المع

روف في النّاس ذووه (٢)

وعلى هذا قولهم : «اللهم صلّ على محمد وذويه».

وإضافته إلى العلم قليلة جدّا ، وهي على ضربين :

واجبة : وذلك إذا اقترنا وضعا ، نحو : «ذي يزن» و «ذي رعين».

وجائزة وذلك إذا لم يقترنا وضعا ، نحو : «ذي قطري» و «ذي عمرو» أي : صاحب هذا الاسم.

وأقل من ذلك إضافتها إلى ضمير المخاطب ؛ كقوله : [الطويل]

٦١٧ ـ وإنّا لنرجو عاجلا منك مثل ما

رجوناه قدما من ذويك الأفاضل (٣)

__________________

(١) البيت لكعب بن زهير ينظر ديوانه : ص ١٠٤ ، ولسان العرب (ذو) ، وشرح المفصل : ١ / ٥٣ ، ٣ / ٣٦ ، ٣٨ ، وأمالي ابن الحاجب : ص ٣٤٤ ، والدرر : ٥ / ٣٨ ، والمقرب : ١ / ٢١١ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٥٠ ، والدر المصون : ١ / ٢٧٧.

(٢) ينظر الدرر : ٥ / ٢٧ ، وشرح المفصل : ١ / ٥٣ ، ٣ / ٣٨ ، ولسان العرب (ذو) ، وهمع الهوامع : ٢ / ٥٠ ، والدر المصون : ١ / ٢٧٧.

(٣) البيت للأحوص في ديوانه : ١٨٢ ، والدرر : ٥ / ٢٨ ، العقد الفريد : ٢ / ٩٠ ، وفيه «الأوائل» مكان «الأفاضل» ، ولسان العرب «ذو» ، وفيه «الأوائل» مكان «الأفاضل» ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٠ ، والدر المصون : ١ / ٢٧٨.

٢٣٢

وتجيء «ذو» موصولة بمعنى «الّذي» وفروعه ، والمشهور حينئذ بناؤها وتذكيرها ، ولها أحكام كثيرة.

و «القربى» مضاف إليه ، وألفه للتّأنيث ، وهو مصدر ك «الرّجعى والعقبى» ، ويطلق على قرابة الصّلب والرّحم ؛ قال طرفة : [الطويل]

٦١٨ ـ وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة

على الحرّ من وقع الحسام المهنّد (١)

وقال أيضا : [الطويل]

٦١٩ ـ وقرّبت بالقربى وجدّك إنّه

متى يك أمر للنّكيثة أشهد (٢)

والمادة تدلّ على الدّنو عند البعد.

فصل

اعلم أن حقّ ذوي القربى كالتّابع لحق الوالدين ؛ لأن اتصال الأقارب بواسطه اتّصال الوالدين ، فلذلك أخّر الله ـ تعالى ـ ذكرهم بعد ذكر الوالدين ، والسبب في تأكيد رعاية هذا الحق إلى القرابة ؛ لأن القرابة مظنّة الاتّحاد والألفة والرعاية والنصرة ، فلهذا وجبت رعاية حقوق الأقارب.

فصل في أحكام تؤخذ من الآية

قال الشّافعي رضي الله عنه : لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المحرم ، وغير المحرم ، ولا يدخل الأب والابن ؛ لأنهما لا يعرفان بالقرابة ، ويدخل الأحفاد والأجداد.

وقيل : لا يدخل الأصول والفروع.

وقيل : يدخل الكلّ.

قال الشافعي : يرتقي إلى أقرب جدّ ينسب هو إليه ويعرف به ، وإن كان كافرا.

وذكر أصحابه في مثاله : لو أنه أوصى لأقارب الشافعي ، فإنا نصرفه إلى بني شافع دون بني المطّلب ، وبني عبد مناف ، وإن كانوا أقارب ؛ لأنّ الشّافعي ينتسب في المشهور إلى بني شافع دون عبد مناف.

قال الغزالي : وهذا في زمان الشّافعي ، أما في زماننا فلا ينصرف إلّا إلى أولاد الشافعي ولا يرتقي إلى بني شافع ؛ لأنّه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا ، أما قرابة الأم ، فإنها تدخل في وصيّة العجم ، ولا تدخل في وصيّة العرب على الأظهر ؛ لأنهم لا يعدون ذلك قرابة أما لو قال : لأرحام فلان دخل فيه قرابة الأب والأم.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٣٦) ، شرح القصائد العشر للتبريزي : (١٨١) ، الدر المصون : ١ / ٢٧٨.

(٢) ينظر ديوانه : (٢٢) ، شرح القصائد العشر : (١٨٣) ، الشنقيطي : (٧٦) ، الدر المصون : ١ / ٢٧٨.

٢٣٣

قوله : (وَالْيَتامى) وزنه «فعالى» ، وألفه للتأنيث ، وهو جمع «يتيم» ك «نديم وندامى» ولا ينقاس هذا الجمع.

وقال ابن الخطيب (١) : جمعه «أيتام ويتامى» واليتم : الانفراد ، ومنه اليتيم ؛ لانفراده عن أبويه أو أحدهما ، ودرة يتيمة : إذا لم يكن لها نظير.

وقيل : اليتم : الإبطاء ، ومنه : صبي يتيم ؛ لأنه يبطىء عنه البرّ ، وقيل : هو التغافل ، لأن الصبيّ يتغافل عما يصلحه.

قال الأصمعيّ : «اليتيم في الآدميين من فقد الآباء ، وفي غيرهم من فقد الأمّهات».

وقال الماوردي : إن اليتم أيضا في الناس من قبل فقد الأمهات.

والأول هو المعروف عند أهل اللغة ، ويسمى يتيما إلى أن يبلغ ، يقال : يتم ييتم يتما مثل: سمع يسمع سمعا ويتم ييتم يتما مثل : عظم يعظم عظما ، فهاتان لغتان مشهورتان حكاهما الفرّاء ، ويقال : أيتمه الله إيتاما ، أي : فعل به ذلك.

وعلامة الجرّ في «القربى» و «اليتامى» كسرة مقدرة على الألف ، وإن كانت للتأنيث ؛ لأنّ ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخلته «أل» انجرّ بالكسرة ، وهل يسمّى حينئذ منجرّا أو منصرفا.

ثلاثة أقوال ، يفصل في الثالث بين أن يكون أحد سببيه العلمية ، فيسمى منصرفا نحو : «يعمركم» أو لا يسمى منجرا نحو : «بالأحمر» ، و «القربى واليتامى» من هذا الأخير.

فصل في رعاية اليتيم

[اليتيم كالتالي](٢) لرعاية حقوق الأقارب ؛ لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه ، والإنسان قلّما يرغب في صحبة مثل هذا ، وإن كان هذا التكليف شاقّا على الأنفس لا جرم كانت درجته عظيمة في الدين.

قال عليه الصلاة والسلام : «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة» وأشار بالسّبّابة والوسطى (٣). وقال عليه الصلاة والسلام : [«ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٥٢.

(٢) في أ : في رعاية حق اليتيم كالتالية.

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح (٩ / ٤٣٩) من رواية سهل بن سعد رضي الله عنه كتاب الطلاق (٦٨) باب اللعان (٢٥) حديث رقم (٥٣٠٤) ومسلم في الصحيح (٤ / ٢٢٨٧) من رواية أبي هريرة رضي الله عنه كتاب الزهد (٥٣) باب الإحسان إلى الأرملة (٢) حديث رقم (٤٢ / ٢٩٨٣) ـ وأبو داود في السنن حديث رقم (٥١٥٠) والبيهقي في السنن (٦ / ٢٨٣) ـ والطبراني في الكبير (٦ / ٢١٣) ، (٨ / ٣٥١) وأبو نعيم في الحلية (٦ / ٣٥٠) ـ وذكره المنذري في الترغيب ٣ / ٣٤٦ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٥٩٩٣ ، ٥٩٩٦ ، ٦٠٢٤ ، ٦٠٢٥.

٢٣٤

قصعتهم الشّيطان» (١) وقال عليه‌السلام](٢) : «من ضمّ يتيما من بين المسلمين إلى طعامه وشرابه حتّى يغنيه الله عزوجل غفرت له ذنوبه ألبتّة إلّا أن يعمل عملا لا يغفر» (٣).

قوله : (وَالْمَساكِينِ) جمع «مسكين» ، ويسمونه جمعا لا نظير له من الآحاد ، وجمعا على صيغة منتهى الجموع ، وهو من العلل القائمة مقام علّتين ، وسيأتي تحقيقه قريبا إن شاء الله تعالى.

وتقدم القول في اشتقاقه عند ذكر المسكنة.

واختلف فيه : هل هو بمعنى الفقير أو أسوأ حالا منه كقوله : (مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد : ١٦] أي : لصق جلده بالتراب ، وهو قول أبي حنيفة وغيره بخلاف الفقير ؛ فإن له شيئا ما.

قال : [البسيط]

٦٢٠ ـ أمّا الفقير الّذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد (٤)

أو أكمل حالا ؛ لأن الله جعل لهم ملكا ما ، قال : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) [الكهف : ٧٩] وهو قول الشافعي وغيره.

فصل

إنما تأخّرت درجتهم عن اليتامى ؛ لأن المسكين قد ينتفع به في الاستخدام ، فكان الميل إلى مخالطته أكثر من الميل إلى مخالطة اليتامى ، وأيضا المسكين يمكنه الاشتغال بتعهّد نفسه ، ومصالح معيشته ، واليتيم ليس كذلك ، فلا جرم قدم الله ذكر اليتيم على المسكين.

قال عليه الصّلاة والسلام : «السّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ـ وأحسبه قال ـ وكالقائم لا يفتر من صلاة وكالصّائم لا يفطر» (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» (٨ / ١٦٣) والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» كما في «المطالب العالية» (٢ / ٣٨٦) رقم (٢٥٣٤) عن أبي موسى الأشعري.

وقال الحافظ الهيثمي : وفيه الحسن بن واصل وهو الحسن بن دينار وهو ضعيف لسوء حفظه وهو حديث حسن والله أعلم.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه أحمد (٤ / ٣٣٤) ، (٥ / ٢٩) والطبراني في «الكبير» (١٩ / ٣٠٠) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤ / ٢٤٦) وقال : وفيه علي بن زيد بن جدعان وحديثه حسن وقد ضعف.

والحديث ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (٣ / ٣٤٧).

(٤) البيت للراعي : ينظر القرطبي (٨ / ١٠٧) ، الدر المصون : (١ / ٢٧٨).

(٥) أخرجه البخاري في الصحيح (٧ / ٨٠) كتاب الأدب ، (٨ / ١٠ ، ١١). ـ

٢٣٥

قال ابن المنذر : كان طاوس يرى السّعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله.

قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) هذه الجملة عطف على قوله : (لا تَعْبُدُونَ) في المعنى ، كأنه قال : لا تعبدوا إلا الله ، وأحسنوا بالوالدين وقولوا ، أو على «أحسنوا» المقدر ، كما تقدم تقريره في قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولا لقول محذوف تقديره : وقلنا لهم : قولوا.

وقرأ (١) حمزة والكسائي : «حسنا» بفتحتين و «حسنا» بضمتين ، و «حسنى» من غير تنوين ك «حبلى» و «إحسانا» من الرباعي.

فأما من قرأ (٢) : «حسنا» بالضم والإسكان ، فيحتمل أوجها :

أحدها ـ وهو الظّاهر ـ أنه مصدر وقع صفة لمحذوف تقديره : وقولوا للناس حسنا أي : ذا حسن.

الثاني : أن يكون وصف به مبالغة كأنه جعل القول نفسه حسنا.

الثالث : أنه صفة على وزن «فعل» ، وليس أصله المصدر ، بل هو كالحلو والمر ، فيكون بمعنى «حسن» بفتحتين ، فيكون فيه لغتان : حسن وحسن ك «البخل والبخل ، والحزن والحزن ، والعرب والعرب».

الرابع : أنه منصوب على المصدر من المعنى ، فإن المعنى : وليحسن قولكم حسنا.

وأما قراءة : «حسنا» بفتحتين فصفة لمصدر محذوف ، تقديره : قولا حسنا ، كما تقدم في أحد أوجه «حسنا».

وأما «حسنا» بضمتين ، فضمة السين لإتباع الحاء ، فهو بمعنى «حسنا» بالسكون ، وفيه الأوجه المتقدمة.

__________________

ـ ومسلم في الصحيح (٤ / ٢٢٨٦ ـ ٢٢٨٧) كتاب الزهد والرقائق (٥٣) باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم (٢) حديث رقم (٤١ / ٢٩٨٢).

والترمذي في السنن (٤ / ٣٠٥) كتاب البر والصلة (٢٨) باب ما جاء في السعي على الأرملة واليتيم (٤٤) حديث رقم (١٩٦٩) والنسائي في السنن (٥ / ٨٧) ـ وأحمد في المسند (٢ / ٣٦١) وعبد الرزاق في مصنفه حديث رقم (٢٠٥٩٢) ـ والبيهقي في السنن (٦ / ٢٨٣) وابن حبان في الموارد حديث رقم (٢٠٤٧) ـ وذكره المنذري في الترغيب ٣ / ٣١٥.

وابن حجر في فتح الباري ٩ / ٤٩٧ ، ٤٩٩ ، ١٠ / ٤٣٧.

والهندي في كنز العمال حديث رقم ٦٠٢٠.

(١) انظر العنوان : ٧٠ ، وحجة القراءات : ١٠٣ ، والحجة : ٢ / ١٢٦ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٤ ، وشرح شعلة : ٢٦٧ ، وإتحاف : ١ / ٤٠١.

(٢) وهي قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر. انظر السابقة.

٢٣٦

وأما «حسنى» بغير تنوين فمصدر ك «البشرى والرّجعى».

وقال النحاس (١) في هذه القراءة : ولا يجوز هذا في العربية ، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام ، نحو : الكبرى والفضلى. هذا قول سيبويه (٢) ، وتابعه ابن عطية على هذا ، فإنه قال : ورده سيبويه ؛ لأن «أفعل» و «فعلى» لا يجيء إلا معرفة إلّا أن يزال عنها معنى التّفضيل ، ويبقى مصدرا ك «العقبى» ، فذلك جائز ، وهو وجه القراءة بها. انتهى وناقشه أبو حيان وقال (٣) : في كلامه ارتباك ؛ لأنه قال : لأن «أفعل» و «فعلى» لا يجيء إلا معرفة ، وهذا ليس بصحيح.

أما «أفعل» فله ثلاثة استعمالات.

أحدها : أن يكون معها «من» ظاهرة أو مقدرة ، أو مضافا إلى نكرة ، ولا يتعرف في هذين بحال.

الثّاني : أن تدخل عليه «أل» فيتعرف بها.

الثالث : أن يضاف إلى معرفة فيتعرف على الصحيح.

وأما «فعلى» فلها استعمالان :

أحدهما : بالألف واللام.

والثاني : الإضافة لمعرفة ، وفيها الخلاف السابق.

وقوله : «إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ، وتبقى مصدرا» ظاهر هذا أن «فعلى» أنثى «أفعل» إذا زال عنها معنى التفضيل تبقى مصدرا وليس كذلك ، بل إذا زال عن «فعلى» أنثى «أفعل» معنى التفضيل صارت بمنزلة الصفة التي لا تفضيل فيها ؛ ألا ترى إلى تأويلهم «كبرى» بمعنى كبيرة ، «وصغرى» بمعنى صغيرة ، وأيضا فإن «فعلى» مصدر لا ينقاس ، إنما جاءت منها الألفاظ ك «العقبى والبشرى» ثم أجاب الشيخ عن هذا الثاني بما معناه أن الضمير في قوله : «عنها» عائد إلى «حسنى» لا إلى «فعلى» أنثى «أفعل» ، ويكون استثناء منقطعا كأنه قال : إلا أن يزال عن «حسنى» التي قرأ بها أبيّ معنى التفضيل ، ويصير المعنى : إلا أن يعتقد أن «حسنى» مصدر لا أنثى «أفعل».

وقوله : «وهو وجه القراءة بها» أي والمصدر وجه القراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين :

أحدهما : المصدر ك «البشرى» وفيه الأوجه المتقدمة في «حسنا» مصدرا ، إلا أنه يحتاج إلى إثبات «حسنى» مصدرا من قول العرب : حسن حسنى ، كقولهم : رجع

__________________

(١) ينظر إعراب القرآن : ١ / ١٩١.

(٢) ينظر الكتاب : ٢ / ٣٧١.

(٣) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٥٣.

٢٣٧

رجعى ، إذ مجيء «فعلى» مصدرا لا ينقاس.

والوجه الثاني : أن تكون صفة لموصوف محذوف ، أي : وقولوا للناس كلمة حسنى ، أو مقالة حسنى ، وفي الوصف بها حينئذ وجهان :

أحدهما : أن تكون للتفضيل ، ويكون قد شذّ استعمالها غير معرفة ب «أل» ، ولا مضافة إلى معرفة ، كما شذّ قوله : [البسيط]

٦٢١ ـ وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة

يوما سراة كرام النّاس فادعينا (١)

وقوله : [الرجز]

٦٢٢ ـ في سعي دنيا طالما قد مدّت (٢)

والوجه الثاني : أن تكون لغير التفضيل ، فيكون معنى حسنى : حسنة ك «كبرى» في معنى كبيرة ، أي : وقولوا للناس مقالة حسنة ، كما قال : يوسف أحسن إخوته في معنى حسن إخوته انتهى.

وبهذا يعلم فساد قول النحاس.

وأما من قرأ (٣) : «إحسانا» فهو مصدر وقع صفة لمصدر محذوف ، أي : قولا إحسانا [وفيه تأويل مشهور](٤) ، ف «إحسانا» مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة ، أي : قولا ذا حسن ، كما تقول : أعشبت الأرض ، أي : صارت ذا عشب.

فإن قيل : لم خوطبوا ب «قولوا» بعد الإخبار؟

فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه على طريقة الالتفات ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢].

الثاني : فيه حذف ، أي : قلنا لهم : قولوا.

الثالث : الميثاق لا يكون إلا كلاما كأنه قيل : قلت : لا تعبدوا وقولوا.

__________________

(١) البيت لبشامة بن حزن النهشلي ينظر خزانة الأدب : ٨ / ٣٠١ ، ولسان العرب (جلل) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١٠١ ، وعيون الأخبار : ١ / ٢٨٧ ، وله أو لبعض بني قيس بن ثعلبة في شرح المفصل : ٦ / ١٠١ ، وبلا نسبة في المحتسب : ٢ / ٣٦٣. والدر المصون : ١ / ٢٨٠.

(٢) البيت للعجاج. ينظر ديوانه : (١ / ٤١٠) ، الكشاف : (٤ / ٣٥٣) ، ابن يعيش : (٦ / ١٠٠) ، خزانة الأدب : (٨ / ٩٦) ، ٢٩٨ ، ٢٩٩ ، ٣١٦) ، والدر المصون : ١ / ٢٨٠.

(٣) قرأ بها الكوفيون : عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وستأتي هذه القراءة في «الأحقاف» آية ١٥ ، وقد قرأ بها الجحدري هنا.

انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٢٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٥٣.

(٤) سقط في ب.

٢٣٨

فصل في بيان هل الكفار داخلون في المخاطبة بالحسنى

قال بعضهم : إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين ، أما مع الكفّار والفسّاق فلا ، بدليل أنه يجب لعنهم وذمّهم ومحاربتهم ، فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسنا ، وأيضا قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨] والقائلون بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخا بآية القتال.

ومنهم من قال : إنه دخله التّخصيص.

وزعم أبو جعفر محمد بن علي الباقر أن هذا العموم باق على ظاهره ، ولا حاجة إلى التخصيص ، ويدلّ عليه أن موسى وهارون مع علوّ منصبهما أمرا بالرّفق واللّين مع فرعون ، وكذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالرفق وترك الغلظة بقوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل : ١٢٥].

وقال : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: ١٠٨].

وقوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢].

وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩].

وأما ما تمسكوا به من أنه يجب لعنهم وذمهم.

قلنا : لا نسلّم أنه يجب لعنهم ، وإن سلّمنا لكن لا نسلّم أن اللّعن ليس قولا حسنا.

بيانه : أنّ القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يستهوونه ، بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به ، ونحن إذا لعنّاهم وذممناهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك نافعا في حقهم ، فكان قولا حسنا ، كما أن تغليظ الوالد لولده في القول يكون حسنا ونافعا من حيث يرتدع به عن الفعل القبيح.

سلمنا أنّ لعنهم ليس قولا حسنا ، ولكن لا نسلّم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن.

بيانه : أنه لا منافاة بين كون الشخص مستحقّا للتعظيم بسبب إحسانه إلينا ، ومستحقّا للتحقير بسب كفره ، وإذا كان كذلك ، فلم لا يجوز أن يقال بوجوب القول الحسن معهم ، وأما تمسّكهم بقوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨].

فجوابه : لم يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه [وهو المراد بقوله عليه‌السلام : «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»](١).

__________________

(١) سقط في ب.

٢٣٩

فصل في أن الإحسان كان واجبا عليهم

ظاهر الآية يدلّ على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجبا عليهم في دينهم ، وكذا القول الحسن للناس كان واجبا عليهم ؛ لأن أخذ الميثاق يدلّ على الوجوب ، وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب ، والأمر في شرعنا أيضا كذلك من بعض الوجوه ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه : أن الزّكاة نسخت كلّ حق ، وهذا ضعيف ؛ لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة ، وشاهدناه بهذه الصفة ، فإنه يلزمنا التصدق عليه ، وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزّكاة كان هذا التصدّق واجبا ، ولا شك في وجوب مكالمة الناس بطريق لا يتضررون منه.

قال ابن عبّاس معنى الآية : «قولوا لهم لا إله إلا الله» (١).

وفسّره ابن جريج : «قولوا للناس حسنا صدقا في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تغيّروا صفته».

وقال سفيان الثوري : مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر (٢).

وقال أبو العالية : «قولوا لهم الطّيب من القول ، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به» (٣) ، وهذا كلّه حضّ على مكارم الأخلاق ، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليّنا حسنا ، كما قال تعالى لموسى وهارون : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤].

وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة : «لا تكوني فحّاشة فإنّ الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء» ، ويدخل في هذه الآية المؤمن والكافر.

قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) تقدم نظيره.

وقال ابن عطية : «زكاتهم هي التي كانوا يضعونها ، وتنزل النّار على ما تقبل منه ، ولم تنزل على ما لم يتقبل ، ولم تكن كزكاتنا.

قال القرطبي : «وهذا يحتاج إلى نقل ...».

قوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ).

قال الزمخشري : «وهذا على طريقة الالتفات» وهذا الذي قاله إنما يجيء (٤) على قراءة : «لا يعبدون» بالغيبة ، وأما على قراءة الخطاب (٥) فلا التفات ألبتّة ، ويجوز أن يكون

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٩٦) من طريق الضحاك عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٦٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٩٦) عن سفيان الثوري.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٩٦) عن أبي العالية بلفظ : قولوا للناس معروفا.

(٤) سبقت هذه القراءة.

(٥) وهي قراءة أبي عمرو ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وقد تقدمت.

انظر السبعة : ١٧٢ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٢١.

٢٤٠