رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٤

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٤

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-092-7
الصفحات: ٤٢٥

أما الأول : فلأنها بالإضافة إليه كالعامّ المخصّص حجة في الباقي.

وأما الثاني : فلعدم منافاته الاستدلال باحتماليه ؛ لإمكانه بالأولوية على الاحتمال الأول ، والعموم أو الإطلاق على الثاني ، ونحن نقول به ، وفاقا للمشهور بين المتأخرين وغيرهم ، ومنهم الماتن لقوله ( ولو أقام في بلده أو غير بلده ذلك ) أي مقدار عشرة أيام ( قصّر ) لصريح المرسلة المتقدمة المنجبرة هنا أيضا بالشهرة.

وإطلاقها ـ كالعبارة والرواية الآتية ـ وإن اقتضى الاكتفاء في غير البلد بإقامة العشرة ولو من غير نية ، إلاّ أن ظاهرهم تقييدها فيه بالنية ، بل ادّعى عليه الإجماع جماعة ، ومنهم شيخنا في روض الجنان (١) ، وخالي العلاّمة المجلسي رحمه‌الله فيما نقله عنه خالي المعاصر ـ أدام الله ظلّه ـ وأيّده قائلا : إنه ربما يظهر ذلك ويظنّ به من اتّفاق فتاويهم (٢).

ثمَّ أيّد الحكم المزبور وإلحاق العشرة الحاصلة بعد التردد ثلاثين يوما ـ كما فعله جماعة منهم الشهيدان (٣) ـ بقوله : مع أنه ظهر ممّا مرّ أن العشرة إذا صارت منويّة تصير بمنزلة الحضور ، وإن لم تكن منويّة لا تصير كذلك إلاّ بعد مضيّ ثلاثين يوما ، وربما ظهر ممّا ذكرنا أن اعتبار هذه الإقامة للإخراج عن كثير السفر ، والعشرة الغير المنويّة سفر أيضا.

إلى أن قال ـ بعد نقل إلحاق العشرة بعد التردد ثلاثين يوما عن الشهيد ـ : ولعلّه لعموم المنزلة التي ظهرت لك ؛ إذ بعد التردد ثلاثين يوما يصير بمنزلة الوطن ، وإذا أقام في الوطن عشرة أيام صارت إقامته موجبة للقصر فكذا هنا ، ومقتضى عموم المنزلة عدم اعتبار قصد الإقامة في هذه العشرة ، ولذا أفتى به‌

__________________

(١) روض الجنان : ٣٩١.

(٢) شرح المفاتيح للوحيد البهبهاني ( مخطوط ).

(٣) الشهيد الأول في الدروس ١ : ٢١٢ ، الشهيد الثاني في روض الجنان : ٣٩١.

٣٦١

كذلك.

ثمَّ قال : وألحق بعض الأصحاب بإقامة العشرة إقامة ثلاثين يوما متردّدا ، ولعلّه لكونه حينئذ حضريا وبمنزلته ؛ لعموم المنزلة التي عرفته. وفيه : أن هذا لا يوجب انقطاع كثرة السفر ؛ إذ أقصى ما يقتضي أن يكون بمنزلة من هو في وطنه كما عرفت ، وبمجرد الكون في الوطن لا ينقطع الكثرة حتى يتمّ عشرة ، كما هو مقتضى الروايات ، بل ستعرف أن الخمسة لا تكفي للقصر في خصوص النهار فضلا أن تكون ملحقة بالعشرة ، فما ظنّك بما نقص عن الخمسة (١).

انتهى كلامه الذي يتعلق بالمقام ، وإنما نقلناه بطوله لكثرة فوائده وجودة محصوله.

وأشار بعموم المنزلة إلى ما قدّمناه في صدر مسألة القواطع الذي تضمنته جملة من المعتبرة (٢).

وبالجملة : لا ريب في المسألة بحمد الله تعالى ، سيّما بعد ما عرفت من دعوى جماعة كونها مقطوعا بها بين الطائفة ، ( و ) إن ( قيل : ) إنّ ( هذا ) الحكم ( يختصّ بالمكاري ) والمراد به المعنى اللغوي ( فيدخل فيه الملاّح والأجير ) لندرة القائل به وشذوذه ، حتى اعترف جماعة بمجهوليته (٣) ، وربما احتمل كونه الماتن بنفسه (٤).

ومع ذلك فلا وجه له غير اختصاص النصّ الوارد بالحكم به.

ولا ضير فيه بعد ما عرفت من ظهور النصوص في كون المناط في التمام‌

__________________

(١) شرح المفاتيح للوحيد للبهبهاني ( مخطوط ).

(٢) راجع ص ٣٤٥.

(٣) منهم : الفاضل المقداد في التنقيح الرائع ١ : ٢٨٩ ، وابن فهد في المهذّب البارع ١ : ٤٨٨ ، وصاحب المدارك ٤ : ٤٥٤.

(٤) انظر الذكرى : ٢٦٠ ، روض الجنان : ٣٩١.

٣٦٢

هو نفس اتّخاذ السفر عملا وكثرته من غير خصوصية للمكاري ونحوه ، وإذا انقطع كثرة السفر التي هي المناط بإقامة العشرة في المكاري بمقتضى روايات المسألة انقطعت في غيره ، ولعلّه لذا اتّفقت الفتاوي بعدم الفرق بينهما ، مع تأيّده بالاعتبار ، فتأمل جدّا.

ثمَّ على المختار من وجوب القصر بعد إقامة العشرة فهل يمتدّ إلى السفرة الثالثة فلا يتم في الثانية ، أم إليها فيتم فيها ويختص وجوب القصر بالأولى؟

قولان.

والثاني أقوى وفاقا للحلّي وجماعة (١) ؛ اقتصارا فيما خالف الأصل الدالّ على وجوب التمام على هؤلاء على المتيقن من النص والفتوى بلزوم القصر إذا أقام عشرا ، وليس إلاّ السفرة الأولى ، دون الثانية فما فوقها ؛ مضافا إلى استصحاب بقاء وجوب التمام الثابت له في منزله أو ما في حكمه الذي هو منتهى سفرته الاولى إلى أن يثبت المزيل ، وليس ثابتا.

خلافا للشهيد فالأول ؛ لزوال الاسم بالإقامة فيكون كالمبتدئ (٢). وفيه نظر.

ثمَّ إن هذا إذا أقام عشرة ( ولو أقام خمسة قيل ) والقائل الشيخ في المبسوط والنهاية والقاضي وابن حمزة (٣) ( يقصّر صلاته نهارا ويتمّ ليلا ، ويصوم شهر رمضان ) تعويلا ( على رواية ) عبد الله بن سنان المروية في الصحيح وغيره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « المكاري إذا لم يستقر في منزله إلاّ‌

__________________

(١) الحلي في السرائر ١ : ٣٣٩ ؛ وانظر المهذّب البارع ١ : ٤٨٨ ، والمدارك ٤ : ٤٥٣ ، والذخيرة : ٤١٠.

(٢) الذكرى : ٢٥٩.

(٣) المبسوط ١ : ١٤١ ، النهاية : ١٢٢ ، القاضي في المهذّب ١ : ١٠٦ ، ابن حمزة في الوسيلة : ١٠٨.

٣٦٣

خمسة أيام أو أقل قصّر في سفره بالنهار وأتم بالليل وعليه صوم شهر رمضان ، وإن كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام أو أكثر وينصرف إلى منزله ويكون له مقام عشرة أيام أو أكثر قصّر في سفره وأفطر » (١).

هكذا في الصحيح ، وكذا في غيره ، لكن بدون قوله : « وينصرف » إلى قوله : « أكثر » (٢).

خلافا للحلّي (٣) وعامة المتأخرين فيتم مطلقا ، وصرّح في السرائر بكونه إجماعا.

تمسكا بإطلاق النصوص المتضمنة لأن كثير السفر يجب عليه التمام (٤).

مضافا إلى عموم ما دلّ على تلازم القصر والإفطار ثبوتا وعدما (٥).

والرواية متروكة الظاهر ؛ لتضمنها ثبوت الحكم في الأقل من الخمسة أيضا الصادق على نحو الثلاثة والأربعة ، ولم يقل به هؤلاء الجماعة ، كما لا يقولون بما تضمّنته أيضا في الطريق الصحيح من اعتبار إقامة العشرة في المنزل والمكان الذي يذهب إليه معا ، الظاهر في عدم الاكتفاء بها في أحد هما.

وشي‌ء منهما وإن لم يكن قادحا في حجية الرواية من أصلها بعد صحة بعض طرقها ؛ لما مضى من كونها حينئذ كالعام المخصّص يكون في الباقي حجة ، سيّما مع إمكان الذب عنهما بنحو من التوجيه القريب كما ذكره الخال‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٨١ / ١٢٧٨ ، الوسائل ٨ : ٤٨٩ أبواب صلاة المسافر ب ١٢ ح ٥.

(٢) التهذيب ٣ : ٢١٦ / ٥٣١ ، الاستبصار ١ : ٢٣٤ / ٨٣٦ ، الوسائل ٨ : ٤٩٠ أبواب صلاة المسافر ب ١٢ ح ٦.

(٣) السرائر ١ : ٣٤١.

(٤) الوسائل ٨ : ٤٨٤ أبواب صلاة المسافر ب ١١.

(٥) الوسائل ١٠ : ١٨٤ أبواب من يصح منه الصوم ب ٤.

٣٦٤

العلاّمة أدام الله تعالى أيامه (١) ، إلاّ أنهما قادحان في مقام المعارضة لنحو الأدلة المتقدمة الكثيرة المعتضدة بالشهرة العظيمة المتأخرة المتحققة ، بل مطلقا كما في (٢) التذكرة (٣) ، سيّما الصريح منها ، وهو الإجماع المنقول.

وبالجملة : فهذا القول في غاية القوة وإن كان الأولى مراعاة الاحتياط (٤) في نحو المسألة ، خروجا عن شبهة قول هؤلاء الجماعة وإن كان الظاهر ممّا ذكرنا ضعفه.

وأولى منه ضعفا ما يحكى عن الإسكافي من جعل الخمسة كالعشرة قاطعة لكثرة السفر مطلقا (٥) ؛ لعدم دليل عليه مع ذلك (٦) أصلا.

وما في الصحيحين (٧) من أن المكاري والجمّال إذا جدّ بهما السير فليقصّرا (٨) ؛ لإجمالهما ، وعدم وضوح المراد من جدّ السير فيهما.

ولذا اختلف الأصحاب في تنزيلهما وحملهما على من يجعل المنزلين منزلا مع تخصيص التقصير بالطريق ، كما عليه الكليني والشيخ في التهذيب (٩) ، استنادا إلى رواية مع ضعف سندها لا دلالة لها على ما اعتبراه.

أو على ما إذا أنشئا سفرا غير صنعتهما ، كما عليه الشهيد في الذكرى ،

__________________

(١) راجع شرح المفاتيح للوحيد البهبهاني ( مخطوط ).

(٢) في « م » زيادة : النهاية و. ( راجع نهاية الإحكام ٢ : ١٧٩ ).

(٣) التذكرة ١ : ١٩١.

(٤) بالجمع بين القصر والإتمام نهارا. منه رحمه الله.

(٥) حكاه عنه في المختلف : ١٦٤.

(٦) مع معارضته بالأدلة المتقدمة كلها حتى التي استدل بها الجماعة. منه رحمه الله.

(٧) عطف على : ما يحكى.

(٨) التهذيب ٣ : ٢١٥ / ٥٢٨ ، ٥٢٩ ، الاستبصار ١ : ٢٣٣ / ٨٣٠ ، ٨٣١ ، الوسائل ٨ : ٤٩٠ أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ١ ، ٢.

(٩) الكافي ٣ : ٤٣٧ ، التهذيب ٣ : ٢١٥.

٣٦٥

قال : ويكون المراد بجدّ السير أن يكون مسيرهما متصلا كالحج والأسفار التي لا يصدق صنعته عليها (١).

أو على أنهما إذا أقاما عشرة أيام قصّرا ، كما عليه الفاضل في المختلف (٢).

أو على ما إذا قصدا المسافة قبل تحقق الكثرة ، كما عليه في روض الجنان شيخنا (٣).

أو على ما يصدق عليه جدّ السير عرفا ، وهو السير العنيف الذي يستعقب مشقة شديدة ، كما عليه جماعة من متأخري متأخرينا (٤).

ولعلّه الأقوى ، إلاّ أني لم أجد بهما على هذا التأويل قائلا صريحا وإن احتمله بل قواه هؤلاء ، وبعضهم قوّى ما مرّ عن الذكرى أيضا (٥). ولا وجه له ، بل هو كسائر التأويلات في البعد ـ عدا الأخير ـ إلاّ أن يريد به تقوية أصل الحكم بوجوب القصر إذا أنشئا سفرا غير صنعتهما كما صرّح به جماعة (٦).

وهو أيضا مشكل ؛ لعدم دليل صالح عليه ، إلاّ بعض التلويحات والإشعارات المستخرجة من جملة من المعتبرة المعلّلة لوجوب التمام على كثير السفر بأنه عمله أو أنّ بيته معه ، وبعض الصحاح الذي لم أفهم دلالته. وفي الاعتماد عليها بمجردها إشكال يصعب معه الخروج عن مقتضى الأدلة العامة ،

__________________

(١) الذكرى : ٢٥٩.

(٢) المختلف : ١٦٣.

(٣) روض الجنان : ٣٩٠.

(٤) منهم : صاحب المدارك ٤ : ٤٥٦ ، والمحقق السبزواري في الذخيرة : ٤١٠ ، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ٢٤ ، وصاحب الحدائق ١١ : ٣٩٣.

(٥) قربه صاحب المدارك ٤ : ٤٥٦.

(٦) منهم : ابن فهد في المهذب البارع ١ : ٤٨٨ ، والشهيد في الذكرى : ٢٥٩ ، وصاحبا المدارك ٤ : ٤٥٦ ، والحدائق ١١ : ٣٩٤.

٣٦٦

والاحتياط ممّا لا ينبغي تركه في المسألة.

( الخامس : أن تتوارى ) عنه ( جدران البلد الذي يخرج منه ، أو يخفى ) عنه ( أذانه ) بلا خلاف فيه في الجملة ، إلاّ من والد الصدوق (١) ، فلم يعتبر هذا الشرط بالكلية ، بل اكتفى بنفس الخروج من البلد ؛ للمرسل : « إذا خرجت من منزلك فقصّر إلى أن تعود إليه » (٢) ونحوه بعينه الرضوي (٣).

وفي معناهما الموثق : « أفطر إذا خرج من منزله » (٤).

وهو نادر ، بل على خلافه الإجماع في الخلاف (٥) ، ومع ذلك فمستنده ـ مع قصور سنده جملة ، بل ضعف بعضها ـ غير صريحة الدلالة على المخالفة ، ككلامه ، لاحتماله التقييد بهذا الشرط ، ألا ترى إلى الرضوي مع أنه أطلق القصر فيما إذا خرج ـ كما مرّ ـ قيّده به في موضع آخر فقال : « وإن كان أكثر من بريد فالتقصير واجب إذا غاب عنك أذان مصرك » (٦).

وعلى هذا فلا خلاف في المسألة من هذه الجهة وإن حصل من جهة أخرى ، وهي التعبير عن هذا الشرط بخفاء أحد الأمرين مخيّرا بينهما ، كما هو المشهور بين القدماء ، أو خفائهما معا كما هو المشهور بين المتأخرين كما قيل (٧) ، أو الأول خاصة كما عن المقنع (٨) ، أو الثاني كذلك ، إمّا مطلقا كما عن‌

__________________

(١) كما نقله عنه في المختلف : ١٦٣.

(٢) الفقيه ١ : ٢٧٩ / ١٢٦٨ ، الوسائل ٨ : ٤٧٥ أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٥.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٦٢ ، المستدرك ٦ : ٥٣٠ أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٢٨ / ٦٦٩ ، الاستبصار ٢ : ٩٨ / ٣١٩ ، الوسائل ١٠ : ١٨٧ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١٠.

(٥) الخلاف ١ : ٢٢٢.

(٦) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٥٩ ، المستدرك ٦ : ٥٢٩ أبواب صلاة المسافر ب ٤ ح ١.

(٧) قال به الشهيد الثاني في روض الجنان : ٣٩٢.

(٨) المقنع : ٣٧.

٣٦٧

الديلمي (١) ، أو المتوسط منه خاصة كما عن الحلّي (٢).

ومنشؤه اختلاف النصوص الواردة في المسألة ، فبعض بخفاء الأول خاصة كالصحيح (٣) ، وبعض بالثاني كذلك ، وهو مستفيض ، منها زيادة على الرضوي المتقدم الصحيحان المروي أحد هما في المحاسن ، وفيه : « إذا سمع الأذان أتمّ المسافر » (٤).

والموثق : « أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم؟ » (٥).

فبناء القولين الأخيرين على ترجيح أحد المتعارضين وطرح الآخر في البين. ولا وجه له بعد اشتراكهما في استجماع شرائط الحجية ، مع إمكان الجمع بينهما بالتخيير كما هو خيرة الأوّلين ، أو تخصيص كل واحد منهما بالآخر كما هو المشهور بين المتأخرين. وهو الأقوى ، أما لرجحانه على نحو الجمع الأول حيثما تعارضا ، أو لأوفقيته لمقتضى الأصل واستصحاب بقاء وجوب التمام إلى ثبوت الترخيص ، وليس بثابت بأحدهما بعد تساوي الجمعين وتكافئهما.

وأما ترجيح الجمع الأول على الثاني فهو ضعيف جدا.

هذا مع وجود الأمارتين وظهور التفاوت بينهما ، وإلاّ فالظاهر الاكتفاء‌

__________________

(١) المراسم : ٧٥.

(٢) السرائر ١ : ٣٣١.

(٣) الكافي ٣ : ٤٣٤ / ١ ، الفقيه ١ : ٢٧٩ / ١٢٦٧ ، التهذيب ٢ : ١٢ / ٢٧ ، الوسائل ٨ : ٤٧٠ أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ١.

(٤) المحاسن : ٣٧١ / ١٢٧ ، الوسائل ٨ : ٤٧٣ أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٧ ؛ والصحيح الآخر : التهذيب ٤ : ٢٣٠ / ٦٧٥ ، الاستبصار ١ : ٢٤٢ / ٨٦٢ ، الوسائل ٨ : ٤٧٢ أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٣.

(٥) المحاسن : ٣١٢ / ٢٩ ، الوسائل ٨ : ٤٦٦ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١١.

٣٦٨

بإحداهما ، ولعلّ هذه الصورة هو الغالب المتبادر ممّا دلّ على إحداهما.

هذا ، والموجود فيما دلّ على الاولى تواري المسافر عن البيوت ـ لا تواريها عنه ـ كما فهمه منه جماعة من الفضلاء (١) ، قالوا : فتتقارب الأمارتان إحداهما بالأخرى ، لكنه خلاف ما عقله منه سائر أصحابنا.

وكيف كان ( فـ ) بخفائهما معا ( يقصّر في صلاته وصومه ) قطعا ، وكذا بخفاء أحد هما حيث لا يكون الآخر ، ويحتاط فيما لو كان ولم يخف بتأخير القصر أو الجمع بينه وبين التمام إلى أن يخفى أيضا.

والمعتبر من كلّ من الجدران والأذان والحاسّتين الوسط منها ولو تقديرا ، كالبلد المنخفض والمرتفع ، ومختلف الأرض ، وعادم الجدار والأذان والسمع والبصر ، لكونه المتبادر من الإطلاق.

ولعلّه الوجه فيما قالوه من أن المعتبر آخر البلد المتوسط فما دون ، ومحلّته في المتّسع.

قالوا : ولا عبرة بأعلام البلد كالمنائر والقباب المرتفعة ، ولا بالبساتين والمزارع ، فيجوز القصر قبل مفارقتها مع خفاء الجدران ، والأذان ؛ ولعلّه لإناطة القصر في النصّ والفتوى بتواري البيوت ، والمذكورات غيرها.

وذكر شيخنا الشهيد الثاني وغيره (٢) أن المعتبر خفاء صورة الجدران والأذان ، لا الشبح والكلام. ولا يخلو عن إشكال ؛ فإن المتبادر من النصّ والفتوى خفاؤهما أصلا ، لا صورتهما خاصة.

والظاهر أن المراد بالأذان والجدران المعتبر خفاؤهما ما كان في آخر البلد‌

__________________

(١) كما حكاه العلامة المجلسي في ملاذ الأخيار ٥ : ٤١٨ عن الفاضل التستري ، واختاره صاحبا المدارك ٤ : ٤٥٧ والحدائق ١١ : ٤٠٦.

(٢) الشهيد الثاني في روض الجنان : ٣٩٢ ، المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ٤٠٢.

٣٦٩

الذي يخرج منه المسافر ، كما يفهم من الذكرى وغيرها (١) ، لا مطلقا كما توهمه العبارة ونحوها في الأذان ، وذلك فإن الأذان الواقع في الوسط قد يخفى عند الخروج من البلد ولو كان وسطا ، فلو حدّ الترخص به لزم حصوله عنده حينئذ ، وهو فاسد قطعا.

واعلم : أنّ هذا الشرط إنما يعتبر فيمن خرج عن نحو بلده مسافرا ، دون نحو الهائم والعاصي بسفره ، فإنهما يقصّران في أثناء سفرهما متى زال مانعهما ؛ للعمومات ، مع اختصاص ما دلّ على هذا الشرط بمن ذكرناه ؛ مضافا إلى خصوص جملة من المعتبرة الواردة فيهما بأنهما يقصّران متى زال مانعهما.

( و ) كما يعتبر هذا الشرط في بدء السفر ( كذا ) يعتبر في الآخر ، فيقصّر ( في العود من السفر ) إلى أن ينتهي إلى ظهور أحد الأمرين فيتمّ ولو لم يدخل البلد فضلا عن المنزل ( على الأشهر ) الأظهر ، بل عليه عامة من تأخر إلاّ من ندر (٢) ، بل في الذكرى كاد أن يكون إجماعا (٣).

للصحيح : « إذا كنت في الموضع الذي تسمع الأذان فأتمّ ، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع الأذان فقصّر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك » (٤).

مضافا إلى إطلاق ما دلّ على وجوب التمام على من كان في الوطن ، واشتراط القصر بالسفر ، ولا يصدق عرفا على من بلغ هذا الحدّ ، وهذا هو السرّ في اشتراط أصل هذا الشرط ، وقد استدل عليه به جمع (٥).

__________________

(١) الذكرى : ٢٦٠ ؛ وانظر روض الجنان : ٣٩٢ ، والمدارك ٤ : ٤٥٨.

(٢) كالفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ٢٦ ، وصاحب الحدائق ١١ : ٤١٢.

(٣) الذكرى : ٢٥٩.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٣٠ / ٦٧٥ ، الوسائل ٨ : ٤٧٢ أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٣.

(٥) منهم : العلامة في المختلف : ١٦٤ ، والشهيد في روض الجنان : ٣٩٢ ، والوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح ( مخطوط ).

٣٧٠

خلافا لوالد الصدوق فلا يعتبر كما مرّ (١) ، وضعفه قد ظهر.

وعن المرتضى والإسكافي (٢) الموافقة له هنا.

للمعتبرة المستفيضة ، ففي الصحيح : « لا يزال المسافر مقصّرا حتى يدخل بيته » (٣).

وفي آخر : « إن أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا ، وإن لم يدخلوا منازلهم قصّروا » (٤).

ونحوه آخر (٥).

وفي الموثق : عن الرجل يكون مسافرا ثمَّ يقدم فيدخل بيوت الكوفة ، أيتمّ الصلاة أم يكون مقصّرا حتّى يدخل أهله؟ قال : « لا بل يكون مقصّرا حتى يدخل أهله » (٦).

وفي آخر : عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة له بها دار ومنزل ، فيمرّ بالكوفة وإنما هو مجتاز لا يريد المقام إلاّ بقدر ما يتجهز يوما أو يومين ، قال : « يقيم في جانب المصر ويقصّر » قلت : فإن دخل؟ قال : « عليه التمام » (٧).

__________________

(١) في ص ٣٦٧.

(٢) حكاه عن المرتضى في المعتبر ٢ : ٤٧٤ ، وعن الإسكافي في المختلف : ١٦٤.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٢٢ / ٥٥٦ ، الاستبصار ١ : ٢٤٢ / ٨٦٤ ، الوسائل ٨ : ٤٧٥ أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٤‌

(٤) الكافي ٤ : ٥١٨ / ١ ، الوسائل ٨ : ٤٧٤ أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ١.

(٥) الكافي ٤ : ٥١٨ / ٢ ، الوسائل ٨ : ٤٦٥ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ٨.

(٦) التهذيب ٣ : ٢٢٢ / ٥٥٥ ، الاستبصار ١ : ٢٤٢ / ٨٦٣ ، الوسائل ٨ : ٤٧٤ أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٣. مع تفاوت يسير في الجميع.

(٧) الكافي ٣ : ٤٣٥ / ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٢٠ / ٥٥٠ ، الوسائل ٨ : ٤٧٤ أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٢.

٣٧١

ونحوه المروي عن قرب الإسناد صحيحا (١).

ولو لا الشهرة العظيمة المرجحة للأدلة الأوّلة لكان المصير إلى هذا القول في غاية القوة ؛ لاستفاضة نصوصه ، وصحة أكثرها ، وظهور دلالتها جملة ، بل صراحة كثير منها ، بل ما عدا الصحيحة الأولى ، لبعد ما يقال في توجيهها جدّا وهو : أن المراد من البيت فيها والمنزل ما بحكمهما ، وهو ما دون الترخص ؛ لأن سياقها يأبى هذا ظاهرا وإن أمكن بعيدا ، سيّما في الموثق الأول المتضمن لدخول البلد والحكم فيه مع ذلك بالقصر ، إلى دخول الأهل.

وحمله على أن الحكم به معه إنما هو لسعة الكوفة يومئذ ، فلعلّ البيوت التي دخلها لم يبلغ حدّ الترخص المعتبر في مثلها ، وهو آخر محلّته كما مضى.

يدفعه عموم الجواب الناشئ عن ترك الاستفصال ، مضافا إلى قوله بعد الحكم بالتقصير : « حتى يدخل أهله ».

وتأويل جميع ذلك وإن أمكن إلاّ أنه بعيد جدا ، مع أنّ مثله جار في أدلة المشهور ، بتقييد العمومات بهذه ؛ لكونها بالنسبة إليها أظهر دلالة ، بل صريحة كما عرفته.

وأما الصحيحة فبأن المقصود من تشبيه الإياب بالذهاب فيها تشبيهه به في وجوب القصر عند خفاء الأذان خاصة ، لا عدمه عند ظهوره ، سيّما وأن بعض النسخ ليس فيه ذكر هذا في الذهاب ، فلا يشمله التشبيه صريحا ، بل ولا ظهورا إلاّ ظهورا لا يمكن الاعتداد به جدّا.

وبالجملة : لو لا الشهرة لكان المصير إلى هذا القول متعيّنا بلا شبهة ، بل معها أيضا لا تخلو المسألة عن شبهة ، سيّما على النسخة المزبورة ؛ فإنّ الدلالة‌

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٧٢ / ٦٣٠ ، الوسائل ٨ : ٤٧٤ أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٢.

٣٧٢

على تقديرها ضعيفة كما عرفته ، والإطلاقات غير معلومة الشمول لنحو المسألة ، والاحتياط يقتضي تأخير الصلاة إلى بلوغ الأهل ، أو الجمع بين الإتمام والقصر.

وإن كان الاكتفاء بالتمام لعلّه أظهر كما مرّ ؛ لانجبار ما مرّ من قصور الدلالة بالشهرة العظيمة ، سيّما وأن النسخة التي قدّمناها مشهورة ، فتترجح على هذه المستفيضة.

مع إمكان القدح في دلالة ما عدا الموثّق منها بورودها جملة مورد الغالب ، من أن المسافر إذا بلغ إلى حدّ الترخص يسارع إلى أهله من غير مكث للصلاة ، كما هو المشاهد غالبا من العادة ، فلا يطمئن بشمول إطلاق الحكم بالقصر إلى دخول الأهل لمحلّ البحث ، فتدبّر.

وأما الموثّق فهو وإن لم يجر فيه ذلك ، لكن الجواب عنه بعد الذبّ عمّا عداه سهل ؛ لقصور السند ، وعدم المقاومة لأدلة الأكثر بوجوه لا يخفى على من تدبّر.

هذا مع احتماله كغيره الحمل على التقية ، كما صرّح به في الوسائل ، قال : لموافقتها لمذهب العامة (١).

وعلى المختار يعتبر خفاء الجدران هنا كالأذان أيضا بلا خلاف ، إلاّ من بعض المتأخرين (٢) ، فاقتصر هنا على الأذان خاصة ؛ لاختصاص الصحيح به.

وهو ضعيف ؛ لعدم انحصار الدليل فيه ، ووجود غيره الشامل له وللجدران ؛ ومع ذلك فالظاهر عدم القائل بالفرق كما قيل (٣) ، وإن كان ربما‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٧.

(٢) كصاحب المدارك ٤ : ٤٥٨.

(٣) حاشية المدارك للوحيد البهبهاني ( مخطوط ).

٣٧٣

يتوهم من الفاضلين في الشرائع والتحرير (١) ؛ ولكنه ضعيف.

( وأما القصر ) والمراد به حذف أخيرتي الرباعية ، والإفطار في الصوم ( فهو عزيمة ) أي واجب لا رخصة ، بالضرورة من مذهب الإمامية ، وعليه أكثر العامة (٢) ، والنصوص به من طرقهم مستفيضة ، بل متواترة (٣).

( إلاّ في أحد المواطن الأربعة ) المشهورة ، وهي ( مكة ، والمدينة ، وجامع الكوفة ، والحائر ) على مشرّفه أفضل صلاة وسلام وتحية ( فإنه مخيّر ) فيها ( في ) الصلاة بين ( القصر والإتمام ) وهو ( أفضل ).

بلا خلاف يظهر إلاّ من صريح الصدوق رحمه‌الله فلا يتمّ إلاّ بعد نية إقامة العشرة (٤).

ومقتضاه لزوم القصر كما في الصحاح المستفيضة وغيرها ، منها : عن التقصير في الحرمين والتمام ، قال : « لا تتمّ حتى تجمع على مقام عشرة أيام » فقلت : إن أصحابنا رووا عنك أنك أمرتهم بالتمام ، فقال : « إن أصحابك كانوا يدخلون المسجد فيصلّون ويأخذون نعالهم فيخرجون والناس يستقبلونهم يدخلون المسجد للصلاة فأمرتهم بالتمام » (٥).

ونحوه آخر لراويه مروي في العلل ، لكن فيه : روى عنك أصحابنا أنك قلت لهم : « أتمّوا بالمدينة لخمس » فقال : « إنّ أصحابكم .. » إلى آخر‌

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٣٤ ، التحرير ١ : ٥٦.

(٢) انظر إرشاد الساري ٢ : ٢٩٤ ، والمجموع شرح المهذب ٤ : ٣٣٧ ، وبداية المجتهد ١ : ١٦٦.

(٣) راجع مسند أحمد ٢ : ٩٩ ، صحيح البخاري ٢ : ٥٤ ، سنن الترمذي ٢ : ٢٨ / ٥٤٢ ، سنن النسائي ٣ : ١١٦.

(٤) الفقيه ١ : ٢٨٣.

(٥) التهذيب ٥ : ٤٢٨ / ١٤٨٥ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٢ / ١١٨١ ، الوسائل ٨ : ٥٣٤ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٣٤.

٣٧٤

التعليل (١).

ومنها : عن الصلاة بمكة والمدينة بتقصير أو إتمام؟ قال : « تقصّر ما لم تعزم على مقام عشرة » (٢).

ومن ظاهر المرتضى والإسكافي (٣) فلزوم التمام ؛ للأمر به أو ما في معناه في المعتبرة المستفيضة فيها الصحاح وغيرها.

ففي الصحيح : عن التمام بمكة والمدينة ، قال : « أتمّ وإن لم تصلّ فيهما إلاّ صلاة واحدة » (٤).

ونحوه الموثق (٥) ، وغيره ، ومنه الحسن : « إذا دخلت مكة فأتمّ يوم تدخل » (٦).

والخبر : أقدم مكّة أتمّ أم أقصّر؟ قال : « أتمّ » قلت : أمرّ على المدينة فأتمّ أو أقصّر؟ قال : « أتمّ » (٧).

ونحوه آخر مروي عن كامل الزيارة لابن قولويه : عن الصلاة في‌

__________________

(١) علل الشرائع : ٤٥٤ / ١٠ ، الوسائل ٨ : ٥٣١ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٢٧.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٢٦ / ١٤٨٢ ، الاستبصار ٢ : ٣٣١ / ١١٧٨ ، الوسائل ٨ : ٥٣٣ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٣٢.

(٣) المرتضى في جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى ٣ ) : ٤٧ ، ونقله عن الإسكافي في المختلف : ١٦٨.

(٤) التهذيب ٥ : ٤٢٦ / ١٤٨١ ، الاستبصار ٢ : ٣٣١ / ١١٧٧ ، الوسائل ٨ : ٥٢٥ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٥.

(٥) الكافي ٤ : ٥٢٤ / ٢ ، التهذيب ٥ : ٤٢٥ / ١٤٧٧ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٠ / ١١٧٣ ، قرب الاسناد : ٣٠٠ / ١١٨ ، الوسائل ٨ : ٥٢٩ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٧.

(٦) التهذيب ٥ : ٤٢٦ / ١٤٨٠ ، الاستبصار ٢ : ٣٣١ / ١١٧٦ ، الوسائل ٨ : ٥٢٦ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٧.

(٧) التهذيب ٥ : ٤٢٦ / ١٤٧٩ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٠ / ١١٧٥ ، الوسائل ٨ : ٥٢٦ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٩.

٣٧٥

الحرمين ، قال : « أتمّ ولو مررت به مارّا » (١).

وهما نادران ، ولا سيّما الثاني ، مع عدم صراحة كلام قائله في لزومه ، واحتمال إرادته الاستحباب كما في السرائر عن المرتضى (٢) ، بل قد حكى على خلافهما الإجماع في صريح الخلاف والسرائر (٣) ، وظاهر روض الجنان ، حيث جعل التخيير من متفردات الأصحاب من غير نقل خلاف (٤) ، وكذا الذكرى ، لكنه نقل الخلاف عن الصدوق خاصة (٥).

وفي الوسائل : إنه ـ مع أفضلية التمام ـ مذهب جميع الإمامية ، قال : وخلافه ـ أي الصدوق ـ شاذّ نادر (٦).

وظاهره أيضا الإجماع ، وهو الحجّة.

مضافا إلى الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة القريبة هي مع السابقة من التواتر ، بل لعلّها متواترة ، فلا يضرّ قصور أسانيد جملة منها أو ضعفها ، سيّما مع الانجبار بالشهرة العظيمة ، بل الإجماع كما عرفته من عبائر النقلة له.

وهي ما بين صريحة في ذلك وظاهرة ، ففي الصحيح : في الصلاة بمكة ، قال : « من شاء أتمّ ومن شاء قصّر » (٧).

وفي الخبر : أقصّر في المسجد الحرام أو أتم؟ قال : « إن قصّرت فلك‌

__________________

(١) كامل الزيارات : ٢٥٠ ، الوسائل ٨ : ٥٣٢ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٣١.

(٢) السرائر ١ : ٣٤٢.

(٣) الخلاف ١ : ٥٧٦ ، السرائر ١ : ٣٤٣.

(٤) روض الجنان : ٣٩٧.

(٥) الذكرى : ٢٥٥.

(٦) الوسائل ٨ : ٥٣٤.

(٧) التهذيب ٥ : ٤٣٠ / ١٤٩٢ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٤ / ١١٨٩ ، الوسائل ٨ : ٥٢٦ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٠.

٣٧٦

وإن أتممت فهو خير ، وزيادة الخير خير » (١) ونحوه آخر (٢).

وفي الصحيح : « أحبّ لك إذا دخلتهما ـ أي الحرمين ـ أن لا تقصّر وتكثر فيهما الصلاة » فقلت له بعد ذلك بسنتين مشافهة : إني كتبت بكذا فأجبتني بكذا ، فقال : « نعم » فقلت : فأيّ شي‌ء تعني بالحرمين؟ فقال : « مكة والمدينة » (٣).

ونحوه الخبر ، بل أظهر : عن التقصير بمكة ، فقال : « أتمّ وليس بواجب ، إلاّ أني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي » (٤). ونحوه آخر في المواطن الأربعة (٥).

وفي الصحيح : « إنّ من مخزون علم الله تعالى الإتمام في أربعة مواطن : حرم الله تعالى ، وحرم رسوله ، وحرم أمير المؤمنين ، وحرم الحسين عليهم‌السلام » (٦).

ونحوه المرسل لكن معبّرا عن المواطن بمكة والمدينة والحائر ومسجد‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٤٣٠ / ١٤٩٣ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٤ / ١١٩٠ ، الوسائل ٨ : ٥٢٦ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١١.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٧٤ / ١٦٦٩ ، كامل الزيارات : ٢٥٠ بسند آخر.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٢٨ / ١١٨٧ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٣ / ١١٨٣ ، الوسائل ٨ : ٥٢٥ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٤.

(٤) الكافي ٤ : ٥٢٤ / ٣ ، التهذيب ٥ : ٤٢٩ / ١٤٨٨ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٣ / ١١٨٤ ، الوسائل ٨ : ٥٢٩ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٩.

(٥) التهذيب ٥ : ٤٣٠ / ١٤٩٥ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٥ / ١١٩٢ ، الوسائل ٨ : ٥٢٧ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٣.

(٦) التهذيب ٥ : ٤٣٠ / ١٤٩٤ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٤ / ١١٩١ ، الوسائل ٨ : ٥٢٤ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١.

٣٧٧

الكوفة (١). ونحو هما الحسن (٢) وغيره (٣) ، لكن في الحرمين خاصة.

وهذه النصوص بعد ضمّ بعضها مع بعض صريحة في المذهب المشهور ، وبها يجمع بين كل من النصوص المتقدمة الآمرة بالقصر أو الإتمام ؛ بحمل الأمر الأول على الرخصة ، ويكون المراد من النهي عن التمام فيها إلاّ بنية الإقامة النهي عنه بقصد الوجوب ، يعني لا يكون واجبا إلاّ بها (٤) ؛ والأمر الثاني على الفضيلة.

وأما حمله على صورة قصد الإقامة ، وكذا ما قدّمناه من النصوص على التخيير مع أفضلية التمام ـ كما عليه الصدوق ـ فبعيد في الغاية ، سيّما فيما دلّ منها على الأمر بالتمام بمجرد المرور أو الدخول ولو صلاة واحدة ، فإنها ناصّة في صورة غير قصد الإقامة.

وكذا حمله على التقية وإن أشعر به الصحيحان المتقدمان سندا للصدوق ؛ لأن إيجاب التمام ـ على ما هو مقتضى الأمر ـ ليس مذهبا لأحد من‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٨٣ / ١٢٨٤ ، الوسائل ٨ : ٥٣١ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٢٦.

(٢) الكافي ٤ : ٥٢٤ / ٧ ، التهذيب ٥ : ٤٢٦ / ١٤٧٨ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٠ / ١١٧٤ ، الوسائل ٨ : ٥٢٤ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٢.

(٣) الكافي ٤ : ٥٢٤ / ٥ ، التهذيب ٥ : ٤٢٩ / ١٤٩٠ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٤ / ١١٨٧ ، الوسائل ٨ : ٥٣٠ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٢٠.

(٤) ووجه هذا الحمل : أنه لمّا اشتهر الأمر بالتمام في ذلك الزمان وكان مقتضاه الوجوب ، احتمل فهم الرواة منه إيّاه ، فردّوه عليهم بأنّه لا يجب التمام إلاّ بقصد المقام عشرة أيام. ومما يؤنس لهذا الحمل بعض الأخبار الواردة فيها المتضمنّة بعد الأمر بالتمام لقوله عليه‌السلام : « وليس بواجب إلاّ أنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي » فتدبّر.

ومحصّل هذا الحمل : لمّا كان وجوب التمام متوهّما من الأوامر الواردة به في أخبارهم عليهم‌السلام كثيرا بحيث إنّ نحو المرتضى والإسكافي حكما به وسألوا الرواة عنه نهوهم عنه ، ومثل هذا النهي الوارد في توهّم الوجوب لا يفيد سوى رفعه لا حرمته ، كما تقرّر في الأصول. منه رحمه الله.

٣٧٨

العامة ، لأنهم ما بين موجب للقصر مطلقا ، وهم أكثرهم ، ومنهم أبو حنيفة (١) ؛ ومخيّر بينه وبين القصر كذلك ، وهو الشافعي وغيره (٢) (٣).

ومنه يظهر أن حمل أوامر التقصير على التقية أولى ، كما صرّح به جماعة من أصحابنا (٤) ؛ لاتّفاقهم على جواز القصر ، مع اشتهار مذهب أبي حنيفة قديما وحديثا ، فتأمل.

وأما الصحيحان فالظاهر منهما بعد ضمّ أحد هما إلى الآخر أن الأمر بالإتمام إنما هو بعد مضيّ خمسة أيام لا مطلقا ، ولا ريب أنه للتقية ؛ فإن الاكتفاء بها في أيام الإقامة هو مذهب الشافعي (٥) ، وهو لا يجري في الأخبار الآمرة بالتمام ولو في يوم الورود من غير الإقامة.

ومع ذلك فهما معارضان بما دلّ على أن الأمر بالتمام ليس للتقية ، وأنه مخالف للعامة ، وهو الصحيح : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إن هشاما‌

__________________

(١) راجع عمدة القارئ ٧ : ١١٧ ، ١٢٢.

(٢) الشافعي في الأم ١ : ١٨٧ ، ١٨٥ ؛ وانظر المغني والشرح الكبير ٢ : ١٠٨.

(٣) ثمَّ لو سلّمنا جريان نحو هذه المحامل واجتماع الأخبار بها بعض مع بعض نقول : إنها معارضة بما قدّمناه من المحامل ، لاجتماعها بها أيضا. وحيث دار الأمر في الجمع بين الأخبار بين أحد الجمعين كان خيرة المشهور أرجح وأقوى من وجوه شتّى ، لاعتضاده بالشهرة ، وحكايات الإجماعات المتقدّمة ، وكثرة الأخبار الدالّة على التمام الآمرة به على الإطلاق أو مخيّرة.

بخلاف الجمع الّذي ذكره ، فإنّه بطرف الضدّ من هذه المرجّحات المزبورة ، وليس مرجّح في طرفه إلاّ عمومات بل إطلاقات الكتاب والسنّة بلزوم القصر على كلّ مسافر ، مضافا إلى إطلاق ما دلّ من الفتوى والمعتبرة بأنّه إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت ، الظاهرة في تلازم الصلاة والصوم قصرا وإتماما. وشي‌ء منهما لا يعارضان المرجّحات المتقدّمة ، فإنّ هذين المرجحين من باب العموم والإطلاق وتلك من باب الخصوص ، فهي مقدّمة عليهما كما لا يخفى. منه عفى عنه.

(٤) منهم : صاحب الوسائل ٨ : ٥٣٤ ، والحدائق ١١ : ٤٤٢ ، والوافي ٧ : ١٨٧.

(٥) كما في الأم ١ : ١٨٦ ، وبدائع الصنائع ١ : ٩٧.

٣٧٩

روى عنك أنك أمرته بالتمام في الحرمين ، وذلك من أجل الناس ، قال : « لا ، كنت أنا وآبائي إذا وردنا مكة أتممنا الصلاة واستترنا من الناس » (١).

هذا ، ولكن يستفاد من جملة من النصوص اشتهار التقصير ما لم ينو المقام بين قدماء الأصحاب ، ففي الصحيح : كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام : أن الرواية قد اختلفت عن آبائك عليهم‌السلام في الإتمام والتقصير في الحرمين ، فمنها : أن تتمّ الصلاة ولو صلاة واحدة ، ومنها : أن يقصر ما لم ينو مقام عشرة أيام ، ولم أزل على الإتمام فيهما إلى أن صدرنا في حجّنا في عامنا هذا ، فإنّ فقهاء أصحابنا أشاروا عليّ بالتقصير إذا كنت لا أنوي مقام عشرة أيام ، فصرت إلى التقصير وقد ضقت بذلك حتى أعرف رأيك ، فكتب عليه‌السلام إليّ بخطّه : « قد علمت ـ يرحمك الله تعالى ـ فضل الصلاة في الحرمين على غيرهما ، فأنا أحبّ لك إذا دخلتهما أن لا تقصّر » إلى آخر ما مضى (٢).

وفي الخبر المروي عن كامل الزيارة ، عن سعد بن عبد الله قال : سألت عن أيوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه المشاهد : مكة والمدينة وقبر الحسين عليه‌السلام والكوفة ، والذي روي فيها ، فقال : أنا أقصّر ، وكان صفوان يقصّر ، وابن أبي عمير وجميع أصحابنا يقصّرون (٣).

فالأحوط التزام القصر وإن كان في تعيّنه نظر ؛ لإمكان الذبّ عن الخبرين ـ مع قصور سند الثاني ـ بأن المقصود منهما الإشارة إلى جواز التقصير ، وعدم تعيّن التمام كما يفهم من أوامره ، لا تعيّنه.

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٤٢٨ / ١٤٨٦ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٢ / ١١٨٢ ، الوسائل ٨ : ٥٢٦ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٦.

(٢) في ص : ٣٧٤ الرقم ٣.

(٣) كامل الزيارات : ٢٤٨ ، المستدرك ٦ : ٥٤٥ أبواب صلاة المسافر ب ١٨ ح ٣.

٣٨٠