رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٤

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٤

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-092-7
الصفحات: ٤٢٥

( الثالث : في ) بيان أحكام صلاة ( الجماعة )

( والنظر ) فيه ( في أطراف : ).

( الأوّل : الجماعة مستحبة في الفرائض ) كلّها حتى المنذورة وصلاة الاحتياط وركعتي الطواف ، أداء وقضاء ، على ما يقتضيه عموم العبارة ونحوها ، والصحيح : « الصلاة فريضة ، وليس الاجتماع بمفروض في الصلاة كلّها ، ولكنّها سنّة ، من تركها رغبة عنها وعن جماعة المؤمنين من غير علّة فلا صلاة له » (١).

وبالتعميم إلى المنذورة والأداء والقضاء صرّح الشهيدان في روض الجنان والذكرى (٢) ، بل فيها ما يفهم كونه إجماعا بيننا. فإن تمَّ وإلاّ كان التعميم بالإضافة إلى ما عدا الأداء والقضاء محلّ نظر ، سيّما صلاتي الاحتياط والطواف ؛ لما بيّنته في الشرح مستوفى ، ولا ريب أن الأحوط تركها فيهما.

وهي ( متأكدة في الخمس ) اليومية بالضرورة من الدين وبالكتاب (٣) والسّنّة المتواترة العامة والخاصة ، العامية والخاصية ، ففي الصحيح : « الصلاة في جماعة تفضل على صلاة الفذّ ـ أي الفرد ـ بأربع وعشرين درجة ، تكون‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٧٢ / ٦ ، التهذيب ٣ : ٢٤ / ٨٣ ، الوسائل ٨ : ٢٨٥ أبواب صلاة الجماعة ب ١ ح ٢.

(٢) روض الجنان : ٣٦٣ ، الذكرى : ٢٦٥.

(٣) البقرة : ٤٣( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ ).

٢٠١

خمسة وعشرين صلاة » (١).

وبمعناه أخبار مستفيضة ، بل في بعضها : تفضل بخمس وعشرين (٢) ، وفي آخر : بسبع وعشرين (٣) ، وفي غيرهما : بتسع وعشرين (٤).

وفيه : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلاّ من علّة ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا غيبة إلاّ لمن صلّى في بيته ورغب عن جماعتنا ، ومن رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته وسقطت بينهم عدالته ووجب هجرانه ، وإذا رفع إلى إمام المسلمين أنذره وحذّره ، فإن حضر جماعة المسلمين وإلاّ أحرق عليه بيته » (٥).

وتقييد المنع عن تركها بالرغبة عنها ظاهر في عدمه مع عدمها ، كما يدل عليه أيضا إطلاق أخبار الأفضلية المتقدمة. وعليها يحمل الأخبار الكثيرة الظاهرة في المنع عن الترك من غير تقييد بالرغبة (٦) ، جمعا بين الأدلة ( و ) التفاتا إلى مخالفتها لإجماع الطائفة على أنها ( لا تجب إلاّ في ) صلاة ( الجمعة والعيدين مع الشرائط ) المتقدمة لوجوبها في بحثها ، على الظاهر ، المصرّح به في كلام جماعة (٧).

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٥ / ٨٥ ، الوسائل ٨ : ٢٨٥ أبواب صلاة الجماعة ب ١ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٣٧١ / ١ ، التهذيب ٣ : ٢٤ / ٨٢ ، الوسائل ٨ : ٢٨٦ أبواب صلاة الجماعة ب ١ ح ٣.

(٣) الروضة البهية ١ : ٣٧٧ ، الوسائل ٨ : ٢٨٦ أبواب صلاة الجماعة ١ ح ١٦.

(٤) لم نعثر عليه في الكتب الحديثية.

(٥) التهذيب ٦ : ٢٤١ / ٥٩٦ ، الاستبصار ٣ : ١٢ / ٣٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٢ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ٢.

(٦) الوسائل ٨ : ٢٩١ أبواب صلاة الجماعة ب ٢.

(٧) منهم : المحقق في المعتبر ٢ : ٤١٤ ، والعلامة في التذكرة ١ : ١٧٠ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ١ : ١٥٩.

٢٠٢

وهذا الجمع أولى من حمل الموجبة على هذه الصلوات التي تجب فيها الجماعة ؛ لأن من جملتها ما أوجبها في الفجر والعشاء ، ومع ذلك فهو بعيد جدا ، وهنا محامل أخر ذكرناها في الشرح.

ويدلّ على عدم الوجوب صريحا الصحيحة المتقدمة المصرّحة بأنها سنّة. ولا يمكن أن يراد بالسنّة فيها ما يقابل الفرض الإلهي فيشمل الواجب النبوي فتنتفي الدلالة باحتمال كونه المراد بها ؛ لضعفه بورود الأمر الإلهي بها في قوله تعالى( وَارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ ) (١) فانحصر كون المراد بها المعنى المعروف بين أصحابنا وهي السنّة في مقابل مطلق الواجب ، فتأمل جدّا.

( ولا ) يجوز أن ( تجمع في نافلة ) بإجماعنا الظاهر المنقول في ظاهر المنتهى والتذكرة وكنز العرفان (٢) ، وللنصوص المستفيضة به من طرقنا :

منها : المروي في الخصال عن مولانا الصادق عليه‌السلام : « ولا يصلّى التطوع في جماعة ؛ لأن ذلك بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار » (٣).

ونحوه المروي في العيون عن مولانا الرضا عليه‌السلام (٤).

ومنها : « لا جماعة في نافلة » (٥).

ومنها : المرتضوي المروي في الكافي أنه عليه‌السلام قال في خطبته : « وأمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة ، وأعلمتهم أنّ‌

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

(٢) المنتهى ١ : ٣٦٤ ، التذكرة ١ : ١٧٠ ، كنز العرفان ١ : ١٩٤.

(٣) الخصال : ٦٠٦ ( ضمن حديث شرائع الدين ) ، الوسائل ٨ : ٣٣٥ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٠ ح ٥.

(٤) العيون ٢ : ١٢٢ ، الوسائل ٨ : ٣٣٥ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٠ ح ٦.

(٥) التهذيب ٣ : ٦٤ / ٢١٧ ، الاستبصار ١ : ٤٦٤ / ١٨٠١ ، إقبال الأعمال : ١٢ ، الوسائل ٨ : ٣٢ أبواب نافلة شهر رمضان ب ٧ ح ٦.

٢٠٣

اجتماعهم في النوافل بدعة » الخبر (١).

وقصور الأسانيد مجبور بعمل الأصحاب ، وباستفاضة النصوص ـ وفيها الصحيح وغيره ـ بالمنع عن الاجتماع في النافلة بالليل في شهر رمضان وانه بدعة (٢).

ولا قائل بالفرق بين الطائفة ، فإن من منع عنه منع مطلقا.

( عدا ما استثني ) من الاستسقاء إجماعا ، وصلاة العيدين مع عدم اجتماع شرائط الوجوب على المشهور ، والغدير على قول للحلبي والشهيد في اللمعة والمحقّق الثاني فيما حكي (٣).

ومن حكي عنه الجواز حكي عنه مطلقا ، فتخصيص المنع بنوافل شهر رمضان إحداث قول لا يجوز قطعا.

هذا ، مع مخالفة الجماعة للأصول والقواعد المقررة ، من حيث تضمنها نحو سقوط القراءة ووجوب المتابعة ممّا الأصل عدمه بلا شبهة ، خرج عنها الصلاة المفروضة بما مرّ من الأدلة المقطوعة ، وبقي النافلة تحتها مندرجة.

وإطلاق بعض الروايات باستحباب الجماعة في الصلاة (٤) من دون تقييد بالفريضة غير معلوم الشمول للنافلة بعد اختصاصه بحكم التبادر والغلبة بالفريضة ، مع أنه منساق لإثبات أصل استحبابها في الجملة من دون نظر إلى تشخيص كونها في فريضة أو نافلة ، فيكون بالنسبة إليهما كالقضية المهملة يكفي في صدقها هنا الثبوت في الفريضة.

__________________

(١) الكافي ٨ : ٥٨ / ٢١ ، الوسائل ٨ : ٤٦ أبواب نافلة شهر رمضان ب ١٠ ح ٤.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٥ أبواب نافلة شهر رمضان ب ١٠.

(٣) الحلبي في الكافي : ١٦٠ ، اللمعة ( الروضة ١ ) : ٣٧٧ ، جامع المقاصد ٢ : ٤٨٥.

(٤) الوسائل ٨ : ٢٨٥ أبواب صلاة الجماعة ب ١ الأحاديث ١ ، ٣ ، ٥.

٢٠٤

نعم ربما يتوهم من الصحاح الجواز ، منها : « صلّ بأهلك في رمضان الفريضة والنافلة » (١).

ومنها : عن المرأة تؤم النساء؟ فقال : « تؤمّهنّ في النافلة ، فأما في المكتوبة فلا » (٢) ونحوه آخر (٣).

لكنها غير ظاهرة الدلالة ولا واضحة ؛ لعدم تصريح في الأول منها بالجماعة ، لاحتمال كون المراد بالصلاة بالأهل الصلاة في الأهل بمعنى في البيت ، يعني لا في الخارج.

ولا في الأخيرين بالمراد بالنافلة ، فتحتمل ـ لإطلاقها ـ النافلة المشروع فيها الجماعة لا مطلق النافلة.

ولو سلّم فهي محمولة على التقية ، فميل جماعة من متأخري المتأخرين إلى الجواز (٤) ـ لهذه الصحاح ، مع القدح فيما مرّ من الأخبار بضعف ، سند ما دلّ منها على العموم ، وأخصّية صحيحها من المدّعى ـ ضعيف ، سيّما مع ورود الأخصية التي اعترضوا بها على الصحيح على صحاحهم كما لا يخفى ، والذبّ عنها بالإجماع المركب وإن أمكن إلاّ أنه مشترك.

والترجيح لذلك الطرف ؛ للشهرة العظيمة ، بل الإجماع كما عرفته ، واعتضاد الصحيحة المانعة عن الاجتماع في شهر رمضان بتلك المستفيضة الموافقة لها في الدلالة.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٦٧ / ٧٦٢ ، الوسائل ٨ : ٣٣٧ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٠ ح ١٣.

(٢) الفقيه ١ : ٢٥٩ / ١١٧٦ ، التهذيب ٣ : ٢٠٥ / ٤٨٧ ، الوسائل ٨ : ٣٣٣ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٠ ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٣٧٦ / ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٦٩ / ٧٦٨ ، الاستبصار ١ : ٤٢٦ / ١٦٤٦ ، الوسائل ٨ : ٣٣٦ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٠ ح ١٢.

(٤) منهم صاحب المدارك ٤ : ٣١٥ ، والمحقق السبزواري في الذخيرة : ٣٨٩ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ١ : ١٥٩.

٢٠٥

ولا كذلك الصحيحة الاولى من هذه الصحاح ، فإنّها بالنسبة إليها مرجوحة ؛ لأنها بطرف الضد من المرجحات المزبورة ، سيّما مع موافقتها للعامة كما تشهد بها الروايات المسطورة ، وحكى في المنتهى القول بالجواز مطلقا عن جماعة من العامة (١) ، ولأجله حملنا الصحاح بجملتها على التقية.

وأما حكاية استثناء الحلبي ومشاركيه ـ ومنهم المفيد كما حكي (٢) ـ صلاة الغدير فإنما هي لرواية على ما حكي التصريح به عن التذكرة (٣) ، وعلّله في الروضة بثبوت الشرعية في صلاة العيد وأنه عيد (٤) ، ولا دخل له بجوازها في أصل النافلة.

وحيث إن تعليل الروضة عليل ، والرواية لم نقف عليها كان عدم استثنائها أقوى ، وفاقا لأكثر أصحابنا.

ولا يمكن الحكم به من باب التسامح ؛ لأنه حيث لا يحتمل التحريم ، وهو قائم هنا.

( ويدرك المأموم الركعة بإدراك الركوع ) اتفاقا فتوى ونصا ( وبإدراكه ) أي إدراك الإمام المدلول عليه بالمقام في حال كونه ( راكعا ) أي في الركوع ( على ) الأشهر الأقوى كما مضى بيانه وبيان وجه ( تردّد ) الماتن في بحث الجمعة مفصّلا.

( وأقلّ ما تنعقد ) به الجماعة ( بالإمام ومؤتم ) واحد ولو كان صبيا أو امرأة كما في المعتبرة (٥).

__________________

(١) المنتهى ١ : ٣٦٤.

(٢) الذكرى : ٢٦٥.

(٣) التذكرة ١ : ٧٣.

(٤) الروضة ١ : ٣٧٧.

(٥) الوسائل ٨ : ٢٩٨ أبواب صلاة الجماعة ب ٤ ح ٧ ، ٨.

٢٠٦

ولا خلاف في أصل الحكم أجده ، وبه صرّح جماعة (١) ، والمعتبرة به مع ذلك مستفيضة ، وفيها الصحيح وغيره ، بل يستفاد من بعضها أنّ المؤمن وحده جماعة (٢) ، لكنه ـ مع ضعف سنده ـ محمول على أن المراد به إدراك فضيلة الجماعة لطالبها ولم يجدها ، تفضّلا من الله تعالى ومعاملة له على قدر نيته ، فإنها خير من عمله.

وأما ما في الفقيه من أن الواحد جماعة ، لأنه إذا دخل المسجد وأذّن وأقام صلّى خلفه صفّان من الملائكة ، ومتى أقام ولم يؤذّن صلّى خلفه صفّ واحد (٣).

فلعلّه محمول على شدة استحباب الأذان والإقامة لا أنه جماعة حقيقة.

( ولا تصح ) الجماعة ( و ) الحال أن ( بين الإمام والمأموم ما يمنع المشاهدة ، وكذا ) لو كان ( بين الصفوف ) فتفسد صلاة من وراء الحائل ، بإجماعنا الظاهر ، المصرّح به في جملة من العبائر مستفيضا (٤).

للصحيح : « إن صلّى قوم بينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام ، وأيّ صفّ كان أهله يصلّون بصلاة إمام وبينهم وبين الصف الذي يتقدمهم قدر ما لا يتخطّى فليس ذلك لهم بصلاة ، فإن كان بينهم سترة أو جدار فليس تلك لهم بصلاة إلاّ من كان حيال الباب ، قال : وهذه المقاصير لم تكن في زمن أحد من الناس وإنما أحدثها الجبّارون ، وليس لمن صلّى خلفها مقتديا بصلاة من فيها صلاة » (٥).

__________________

(١) منهم العلامة في المنتهى ١ : ٣٦٤ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ١ : ١٥٩.

(٢) الفقيه ١ : ٢٤٦ / ١٠٩٦ ، الوسائل ٨ : ٢٩٧ أبواب صلاة الجماعة ب ٤ ح ٥.

(٣) الفقيه ١ : ٢٤٦.

(٤) منها : المعتبر ٢ : ٤١٦ ، والتذكرة ١ : ١٧٣.

(٥) الكافي ٣ : ٣٨٥ / ٤ ، الفقيه ١ : ٢٥٣ / ١١٤٤ ، التهذيب ٣ : ٥٢ / ١٨٢ ، الوسائل ٨ : ٤١٠ أبواب صلاة الجماعة ب ٦٢ ح ٢ وفي الجميع بتفاوت.

٢٠٧

واحترز بقوله : يمنع المشاهدة ، عمّا لا يمنع عنها ولو حال القيام خاصة ، كالحائل القصير والشبابيك المانعة عن الاستطراق دون المشاهدة ، فإنه تصح صلاة من خلفها مقتديا بمن فيها كما هو المشهور.

خلافا للخلاف في الشبابيك ، مستدلا عليه بالإجماع والصحيح المتقدم ، قال : وهو صريح بالمنع (١).

وهو غريب ؛ لعدم وضوح وجه الدلالة فيه بعد ، ولذا اختلف فيه : فبين من جعله النهي فيه عن الصلاة خلف المقاصير ، بناء على أن الغالب فيها كونها مشبكة.

وأجاب عنه في المختلف بجواز كون المقاصير المشار إليها فيه غير مخرّمة (٢).

ويعضده ذكر حكم المقاصير التي أحدثها الجبّارون بعد اشتراط عدم حيلولة سترة أو جدار بنحو يفهم منه دفع إيراد يحتمل الورود على الاشتراط ، ولو كانت المقاصير المشار إليها مخرّمة لما كان سترة ولا جدارا حتى يحتاج إلى دفع إيراد يرد على الاشتراط ، فتأمل.

وبين من جعله ما تضمن صدره من قوله عليه‌السلام : « وإن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام » فإنّ مالا يتخطى يتناول الحائط والشباك مطلقا وغيرهما (٣).

وهذا بعيد جدّا ؛ لأن المراد بما لا يتخطى عدم التخطي بواسطة البعد لا باعتبار الحائل ، كما هو المتبادر المدلول عليه بذيل الصحيح بعد التدبر‌

__________________

(١) الخلاف ١ : ٥٥٨.

(٢) المختلف : ١٥٩.

(٣) كما في المختلف : ١٥٩ ، ونهاية الإحكام ٢ : ١٢٢.

٢٠٨

الصحيح ، هذا.

ولا ريب أن ما ذكره الشيخ أحوط ، سيّما مع دعواه الإجماع عليه.

واعلم : أنّ مشاهدة المأموم لمثله المشاهد للإمام أو لمن يشاهده وإن تعدّد كاف في صحة الجماعة ، وإلاّ لم تحصل للصفوف المتعددة ، مع أنه خلاف الإجماع ، بل الضرورة فتوى ورواية.

وهل يكفي المشاهدة مطلقا ، فيصح ما في المنتهى وغيره (١) من أنه لو وقف المأموم خارج المسجد بحذاء الباب وهو مفتوح بحيث يشاهد الإمام أو بعض المأمومين صحّت صلاته وصلاة من على يمينه وعلى يساره وورائه؟

أم يشترط فقد الحائل بينه وبين الإمام أو الصف السابق ، وإلاّ صحّ صلاة من فقده ومن بعده من الصفوف إذا شاهدوه دون غيره؟

وجهان ، أحوطهما الثاني ، سيّما مع قوة احتمال ظهوره من الصحيح الماضي ، إلاّ أن الأول أشهر ، بل لا يكاد خلاف فيه يعرف إلاّ من بعض من تأخّر ، حيث إنّه بعد نقل ما في المنتهى عن الشيخ ومن تبعه استشكله.

فقال : وهو متّجه إن ثبت الإجماع على أن مشاهدة بعض المأمومين تكفي مطلقا ، وإلاّ كان في الحكم المذكور إشكال ، نظرا إلى قوله عليه‌السلام : « إلاّ من كان بحيال الباب » فإنّ ظاهره قصر الصحة على صلاة من كان بحيال الباب ، وجعل بعضهم هذا الحصر إضافيا بالنسبة إلى الصف الذي يتقدمه عن يمين الباب ويساره ، وفيه عدول عن الظاهر يحتاج إلى دليل (٢).

انتهى. وهو حسن.

( ويجوز ) الحيلولة بما يمنع المشاهدة ( في المرأة ) أي بينها وبين‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ٣٦٥ ؛ وانظر المدارك ٤ : ٣١٨.

(٢) الذخيرة : ٣٩٤.

٢٠٩

إمامها إذا كان رجلا ، وعرفت انتقال الإمام من القيام إلى السجود ومنه إليه مثلا ، بلا خلاف يظهر إلاّ من الحلّي ، فجعلها كالرجل ؛ لعموم الدليل (١).

وهو مخصّص بصريح الموثق : عن الرجل يصلّي بالقوم وخلفه دار فيها نساء ، هل يجوز لهنّ أن يصلّين خلفه؟ قال : « نعم ، إن كان الإمام أسفل منهن » قلت : فإن بينهن وبينه حائطا أو طريقا ، قال : « لا بأس » (٢).

وقصور السند مجبور بالعمل ، بل بالإجماع كما في التذكرة (٣).

نعم ، ما ذكره أحوط.

( ولا ) يجوز أن ( يأتم ) المصلّي ( بمن هو أعلى منه ) موقفا ( بما يعتدّ به كالأبنية على رواية عمّار ) الموثقة : عن الرجل يصلّي بقوم وهم في موضع أسفل من موضعه الذي يصلّي فيه ، فقال : « إن كان الإمام على شبه الدكّان أو على موضع أرفع من موضعهم لم يجز صلاتهم » (٤).

وهي كما ترى صريحة في الحرمة كما هو الأظهر الأشهر بين الطائفة ، بل لا خلاف فيها أجده ، إلاّ من الخلاف فصرّح بالكراهة ، مدّعيا عليها أخبار وإجماع الطائفة (٥).

لكنه شاذ ، وإجماعه موهون إن أراد بالكراهة المعنى المعروف. وإن أراد بها الحرمة ـ كما صرّح به الفاضل في المختلف (٦) ، وربما يشهد له سياق عبارة‌

__________________

(١) السرائر ١ : ٢٨٩.

(٢) التهذيب ٣ : ٥٣ / ١٨٣ ، الوسائل ٨ : ٤٠٩ أبواب صلاة الجماعة ب ٦٠ ح ١.

(٣) التذكرة ١ : ١٧٤.

(٤) الكافي ٣ : ٣٨٦ / ٩ ، الفقيه ١ : ٢٥٣ / ١١٤٦ ، التهذيب ٣ : ٥٣ / ١٨٥ ، الوسائل ٨ : ٤١١ أبواب صلاة الجماعة ب ٦٣ ح ١.

(٥) الخلاف ١ : ٥٥٦.

(٦) المختلف : ١٦٠.

٢١٠

الخلاف ـ فلا خلاف له في المسألة وإن حكاه عنه جماعة مائلين إليه (١) ؛ للأصل ؛ وعموم أدلة صحة القدوة من غير إشارة في شي‌ء منها إلى هذا الشرط بالمرّة ؛ وضعف الرواية سندا ومتنا.

وهو كما ترى ؛ لوجوب الخروج عن الأولين ـ على تقدير جريانهما في المقام ـ بالرواية ، لأنها من الموثق وهو حجة ، وعلى تقدير الضعف فهو منجبر بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، بل الإجماع في الحقيقة كما عرفته.

وأما المتن فلا ضعف فيه إلاّ من حيث التهافت واختلاف النسخة ، وهما لا تعلّق لهما بالحكم الذي يتعلق بأصل المسألة ، وإنما هما في بيان البعد الممنوع عنه والمرخّص فيه ، وهو غير أصل المسألة ، وضرر هما إنما هو فيه لا فيها ؛ ولذا لم يستند الأكثر في بيان البعد إلى الرواية وإنما عوّلوا فيه على العرف والعادة.

وقدّره في الدروس بما لا يتخطى كالفاضل في التذكرة (٢). وقيل : بشبر ، بزعم استفادته من الرواية (٣) ، وادّعى الفاضل الإجماع على اغتفاره في التذكرة (٤).

ويعضد الرواية في أصل المسألة نصوص أخر جملة منها صريحة (٥) ، وهي وإن كان الظاهر أنها عامية إلاّ أنها منجبرة بما عرفته.

( ويجوز ) الائتمام بالأعلى ( لو كانا على أرض منحدرة ) بلا خلاف فيه‌

__________________

(١) منهم : المحقق في المعتبر ٢ : ٤١٩ ، والشهيد في الذكرى : ٢٧٣ ، وصاحب المدارك ٤ : ٣٢٠.

(٢) الدروس ١ : ٢٢٠ ، التذكرة ١ : ١٧٤.

(٣) الذكرى : ٢٧٣.

(٤) التذكرة ١ : ١٧٤.

(٥) انظر سنن البيهقي ٣ : ١٠٨ ، ١٠٩.

٢١١

( ولا ) في أنه ( لو كان المأموم أعلى منه ) أي من الإمام مطلقا ( صحّ ) الائتمام ؛ لما في ذيل الموثقة المتقدمة من قوله عليه‌السلام : « وإن كان أرضا مبسوطة وكان في موضع منها ارتفاع فقام الإمام في الموضع المرتفع وقام من خلفه أسفل منه والأرض مبسوطة إلاّ أنهم في موضع منحدر فلا بأس » قال : وسئل : فإن قام الإمام أسفل من موضع من يصلّي خلفه ، قال : « لا بأس » وقال : « وإن كان رجل فوق بيت أو غير ذلك دكانا كان أو غيره وكان الإمام يصلّي على الأرض أسفل منه جاز أن يصلّي خلفه ويقتدي بصلاته وإن كان أرفع منه بشي‌ء كثير ».

وقد عرفت الجواب عمّا يرد عليها ، مع كون الحكم فيها هنا إجماعيا كما صرّح به في الأخير في المنتهى (١) ، ويظهر من غيره أيضا (٢) ؛ معتضدا بالأصل والعمومات أيضا ؛ ولذا لم ينسبه الماتن هنا إلى رواية عمّار مع كونه مذكورا فيها ، وإنما نسب الحكم سابقا إليها إشعارا بالتردد فيه المعلوم وجهه وجوابه ممّا قدّمنا ، ويحتمل كون المنسوب إليها في كلامه كون البعد الممنوع منه بما يعتدّ به كالدكان وشبهه لا المنع عن أصله ، ولكنه بعيد جدّا ، هذا.

وأما الخبر المنافي للحكم في الثاني (٣) فمع ضعف سنده بالجهالة شاذّ محمول على الفضيلة.

( ولا ) يجوز أن ( يتباعد المأموم ) عن الإمام أو الصف الذي يليه ( بما يخرج ) به ( عن العادة ؛ إلاّ مع اتصال الصفوف ).

أما عدم جواز التباعد في غير صورة الاستثناء فهو مجمع عليه بيننا على‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ٣٦٦.

(٢) كالذخيرة : ٣٩٤.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٨٢ / ٨٣٥ ، الوسائل ٨ : ٤١٢ أبواب صلاة الجماعة ب ٦٣ ح ٣.

٢١٢

الظاهر ، المصرّح به في عبائر جماعة من أصحابنا (١).

واما تحديده بما في العبارة فهو الأظهر الأشهر بين الطائفة.

استنادا في عدم جواز البعد العرفي الخارج عن العادة بحيث يسمى كثيرا إلى الأصل ، مع عدم مصحّح للعبادة معه ، عدا إطلاق النصوص بتبعّد المأموم عن الإمام مثلا وقيامه خلفه ، وهو غير معلوم الانصراف إلى البعد بهذه الكيفية.

مع أنه لا قائل بالصحة معه منّا إلا ما ينقل من ظاهر المبسوط من حكمه بجواز التباعد ثلاثمائة ذراع (٢). وعبارته المحكية غير صريحة في اختياره ذلك ، بل ولا ظاهرة ، بل أفتى أوّلا بما في العبارة ثمَّ حكى القول المحكي عنه عن قوم ، والظاهر أن المراد بهم من العامة ، كما صرّح به في المختلف ، قال : إذ لا قول لعلمائنا في ذلك (٣). وعبارته هذه ظاهرة في دعوى الإجماع على فساد هذا القول ، كما صرّح به الشيخ نفسه في الخلاف (٤).

وإذا انتفى هذا القول بالإجماع ظهر انعقاده على عدم جواز البعد الكثير مطلقا ؛ إذ لا قائل بجوازه دون الثلاثمائة ، إلاّ ما ربما يتوهم من الخلاف ، من حيث تحديده البعد الممنوع عنه بما يمنع عن مشاهدة الإمام والاقتداء بأفعاله (٥) ، الظاهر بحسب عموم المفهوم في جواز البعد بما لا يمنع عن المشاهدة مطلقا وإن كان كثيرا عادة.

وهو غير صريح ، بل ولا ظاهر في المخالفة ظهورا يعتدّ به ، سيّما وأن‌

__________________

(١) منهم : العلامة في التذكرة ١ : ١٧٣ ، وصاحب المدارك ٤ : ٣٢٢ ، والمحقق السبزواري في الذخيرة : ٣٩٤.

(٢) المبسوط ١ : ١٥٦.

(٣) المختلف : ١٥٩.

(٤) الخلاف ١ : ٥٥٦.

(٥) الخلاف ١ : ٥٥٩.

٢١٣

غالب صور مفهوم العبارة هو البعد الذي لم يخرج به عن العادة ، فيحمل عليه ، ولعلّه لذا لم ينقل عنه في المختلف الخلاف في المسألة ، وإنما نقل في مقابلة المشهور القول بما لا يتخطى والثلاثمائة خاصة ، مشعرا بأنهما المخالفان في المسألة.

وفي الصحة مع عدم البعد الكثير العرفي وإن كان بما لا يتخطى إلى الإطلاق الذي مضى ، المعتضد بالأصل والشهرة العظيمة بين أصحابنا بحيث كاد أن يكون إجماعا ، بل على جواز البعد بنحو من الطريق والنهر الإجماع في الخلاف صريحا (١) ، والغالب في البعد بهما كونه بما لا يتخطى.

ومنه يظهر جواز الاستناد إلى الموثق الذي مضى في جواز ائتمام المرأة خلف الرجل وإن كان المسافة بينهما حائطا أو طريقا.

خلافا للحلبي (٢) وابن زهرة (٣) ، فمنعا عن البعد بما لا يتخطى ؛ للصحيح الذي مضى المصرّح بأنه لا صلاة لمن بينه وبين الإمام أو الصف المتقدم عليه هذا (٤).

وهو محمول على الفضيلة جمعا والتفاتا إلى ما في ذيله من قوله : « وينبغي أن يكون الصفوف تامة متواصلة بعضها إلى بعض لا يكون بين الصفين ما لا يتخطى » وهو ظاهر في الاستحباب ، أظهر من ظهور : « لا صلاة » في الفساد ، سيّما مع درج تواصل الصفوف وتماميتها معه في حيّز : « ينبغي » فإنه بالنسبة إليه للاستحباب قطعا ، فكذا بالنسبة إلى مصحوبه المفسّر له ظاهرا.

__________________

(١) الخلاف ١ : ٢١٥.

(٢) في « م » : الحلي.

(٣) الحلبي في الكافي : ١٤٤ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠.

(٤) راجع ص ٢٠٧.

٢١٤

وقريب منه رواية أخرى مروية عن دعائم الإسلام ، إذ فيها : « وينبغي للصفوف أن تكون متواصلة ، ويكون بين كل صفين قدر مسقط جسد الإنسان إذا سجد » (١).

والظاهر أن جملة : « ويكون » معطوفة على جملة « تكون » الأولى ، للقرب ؛ وشهادة الصحيحة. ويمكن جعلها قرينة على كون العطف في هذه الرواية تفسيريا.

هذا مع أنّ فيها إجمالا من حيث عدم تعيينهما مبدأ ما يتخطى ، أهو من المسجد أم الموقف ، فكما يحتمل الثاني يحتمل الأول أيضا ، وعليه فلا مخالفة للمختار فيهما ، فتأمل جدّا.

هذا مضافا إلى ما يرد على هذا القول ممّا ذكرناه في الشرح مستقصى.

وبالجملة : فالمشهور أقوى وإن كان ما ذكراه أحوط وأولى.

وهل اشتراط هذا الشرط مطلق كما عليه الشهيدان (٢)؟ أم مختص بابتداء الصلاة خاصة حتى لو فقد بخروج الصفوف المتخللة عن الاقتداء بنية الانفراد أو بلوغ الصلاة إلى الانتهاء لم تنفسخ القدوة كما عليه جماعة؟ (٣).

وجهان ، والأصل ـ مع اختصاص ما دلّ على الاشتراط بحكم التبادر بالابتداء ـ مع الثاني.

وعلى الأول فهل تنفسخ القدوة مطلقا فينوي الانفراد للضرورة ، أم إذا لم يمكن تجديدها بالتقرب إلى محل الصحة مع عدم حصول المنافي؟

وجهان ، والأحوط تجديدها ثمَّ الصلاة مرة أخرى.

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ١٥٦ ، المستدرك ٦ : ٤٩٩ أبواب صلاة الجماعة ب ٤٩ ح ١.

(٢) الشهيد الأول في البيان : ٢٣٥ ، الشهيد الثاني في روض الجنان : ٣٧٠.

(٣) منهم صاحب المدارك ٤ : ٣٢٣ ، والمحقق السبزواري في الذخيرة : ٣٩٤.

٢١٥

واعلم : أن اغتفار البعد في صورة الاستثناء مجمع عليه ، بل ضروري جدّا.

وهل يجب أن لا يحرم البعيد من الصفوف بالصلاة حتى يحرم بها قبله من المتقدم من يزول معه التباعد كما يتوهم من بعض العبارات (١)؟ أم لا بل يكون مستحبا حيث لا يستلزم فوات القدوة وإلاّ فالعدم أولى؟

وجهان ، ولعلّ الثاني أقوى.

( وتكره القراءة ) من المأموم الغير المسبوق ( خلف الإمام ) المرضي عنده ( في ) الصلوات ( الإخفاتية على ) الأظهر ( الأشهر ) بين الطائفة على ما حكاه الماتن هنا ، وجماعة كالشهيدين في الدروس وروض الجنان (٢) ؛ للنهي عنها في الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة (٣).

وإنما حملت على الكراهة جمعا بينها وبين ما دلّ على الجواز من صريح المعتبرة ، كالصحيح : عن الركعتين اللتين يصمت فيهما الإمام ، يقرأ فيهما بالحمد وهو إمام يقتدى به؟ قال : « إن قرأت فلا بأس وإن سكتّ فلا بأس » (٤).

والخبر المنجبر ضعف سنده بعمل الأكثر : « إذا كنت خلف إمام تولاّه وتثق به فإنه يجزيك قراءته ، وإن أحببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت فيه ، فإذا جهر فأنصت » (٥).

وفي الصحيح : يقرأ الرجل في الاولى والعصر خلف الإمام وهو لا يعلم أنه يقرأ؟ فقال : « لا ينبغي له أن يقرأ ، يكله إلى الإمام » (٦).

__________________

(١) راجع الحدائق ١١ : ١٠٧.

(٢) الدروس ١ : ٢٢٢ ، روض الجنان : ٣٧٢.

(٣) الوسائل ٨ : ٣٥٣ أبواب صلاة الجماعة ب ٣٠.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٩٦ / ١١٩٢ ، الوسائل ٨ : ٣٥٨ أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ١٣.

(٥) التهذيب ٣ : ٣٣ / ١٢٠ ، الوسائل ٨ : ٣٥٩ أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ١٥.

(٦) التهذيب ٣ : ٣٣ / ١١٩ ، الاستبصار ١ : ٤٢٨ / ١٦٥٤ ، الوسائل ٨ : ٣٥٧ أبواب صلاة الجماعة

٢١٦

وهو ظاهر في الكراهة ، أظهر من دلالة النهي على الحرمة ، سيّما مع شيوع استعماله في الكراهة ، مع قوة احتمال وروده هنا لدفع توهم وجوب القراءة كما زعمته جماعة من العامة (١) ، فلا يفيد سوى إباحة الترك ، لا الحرمة ، بل ولا الكراهة ، وهي في الجملة من خصائص الإمامية ، وادّعى إجماعهم عليها جماعة كالفاضلين في المعتبر والمنتهى والتذكرة (٢).

ولعلّه لهذا قيل بعدم الكراهة هنا (٣). ولكنه ضعيف ؛ لما عرفت من ظهور الصحيحة الأخيرة فيها ؛ مضافا إلى التسامح فيها والاكتفاء في ثبوتها بفتوى فقيه واحد فضلا عن الشهرة ، وباحتمال الحرمة ، كما عليها هنا من القدماء جماعة (٤) لظاهر النواهي ، لكن قد عرفت جوابه.

ولصريح الصحيح : « من قرأ خلف إمام يأتم به فمات بعث على غير الفطرة » (٥).

ويمكن حمله على الكراهة ـ وإن بعد غايته ـ جمعا بينه وبين ما مرّ ممّا هو أصرح دلالة على الجواز منه على الحرمة. أو على ما عدا الإخفاتية. أو على ما إذا قرأ بقصد الوجوب كما عليه جماعة من العامة ، فيكون المقصود به ردّهم لا إثبات إطلاق الحرمة.

وأما القول باستحباب القراءة لكن للحمد خاصة ـ كما عن الشيخ في‌

__________________

ب ٣١ ح ٨.

(١) منهم ابن قدامة في المغني ٢ : ١٢ ، وابن رشد في بداية المجتهد ١ : ١٥٤.

(٢) المعتبر ٢ : ٤٢٠ ، المنتهى ١ : ٣٧٨ ، التذكرة ١ : ١٨٤.

(٣) اللمعة ( الروضة البهية ١ ) : ٣٨١.

(٤) منهم الشيخ في النهاية : ١١٣ ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠.

(٥) الكافي ٣ : ٣٧٧ / ٦ ، الفقيه ١ : ٢٥٥ / ١١٥٥ ، التهذيب ٣ : ٢٦٩ / ٧٧٠ ، الوسائل ٨ : ٣٥٦ أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٤.

٢١٧

المبسوط والنهاية وجماعة (١) ـ فلم أقف له على دلالة ، فهو أضعف الأقوال في المسألة.

( و ) كذا تكره ( في ) الصلوات ( الجهرية لو سمع ) القراءة ( ولو همهمة ) وهي الصوت الخفي من غير تفصيل الحروف ، بلا خلاف في أصل المرجوحية ، على الظاهر ، المصرّح به في كلام جماعة ، كالفاضل المقداد في التنقيح والشهيد الثاني في روض الجنان والروضة (٢) ، ويشمله دعوى الفاضلين الإجماع على السقوط في كتبهما المتقدمة ، كنفي الحلّي الخلاف في السرائر عن ضمان الإمام للقراءة (٣).

وهل هي على الحرمة كما عليه من القدماء والمتأخرين جماعة (٤)؟ أم الكراهة كما عليه آخرون ، وادّعى عليها الشهيدان الشهرة في الدروس والروضة (٥) ، بل في التنقيح نسب وجوب الإنصات المنافي للقراءة إلى ابن حمزة خاصة ، ثمَّ قال : والباقون سنّوه (٦). ولعلّه ظاهر في دعوى الاتفاق؟ إشكال :

من الأمر بالإنصات في الآية الكريمة (٧) ، وجملة من الصحاح ، منها : « وإن كنت خلف الإمام فلا تقرأنّ شيئا في الأوليين وأنصت لقراءته ، ولا تقرأ شيئا في الأخيرتين ، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول للمؤمنين( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) يعني في‌

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٥٨ ، النهاية : ١١٣ ؛ وانظر المهذّب ١ : ٨١ ، والجامع للشرائع : ١٠٠ ، ونهاية الإحكام ٢ : ١٦٠.

(٢) التنقيح الرائع ١ : ٢٧٢ ، روض الجنان : ٣٧٢ ، الروضة ١ : ٣٨١.

(٣) السرائر ١ : ٢٨٤.

(٤) منهم : الشيخ في النهاية : ١١٣ ، والحلبي في الكافي : ١٤٤ ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠ والعلامة في المختلف : ١٥٨ ، وصاحب المدارك ٤ : ٣٢٣.

(٥) الدروس ١ : ٢٢٢ ، الروضة ١ : ٣٨١.

(٦) التنقيح ١ : ٢٧٢.

(٧) الأعراف : ٢٠٤.

٢١٨

الفريضة ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) والأخيرتان تبع للأوليين » (١) ومنها : « إنّ الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة فإنما أمر بالجهر لينصت من خلفه ، فإن سمعت فأنصت ، وإن لم تسمع فاقرأ » (٢).

ومنها : « إذا كنت خلف إمام تأتم به فأنصت وسبّح » (٣) ونحوها غيرها (٤).

مضافا إلى النهي عنها في الصحاح المستفيضة عموما وخصوصا في المسألة (٥) ، والأمر والنهي حقيقتان في الوجوب والحرمة.

ومن احتمال كونهما هنا للاستحباب والكراهة كما يفهم من بعض المعتبرة ، كالموثق : عن الرجل يؤم الناس فيستمعون صوته ولا يفهمون ما يقول ، فقال : « إذا سمع صوته فهو يجزيه ، وإذا لم يسمع صوته قرأ لنفسه » (٦).

فإنّ في التعبير بالإجزاء إشعارا بل ظهورا في عدم المنع عن القراءة أصلا ، أو عدم كونه للحرمة.

هذا مضافا إلى الإجماع على ما حكاه بعض الأصحاب (٧) على عدم وجوب الإنصات للقراءة على الإطلاق ، كما هو ظاهر الآية ، بل هو كذلك للاستحباب ، فتعليل الأمر بالإنصات في النصوص بالأمر به فيها قرينة عليه ،

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٥٦ / ١١٦٠ ، الوسائل ٨ : ٣٥٥ أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٣٧٧ / ١ ، التهذيب ٣ : ٣٢ / ١١٤ ، الاستبصار ١ : ٤٢٧ / ١٦٤٩ ، الوسائل ٨ : ٣٥٦ أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٥.

(٣) الكافي ٣ : ٣٧٧ / ٣ ، التهذيب ٣ : ٣٢ / ١١٦ ، الاستبصار ١ : ٤٢٨ / ١٦٥١ ، الوسائل ٨ : ٣٥٧ أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ٦.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٤٤ ، المستدرك ٦ : ٤٨٠ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٨ ح ١.

(٥) الوسائل ٨ : ٣٥٥ أبواب صلاة الجماعة ب ٣١.

(٦) التهذيب ٣ : ٣٤ / ١٢٣ ، الاستبصار ١ : ٤٢٩ / ١٦٥٦ ، الوسائل ٨ : ٣٥٨ أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ١٠.

(٧) منهم المحقق الأردبيلي في زبدة البيان : ١٣٠ ، والعلامة المجلسي في بحار الأنوار ٨٥ : ٢١.

٢١٩

كما صرّح به الماتن (١).

وفيه نظر ؛ لتصريح الصحيحة باختصاص الآية بالفريضة ، ولا إجماع على عدم الوجوب فيها ؛ والإجماع على الاستحباب في غيرها لا ينافي الوجوب فيها ، فهذا الاستدلال ضعيف.

وأضعف منه الاستدلال بنحو الصحيح : عن الرجل يصلّي خلف إمام يقتدى به في صلاة يجهر فيها بالقراءة فلا يسمع القراءة ، قال : « لا بأس إن صمت وإن قرأ » (٢).

فإنه أخصّ من المدّعى ؛ لدلالته على جواز القراءة في صورة خاصة ، وهي صورة عدم سماع القراءة ، وقد أطبق الأكثر بل الكل ـ عدا الحلّي (٣) ـ على الجواز هنا وإن اختلفت عبائرهم في كونه على الوجوب كما هو ظاهر الماتن هنا ؛ لقوله ( ولو لم يسمع قرأ ) لظهور الأمر فيه.

أو الاستحباب كما هو صريح جمع (٤).

أو الإباحة كما هو ظاهر القاضي وغيره (٥) ، ويحتمله المتن وغيره ، حتى النصوص الآمرة به كالصحيح : « فإن سمعت فأنصت ، وإن لم تسمع فاقرأ » (٦) لوروده في مقام توهم المنع ، فلا يفيد سوى الإباحة ، ويدفع الرجحان بالأصل والصحيحة المتقدمة المجيزة الظاهرة في تساوي الطرفين في الرجحان والمرجوحية.

__________________

(١) انظر المعتبر ٢ : ٤٢١.

(٢) التهذيب ٣ : ٣٤ / ١٢٢ ، الاستبصار ١ : ٤٢٩ / ١٦٥٧ ، الوسائل ٨ : ٣٥٨ أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ١١.

(٣) السرائر ١ : ٢٨٤.

(٤) الماتن في المعتبر ٢ : ٤٢١ ؛ وانظر المختلف : ١٥٨ ، والذكرى : ٢٧٧.

(٥) القاضي في المهذّب ١ : ٨١ ؛ وانظر النهاية : ١١٣.

(٦) تقدّم مصدره في ص : ٢١٩.

٢٢٠