اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

فالجواب : أن الفائدة فيه لتكون الحجّة أوكد ، وعن الحيلة أبعد ، فقد كان يجوز في العقل للملحد أن يوهمهم أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما أحياه بضرب من السّحر أو من الحيلة ، فلما حيي بالضرب بقطعة من البقرة المذبوحة فانتفت الشّبهة.

فإن قيل : هلا أمر بذبح غير البقرة؟

فالجواب : أن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيها.

ثم ذكروا فيها فوائد :

أحدها : التقريب بالقرابين التي كانت العادة بها جارية ، ولأن هذا القربان كان عندهم أعظم القرابين ، ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكلفة في تحصيل هذه البقرة.

قيل : على غلاء ثمنها ، ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة.

قوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) «كذلك» في محلّ نصب ؛ لأنه نعت لمصدر محذوف تقديره : يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : إحياء كائنا كذلك الإحياء ، أو لأنه حال من المصدر المعروف ، أي : ويريكم الإراءة حال كونها مشبهة ذلك الإحياء ، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه.

و «الموتى» جمع ميّت ، وفي هذه الإشارة وجهان :

أحدهما : أنها إشارة إلى نفس ذلك الميت.

والثاني : أنها احتجاج على صحّة الإعادة. قال الأصم : إنه على المشركين ؛ لأنه إن ظهر لهم بالتّواتر [أن هذا الإحياء قد كان على هذه الوجه علموا صحّة الإعادة ، وإن لم يظهر ذلك بالتواتر] ، فإنه داعية إلى التفكّر. وقال القفّال : ظاهره يدلّ على أن الله ـ تعالى ـ قال هذا لبني إسرائيل أي : إحياء الله الموتى يكون مثل هذا الذي شاهدتم ؛ لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلّا أنهم لم يؤمنوا به إلّا من طريق الاستدلال ، ولم يشاهدوا شيئا منه ، فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم ، وانتفت عنهم الشّبهة ، فأحيا الله القتيل عيانا ، ثم قال لهم : كذلك يحيي الله الموتى ، أي : كما أحياها في الدّنيا يحييها في الآخرة من غير احتياج إلى مادّة ومثال وآلة التي لا يخلو منها المستدل.

قوله : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) الرؤيا ـ هنا ـ بصرية ، فالهمزة للتعدية أكسبت الفعل مفعولا ثانيا وهو «آياته» ، والمعنى : يجعلكم مبصرين آياته.

و «كم» هو المفعول الأول ، وأصل «يريكم» : يأرإيكم ، فحذفت همزة «أفعل» في المضارعة لما تقدم في (يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٣] وبابه ، [فبقي يرئيكم](١) ، فنقلت حركة الهمزة على «الراء» ، وحذفت «الهمزة» تخفيفا ، وهو نقل لازم في مادة «رأى» وبابه دون

__________________

(١) سقط في ب.

١٨١

غيره مما عينه همزة نحو : «نأى ـ ينأى» ولا يجوز عدم النقل في «رأى» وبابه إلا ضرورة كقوله: [الوافر]

٥٩٢ ـ أري عينيّ ما لم ترأياه

كلانا عالم بالتّرّهات (١)

فصل في نظم الآية

[لقائل أن يقول](٢) : إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات؟

فالجواب : أنها تدلّ على وجود الصانع القادر على المقدورات العالم بكلّ المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وعلى براءة من لم يقتل ، وعلى تعيين القاتل ، فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لمّا دلت على [هذه](٣) المدلولات الكبيرة لا جرم جرت مجرى الآيات.

قوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تقدم تفسير العقل.

قال الواقديّ (٤) : كل ما في القرآن من قوله : (لَعَلَّكُمْ) فهو بمعنى «لكن» إلّا التي في الشعراء : (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) [الشعراء : ١٢٩] فإنه بمعنى [لعلكم](٥) تخلدون فلا تموتون.

فإن قيل : القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآيات عليهم ، وإذا كانوا عقلاء امتنع أن يقال : إني عرضت عليك الآية الفلانية لكي تصير عاقلا [فالجواب أنه](٦) لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها ، بل لا بد من التأويل ، وهو أن يكون المراد : لعلكم تعلمون على [قلة](٧) عقولكم وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا ينكروا المبعث

فصل في توريث القاتل

ذكر كثير من المتقدمين أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا؟

__________________

(١) البيت لسراقة البارقي. ينظر النوادر : (١٨٥) ، الخصائص : (٣ / ١٥٣) ، المحتسب : ١ / ١٢٨ ، اللسان (رأى) ، الأمالي الشجرية : (٢ / ٢٠ ، ٢٠٠) ، ابن يعيش : ٩ / ١١٠ ، مغني اللبيب : (١ / ٢٧٧) ، سر الصناعة : (١ / ٨٦) ، الدر المصون : (١ / ٢٦٣).

(٢) في ب : فإن قيل.

(٣) في ب : صفة.

(٤) محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي بالولاء ، المدني ، أبو عبد الله الواقدي : من أقدم المؤرخين في الإسلام وأشهرهم ، ومن حفاظ الحديث ولد في ١٣٠ ه‍.

من كتبه المغازي النبوية ، الطبقات ، الجمل ، أخبار مكة ، تفسير القرآن وغيرها توفي ٢٠٧ ه‍.

ينظر لسان الميزان : ٥ / ٣٢٠ ، فضل الاعتزال : ٣١٠ ـ ٣١٢ ، الأعلام : ٦ / ٣١١.

(٥) في أ : كأنكم.

(٦) في ب : فإذن.

(٧) في ب : قضية.

١٨٢

قالوا : لا ؛ لأنه روي عن عبيدة السّلماني أن الرجل القاتل في هذه [الواقعة](١) حرم الميراث لكونه قاتلا.

قال القاضي : «لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية ؛ لأنه ليس في ظاهر الآية أن القاتل هل كان وارثا لقتيله أم لا؟ وبتقدير أن يكون وارثا فهل حرم الميراث أم لا؟ وليس يجب إذ روي عن عبيدة أن القاتل حرم الميراث لكونه قاتلا ، أي : بعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدلّ عليه لا مجملا ولا مفصلا ، وإذا كان كذلك لم يثبت أن شرعهم كشرعنا ، وأنه [لا] يلزم الاقتداء لهم.

واستدل مالك بهذه الآية على صحّة القول بالقسامة بقول المقتول : حقّي عند فلان ، أو فلان قتلني.

ومنعه الشافعي وغيره ؛ لأن قول القتيل : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني خبر يحتمل الصدق والكذب ، ودم المدعى عليه معصوم غير مباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاحتمال ، وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة فأخبر تعالى أنه يحييه ، وذكره يتضمن الإخبار بقاتله خبر ما لا يدخله الاحتمال.

قال ابن العربي : المعجزة إنما كانت في إحيائه ، فلما صار حيّا صار كلامه كسائر كلام الناس.

قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٧٤)

قال القفال : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، أي : اشتدت قلوبكم وقست وضلّت من بعد البيّنات التي جاءت أوائلكم ، والعقاب الذي نزل بمن أصرّ على المعصية منهم ، والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم ، فأخبر بذلك عن طغيانهم ، وجفائهم على ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب.

قال : لأنه خطاب مشافهة فحمله على الحاضرين أولى ، ويحتمل أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمان موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ خصوصا. وروي أن ذلك القتيل لما عين القاتل كذبه ، وما ترك الإنكار وساعده عليه جمع ، فتكون الإشارة لقوله بعد ذلك إلى ما أظهره الله ـ تعالى ـ من إحياء القتيل بضربه ببعض البقرة المذبوحة. ويحتمل أن تكون الإشارة إلى جميع ما عدده الله ـ تعالى ـ من النعم العظيمة ،

__________________

(١) في ب : الآية.

١٨٣

والآيات الباهرة التي أظهرها الله ـ تعالى ـ على يد موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنّ أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتها لها ما خلوا من العناد والاعتراض على موسى عليه الصّلاة والسّلام.

فإن قيل : لم أتى ب «ثم» التي تقتضى الترتيب والمهلة ، فقال : «ثم قست» ، وقال : «من بعد ذلك» والبعدية لا تقتضي التعقيب ، وقلوبهم لم تزل قاسية مع رؤية الآية وبعدها؟

فالجواب : أنه أتى ب «من» التي لابتداء الغاية فقال : من بعد ذلك فجعل ابتداء المقصود عقيب رؤية الآيات ، فزالت المهلة.

وقال أبو عبيدة : «معنى قست : جفت».

وقال الواقدي : خفت من الشّدة فلم تكن.

وقال المؤرج : «غلظت».

وقيل : اسودت.

وقال الزجاج : «القسوة ذهاب اللّين والرحمة والخشوع والخضوع».

قوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) «أو» هذه ك «أو» التي في قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩] فكل ما قيل ثمة يمكن القول به هنا ، ولما قال أبو الأسود : [الوافر]

٥٩٣ ـ أحبّ محمّدا حبّا شديدا

وعبّاسا وحمزة أو عليّا (١)

اعترضوا عليه في قوله : «أو» التي تقتضي الشك ، وقالوا له : أشككت؟ فقال : كلا ، واستدل بقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ) [سبأ : ٢٤] فقال : أو كان شاكّا من أخبر بهذا؟ وإنما قصد ـ رحمه‌الله ـ الإبهام على المخاطب.

قال ابن الخطيب : كلمة «أو» للتردد ، وهي لا تليق بعلّام الغيوب ، فلا بد من التأويل وهو من وجوه : أحدها : أنها بمعنى «الواو» كقوله : (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] وقوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَ) [النور : ٣١] وقوله : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) [النور : ٦١] ومن نظائره قوله : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤].

وثانيها : أن المراد : فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة.

[وثالثها : أي : في نظركم واعتقادكم إذا اطلعتم على أحوال قلوبهم قلتم : إنها كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة](٢).

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٧٣) ، والطبري : ٢ / ٢٣٥ ، والقرطبي : ١ / ٣١٣ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٣.

(٢) سقط في ب.

١٨٤

ورابعها : أن «أو» بمعنى «بل» ؛ وقال الشاعر : [الطويل]

٥٩٤ ـ فو الله ما أدري أسلمى تقوّلت

أم النّوم أو كلّ إليّ حبيب (١)

وخامسها : أنه على حد قولك : «ما أكل إلا حلوا أو حامضا» أي : طعامه لا يخرج عن هذين ، وليس الغرض إيقاع التردّد بل نفي غيرهما.

وسادسها : أن «أو» حرف إباحة ، أي : بأي هذين شبّهت قلوبهم كان صدقا كقولهم : «جالس الحسن أو ابن سيرين» أي أيهما جالست كنت مصيبا أيضا. و «أشدّ» مرفوع لعطفه على محل «كالحجارة» أي : فهي مثل الحجارة أو أشد. والكاف يجوز أن تكون حرفا فتتعلّق بمحذوف ، وأن تكون اسما فلا تتعلّق بشيء ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفا أي : أو هي أشد.

و «قسوة» منصوب على التمييز ؛ لأن الإبهام حصل في نسبة التفضيل إليهما ، والمفضل عليه محذوف للدلالة عليه ، أي : أشدّ قسوة من الحجارة.

وقرىء (٢) : «أشدّ» بالفتح ووجهها : أنه عطفها على «الحجارة» أي : فهي كالحجارة أو [كأشد](٣) منها.

قال الزمخشري (٤) موجها للرفع : و «أشد» معطوف على الكاف ، إما على معنى : أو مثل أشد ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وتعضده (٥) قراءة الأعمش بنصب الدال عطفا على «الحجارة» ويجوز على ما قاله أن يكون مجرورا بالمضاف المحذوف ترك على حاله ، كقراءة : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] بجر «الآخرة» أي : ثواب الآخرة ، فيحصل من هذا أن فتحه الدال يحتمل أن تكون للنصب ، وأن تكون للجر.

وقال الزمخشري أيضا : فإن قلت : لم قيل : أشدّ قسوة مما يخرج منه «أفعل» التفضيل وفعل التعجب؟ يعني : أنه [مستكمل](٦) للشروط من كونه ثلاثيّا تاما غير لون ولا عاهة متصرفا غير ملازم للنفي.

ثم قال : قلت : لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة ، ووجه آخر وهو ألّا يقصد معنى الأقسى ، ولكنه [قصد](٧) وصف القسوة بالشدة ، كأنه قيل «اشتدت قسوة الحجارة ، وقلوبهم أشد قسوة».

__________________

(١) ينظر لسان العرب (درك) ، (أمم) ، والدرر : ٦ / ١٠٢ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٣٣ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ١٢٦ ، والأزهية : ص ١٢٩.

(٢) قرأ بها الأعمش ، وأبو حيوة.

انظر الشواذ : ٧ ، والتخريجات النحوية : ١٣٢ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٣.

(٣) في أ : أشد.

(٤) ينظر الكشاف : ١ / ١٥٥.

(٥) تقدمت هذه القراءة.

(٦) في ب : مكتمل.

(٧) سقط في أ.

١٨٥

وهذا الكلام حسن ، إلا أن كون «القسوة» جوز بناء التعجّب منها فيه نظر من حيث إنها من الأمور الخلقية أو من العيوب ، وكلاهما ممنوع منه بناء البابين.

وقرىء (١) : «قساوة».

فصل في أوجه شدة القسوة من الحجارة

إنما وصفها بأنها أشد قسوة من الحجارة لوجوه :

أحدها : أن الحجارة لو كانت عاقلة ، ورأت هذه الآية لقبلتها كما قال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١].

وثانيها : أن الحجارة ليس فيها امتناع لما يحدث فيها من أمر الله فقال : وإن كانت قاسية ، بل منصرفة على مراد الله ـ تعالى ـ غير ممتنعة ، وهؤلاء مع ما وصفنا في اتّصال الآيات عندهم ، وتتابع نعم الله عليهم يمتنعون من الطاعة ، ولا تلين قلوبهم بمعرفة حق الله.

وثالثها : أن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه ، أما قلوب هؤلاء فلا نفع منها ألبتة.

فصل في الرد على المعتزلة

قال القاضي : إن كان الدّوام على الكفر مخلوق فيهم ، فكيف يحسن ذمهم؟ فلو قال : إن الذي خلق الصّلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القسوة ، والخالق في الأحجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكفر بخلق الإيمان فينا ، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجّتهم على موسى أوكد من حجّته عليهم ، وهذا النمط قد تكرر مرارا.

قوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ).

واعلم أنه ـ سبحانه وتعالى ـ فضّل الحجارة على قلوبهم بأنه قد يحصل في الحجارة أنواع من المنافع ، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع.

فأولها : قوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) واللّام في «لما» لام الابتداء دخلت على اسم «إن» لتقدم الخبر ، وهو «من الحجارة» ، وهي «ما» التي بمعنى «الذي» في محلّ النصب ، ولو لم يتقدم الخبر لم يجز دخول اللام على الاسم ؛ لئلّا يتوالى حرفا تأكيد ، وإن كان الأصل يقتضي ذلك ، والضمير في «منه» يعود على «ما» حملا على اللفظ.

قال أبو البقاء : ولو كان في غير القرآن لجاز «منها» على المعنى.

__________________

(١) وهي قراءة أبي حيوة.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٣.

١٨٦

وهذا الذي قاله قد قرأ به (١) أبّي بن كعب والضحاك.

وقرأ (٢) مالك بن دينار (٣) «ينفجر» من الانفجار.

وقرأ قتادة (٤) : «وإن من الحجارة» بتخفيف «إن» من الثقيلة ، وأتى باللام فارقة بينها وبين «إن» النافية ، وكذلك : «وإن منها لما يشّقّق» و «إن منها لما يهبط» ، وهذه القراءة تحتمل أن تكون «ما» فيها في محل رفع وهو المشهور ، وأن تكون في محلّ نصب ؛ لأن «إن» المخففة سمع فيها الإعمال والإهمال ، قال تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) [هود : ١١١] في قراءة من قرأه.

وقال في موضع آخر : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا) [يس : ٣٢] إلا أن المشهور الإهمال.

والتفجير : الفتح بالسّعة والكثرة ؛ يقال : انفجرت قرحة فلان أي : انشقت بالمدّة ، ومنه : الفجر والفجور.

فصل في تولد الأنهار

قالت الحكماء : الأنهار إنما تتولّد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض ، فإن كان ظاهر الأرض رخوا انشقت تلك الأبخرة وانفصلت ، وإن كان ظاهر الأرض صلبا حجريّا اجتمعت تلك الأبخرة ، ولا يزال يتصل بعضها ببعض حتى تكثر كثرة عظيمة ، فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مدّها أن تنشقّ الأرض ، وتسيل تلك المياه أودية وأنهارا.

قوله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) أي : وإنّ من الحجارة لما يتصدّع ، فينبع الماء منه فيكون عينا لا نهرا جاريا.

و «يشّقّق» أصله : يتشقّق ، فأدغم وبالأصل قرأ الأعمش ، وقرأ (٥) طلحة بن

__________________

(١) أي قرأ أبي : «منها» ، وكذلك قرأ الضحاك. وقراءة الجمهور حمل على اللفظ ؛ لأن «ما» لها هنا لفظ ومعنى ؛ لأن المراد به : الحجارة ، ولا يمكن أن يراد به مفرد المعنى ، فيكون لفظه ومعناه واحدا ؛ إذ ليس المعنى : وإنّ من الحجارة للحجر الذي يتفجر منه الماء ، إنما المعنى للأحجار التي يتفجر منها الأنهار ، كما مر أنّ قراءة أبيّ حمل على المعنى.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٣١ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤.

(٢) انظر البحر المحيط : ١ / ٤٣١ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٦٧.

(٣) مالك بن دينار أبو يحيى البصري وردت الرواية عنه في حروف القرآن سمع أنس بن مالك ، قال القتبي كان يكتب المصاحف بالأجرة وكان من أحفظ الناس للقرآن وكان يقرأ كل يوم جزءا من القرآن حتى يختم فإن أسقط حرفا قال : بذنب مني وما الله بظلام للعبيد ، مات سنة سبع وعشرين ومائة.

ينظر الغاية : ٢ / ٣٦ (٢٦٤٣).

(٤) انظر : المحرر الوجيز : ١ / ١٦٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤ ، والقرطبي : ١ / ٣١٥.

(٥) انظر قراءة الأعمش في البحر المحيط : ١ / ٤٣١ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤ ، والتخريجات النحوية : ص ٣٥٦. ـ

١٨٧

مصرف : «لمّا» بتشديد «الميم» في الموضعين قال ابن عطية (١) : «وهي قراءة غير متّجهة».

وقرأ أيضا (٢) : «ينشقّ» بالنون وفاعله ضمير «ما».

وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون فاعله ضمير «الماء» ؛ لأن «يشّقّق» يجوز أن يجعل ل «الماء» على المعنى ، فيكون معك فعلان ، فيعمل الثاني منهما في الماء ، وفاعل الأول مضمر على شريطة التفسير.

وعند الكوفيين يعمل الأول ، فيكون في الثاني ضمير ، يعني : أنه من باب التنازع ، ولا بد من حذف عائد من «يشقق» على «ما» الموصولة دلّ عليه قوله : «منه» ، والتقدير : وإن من الحجارة لما يشقق الماء منه ، فيخرج الماء منه.

وقال أيضا : ولو قرىء : «تتفجّر» بالتاء جاز. قال أبو حاتم : يجوز «لما تتفجر» بالتاء ؛ لأنه أنثه بتأنيث الأنهار ، وهذا لا يكون في «تشقق» يعني التأنيث.

قال النّحّاس : يجوز ما أنكره على المعنى ، لأن المعنى : وإن منها الحجارة تتشقق يعني فيراعى به معنى «ما» ، فإنها واقعة على الحجارة.

قوله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ).

قال أبو مسلم : «الضمير في قوله : (وَإِنَّ مِنْها) راجع إلى «القلوب» ، فإنه يجوز عليها الخشية ، والحجارة لا يجوز عليها الخشية. وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة ، وأقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين إلّا أنّ هذا الوصف أليق بالقلوب من الحجارة ، فوجب رجوع الضمير إلى «القلوب» دون «الحجارة» ، وفيه بعد لتنافر الضّمائر.

وقال جمهور المفسرين : الضمير عائد إلى «الحجارة».

وقالوا : يجوز أن يكون حقيقة على معنى أن الله خلق فيها قابليّة لذلك ، وأن المراد من ذلك جبل موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين تقطع وتجلّى له ربه ، وذلك لأن الله ـ

__________________

ـ وانظر في قراءة طلحة بن مصرف المحرر الوجيز : ١ / ١٦٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٣٠ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤.

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٧.

(٢) أي طلحة بن مصرف ، قال أبو حيان : «وفي النسخة التي وقفت عليها من تفسير ابن عطية ما نصه : وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون وقافين ، والذي يقتضيه اللسان أن يكون بقاف واحدة مشددة ، وقد يجيء الفك في شعر ، فإن كان المضارع مجزوما جاز الفك فصيحا ، وهو هنا مرفوع فلا يجوز الفك ، إلا أنها قراءة شاذة ، فيمكن أن يكون ذلك فيها ، وأما أن يكون المضارع بالنون مع القافين وتشديد الأولى منهما فلا يجوز ...».

انظر البحر المحيط : ١ / ٤٣١ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٦٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤ ، وفيه قراءة ابن مصرف هكذا : «ينشقّ».

١٨٨

تعالى ـ خلق فيه الحياة والعقل والإدراك ، وهذا غير مستعبد في قدرة الله تعالى.

ونظيره قوله تعالى : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢١].

فكما جعل الجلد ينطق ويسمع ويعقل ، فكذلك الجبل وصفه بالخشية.

وقال أيضا : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١].

وروي أنه حنّ الجذع لصعود رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المنبر ، ولما أتى الوحي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول المبعث ، وانصرف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى منزله سلمت عليه الحجارة فكلها كانت تقول : السّلام عليك يا رسول الله.

قال مجاهد : ما تردّى حجر من رأس جبل ، ولا تفجّر نهر من حجر ، ولا خرج منه ماء إلّا من خشية الله ، نزل بذلك القرآن ، ومثله عن ابن جريج (١) وثبت عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «إنّ حجرا كان يسلّم عليّ في الجاهليّة إنّي لأعرفه الآن» (٢). وروي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : قال لي ثبير : اهبط ؛ فإنّي أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذّبني الله فناداه حراء : «إليّ يا رسول الله» (٣) وقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) [الأحزاب : ٧٢] الآية.

وأنكرت المعتزلة ذلك ، ولا يلتفت إليهم ؛ لأنه لا دليل لهم إلا مجرد الاستبعاد.

لو قال بعض المفسّربن : الضمير عائد إلى «الحجارة» و «الحجارة» لا تعقل ، ولا تفهم ، فلا بدّ من التأويل ، فقال بعضهم : إسناد الهبوط استعارة ؛ كقوله : [الكامل]

٥٩٥ ـ لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع (٤)

وقوله : (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي : ذلك الهبوط لو وجد من العاقل لكان به خاشيا لله ، وهو كقوله تعالى : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] أي جدارا قد ظهر فيه الميلان

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٤٠) عن مجاهد.

(٢) أخرجه مسلم في «صحيحه» (٤ / ١٧٨٢) كتاب الفضائل (٤٣) رقم (٢ / ٢٢٧٧) وأحمد (٥ / ٨٩ ، ٩٥) والدارمي (١ / ١٢) وابن أبي شيبة (١١ / ٤٦٤) والطبراني في «الكبير» (٢ / ٢٥٧) والصغير (١ / ٦٢) والبيهقي (٢ / ١٥٣) وابن عساكر (٢ / ١٥٣).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١ / ٤٦٦).

(٤) البيت لجرير ينظر ديوانه : ص ٩١٣ ، والأشباه والنظائر : ٢ / ١٠٥ ، ٢٢٠ ، ٢٥ ، وجمهرة اللغة : ص ٧٢٣ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٢١٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٢٥٧ ، والكتاب : ١ / ٥٢ ، ولسان العرب (حرث) ، (سور) ، (أفق) ، ولجرير أو للفرزدق في سمط اللآلي : ص ٣٧٩ ، ٩٢٢ ، وليس في ديوان الفرزدق ، وفي الخصائص : ٢ / ٤١٨ ، ورصف المباني : ص ١٦٩ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ٢٦٧ ، والمقتضب : ٤ / ١٩٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٤.

١٨٩

ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حيّ مختار ، لكان مريدا للانقضاض ، ونحو هذا قوله : [الطويل]

٥٩٦ ـ بخيل تضلّ البلق في حجراته

ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر (١)

فجعل ما ظهر في الأكم من أثر الحوافر من عدم امتناعها من دفع ذلك عن نفسها كالسّجود منها للحوافر.

الوجه الثاني من التأويل : قوله : (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي : من الحجارة ما ينزل ، وما يشقق ، ويتزايل بعض عن بعض عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خشية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة.

وتحقيقه أنه كان المقصود الأصلي من إهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل الخشية في القلوب.

الوجه الثالث : قال الجبّائي : «الحجارة» البرد الذي يهبط من السحاب تخويفا من الله ـ تعالى ـ لعباده ليزجرهم به.

قال : وقوله : (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي : خشية الله ، أي : ينزل بالتخويف للعباد ، أو بما يوجب الخشية لله ، كما تقول : نزل القرآن بتحريم كذا ، وتحليل كذا ، أي : بإيجاب ذلك على الناس.

قال القاضي : هذا التأويل ترك للظّاهر من غير ضرورة ؛ لأن البرد لا يوصف بالحجارة ؛ لأنه ماء في الحقيقة.

قوله : (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) منصوب المحلّ متعلق ب «يهبط» ، و «من» للتعليل.

وقال أبو البقاء : «من» في موضع نصب ب «يهبط» ، كما تقول : يهبط بخشية الله ، فجعلها بمعنى «الباء» [المعدية](٢) وهذا فيه نظر لا يخفى.

و «خشية» مصدر مضاف للمفعول تقديره : من أن يخشى الله ، وإسناد الهبوط إليها استعارة ؛ كقوله : [الكامل]

٥٩٧ ـ لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع (٣)

ويجوز أن يكون حقيقة على معنى : أن الله خلق فيها قابليّة لذلك.

وقيل : الضمير في «منها» يعود على «القلوب» ، وفيه بعد لتنافر الضمائر.

__________________

(١) تقدم برقم (٣٧٨).

(٢) في ب : المقدمة.

(٣) البيت لجرير. ينظر ديوانه : (٢٤٥) ، الخصائص : ٢ / ٤١٨ ، الكامل : (٤٨٦) ، ورصف المباني :

(١٦٩) ، الأضداد : (٢٩٦) اللسان (سور) ، الدر المصون : ١ / ٢٦٤.

١٩٠

قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) قد تقدم في قوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

قال القرطبي : «بغافل» في موضع نصب على لغة «الحجاز» ، وعلى لغة «تميم» في موضع رفع.

قوله : (عَمَّا تَعْمَلُونَ) متعلّق ب «غافل» ، و «ما» موصولة اسمية ، والعائد الضمير ، أي : تعملونه ، أو مصدرية فلا يحتاج إليه أي : عن عملكم ، ويجوز أن يكون واقعا موقع المفعول به ، ويجوز ألّا يكون.

وقرىء (١) : «يعملون» بالياء والتاء.

فصل في المقصود بالآية

والمعنى : أن الله بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم ، وحافظ لأعمالهم محص لها ، فهو مجازيهم بها وهو كقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم : ٦٤] وهذا وعيد وتخويف كبير.

فإن قيل : هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل؟

قال القاضي : لا يصح ؛ لأنه يوهم جواز الغفلة عليه ، وليس الأمر كذلك ؛ لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحّتها عليه ، بدليل قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤].

قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٧٥)

قال القرطبي : هذا استفهام فيه معنى الإنكار ، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود.

ويقال : طمع فيه طمعا وطماعية ـ مخفف ـ فهو طمع على وزن «فعل» وأطمعه فيه غيره.

ويقال في التعجب : طمع الرّجل ـ بضم الميم ـ أي : صار كثير الطّمع.

والطمع : رزق الجند ، يقال : أمر لهم الأمير بأطماعهم ، أي : بأرزاقهم.

وامرأة مطماع : تطمع ولا تمكّن.

فصل في قبائح اليهود

لما ذكر قبائح أفعال أسلاف اليهود شرع في قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام.

__________________

(١) وهي قراءة ابن كثير.

انظر السبعة : ١٦٠ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ١١٠ ، والعنوان : ٧٠ ، وحجة القراءات : ١٠١ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٨ ، وشرح شعلة : ٢٦٦ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٠.

١٩١

قال القفّال رحمه‌الله : إن فيما ذكره الله ـ تعالى ـ في [سورة البقرة](١) من أقاصيص بني إسرائيل وجوها من المقاصد.

أحدها : الدلالة بها على صحّة نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه أخبر عنها من غير تعلّم ، وذلك لا يكون إلا بالوحي ، ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب.

أما أهل الكتاب فكانوا يعلمونها ، فلما سمعوها من محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ من غير تفاوت ، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوحي.

وأما العرب فلما [شاهدوا](٢) من أن أهل الكتاب يصدقون محمدا في هذه الأخبار ، فلم يكونوا يسمعون هذه الأخبار إلّا من علماء أهل الكتاب ، فيكون ميلهم إلى الطّاعة أقرب.

وثانيها : تعديد النّعم على بني إسرائيل ، وما منّ الله به على أسلافهم من أنواع النعم ، كالإنجاء من آل فرعون بعد استبعادهم ، وتصيير أبنائهم أنبياء وملوكا ، وتمكينهم في الأرض ، وفرق البحر لهم ، وإهلاك عدوّهم ، وإنزال التوراة والصّفح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العجل ، ونقض المواثيق ، ومسألة النّظر إلى الله جهرة ، ثم ما أخرجه لهم في التّيه من الماء من الحجر ، وإنزال المنّ والسّلوى وتظليل الغمام من حرّ الشمس ، فذكّرهم بهذه النعم كلها.

وثالثها : إخبار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقديم كفرهم وخلافهم ، وتعنّتهم على الأنبياء ، وعنادهم ، وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم ، وذلك لأنهم بعد مشاهدتهم الآيات الباهرة عبدوا العجل بعد مفارقة موسى بمدّة يسيرة ، ولما أمروا بدخول الباب سجّدا وأن يقولوا حطّة ، ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ، ويزيد في ثواب محسنهم ، فبدلوا القول وفسقوا ، وسألوا الفوم والبصل بدل المنّ والسّلوى ، وامتنعوا من قبول التوراة بعد إيمانهم بموسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ وأخذ منهم المواثيق أن يؤمنوا به حين رفع فوقهم الجبل ، ثم استحلّوا الصيد في السّبت واعتدوا ، ثم أمروا بذبح البقرة ، فشافهوا موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقولهم : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً).

ثم لما شاهدوا إحياء الموتى ازدادوا قسوة ، فكأن الله ـ تعالى ـ يقول : إذا كانت هذه أفعالهم مع نبيهم الذي أعزّهم الله به ، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمدا عليه الصلاة والسلام ، فليهن عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم ، وإعراضهم عن الحق.

ورابعها : تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من نزول العذاب عليهم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة.

__________________

(١) في ب : هذه السورة.

(٢) في ب : يشاهدون.

١٩٢

وخامسها : الاحتجاج على من أنكر الإعادة من مشركي العرب مع إقراره بالابتداء كما في قوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) [البقرة : ٧٣].

فصل في تسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

اعلم أن المراد تسلية رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما يظهر من أهل الكتاب في زمانه من قلّة القبول فقال : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ).

قال الحسن : هو خطاب مع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمؤمنين (١).

قال القاضي : وهذا الأليق بالظاهر ، وإن كان الأصل في الدّعاء ، فقد كان من الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان ، ويظهر لهم الدلائل. قال ابن عبّاس : إنه خطاب مع النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ خاصّة ؛ لأنه هو الدّاعي ، وهو المقصود بالاستجابة. واللفظة وإن كانت للعموم لكن حملناها على هذا الخصوص لهذه [القرينة](٢).

روي أنه حين دخل «المدينة» ، ودعا اليهود إلى كتاب الله ، وكذبوه ، فأنزل الله ـ تعالى ـ وسبب هذا الاستعباد ما ذكرناه أي : أتطمعون أن يؤمنوا مع أنهم ما آمنوا بموسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ الذي كان هو السبب في خلاصهم من الذّل ، وفضلهم على الكل بظهور المعجزات المتوالية على يده ، مع ظهور أنواع العذاب على المتمردين ، فأي استبعاد في عدم إيمان هؤلاء.

فصل في إعراب الآية

قوله : (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) ناصب ومنصوب ، وعلامة النصب حذف النون والأصل في «أن» وموضعها نصب أو جر على ما عرف ، وعدي «يؤمنوا» باللّام لتضمّنه معنى أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم قاله الزمخشري.

فإن قيل : ما معنى الإضافة في قوله : (يُؤْمِنُوا لَكُمْ) والإيمان إنما هو لله؟

فالجواب : أن الإيمان ـ وإن كان لله ـ فهم الدّاعون إليه كما قال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [العنكبوت : ٢٦] لما آمن بنبوّته وتصديقه ، ويجوز أن يراد أن يؤمنوا لأجلكم ، ولأجل تشدّدكم في دعائهم. قوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) «الواو» : للحال.

قال بعضهم : وعلامتها أن يصلح موضها «إذ» ، والتقدير : أفتطمعون في إيمانهم ، والحال أنهم كاذبون محرفون لكلام الله تعالى.

و «قد» مقربة للماضي من الحال سوّغت وقوعه حالا.

و «يسمعون» خبر «كان».

__________________

(١) أخرجه ابن إسحاق وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (١ / ١٥٦) عن ابن عباس.

(٢) في أ : الآية.

١٩٣

و «منهم» في محلّ (١) رفع صفة ل «فريق» ، أي : فريق كائن منهم.

قال سيبويه : واعلم أن ناسا من ربيعة يقولون : «منهم» بكسر الهاء إتباعا لكسرة الميم. ولم يكن المسكن حاجزا حصينا عندهم.

و «الفريق» اسم جمع لا واحد له من لفظه ك «رهط وقوم» ، وجمعه في أدنى العدد «أفرقة» ، وفي الكثير «أفرقاء».

و «يسمعون» نعت ل «فريق» ، وفيه بعد ، و «كان» وما في حيّزها في محلّ نصب على ما تقدم.

وقرىء (٢) : «كلم الله» وهو اسم جنس واحدة كلمة ، وفرّق النحاة بين الكلام والكلم ، بأن الكلام شرطه الإفادة ، والكلم شرطه التركيب من ثلاث فصاعدا ؛ لأنه جمع في المعنى ، وأقلّ الجمع ثلاثة ، فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه ، وهل «الكلام» مصدر أو اسم مصدر؟ خلاف.

والمادة تدل على التأثير ، ومنه الكلم وهو الجرح ، والكلام يؤثر في المخاطب.

قال الشاعر : [المتقارب]

٥٩٨ ـ ..........

وجرح اللّسان كجرح اليد (٣)

ويطلق الكلام لغة على الخطّ والإشارة ؛ كقوله : [الطويل]

٥٩٩ ـ إذا كلّمتني بالعيون الفواتر

رددت عليها بالدّموع البوادر (٤)

وعلى النفساني ؛ قال الأخطل : [الكامل]

٦٠٠ ـ إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللّسان على الفؤاد دليلا (٥)

وقيل : لم يوجد هذا البيت في ديوان الأخطل.

__________________

(١) زاد في أ : نصب خبرا ل «كان» ، وهذا ضعيف.

(٢) قرأ بها الأعمش.

انظر المحتسب : ١ / ٩٣ ، والكشاف : ١ / ١٥٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٦٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٣٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٥ ، والتخريجات النحوية : ١٨٤.

(٣) عجز بيت لامرىء القيس وصدره :

لو عن تشا غيره جاءني

ينظر ديوانه : ص (١٨٥) ، الخصائص : ١ / ٢١ ، مفردات الراغب : (٤٣٩) ، الدر المصون : (١ / ٢٦٥).

(٤) ينظر شرح الجمل : (١ / ٨٧) ، الدر المصون : (١ / ٢٦٥).

(٥) ينظر شرح المفصل : (١ / ٢١) ، الشذور : (٢٨) ، شرح الجمل للزجاجي : (١ / ٨٧) ، الدر المصون : (١ / ٢٦٥).

١٩٤

وأما عند النحويين [فيطلق](١) على اللّفظ المركب المفيد بالوضع.

و «ثم» للتراخي إما في الزمان أو الرتبة.

و «التحريف» : الإمالة والتحويل ، وأصله من الانحراف عن الشيء ، ويقال : قلم محرّف إذا كان مائلا.

قوله : (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) متعلق ب «يحرفونه» ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، أي : ثم يحرفون الكلام من بعد المعنى الذي فهموه وعرفوه ، ويجوز أن تكون مصدرية.

والضمير في «عقلوه» يعود حينئذ على الكلام أي : من بعد تعقلهم إياه.

قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة حالية ، وفي العامل قولان :

أحدهما : «عقلوه» ، ولكن يلزم منه أن تكون حالا مؤكدة ؛ لأن معناها قد فهم من قوله: «عقلوه».

والثاني وهو الظاهر : أنه «يحرفونه» ، أي : يحرفونه حال علمهم بذلك.

فصل في تعيين الفريق

قال بعضهم : الفريق من كان في زمن موسى عليه الصّلاة والسّلام ؛ لأنه وصفهم بأنهم سمعوا كلام الله ، والذين سمعوا كلام الله هم أهل الميقات.

قال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السّبعين المختارين الذين ذهبوا مع موسى ـ عليه الصلا والسلام ـ إلى الميقات ، وسمعوا كلام الله ، وأمره ونهيه ، فلما رجعوا إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم ، وأما الصادقون منهم فأدّوا كما سمعوا (٢).

قالت طائفة منهم : سمعنا الله في آخر كلامه يقول : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم ألّا تفعلوا فلا بأس.

قال القرطبي : ومن قال : إنّ السبعين سمعوا كما سمع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد أخطأ ، وأذهب بفضيلة موسى ، واختصاصه بالتكليم.

وقال السّدّي وغيره : لم يطيقوا سماعه ، واختلطت أذهانهم ، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم ، فلمّا فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان موسى عليه الصلاة والسّلام ، كما قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦].

ومنهم من قال : المراد بالفريق من كان في زمن محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما غيّروا آية

__________________

(١) في أ : فلا يطلق.

(٢) ذكره الفخر الرازي : ٣ / ١٢٤.

١٩٥

الرجم ، وصفة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهم يعلمون أنهم كاذبون ، وهو قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسدي وهذا أقرب ؛ لأن الضمير في قوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) راجع إلى ما تقدم من قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) والذي تعلّق الطبع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام.

وقولهم : الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا الميقات ممنوع ؛ لأن من سمع التوراة والقرآن يجوز أن يقال : إنه سمع كلام الله.

فإن قيل : كيف يلزم من إقدام البعض على التّحريف حصول اليأس من إيمان الباقين ، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين؟

أجاب القفّال فقال : يحتمل أن يكون المعنى كيف يؤمن هؤلاء ، وهم إنما يأخذون دينهم ، ويتعلمونه من علمائهم وهم قوم يتعمدون التحريف عنادا ، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وعرفوه.

فصل في كلام القدرية والجبرية

قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) استفهام على سبيل الإنكار ، فكان ذلك جزما بأنهم لا يؤمنون ألبتة ، وإيمان من أخبر الله ـ تعالى ـ عنهم بأنه لا يؤمن ممتنع ، فحينئذ تعود الوجوه المذكورة للقدرية والجبرية.

قال القاضي : قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) يدل على أن إيمانهم من قلبهم ؛ لأنه لو كان بخلق الله ـ تعالى ـ فيهم لكان لا يتغيّر حال الطمع فيهم بصفة الفريق الذي تقدّم ذكرهم ، ولما صحّ كون ذلك تسلية للرسول وللمؤمنين ؛ لأن الإيمان موقوف على خلقه ـ تعالى ـ ذلك ، وزواله موقوف على ألا يخلقه فيهم.

وأيضا إعظامه ـ تعالى ـ لكذبهم في التحريف من حيث فعلوه ، وهم يعلمون صحته.

وإضافته ـ تعالى ـ التحريف إليهم على وجه الذم يدلّ على ذلك ، واعلم أن الكلام عليه قد تقدم جوابه مرارا.

فصل في ذم العالم المعاند

قال أبو بكر الرازي : الآية تدلّ على أن العالم المعاند أبعد من الرّشد ، وأقرب إلى اليأس من الجاهل ؛ لأن تعمّده التحريف مع العلم بما فيه من العذاب يكون أشد قسوة ، وأعظم جناية.

فصل في بيان أنهم إنما فعلوا ذلك لأغراض

فإن قيل : إنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض كما قال تعالى : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً

١٩٦

قَلِيلاً) [آل عمران : ١٨٧] وقال : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦].

قال ابن الخطيب : ويجب أن يكونوا قليلين ؛ لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم كتمان ما يعتقدون ؛ لأنا إن جوزنا ذلك لم نعلم المحق من المبطل ، إن كثر العدد.

فإن قيل : قوله : (عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تكرار.

أجاب القفّال ـ رضي الله عنه ـ بوجهين :

أحدهما : «من بعد ما عقلوا مراد الله ـ تعالى ـ منه» ، فأوّلوه تأويلا فاسدا يعلمون أنه غير مراد الله تعالى.

والثاني : أنهم عقلوا مراد الله تعالى ، وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم العذاب والعقوبة من الله تعالى.

واعلم أن المقصود من ذلك تسلية الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى.

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٧)

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا لهم : آمنا بالذي آمنتم به ، ونشهد أنّ صاحبكم صادق ، وأنّ قوله حقّ ، ونجده بنعته وصفته في كتابنا ، ثم إذا خلا بعضهم إلى بعض قال الرؤساء كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، ووهب بن يهودا وغيرهم أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نعته وصفته ليحاجوكم به (١).

قال القفّال ـ رحمه‌الله تعالى ـ في قوله تعالى : (فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ :) مأخوذ من قولهم : فتح الله على فلان في علم كذا أي [رزقه الله ذلك](٢) وسهل له طلبه.

قال الكلبي : بما قضى الله عليكم في كتابكم أن محمدا حق ، وقوله صدق ، ومنه قيل للقاضي : الفتّاح بلغة «اليمن».

وقال الكسائي : ما بيّنه الله عليكم.

وقال الواقدي : بما أنزل الله عليكم نظيره (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] أي : أنزلنا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٥١) عن ابن عباس.

(٢) في أ : رزق ذلك.

١٩٧

وقال أبو عبيدة والأخفش : بما منّ الله عليكم به ، وأعطاكم من نصركم على عدوكم.

وقيل : بما فتح الله عليكم أي : أنزل من العذاب ليعيروكم به ، ويقولون فمن أكرم على الله منكم.

وقال مجاهد والقاسم بن أبي بزّة : هذا قول يهود «قريظة» بعضهم لبعض حين سبهم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال : «يا إخوان القردة والخنازير وعبد الطّاغوت» فقالوا : من أخبر محمدا بهذا؟ ما خرج هذا إلّا منكم (١).

وقيل : الإعلام والتبيين بمعنى : أنه بيّن لكم صفة محمد عليه الصلاة والسلام.

فصل في إعراب الآية

قد تقدّم الكلام على نظير قوله : (وَإِذا لَقُوا) في أول السورة وهذه الجملة الشرطية تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون مستأنفة كاشفة عن أحوال اليهود والمنافقين.

والثاني : أن تكون في محلّ نصب على الحال معطوفة على الجملة الحالية قبلها وهي : «وقد كان فريق» والتقدير : كيف تطمعون في إيمانهم وحالهم كيت وكيت؟

وقرأ (٢) ابن السّميفع : «لاقوا» وهو بمعنى «لقوا» فاعل بمعنى فعل نحو : «سافر» وطارقت النعل :

وأصل «خلا» : «خلو» قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وتقدم معنى «خلا» و «إلى» في أول السورة.

قوله : (بِما فَتَحَ اللهُ) متعلق ب «التحديث» قبله ، و «ما» موصولة بمعنى «الذي» والعائد محذوف ، أي : فتحه.

وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة أو مصدرية ، أي : شيء فتحه ، فالعائد محذوف أيضا ، أو بفتح الله عليكم.

وفي جعلها مصدرية إشكال من حيث إنّ الضمير في قوله بعد ذلك : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) عائد على «ما» و «ما» المصدرية حرف لا يعود عليها ضمير على المشهور ، خلافا للأخفش ، وأبي بكر بن السراج ، إلّا أن يتكلّف فيقال : الضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) أو من قوله : «فتح» ، أي : ليحاجّوكم بالتحديث الذي حدّثتموهم ، أو بالفتح الذي فتحه الله عليكم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٥٢) عن مجاهد.

(٢) انظر البحر المحيط : ١ / ٤٣٩ ، الدر المصون : ١ / ٢٦٦.

١٩٨

والجملة في قوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) في محلّ نصب بالقول ، قال القرطبي : ومعنى فتح : حكم.

والفتح عند العرب : القضاء والحكم ، ومنه قوله تعاللى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [الأعراف : ٨٩] أي : الحاكمين. والفتاح : القاضي بلغة «اليمن» ، يقال : بيني وبينك الفتّاح ، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم.

والفتح : النصر ، ومنه قوله : (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] وقوله: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال : ١٩].

قوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ) أي : ليخاصموكم ، ويحتجوا بقولكم عليكم ، وهذه اللام تسمى لام «كي» بمعنى أنها للتعليل ، كما أن «كي» كذلك لا بمعنى أنها تنصب ما بعدها بإضمار ب «كي» كما سيأتي ، وهي حرف جر ، وإنما دخلت على الفعل ؛ لأنه منصوب ب «أن» المصدرية مقدّرة بعدها ، فهو معرب بتأويل المصدر أي : للمحاجّة ، فلم تدخل إلّا على اسم ، لكنه غير صريح.

والنصب ب «أن» المضمرة كما تقدم لا ب «كي» خلافا لابن كيسان والسّيرافي ، وإن ظهرت بعدها نحو قوله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) [الحديد : ٢٣] لأن «أن» هي أم الباب ، فادعاء إضمارها أولى من غيرها.

وقال الكوفيون : النّصب ب «اللام» نفسها ، وأن ما يظهر بعدها من «كي» ، ومن «أن» إنما هو على سبيل التأكيد ، وللاحتجاج موضع غير هذا.

ويجوز إظهار «أن» وإضمارها بعد هذه «اللام» إلّا في صورة واحدة ، وهي إذا وقع بعدها «لا» نحو قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) [الحديد : ٢٩] (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) [البقرة : ١٥٠] وذلك لما يلزم من توالي لامين ، فيثقل اللفظ.

والمشهور في لغة العرب كسر هذه اللام ؛ لأنها حرف جر ، وفيها لغة شاذة وهي الفتح.

قال الأخفش : «لأن الفتح الأصل».

قال خلف الأحمر : هي لغة بني العنبر. وهذه اللام متعلّقة بقوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ).

وذهب بعضهم إلى أنها متعلّقة ب «فتح» وليس بظاهر ؛ لأن المحاجّة ليست علّة للفتح ، وإنما هي نشأت عن التحديث ، اللهم إلا أن يقال : تتعلّق به على أنها لام العاقبة ، وهو قول قيل به ، فصار المعنى أن عاقبة الفتح ومآله صار إلى أن يحاجّوكم.

أو تقول : إن اللّام لام العلّة على بابها ، وإنما تعلّقت ب «فتح» ؛ لأنه سبب للتحديث ، والسبب والمسبب في هذا واحد.

والحجّة : الكلام المستقيم على الإطلاق ، ومن ذلك محجّة الطريق ، وحاججت

١٩٩

فلانا [فحججته] أي : غالبته ، ومنه الحديث : «فحجّ آدم موسى» (١) ، وذلك لأن الحجّة نفي الطّريق المسلوك الموصّلة للمراد.

والضمير في «به» يعود على «ما» من قوله تعالى : (بِما فَتَحَ اللهُ) وقد تقدم أنه يضعف القول بكونها مصدرية ، وأنه يجوز أن يعود على أحد المصدرين المفهومين من «أتحدّثونهم» و «فتح».

قوله : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) ظرف معمول لقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ) بمعنى : ليحاجّوكم يوم القيامة ، فيكون ذلك زائدا في ظهور فضيحتكم على رؤوس الخلائق في الموقف ، فكنى عنه بقوله : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) قاله الأصم وغيره.

وقال الحسن : «عند» بمعنى «في» أي : ليحاجّوكم في ربكم أي : فيكونون أحقّ به منكم.

وقيل : ثم مضاف محذوف أي : عند ذكر ربكم. وقال القفّال رحمه‌الله تعالى : يقال : فلان عندي عالم أي : في اعتقادي وحكمي ، وهذا عند الشّافعي حلال ، وعند أبي حنيفة ـ رحمه‌الله تعالى ـ حرام أي : في حكمهما وقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي : لتصيروا محجوجين [عند ربكم](٢) بتلك الدلائل في حكم الله.

ونظيره تأويل بعض العلماء قوله : (يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) [النور : ١٣] أي : في حكم الله وقضائه أن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقا.

وقيل : هو معمول لقوله : (بِما فَتَحَ اللهُ) أي : بما فتح الله من عند ربّكم ليحاجّوكم ، وهو نعته ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأخذ ميثاقهم بتصديقه.

ورجّحه بعضهم وقال : هو الصحيح ؛ لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدّنيا.

وفي هذا نظر من جهة الصناعة ، وذلك أن «ليحاجّوكم» متعلق بقوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٤ / ٣١٨) كتاب الأنبياء باب وفاة موسى وذكره بعد حديث رقم (٣٤٠٩) ، (٨ / ٢٢٦) كتاب القدر باب تحاج آدم وموسى حديث رقم (٦٦١٤) ، (٩ / ٢٦٥) كتاب التوحيد باب قوله تعالى وكلم الله موسى .. حديث رقم (٧٥١٥).

ومسلم في الصحيح (٤ / ٢٠٤٤) كتاب القدر (٤٦) باب حجاج آدم وموسى عليهما‌السلام (٢) حديث رقم (١٦ / ٢٦٥٣) ، ٤ / ٢٠٤٥ كتاب القدر (٤٦) باب كل شيء بقدر (٤) حديث رقم (١٨ / ٢٦٥٥) ، (٤ / ٢٠٤٣ ـ ٢٠٤٤) كتاب القدر باب حجاج آدم وموسى عليهما‌السلام (٢) باب رقم (١٥ / ٢٦٥٢) وأبو داود في السنن حديث رقم (٤٧٠١) والترمذي في السنن حديث رقم (٢١٣٤) وابن ماجه في السنن حديث رقم (٨٠) وأحمد في المسند (٢ / ٢٦٨ ، ٢٩٨) ـ وابن عساكر (٢ / ٨١) ـ والخطيب في التاريخ (٤ / ٣٤٩).

(٢) سقط في ب.

٢٠٠