اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وقال الثّوريّ (١) ، والأوزاعيّ (٢) : الأولى أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم إنّ الله هو السّميع العليم.

وروى الضّحّاك (٣) عن ابن عبّاس ، أنّ أول ما نزل جبريل ـ عليه‌السلام ـ على محمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : قل يا محمّد : استعذ بالله السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم ، ثمّ قال : قل : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١].

ونقل عن بعضهم ، أنه كان يقول : أعوذ بالله المجيد من الشّيطان المريد.

فصل

اتّفق الأكثرون على أنّ وقت الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة.

وعن النّخعيّ (٤) : أنّه بعدها ، وهو قول داود الأصفهانيّ (٥) ، وإحدى

__________________

(١) سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهب بن منقذ بن نصر بن الحكم بن الحارث بن مالك بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة على الصحيح ، وقيل : من ثور همدان ، الثوري أبو عبد الله الكوفي أحد الأئمة الأعلام ، كان من الفضلاء ، وكان لا يسمع شيئا إلّا حفظه ، كان متقنا ضابطا زاهدا ورعا. ولد سنة سبع وسبعين ، وتوفي بالبصرة سنة ١٦١ ه‍.

ينظر الخلاصة : ١ / ٣٩٦ (٢٥٨٤) ابن سعد : ٦ / ٢٥٧ ـ ٢٦٠ والحلية : ٦ / ٣٥٦ ـ ٤٩٣ و ٧ / ٣ ـ ١٤١.

(٢) عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي ، أبو عمرو ، من قبيلة الأوزاع ، إمام الديار الشامية في العلم والورع ، ولد ب «بعلبك» سنة ٨٨ ه‍ ، وسكن بيروت ، وتوفي بها ، وعرض عليه القضاء فامتنع. قال صالح بن يحيى : «كان الأوزاعي عظيم الشأن بالشام ، وكان أمره فيهم أعز من أمر السلطان ...».

له كتاب «المسائل» يقدر ما سئل عنه بسبعين ألف مسألة ، أجاب عنها كلها ، وكانت الفتيا تدور على رأيه ببلاد الأندلس. توفي ب «بيروت» سنة ١٥٧ ه‍.

ينظر ترجمته في وفيات الأعيان : ١ / ٢٧٥ ، حلية الأولياء : ٦ / ١٣٥ ، الأعلام : ٣ / ٣٢٠.

(٣) الضحاك بن مزاحم البلخي الخراساني ، مفسر ، كان يؤدب الأطفال ، ويقال : كان في مدرسته ثلاثة آلاف صبي ، قال الذهبي : يطوف عليهم على حمار ، ذكره ابن حبيب تحت عنوان أشراف المعلمين وفقهاؤهم له كتاب في التفسير توفي ١٠٥ ه‍.

ينظر ميزان الاعتدال : ٤٧١ ، المحبر : ٤٧٥ ، العبر للذهبي : ١ / ١٢٢٤. تاريخ الخميس : ٢ / ٣١٨ ، الأعلام : ٣ / ٢١٥.

(٤) إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران النخعي : من مذحج ، ولد في ٤٦ ه‍ ، من أكابر التابعين صلاحا وصدق رواية وحفظا للحديث من أهل الكوفة ، مات مختفيا من الحجّاج.

قال فيه الصلاح الصفدي : فقيه العراق ، كان إماما مجتهدا له مذهب ، ولما بلغ الشعبي موته قال : والله ما ترك بعده مثله ، توفي في ٩٦ ه‍.

ينظر الأعلام : ١ / ٨٠ ، وطبقات ابن سعد : ٦ / ١٨٨ ـ ١٩٩ ، وتاريخ الإسلام : ٣ / ٣٣٥ ، وطبقات القراء : ١ / ٢٩.

(٥) أبو سليمان داود بن علي بن خلف بن سليمان الأصبهاني ، ثم البغدادي إمام أهل الظاهر ، ولد سنة ٢٠٠ ، وأخذ العلم عن إسحاق وأبي ثور. قال العبادي : وكان من المتعصبين للشافعي ، وصنف كتابين في فضائله والثناء عليه. مات سنة ٢٧٠. ـ

٨١

الرّوايتين عن ابن سيرين (١).

وقالوا : إذا [قرأ](٢) الفاتحة وأمّن ، يستعيذ بالله.

دليل الجمهور : ما روى جبير بن مطعم (٣) ـ رضي الله عنه ـ : أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم ـ حين افتتح الصلاة قال : «الله أكبر كبيرا ، ثلاث مرّات ، والحمد لله كثيرا ، ثلاث مرّات ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، ثلاث مرّات ، ثمّ قال : أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم من همزه ونفخه ونفثه» (٤).

واحتجّ المخالف بقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨] دلّت هذه الآية على أنّ قراءة القرآن شرط ، وذكر الاستعاذة جزاء ، والجزاء متأخّر عن الشّرط ؛ فوجب أن تكون الاستعاذة متأخّرة عن القراءة.

ثمّ قالوا : وهذا موافق لما في العقل ؛ لأنّ من قرأ القرآن ، فقد استوجب الثّواب العظيم ، فربّما يداخله العجب ؛ فيسقط ذلك الثّواب ، لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ثلاث مهلكات» وذكر منها إعجاب المرء بنفسه (٥) ؛ فلهذا السّبب أمره الله ـ تعالى ـ [بأن

__________________

ـ انظر طبقات ابن قاضي شهبة : ١ / ٧٧ ، وفيات الأعيان : ٢ / ٢٦ ، وطبقات الفقهاء : ص ٥٨.

(١) محمد بن سيرين الأنصاري ، مولاهم أبو بكر الأنصاري إمام وقته ، عن مولاه أنس وزيد بن ثابت وعمران بن حصين وأبي هريرة وعائشة وطائفة من كبار التابعين ، وعنه الشعبي وثابت وقتادة وأيوب ومالك بن دينار وسليمان التيمي وخالد الحذاء والأوزاعي وخلق كثير ، وقال بكر المزني : والله ما أدركنا من هو أورع منه ، قال حماد بن زيد : مات سنة عشر ومائة.

(٢) في أ : أفرغ.

(٣) جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف النوفلي ، أبو محمد أو أبو عدي المدني ، أسلم قبل حنين أو يوم الفتح ، له ستون حديثا ، اتفقا على ستة وانفرد البخاري بحديث ومسلم بآخر ، روى عنه ابناه محمد ونافع وسليمان بن صرد وابن المسيب وطائفة ، وكان حليما وقورا عارفا بالنسب ، وذكر ابن إسحاق أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعطاه مائة من الإبل ، توفي سنة تسع أو ثمان وخمسين بالمدينة.

ينظر ترجمته في تهذيب الكمال : ١ / ١٨٥ ، وتهذيب التهذيب : ٢ / ٦٣ ، وتقريب التهذيب : ١ / ١٦١ ، والكاشف : ١ / ١٨٠ ، وتاريخ البخاري الكبير : ٢ / ٢٢٣ ، وتاريخ البخاري الصغير : ١ / ٦ ، ١٠ ، ١٠٥ والجرح والتعديل : ٢ / ٢١١٢ ، وتجريد أسماء الصحابة : ١ / ٧٨ ، وأسد الغابة : ١ / ٣٢٢ ، والإصابة ١ / ٤٦٢ ، والاستيعاب : ١ / ٤٣٢ ، وشذرات الذهب : ١ / ٥٩ ، ٦٤.

(٤) أخرجه أبو داود (٧٦٤) ، وابن ماجه (١ / ٢٦٥) رقم (٨٠٧) ، والطيالسي (٩٤٧) ، والبيهقي (٢ / ٣٥) ، وأحمد (٤ / ٨٥) ، والحاكم (١ / ٢٣٥).

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي.

وأخرجه من حديث «ابن مسعود» ابن ماجه (١ / ٢٦٥) رقم (٨٠٨) ، والحاكم (١ / ٢٠٧) والبيهقي (٢ / ٣٦) ، وأحمد (١ / ٤٠٤).

(٥) أخرجه أبو نعيم (٢ / ٣٤٣) من حديث «أنس» ، وعزاه الهندي في «الكنز» (٤٣٨٦٧) للطبراني في «الأوسط» ، وأبي الشيخ في «التوبيخ» ، والخطيب في «المتفق والمفترق».

وأخرجه البزار (١ / ٦٠) من حديث «ابن عباس» مرفوعا.

٨٢

يستعيذ من الشيطان ؛ لئلّا يحمله الشيطان بعد القراءة](١) على عمل محبط ثواب تلك الطّاعة.

قالوا : ولا يجوز أن يكون المراد من قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي : إذا أردت قراءة القرآن ؛ كما في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) [المائدة : ٦].

والمعنى : إذا أردتم القيام فتوضّئوا ؛ لأنه لم يقل : فإذا صلّيتم فاغسلوا ؛ فيكون نظير قوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) وإن سلّمنا كون هذه الآية نظير تلك ، فنقول : نعم ، إذا قام يغسل عقيب قيامه إلى الصّلاة ؛ لأنّ الأمر إنّما ورد بالغسل عقيب قيامه ، وأيضا : فالإجماع (٢) دلّ على ترك هذا الظّاهر ، وإذا ترك الظاهر في موضع لدليل ، لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل.

__________________

(١) في أ : أن يستعيذ بعد القراءة.

(٢) الإجماع في اللغة على معنيين : أحدهما : العزم ، يقال : أجمعت المسير والأمر ، وأجمعت عليه أي : عزمت ، فهو يتعدّى بنفسه وبالحرف ، وقد جاء بهذا المعنى في الكتاب ، والسنّة ، قال تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) [يونس : ٧١] أي : اعزموا ، وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يجمع الصّيام قبل الفجر ، فلا صيام له» ، أي : لم يعزم عليه فينويه.

ثانيهما : الاتّفاق : ومنه يقال : أجمع القوم على كذا ، إذا اتّفقوا ، قال في القاموس : «الإجماع : الاتّفاق ، والعزم على الأمر».

قال الغزاليّ والإمام الرازيّ والآمديّ والعضد وغيرهم : الإجماع لغة : يقال بالاشتراك اللّفظيّ على معنيين : أحدهما : العزم على الشّيء والتّصميم عليه ؛ قال الله تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ)[يوسف : ١٥] وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا صيام لمن لم يجمع الصّيام من اللّيل» ، وعلى هذا يصحّ إطلاق اسم الإجماع على عزم الواحد.

والثاني : الاتّفاق : يقال : أجمع القوم على كذا ، أي : صاروا ذوي جمع كما يقال : ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر ، وعلى هذا فاتّفاق كلّ طائفة على أمر من الأمور دينيّا كان أو دنيويا ، يسمّى إجماعا ؛ حتّى اتفاق اليهود والنّصارى ، وقال صاحب «المسلّم من المسلّم» ، وحاشيته : وهو لغة : العزم والاتّفاق وكلامه من الجمع ، أي : منقول ، ومأخوذ منه ، لأن العزم باجتماع الخواطر ، والاتفاق باجتماع الأعزام ، وفيه ردّ على شارح المختصر ، حيث قال : الإجماع لغة يطلق على معنيين : أحدهما : العزم ، (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) ، أي : اعزموا ، ومنه : «لا صيام لمن لم يجمع الصّيام من اللّيل».

وثانيهما : الاتّفاق ، وحقيقة : أجمع ، صار ذا جمع ، كألبن وأتمر ، وكلامه يفيد أنّ الإجماع مشترك معنويّ موضوع لصيرورة المرء ذا جمع ، الشّاملة لصيرورته ذا جمع لخواطره ، وصيرورته ذا جمع لعزمه أو رأيه مع أعزام القوم أو آرائهم. وقال القاضي أبو بكر الباقلانيّ : العزم يرجع إلى الاتّفاق ؛ لأنّ من اتّفق على شيء ، فقد عزم عليه ، وعلى هذا يكون العزم لازما للاتّفاق ، فالإجماع عنده حقيقة في الاتّفاق مجاز في العزم.

وقال ابن أمير حاج صاحب «التقرير» : لقائل أن يقول : المعنى الأصليّ له العزم ، وأما الاتّفاق فلازم اتفاقيّ ضروريّ للعزم من أكثر من واحد ، لأنّ اتّحاد متعلّق عزم الجماعة يوجب اتّفاقهم عليه ، لا أنّ العزم يرجع إلى الاتفاق ؛ لأن من اتفق على شيء ، فقد عزم عليه ، كما ذكره القاضي ، فإنّه ليس ـ

٨٣

أمّا جمهور الفقهاء ـ رحمهم‌الله تعالى ـ فقالوا : إنّ قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ

__________________

ـ بمطّرد ، ولا أنه مشترك لفظيّ بينهما كما ذكره الغزاليّ أو لا ملجىء إليه مع أنه خلاف الأصل. وقال ابن برهان ، وابن السّمعانيّ : العزم أشبه باللّغة ، والاتّفاق أشبه بالشّرع ، ويجاب عنه بأن الاتّفاق ، وإن كان أشبه بالشّرع ، فذاك لا ينافي كونه معنى لغويّا ، وكون اللّفظ مشتركا بينه وبين العزم. قال أبو عليّ الفارسي : يقال : أجمع القوم إذا صاروا ذوي جمع كما يقال : ألبن وأتمر : إذا صار ذا لبن وتمر ، والّذي يظهر في تحرير المعنى اللّغوي : أنّ بين العزم والاتفاق عموما وخصوصا وجهيّا يجتمعان في اتفاق الجماعة في إرادة شيء وينفرد العزم في إرادة الواحد ، وينفرد الاتّفاق في اتفاق الجماعة ؛ من قول ، أو فعل بدون إرادة وعزم.

ولا ريب في أنّ المعنى الثاني بالاصطلاحي أنسب ، فإنّ الاتفاق مطلق يشمل اتفاق جمع ما ولو كفارا على أمر ما ولو معصية ، والاصطلاحي اتّفاق مقيد.

وقال صاحب التّقرير : كون المعنى الثاني أنسب مبنيّ على أنه إذا لم يبق من المجتهدين إلا واحد ، لا يكون قوله حجّة كما هو أحد القولين ، أي : وأما على رأي من يقول أنّه حجّة ، يكون المعنى الأول أنسب ، فمن قال : إنه حجّة ، لا يقول : إنه إجماع ؛ لأنه لا يصدق عليه تعريف الإجماع ، فلا يكون المعنى الأوّل أنسب ، ويكون المعنى الثاني هو الأنسب.

الإجماع اصطلاحا عرّفه الرّازيّ في «المحصول» بأنه : «عبارة عن اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. على أمر من الأمور».

وعرّفه الآمديّ بقوله : عبارة عن اتّفاق جملة أهل الحلّ والعقد من أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في عصر من الأعصار على واقعة من الوقائع.

وعرّفه النّظّام من المعتزلة بقوله : هو كلّ قول قامت حجّته حتّى قول الواحد.

وعرّفه سراج الدين الأرمويّ في «التحصيل» بقوله : هو اتّفاق المسلمين المجتهدين في أحكام الشّرع على أمر ما ، من اعتقاد ، أو قول ، أو فعل.

ويمكن أن يعرّف بأنّه : اتفاق المجتهدين من هذه الأمّة بعد وفاة ـ محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في عصر على أمر شرعيّ.

فقولنا : «اتّفاق» جنس في التعريف يعمّ كلّ اتفاق ، وخرج عنه أمران ، اختلاف المجتهدين ، وقول المجتهد الواحد إذا انفرد في عصر ، فإنه لا يكون إجماعا ؛ لأنّ الاتفاق أقلّ ما يتحقّق بين اثنين ، والمراد به الاشتراك في الاعتقاد ، أو القول ، أو الفعل ، أو ما في معناه ؛ كالسّكوت عند من يرى أنّ ذلك كاف في الإجماع ، ولمّا كانت العبرة في الإجماع بالاعتقاد كما يؤخذ من كلامهم في مواضع ، فالمراد به الاشتراك في الاعتقاد فقط ، أو في الاعتقاد مع القول ، أو في الاعتقاد مع الفعل ، وهذا معنى قول من قال : أو مانعة خلو تجوز الجمع ، ومعنى الاشتراك في الاعتقاد : أن يعتقدوا جميعا الحكم المجمع عليه ، وفي القول : أن يتكلموا بما يدلّ عليه ، وفي الفعل : أن يأتوا بمتعلّقه ، إذا كان من باب الفعل ، وفي السّكوت : أن يقول بعضهم حكما في مسألة اجتهاديّة ، ويسكت الباقون بعد العلم به ، ومضيّ مدة التأمّل عادة سكوتا مجردا عن أمارة سخط وتقيّة ، وكل من الاتفاق القولي والعملي يسمّى عزيمة ، والسّكوتي يسمّى رخصة.

وقول المجتهدين فيه للاستغراق ، فيقضي أنه لا بدّ من الكلّ ، فخرج به أمران : اتفاق العوام ؛ إذ لا عبرة به على التّحقيق ، واتّفاق بعض المجتهدين مع مخالفة الآخرين. ـ

٨٤

فَاسْتَعِذْ) يحتمل أن يكون المراد منه : إذا أردت ، وإذا ثبت الاحتمال ، وجب حمل اللفظ عليه توفيقا بين الآية وبين الخبر الذي رويناه ، ومما يقوي ذلك من المناسبات العقلية ، أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة ؛ قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] فأمره الله ـ تعالى ـ بتقديم الاستعاذة قبل القراءة ؛ لهذا السبب.

قال ابن الخطيب (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «وأقول : ها هنا قول ثالث : وهو [أن](٢)

__________________

ـ وقولنا : «من هذه الأمة» خرج به اتفاق مجتهدي الشرائع السالفة.

وقولنا : «بعد وفاة ـ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ» متعلق باتفاق لا بالمجتهدين لأن قبل وفاته اتفاقهم حجة بعد وفاته ، وخرج به اتفاق المجتهدين في حياته ؛ لأن قولهم دونه لا يصح ، وإن كان معهم ، فالحجة في قوله ، وقولنا «في عصر» أي : في زمان قل أو كثر ، وهو نكرة ، فالمراد الاتفاق في أي عصر كان ، وقيل : لو لا ه لم يدخل إلا اتفاق كل المؤمنين إلى يوم القيامة ، ولكن الحق أن الأمة تطلق على الموجودين في عصر ؛ كما تطلق على كل المؤمنين من لدن البعثة إلى يوم القيامة ، والمتبادر هو الإطلاق الأول ، فيصح الاستغناء عنه ؛ ولذا قال في التلويح : ولا يخفى أن من تركه ، أي : قيده في عصر إنما تركه لوضوحه ، لكن التصريح به أنسب بالتعريفات اه ، أي : لاحتمال لفظ الأمة المعنى الثاني.

ينظر البرهان لإمام الحرمين : ١ / ٦٧٠ ، والبحر المحيط للزركشي : ٤ / ٤٣٥ ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ١ / ١٧٩ ، وسلاسل الذهب للزركشي ص ٣٣٧ ، والتمهيد للإسنوي ص ٤٥١ ، ونهاية السول له : ٣ / ٢٣٧ ، وزوائد الأصول له : ص ٣٦٢ ، ومنهاج العقول للبدخشي : ٢ / ٣٧٧ ، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ص ٢٠٩ ، والتحصيل من المحصول للأرموي : ٢ / ٣٧ ، والمنخول للغزالي : ص ٣٠٣ ، والمستصفى له : ١ / ١٧٣ ، وحاشية البناني : ٢ / ١٧٦ ، والإبهاج لا بن السبكي : ٢ / ٣٤٩ ، والآيات البينات لا بن قاسم العبادي : ٣ / ٢٧٨ ، وحاشية العطار على جمع الجوامع : ٢ / ٢٠٩ ، والمعتمد لأبي الحسين : ٢ / ٣ ، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي : ص ٤٣٥ ، والتحرير لا بن الهمام : ص ٣٩٩ ، وتيسير التحرير لأمير بادشاه : ٣ / ٢٢٤ ، والتقرير والتحبير لا بن أمير الحاج : ٣ / ٨٠ ، وميزان الأصول للسمرقندي : ٢ / ٧٠٩ ، وكشف الأسرار للنسفي : ٢ / ١٨٠ ، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى : ٢ / ٣٤ ، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني : ٢ / ٤١ ، وحاشية نسمات الأسحار لا بن عابدين : ص ٢٠٩ ، وشرح المنار لا بن ملك : ص ٩٩ ، والوجيز للكراماسي: ص ٦١ ، وتقريب الوصول لا بن جزي : ص ١٢٩ ، وإرشاد الفحول للشوكاني : ص ٧١ ، وشرح مختصر المنار للكوراني : ص ٩٩ ، ونشر البنود للشنقيطي : ٢ / ٧٤ ، وشرح الكوكب المنير للفتوحي : ص ٢٢٥.

(١) محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي ، سلطان المتكلمين في زمانه ، فخر الدين ، أبو عبد الله الرازي ، ولد سنة ٥٤٤ ، واشتغل أولا على والده ضياء الدين عمر ، ثم على الكمال السمناني ، وعلى المجد الجيلي وغيرهما ، وأتقن علوما كثيرة ، وبرز فيها وتقدم وساد ، وصنف في فنون كثيرة ، وروي عنه ندمه على الدخول في علم الكلام ، وله التفسير الكبير «مفاتيح الغيب» وهو مطبوع ، وكذلك كتاب «المحصول» وغيرهما ـ مات سنة ٦٠٦. انظر ط. ابن قاضي شهبة : ٢ / ٦٥ ، ولسان الميزان : ٤ / ٤٢٦ ، والأعلام : ٧ / ٢٠٣.

(٢) في أ : أنه.

٨٥

يقرأ الاستعاذة قبل القراءة ؛ بمقتضى الخبر ، وبعدها ؛ بمقتضى القرآن ؛ جمعا بين الدلائل بقدر الإمكان».

قال عطاء (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : الاستعاذة واجبة لكل قراءة ، سواء كانت في الصلاة أو غيرها.

وقال ابن سيرين ـ رحمه‌الله تعالى ـ : إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره ، فقد كفى في إسقاط الوجوب ، وقال الباقون : إنها غير واجبة.

حجة الجمهور : أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم ـ لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة.

ولقائل أن يقول : إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة ، فلم يلزم من عدم الاستعاذة فيه ، عدم وجوبها.

واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه :

الأول : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ واظب عليه ؛ فيكون واجبا ـ لقوله تعالى : (وَاتَّبِعُوهُ) [الأعراف : ١٥٨].

الثاني : أن قوله تعالى : (فَاسْتَعِذْ) أمر ؛ وهو للوجوب ، ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل [قراءة] ، لأنه تعالى قال : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨] وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل ، والحكم يتكرر بتكرر العلة.

الثالث : أنه ـ تعالى ـ أمر بالاستعاذة ؛ لدفع شر الشيطان ؛ وهو واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب (٢).

__________________

(١) عطاء بن أبي رباح القرشي ، مولاهم أبو محمد الجندي اليماني ، نزيل مكة وأحد الفقهاء والأئمة ، عن عثمان ، وعتاب بن أسيد مرسلا ، وعن أسامة بن زيد ، وعائشة ، وأبي هريرة ، وأم سلمة ، وعروة بن الزبير وطائفة ، وعنه أيوب ، وحبيب بن أبي ثابت ، وجعفر بن محمد ، وجرير بن حازم ، وابن جريج ، وخلق. قال ابن سعد : كان ثقة عالما كثير الحديث ، انتهت إليه الفتوى بمكة. وقال أبو حنيفة : ما لقيت أفضل من عطاء. وقال ابن عباس ـ وقد سئل عن شيء ـ : يا أهل مكة ، تجتمعون علي وعندكم عطاء. وقيل : إنه حج أكثر من سبعين حجة. قال حماد بن سلمة : حججت سنة مات عطاء ، سنة أربع عشرة ومائة. ينظر تهذيب الكمال : ٢ / ٩٣٣ ، والخلاصة : ٢ / ٢٣٠ ، والحلية : ٣ / ٣١٠ ، والكاشف : ٢ / ٢٦٥.

(٢) هو الفعل الذي طلبه الشارع طلبا جازما ؛ كالصلاة المدلول على طلبها طلبا جازما ، بقوله تعالى : «أَقِيمُوا الصَّلاةَ» * ؛ وكالحج المدلول على طلبه طلبا جازما ، بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، [آل عمران : ٩٧] ؛ وكالصيام المدلول على وجوبه بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة : ١٨٣]. ـ

٨٦

فصل في حكم التعوذ قبل القراءة

التعوذ في الصلاة مستحب (١) قبل القراءة عند الأكثرين.

وقال مالك (٢) ـ رضي الله تعالى عنه ـ لا يتعوذ في المكتوبة ، ويتعوذ في قيام شهر

__________________

ـ ينظر : البحر المحيط للزركشي : ١ / ١٧٦ ، والبرهان لإمام الحرمين : ١ / ٣٠٨ ، وسلاسل الذهب للزركشي : ١١٤ ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ١ / ٩١ ، والتمهيد للإسنوي : ٥٨ ، ونهاية السول له : ١ / ٧٣ ، وزوائد الأصول له : ٢٣٢ ، ومنهاج العقول للبدخشي : ١ / ٥٤ ، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ١٠ ، والتحصيل من المحصول للأرموي : ١ / ١٧٢ ، والمستصفى للغزالي : ١ / ٢٧ ، وحاشية البناني : ١ / ٨٨ ، والإبهاج لا بن السبكي : ١ / ٥١ ، والآيات البينات لا بن قاسم العبادي : ١ / ١٣٥ ، وحاشية العطار على جمع الجوامع : ١ / ١١١ ، والمعتمد لأبي الحسين : ١ / ٤. والتحرير لا بن الهمام : ٢١٧ ، وتيسير التحرير لأمير بادشاه : ٢ / ١٨٥ ، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى : ١ / ٢٢٥ ، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني : ٢ / ١٢٣ ، والموافقات للشاطبي : ١ / ١٠٩ ، وميزان الأصول للسمرقندي : ١ / ١٢٨ ، والكوكب المنير للفتوحي : ١٠٥.

(١) النوافل جمع نافلة ، والنفل والمندوب والمستحب والتطوع والسنة والمرغب فيه ألفاظ مترادفة عرفا ، معناها واحد ؛ هو الفعل الذي طلبه الشارع طلبا غير جازم عند أكثر العلماء ، خلافا لبعضهم القائل بعدم ترادف المستحب والتطوع والسنة ؛ لأن الفعل المطلوب طلبا غير جازم إن واظب عليه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بأن لم يتركه إلا لعذر ، فهو السنة ، أولم يواظب عليه ، بأن تركه في بعض الأحيان لغير عذر ، فهو المستحب ، أولم يفعله ، وهو ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد فهو التطوع ، أما المندوب والنفل والمرغب فيه فهي مرادفة لكل من الثلاثة المتباينة ؛ لصحة حمل كل واحد منها عليها ، فيقال مثلا : التطوع مندوب ، والمستحب مرغب فيه وهكذا ، وهذا الخلاف لفظي ، أي : أنه يؤل إلى اللفظ والتسمية ؛ إذ هو يتلخص في أنه كما سمي كل قسم من الأقسام الثلاثة باسم من الأسماء الثلاثة كما سبق ، هل يسمى بغيره منها؟ فقال البعض : لا يصح أن يطلق اسم من هذه على مدلول كل ، لعدم وجود المناسبة بينه وبين الاسم ؛ لأن السنة الطريقة والعادة ، والمستحب المحبوب ، والتطوع الزيادة. وقال الأكثر : يصح أن يطلق اسم كل على مدلول الآخرين ؛ لوجود المناسبة ؛ لأنه يصدق على كل من الأقسام الثلاثة أنه طريقة وعادة في الدين ، ومحبوب للشارع حيث طلبه ، وزائد على الواجب.

ينظر البحر المحيط للزركشي : ١ / ٢٨٤ ، والبرهام لإمام الحرمين : ١ / ٣١٠ ، وسلاسل الذهب للزركشي : ١١١ ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ١ / ١١١ ، ونهاية السول للإسنوي : ١ / ٧٧ ، وزوائد الأصول له ١٦٨ ، ومنهاج العقول للبدخشي : ١ / ٦٢ ، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ١٠ ، والتحصيل من المحصول للأرموي : ١ / ١٧٤ ، والمستصفى للغزالي : ١ / ٧٥ ، وحاشية البناني : ١ / ٨٠ ، والإبهاج لا بن السبكي ١ / ٥٦ ، والآيات البينات لا بن قاسم العبادي : ١ / ١٣٥ ، وحاشية العطار على جمع الجوامع : ١ / ١١٢ ، والمعتمد لأبي الحسين : ١ / ٤ ، وتيسير التحرير لأمير بادشاه : ٢ / ٢٢٢ ، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى : ١ / ٢٢٥ ، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفازاني : ٢ / ١٢٣ ، والموافقات للشاطبي : ١٠٩ ، وميزان الأصول للسمرقندي : ١ / ١٣٥ ، والكوكب المنير للفتوحي : ١٢٥.

(٢) مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي ، أبو عبد الله المدني ، أحد أعلام الإسلام ، وإمام دار الهجرة ، عن نافع ، والمقبري ، ونعيم بن عبد الله ، وابن المنكدر ، ـ

٨٧

رمضان للآية والخبر ، وكلاهما يفيد الوجوب ، فإن لم يثبت الوجوب ، فلا أقل من الندب.

فصل في الجهر والإسرار بالتعوذ

روي أن عبد الله بن عمر (١) ـ رضي الله تعالى عنهما ـ لما قرأ ، أسر بالتعويذ.

وعن أبي هريرة (٢) ـ رضي الله تعالى عنه ـ : أنه جهر به ؛ ذكره الشافعي ـ رحمه‌الله تعالى ـ في «الأم» ، ثم قال : فإن جهر به جاز ، [وإن أسر به جاز](٣).

فصل في موضع الاستعاذة من الصلاة

قال ابن الخطيب (٤) : «أقول : إن الاستعاذة إنما تقرأ بعد الاستفتاح ، وقبل الفاتحة ، فإن ألحقناها بما قبلها ، لزم الإسرار ، وإن ألحقناها بالفاتحة ، لزم الجهر ، إلا أن المشابهة بينها ، وبين الاستفتاح أتم ؛ لكون كل منهما نافلة».

__________________

ـ ومحمد بن يحيى بن حبان ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، وأيوب ، وزيد بن أسلم ، وخلق. قال البخاري : أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر ، وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة ودفن بالبقيع.

ينظر ترجمته في تهذيب الكمال : ٣ / ١٢٩٦ ، وتهذيب التهذيب : ١ / ٥ (٣) ، وتقريب التهذيب : ٢ / ٢٢٣ ، وخلاصة تهذيب الكمال : ٣ / ٣ ، والكاشف : ٣ / ١١٢ ، وتاريخ البخاري الكبير : ٧ / ٣١٠ ، والجرح والتعديل : ١ / ١١ ، وسير الأعلام : ٨ / ٤٨ ، والحلية : ٦ / ٣١٦ ، ومعجم الثقات : ١٨ ، ونسيم الرياض : ٢ / ١٢.

(١) عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي ، أبو عبد الرحمن المكي ، هاجر مع أبيه وشهد الخندق وبيعة الرضوان ، له ألف وستمائة حديث وثلاثون حديثا. قال شمس الدين بن الذهبي : كان إماما متينا واسع العلم ، كثير الاتباع ، وافر النسك ، كبير القدر ، متين الديانة ، عظيم الحرمة ، ذكر للخلافة يوم التحكيم ، وخوطب في ذلك ، فقال : على ألا يجري فيها دم. قال أبو نعيم : مات سنة أربع وسبعين.

ينظر ترجمة في تهذيب الكمال : ٢ / ٧١٣. وتهذيب التهذيب : / ٣٢٨ (٥٦٥) ، وتقريب التهذيب : ١ / ٤٣٥ (٤٩١) ، وخلاصة تهذيب الكمال : ٢ / ٨١ ، والكاشف : ٢ / ١١٢ ، وتاريخ البخاري الكبير : ٥ / ٢ ، ١٤٥ ، وتاريخ البخاري الصغير : ١ / ١٥٤ ، ١٥٧ ، والجرح والتعديل : ٥ / ١٠٧ ، وأسد الغابة : ٣ / ٣٤٠ ، وتجريد أسماء الصحابة : ١ / ٣٢٥ ، والإصابة ٤ / ١٨١ ، والاستيعاب : (٣ ـ ٤) / ٩٥.

(٢) أبو هريرة ، اسمه : عبد الرحمن بن صخر الدوسي ، له خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعون حديثا ، اتفق على ثلاثمائة وخمسة وعشرين ، روى عنه : إبراهيم بن حنين ، وأنس ، وبسر بن سعيد ، وغيرهم. قال ابن سعد : كان يسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة. قال الواقدي : مات سنة ٥٩ ه‍.

ينظر الخلاصة : ٣ / ٢٥٢ (٥٢٩) ، والإصابة : ٧ / ٤٢٥ ـ ٤٤٥ ، وصفة الصفوة : ١ / ٦٨٥ ـ ٦٩٤ ، والعبر : ١ / ٦٢ ـ ٦٣.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الفخر الرازي : ١ / ٥٧.

٨٨

فصل في بيان هل التعوذ في كل ركعة؟

قال بعض العلماء ـ رحمهم‌الله ـ : إنه يتعوذ في كل ركعة.

وقال بعضهم : لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى.

حجته : أن الأصل هو العدم ، وما لأجله أمرنا بالاستعاذة ؛ هو قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨] وكلمة «إذا» لا تفيد العموم.

ولقائل أن يقول : إنّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدلّ على العلّة ؛ فيتكرر الحكم بتكرر العلّة.

فصل في بيان سبب الاستعاذة

التعوذ في الصّلاة ، لأجل القراءة ، أم لأجل الصّلاة؟

عند أبي حنيفة (١) ومحمد (٢) ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنه للقراءة (٣) [وعند أبي يوسف(٤) :

__________________

(١) النعمان بن ثابت الفارسي ، أبو حنيفة إمام العراق وفقيه الأمة ، عن عطاء ، ونافع ، والأعرج ، وطائفة ، وعنه حماد ، وزفر ، وأبو يوسف محمد ، وجماعة ، وثقه ابن معين. وقال ابن المبارك : ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة. وقال مكي : أبو حنيفة أعلم أهل زمانه. وقال القطان : لا نكذب الله ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة. قال ابن المبارك : ما رأيت أورع منه ـ مات سنة خمسين ومائة ـ.

ينظر ترجمته في : تهذيب الكمال : ٣ / ١٤١٥ ، وتهذيب التهذيب : ١٠ / ٤٤٩ (٨١٧) ، وتقريب التهذيب : ٢ / ٣٠٣ ، وخلاصة تهذيب الكمال : ٣ / ٩٥٣ ، والكاشف : ٣ / ٢٠٥ ، وتاريخ البخاري الكبير : ٨ / ٨١ ، وتاريخ البخاري الصغير : ٢ / ٤٣ ، ١٠٠ ، ٢٣٠ ، الجرح والتعديل : ٨ / ٢٠٦٢ ، وميزان الاعتدال : ٤ / ٢٦٥ ، وتاريخ أسماء الثقات : ١٤٧٧ ، والأنساب : ٦ / ٦٤ ، والكامل : ٧ / ٢٤٧٢ ، والضعفاء الكبير : ٤ / ٢٦٨ ، والمعين : ٥٤٦ ، وتراجم الأحبار : ٤ / ٢٦٨ ، والتاريخ لابن معين : ٣ / ٦٧ ، وتاريخ الثقات : ٤٥٠ ، وتاريخ بغداد : ١٣ / ٤٢٣ ، ٤٢٤.

(٢) محمد بن الحسن بن فرقد ، من موالي بني شيبان ، أبو عبد الله ، إمام بالفقه والأصول ، وهو الذي نشر علم أبي حنيفة ، ولد ب «واسط» سنة ١٣١ ه‍ ، له كتب كثيرة في الفقه والأصول منها : المبسوط ، الزيادات ، الجامع الكبير ، الجامع الصغير ، الآثار ، الأمالي ، الأصل ، وغيرها كثير. توفي في ١٨٩ ه‍. ينظر : الفهرست لابن النديم : ١ / ٢٠٣ ، والفوائد البهية : ١٦٣ ، والوفيات : ١ / ٤٥٣ ، والبداية والنهاية : ١٠ / ٢٠٢ ، والجواهر المضية : ٢ / ٤٢ ، وذيل المذيل : ١٠٧ ، ولسان الميزان : ٥ / ١٢١ ، والنجوم الزاهرة : ٢ / ١٣٠ ، ولغة العرب : ٩ / ٢٢٧ ، وتاريخ بغداد : ٢ / ١٧٢ ـ ١٨٢ ، والانتقاء : ١٧٤ ، والأعلام : ٦ / ٨٠.

(٣) في أ : للصلاة.

(٤) يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي ، أبو يوسف : صاحب الإمام أبي حنيفة وتلميذه ، وأول من نشر مذهبه ، كان فقيها علامة من حفاظ الحديث ، ولد بالكوفة وتفقه بالحديث والرواية ، ثم لزم أبا حنيفة ، فغلب عليه الرأي ، وولي القضاء ب «بغداد» ، أيام المهدي ، والهادي ، والرشيد ، وهو أول من دعي : «قاضي القضاة» ، ويقال له : قاضي قضاة الدنيا ، وأول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة ، وكان واسع العلم بالتفسير والمغازي وأيام العرب ، من كتبه : ـ

٨٩

أنّه للصّلاة](١) ويتفرع على هذا الأصل فرعان :

الأوّل : أنّ المؤتمّ هل يتعوّذ خلف الإمام؟

عندهما : لا يتعوّذ ؛ لأنه لا يقرأ ، وعنده يتعوذ ؛ وجه قولهما قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) [النحل : ٩٨] علّق الاستعاذة على القراءة ، ولا قراءة على المقتدي.

وجه قول أبي يوسف ـ رحمه‌الله ـ أنّ التعوذ لو كان للقراءة ؛ لكان يتكرر بتكرر القراءة ، ولمّا لم يكن كذلك ، بل يتكرر بتكرر الصّلاة ؛ دلّ على أنّها للصلاة.

الفرع الثاني : إذا افتتح صلاة العيد فقال : سبحانك اللهمّ ، هل يقول : أعوذ بالله ، ثم يكبر ، أم لا؟

عندهما أنه يكبر التكبيرات ، ثم يتعوذ عند القراءة.

وعند أبي يوسف ـ رحمه‌الله ـ يقدم التعوذ على التكبيرات.

فصل

السّنة أن يقرأ القرآن مرتّلا ؛ لقوله تبارك وتعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل : ٤]. والتّرتيل : هو أن يذكر الحروف مبينة ظاهرة ، والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه ؛ فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ ، وأفهم غيره تلك المعاني ، وإذا قرأها سردا ، لم يفهم ولم يفهم ، فكان الترتيل أولى.

روى أبو داود (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ بإسناده عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقال للقارىء : اقرأ وارق ، ورتّل ، كما كنت ترتّل في الدّنيا ؛ [فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (٣)](٤).

__________________

ـ الخراج ، والآثار ، والنوادر ، واختلاف الأمصار ، وأدب القاضي ، والأمالي في الفقه ، والرد على مالك ابن أنس ، والفرائض ، والوصايا ، والوكالة ، والبيوع ، والصيد ، والذبائح ، والغصب ، والاستبراء ، والجوامع في أربعين فصلا ألفه ليحيى بن خالد البرمكي. ينظر الأعلام : ٨ / ١٩٣.

(١) سقط في أ.

(٢) أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شدّاد ، الأزدي السّجستاني ، ولد سنة ٢٠٢ ه‍ ، وطوف وسمع ب «خراسان» ، والعراق ، والجزيرة ، والشام ، والحجاز ، ومصر من خلق كثيرين ، وقد روى عنه السنن : ابن داسة ، واللؤلؤي ، وابن الأعرابي ، وأبو عيسى الرملي. قال ابن حبان : أبو داود أحد أئمة الدنيا فقها ، وعلما ، وحفظا ، ونسكا ، وورعا ، وإتقانا. توفي سنة ٢٧٥ ه‍. ب «البصرة».

ينظر : تهذيب الكمال : ١ / ٥٣٠ ، وتهذيب التهذيب : ٤ / ١٦٩ ، والكاشف : ٤ / ١٦٩ ، والجرح والتعديل : ٤ / ٢٥٦.

(٣) أخرجه أبو داود (١ / ٤٦٣) رقم (١٤٦٤) ، والترمذي (٢٩١٤) ، وأحمد (٢ / ١٩٢) ، والبيهقي (٢ / ٥٣) ، والحاكم (١ / ٥٥٣). وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٤) سقط في أ.

٩٠

قال أبو سليمان الخطّابي (١) ـ رحمه‌الله ـ : جاء في الأثر أنّ عدد آي القرآن على عدد درج الجنّة ؛ يقال للقارىء : اقرأ وارق في الدّرج على عدد ما كنت تقرأ من القرآن ، فمن استوفى ، فقرأ جميع آي القرآن استولى على أقصى الجنّة.

فصل في استحباب تحسين القراءة جهرا

إذا قرأ القرآن جهرا ، فالسّنة أن يحسن في القراءة ؛ روى أبو داود ، عن البراء بن عازب (٢) ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زيّنوا القرآن بأصواتكم» (٣).

فصل في صحة الصلاة مع النطق بالضاد والظاء

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «المختار عندنا أن اشتباه الضّاد بالظاء عندنا لا يبطل الصّلاة ؛ ويدلّ عليه أن المشابهة حاصلة بينهما جدّا ، والتّمييز عسر ، فوجب أن يسقط التكليف بالفرق.

بيان المشابهة أنّهما من الحروف المجهورة ، وأيضا من الحروف الرّخوة ، وأيضا من الحروف المطبقة ، وأيضا : أن النطق بحرف الضّاد مخصوص بالعرب ؛ قال ـ عليه الصلاة

__________________

(١) حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب ، أبو سليمان البستي المعروف بالخطابي ، كان رأسا في علم العربية والفقه والأدب وغير ذلك ، أخذ الفقه عن أبي علي بن أبي هريرة ، وأبي بكر القفال ، وأبي عمر الزاهد ، وصنف التصانيف الواسعة المشهورة منها : معالم السنن ، وغريب الحديث ، وكتاب العزلة ، وله شعر حسن. مات سنة ٣٨٨.

انظر ط. ابن قاضي شهبة : ١ / ١٥٦ ، والأنساب : ٢ / ٢٢٦ ، وتذكرة الحفاظ : ٣ / ١٠١٨.

(٢) البراء بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة الأوسي الأنصاري ، أبو عمارة ، نزل الكوفة ، له ثلثمائة حديث وخمسة أحاديث اتفقا على اثنين وعشرين ، وانفرد البخاري بخمسة عشر ، ومسلم بستة ، وعنه عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعدي بن ثابت ، وسعد بن عبيدة ، وأبو إسحاق ، وخلق ، شهد أحدا والحديبية.

توفي سنة إحدى أو اثنتين وسبعين.

ينظر ترجمته في تهذيب الكمال : ١ / ١٣٩ ، وتهذيب التهذيب : ١ / ٤٢٥ ، وتقريب التهذيب : ١ / ٩٤ ، وخلاصة تهذيب الكمال : ١ / ١٢٠ ، والكاشف : ١ / ١٥١ ، وتاريخ البخاري الكبير : ٢ / ١١٧ ، وتاريخ البخاري الصغير : ١ / ٦ ، ١٢٠ ، ١٣٠ ، ١٦١ ، ١٦٤ ، ١٦٥ ، والجرح والتعديل : ٢ / ٣٦٩ ، وأسماء الصحابة الرواة : ت ١٤ ، وتجريد أسماء الصحابة : ١ / ٤٦ ، وأسد الغابة : ١ / ٢٠٦ ، والإصابة : ١ / ٢٧٨ ، وطبقات ابن سعد : ٢ / ٣٧٦ ، ٣ / ٤٥١ ، ٤ / ٣١٥ ، ٣٥٥ ، ٦ / ١٧٨ ، ٢٤٧ ، ٨ / ٤٧٩ ، ٤٨٠ ، والوافي بالوفيات : ١ / ١٠٤ ، وشذرات الذهب : ١ / ٦٣ ، ٧٧ ، وتاريخ بغداد : ١ / ١٧٧.

(٣) أخرجه أبو داود (١ / ٤٦٤) رقم (١٤٦٨) ، والنسائي (٢ / ١٧٩) رقم (١٠١٥) ، وابن ماجه (١٣٤٢) ، وأحمد (٤ / ٢٨٣) ، والدارمي (٢ / ٤٧٤) ، وابن حبان (٦٦٠ موارد) ، والحاكم (١ / ٥٧١).

٩١

والسلام ـ : «أنا أفصح من نطق بالضّاد (١)» فثبت بما ذكر أنّ المشابهة بينهما شديدة ، والتمييز عسر.

وأيضا : لم يقع السؤال عنه في زمن النبي ـ عليه الصّلاة والسلام ـ وأزمنة الصحابة ، لا سيما عند دخول العجم في الإسلام ، فلمّا لم ينقل وقوع السؤال عن هذا ألبتة ، علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ، ليس في محلّ التكليف.

فصل في عدم جواز الصلاة بالوجوه الشاذة

اتّفق على أنّه لا تجوز القراءة [في الصّلاة](٢) بالوجوه الشّاذة : لأنّ الدليل ينفي جواز القراءة مطلقا ، لأنّها لو كانت من القرآن ، لوجب بلوغها إلى حدّ التواتر ، ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنّها ليست من القرآن ، عدلنا عن هذا الدّليل في جواز القراءة بها خارج الصّلاة ، فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع.

فصل في قولهم : «القراءات المشهورة منقولة بالتواتر»

اتّفق الأكثرون على أنّ القراءات المشهورة منقولة بالتواتر (٣) ، وفيه إشكال ؛ وذلك لأنا

__________________

(١) أورده العجلوني في «كشف الخفا» (٦٠٩) وقال : قال في اللآلىء : معناه صحيح ، ولكن لا أصل له ، كما قال ابن كثير وغيره.

(٢) سقط في أ.

(٣) «السّنّة المتواترة» والحديث المتواتر : هو ما رواه جمع يحيل العقل تواطؤهم على الكذب عادة ، من أمر حسيّ ، أو حصول الكذب منهم اتفاقا ، ويعتبر ذلك في جميع الطبقات إن تعددت.

وشروط التواتر :

١ ـ أن يكون رواته عددا كثيرا.

٢ ـ أن يحيل العقل تواطؤهم على الكذب ، أو أن يحصل الكذب منهم اتفاقا عادة.

٣ ـ أن يرووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء ، في كون العقل يمنع من تواطئهم على الكذب ، أو حصوله منهم اتفاقا عادة.

٤ ـ أن يكون مستند انتهائهم الإدراك الحسي ؛ بأن يكون آخر ما يئول إليه الطريق ، ويتم عنده الإسناد ، أمر حسي مدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة ؛ من الذوق واللمس والشم والسمع والبصر.

تقسيم المتواتر إلى لفظي ومعنوي

من المتفق عليه عند العلماء وأرباب النظر : أن القرآن الكريم لا تجوز الرواية فيه بالمعنى ، بل أجمعوا على وجوب روايته لفظة لفظة ، وعلى أسلوبه وترتيبه ، ولهذا كان تواتره اللفظي لا يشك فيه أدنى عاقل ، أو صاحب حسّ. وأما سنّة رسول الله : فقد أجازوا روايتها بالمعنى ، لذلك لم تتحد ألفاظها ولا أسلوبها ، ولا ترتيبها.

فهل يكون الحديث متواترا تواترا لفظيّا أو معنويّا ، إذا تعددت الرواية بألفاظ مترادفة ، وأساليب مختلفة من التمام والنقص ، والتقديم والتأخير من الواقعة الواحدة حتى بلغت مبلغ التواتر؟.

ومن ناحية أخرى فإذا تعددت الوقائع ، واتفقت على معنى واحد ، دلّت عليه تارة بالتضمّن ، وتارة ـ

٩٢

نقول : هذه القراءة إمّا أن تكون منقولة بالتواتر ، أو لا.

__________________

ـ بالالتزام ، حتى بلغ القدر المشترك من تلك الوقائع المتعددة مبلغ التواتر ، فإنه حينئذ يكون متواترا تواترا معنويّا؟ لا خلاف في ذلك.

وعلى ذلك فالتواتر ثلاثة أقسام :

١ ـ تواتر لفظي لا شك فيه : كالقرآن الكريم.

٢ ـ تواتر معنوي لا شك فيه : كما إذا تعددت الوقائع ، واشتركت جميعها في معنى تضمني ، أو التزامي.

٣ ـ أمّا إذا اتحدت الواقعة ، وتعددت روايتها بألفاظ مختلفة ، وأساليب متغايرة ، واتفقت في المعنى المطابقي ، وبلغت في تتابعها وتعددها حد المتواتر ، كان متواترا تواترا لفظيّا.

وعلى ذلك ينقسم المتواتر إلى قسمين : لفظي ، ومعنوي ، وينقسم «اللفظي» إلى قسمين ، كما ينقسم «المعنوي» إلى قسمين أيضا ، وعلى هذا فالمتواتر أربعة أقسام :

١ ـ أن يتواتر اللفظ والأسلوب في الواقعة الواحدة.

٢ ـ أن تتواتر الواقعة الواحدة بألفاظ مترادفة ، وأساليب كثيرة متغايرة ، متفقة على إفادة المعنى المطابقي للواقعة الواحدة.

٣ ـ أن يتواتر المعنى التضمني في وقائع كثيرة.

٤ ـ أن يتواتر المعنى الالتزامي في وقائع كثيرة.

ولهذه الأقسام أمثلة كثيرة ذكرها المحدثون في كتب الاصطلاح ، فلتنظر من هناك.

وأما حكم المتواتر : ذهب جمهور العلماء إلى أن المتواتر يفيد العلم ضرورة ، بينما خالف في إفادته العلم مطلقا السّمنيّة والبراهمة.

وخالف في إفادته العلم الضروري الكعبي وأبو الحسين من المعتزلة ، وإمام الحرمين من الشافعية ، وقالوا : إنه يفيد العلم نظرا.

وذهب المرتضى من الرافضة ، والآمدي من الشافعية إلى التوقف في إفادته العلم ، هل هو نظري أو ضروري؟.

وقال الغزالي : إنه من قبيل القضايا التي قياساتها معها ، فليس أوليّا ، وليس كسببيّا.

واحتج الجمهور أنه ثابت بالضرورة ، وإنكاره مكابرة وتشكيك في أمر ضروري ؛ فإنا نجد من أنفسنا العلم الضروري بالبلدان البعيدة ، والأمم السالفة ، كما نجد العلم بالمحسوسات لا فرق بينها فيما يعود إلى الجزم ، وما ذاك إلا بالإخبار قطعا.

ولو كان نظريّا لافتقر إلى توسّط المقدمتين في إثباته ، واللازم باطل ، لأننا نعلم قطعا علمنا بالمتواترات من غير أن نفتقر إلى المقدمات وترتيبها.

كما أنه لو كان نظريّا ، لساغ الخلاف فيه ككل النظريات ، واللازم باطل.

فثبت مما تقدم أن المتواتر يفيد العلم ، وأن العلم به ضروري كسائر الضروريات.

ينظر : البحر المحيط للزركشي : ٤ / ٢٣١ ، والبرهام لإمام الحرمين : ١ / ٥٦٦ ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ٢ / ١٤ ، ونهاية السول للإسنوي : ٣ / ٥٤ ، ومنهاج العقول للبدخشي : ٢ / ٢٩٦ ، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ٩٥ ، والتحصيل من المحصول للأرموي : ٢ / ٩٥ ، والمنخول للغزالي : ٢٣١ ، والمستصفى له : ١ / ١٣٢ ، وحاشية البناني : ٢ / ١١٩ ، والإبهاج لابن السبكي : ٢ / ٢٦٣ ، والآيات البينات لابن قاسم العبادي : ٣ / ٢٠٦ ، وحاشية العطار على جمع الجوامع : ٢ / ١٤٧ ، والمعتمد لأبي الحسين : ٢ / ٨٦ ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم : ١ / ١٠١ ، وتيسير التحرير ـ

٩٣

فإن كان الأوّل ، فحينئذ قد ثبت بالنّقل المتواتر أنّ الله ـ تعالى ـ قد خيّر المكلّفين بين هذه القراءة ، وسوّى بينهما في الجواز.

وإذا كان كذلك ، كان ترجيح بعضها على البعض واقعا على خلاف الحكم المتواتر ؛ فواجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض ، مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير ، لكنّا نرى أنّ كلّ واحد يختصّ بنوع معيّن من القراءة ، ويحمل الناس عليها ، ويمنعهم من غيرها ، فوجب أن يلزم في حقّهم ما ذكرناه.

وإن قلنا : هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر ؛ بل بطريق الآحاد ، فحينئذ يخرج القرآن عن كونه مفيدا للجزم ، والقطع اليقين ؛ وذلك باطل بالإجماع ؛ ولقائل أن يجيب عنه ؛ فيقول : بعضها متواتر ، ولا خلاف بين الأمّة فيه ، وتجويز القراءة بكل واحد منها ؛ وبعضها من باب الآحاد ، لا يقتضي كون القراءة بكلّيته خارجا عن كونه قطعيا ، والله أعلم ؛ ذكره ابن الخطيب.

فصل في اشتقاق الاستعاذة وإعرابها

العوذ له معنيان : أحدهما : الالتجاء والاستجارة.

والثاني : الالتصاق ؛ ويقال : «أطيب [اللّحم](١) عوّذه» هو : ما التصق بالعظم.

فعلى الأوّل : أعوذ بالله ، أي : ألتجىء إلى رحمة الله ، ومنه العوذة : وهي ما يعاذ به من الشّر.

وقيل للرّقية ، والتّميمة ـ وهي ما يعلّق على الصبي : عوذة ، وعوذة [بفتح العين وضمّها](٢) ، وكلّ أنثى وضعت فهي عائذ إلى سبعة أيام.

ويقال : عاذ يعوذ عوذا ، وعياذا ، ومعاذا ، فهو عائذ ومعوذ ومنه قول الشّاعر : [البسيط]

١ ـ ألحق عذابك بالقوم الّذين طغوا

وعائذا بك أن يعلوا فيطغوني (٣)

__________________

ـ لأمير بادشاه : ٣ / ٣٢ ، وكشف الأسرار للنسفي : ٢ / ٤ ، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني : ٢ / ٣ ، وشرح المنار لابن ملك : ٧٨ ، وميزان الأصول للسمرقندي : ٢ / ٦٢٧ ، وتقريب الوصول لابن جزي : ١١٩ ، وإرشاد الفحول للشوكاني : ٤٦.

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : بضم العين وفتحها.

(٣) البيت لعبد الله بن الحارث السهمي ، ينظر الكتاب : ١ / ٣٤٢ ، ولسان العرب (عوذ) ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٣٨١ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ٤٧٥ ، وشرح المفصل : ١ / ١٢٣ ، والسيرة لابن هشام : ٢١٦ ، والروض الأنف : ١ / ٢٠٨ ، والدر المصون : ١ / ٤٧.

٩٤

قيل : عائذ ـ هنا ـ أصله اسم فاعل ؛ ولكنّه وقع موقع المصدر ؛ كأنه قال : «وعياذا بك» وسيأتي تحقيق هذا القول إن شاء الله تعالى.

و «أعوذ» فعل مضارع ، وأصله : «أعوذ» بضم الواو ؛ مثل : «أقتل ، وأخرج أنا» وإنما نقلوا حركة الواو إلى السّاكن قبلها ؛ لأنّ الضمة ثقيلة ، وهكذا كلّ مضارع من «فعل» عينه واو ؛ نحو : «أقوم ، ويقوم ، وأجول ، ويجول» وفاعله ضمير المتكلم.

وهذا الفاعل لا يجوز بروزه ؛ بل هو من المواضع السّبعة التي يجب فيها استتار الضمير على خلاف في السّابع ولا بدّ من ذكرها ؛ لعموم فائدتها ، وكثرة دورها :

الأول : المضارع المسند للمتكلّم وحده ؛ نحو : «أفعل».

الثّاني : المضارع المسند للمتكلّم مع غيره ، أو المعظّم نفسه ؛ نحو : «نفعل نحن».

الثالث : المضارع المسند للمخاطب ؛ نحو : «تفعل أنت» ، ويوحّد المخاطب بقيد الإفراد ، والتذكير ؛ لأنه متى كان مثنّى ، أو مجموعا ، أو مؤنثا ـ وجب بروزه ؛ نحو : «تقومان ـ يقومون ـ تقومين».

الرابع : فعل الأمر المسند للمخاطب ؛ نحو : «افعل أنت» ويوحّد المخاطب أيضا ـ بقيد الإفراد ، والتّذكير ؛ لأنّه متى كان مثنّى ، أو مجموعا ، أو مؤنثا ـ وجب بروزه ؛ نحو : «افعلا ـ افعلوا ـ افعلي».

الخامس : اسم فعل الأمر مطلقا ، سواء كان المأمور مفردا ، أو مثنّى ، أو مجموعا ، أو مؤنثا ؛ نحو : «صه يا زيد ـ يا زيدان ـ يا زيدون ـ يا هند ـ يا هندان ـ يا هندات».

بخلاف فعل الأمر ؛ فإنه يبرز فيه ضمير غير المفرد المذكّر ، كما تقدم.

السّادس : اسم الفعل المضارع ؛ نحو : «أوّه» أي : أتوجّع ، و «أفّ» أي : أتضجّر ، و «وي» أي : أعجب.

وهذه الستة لا يبرز فيها الضمير ؛ بلا خلاف.

وتحرزت بقولي : «اسم فعل الأمر ، واسم الفعل المضارع» عن اسم الفعل الماضي ؛ فإنه لا يجب فيه الاستتار كما سيأتي.

السّابع : المصدر الواقع موقع الفعل بدلا من لفظه ؛ نحو : «ضربا زيدا» ؛ وقول الشاعر : [الطويل]

٢ ـ يمرّون بالدّهنا خفافا عيابهم

ويرجعن من دارين بجر الحقائب

على حين ألهى النّاس جلّ أمورهم

فندلا زريق المال ندل الثّعالب (١)

__________________

(١) البيتان لأعشى همدان ، ينظر الحماسة البصرية : ٢ / ٢٦٢ ، ٢٦٣ ، شرح أبيات سيبويه : ١ / ٣٧١ ، ـ

٩٥

وقوله تعالى : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤].

هذا إذا جعلنا في «ضربا» ضميرا مستترا ؛ وأما من يقول من النحويّين : إنّه لا يتحمل ضميرا ألبتة ؛ فلا يكون من المسألة في شيء.

والضّابط فيما يجب استتاره ، وإن عرف من تعداد الصّور المتقدمة ـ «أنّ كلّ ضمير لا يحلّ محلّه ظاهر ، ولا ضمير متصل ، فهو واجب الاستتار كالمواضع المتقدمة ، وما جاز أن يحلّ محلّه أحدهما ، فهو جائز الاستتار ؛ نحو : «زيد قام» في «قام» ضمير جائز الاستتار ، ويحلّ محلّه الظاهر ؛ نحو : «زيد قام أبوه» أو الضمير المنفصل ، نحو : «زيد ما قام إلّا هو» فإن وجد من لسانهم في أحد المواضع المتقدّمة ، الواجب فيها الاستتار ضمير منفصل ، فليعتقد كونه توكيدا للضمير المستتر ؛ كقوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥] ف «أنت» مؤكّد لفاعل «اسكن».

و «بالله» جارّ ومجرور ، وكذلك : «من الشّيطان» وهما متعلّقان ب «أعوذ».

ومعنى الباء : الاستعانة ، و «من» : للتّعليل ، أي : أعوذ مستعينا بالله من أجل الشّيطان ، ويجوز أن تكون «من» لابتداء الغاية ، ولها معان أخر ستأتي إن شاء الله تعالى.

وأمّا الكلام على الجلالة ، فيأتي في البسملة إن شاء الله تعالى.

والشّيطان : المتمرّد من الجنّ ، وقيل : الشّياطين أقوى من الجنّ ، والمردة أقوى من الشّياطين ، والعفريت أقوى من المردة ، والعفاريث أقواها.

وقال أبو عبيدة (١) ـ رحمه‌الله ـ : الشيطان : اسم لكلّ عارم من الجنّ ، والإنس ، والحيوانات ؛ [لبعده](٢) من الرّشاد قال تبارك وتعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] ، فجعل من الإنس شياطين.

__________________

ـ ٣٧٢ ، وللأعشى أو للأحوص أو لجرير ، ينظر المقاصد النحوية : ٣ / ٤٦ ، وهما في ملحق ديوان الأحوص : ص ٢١٥ ، وملحق ديوان جرير : ص ١٠٢١ ، والكتاب : ١ / ١١٥ ، ولسان العرب : (خشف) ، (ندل) ، وأوضح المسالك : ٢ / ٢١٨ ، وشرح الأشموني : ١ / ٢٠٤ ، وشرح التصريح : ١ / ٣٣١ ، وشرح ابن عقيل : ص ٢٨٩ ، والخصائص : ١ / ١٢٠ ، وجمهرة اللغة : ص ٦٨٢ ؛ والإنصاف : ص ٢٩٣ ، وسر صناعة الإعراب : ص ٥٠٧ ، والحجة لأبي علي الفارسي : ١ / ١٠٨ ، وشرح شواهد الألفية : ١٦٤ ، والدر المصون ١ / ٤٨.

(١) معمر بن المثنى التيمي البصري ، أبو عبيدة النحوي : من أئمة العلم بالأدب واللغة ، ولد في ١١٠ ه‍. قال الجاحظ : لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه ، كان إباضيّا شعوبيا ، من حفاظ الحديث ، لما مات لم يحضر جنازته أحد ، لشدة نقده معاصريه. له مؤلفات منها مجاز القرآن ، الشوارد ، الزرع. توفي ٢٠٩ ه‍.

ينظر وفيات : ٢ / ١٠٥ ، وتذكرة : ١ / ٣٣٨ وبغية الوعاة : ٣٩٥ ، والأعلام : ٧ / ٢٧٢.

(٢) سقط في أ.

٩٦

وركب عمر (١) ـ رضي الله تعالى عنه ـ برذونا ، فطفق يتبختر ؛ فجعل يضربه ، فلا يزداد إلا تبخترا ؛ فنزل عنه ، وقال : «ما حملتموني إلّا على شيطان» (٢).

وقد يطلق على كلّ قوة ذميمة في الإنسان ؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «الحسد شيطان ، والغضب شيطان» (٣) ؛ وذلك لأنّهما ينشآن عنه.

واختلف أهل اللّغة في اشتقاقه :

فقال جمهورهم : هو مشتقّ من : «شطن ـ يشطن» أي : بعد ؛ لأنه بعيد من رحمة الله تعالى ؛ وأنشد : [الوافر]

٣ ـ نأت بسعاد عنك نوى شطون

فبانت والفؤاد بها رهين (٤)

__________________

(١) عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى العدوي ، أبو حفص المدني ، أحد فقهاء الصحابة ، ثاني الخلفاء الراشدين ، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأول من سمي «أمير المؤمنين» شهد بدرا ، والمشاهد إلا تبوك ، وولي أمر الأمة بعد أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ ، وفتح في أيامه عدة أمصار ، أسلم بعد أربعين رجلا ، عن ابن عمر مرفوعا : «إن الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه» ، ولما دفن قال ابن مسعود : ذهب اليوم بتسعة أعشار العلم. استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين ، ودفن في أول سنة أربع وعشرين ، وهو ابن ثلاث وستين ، وصلى عليه صهيب ، ودفن في الحجرة النبوية ، ومناقبه جمّة.

ينظر ترجمته في : تهذيب التهذيب : ٧ / ٤٣٨ (٧٢٤) ، وتقريب التهذيب : ٢ / ٥٤ ، وخلاصة تهذيب الكمال : ٢ / ٢٦٨ ، والكاشف : ٣٠٩ ، وتاريخ البخاري الكبير : ٦ / ١٣٨ ، وتاريخ البخاري الصغير : ٢ / ٢٣٦ ، والجرح والتعديل : ٥ / ١٠٠ ، وأسد الغابة : ٤ / ١٤٥ ، والرياض المستطابة : ١٤٧ ، والاستيعاب : ٣ / ١١٤٤ ، وتجريد أسماء الصحابة : ١ / ٣٨ ، ٥٥ ، وطبقات ابن سعد : ٩ / ١٤١ ، وطبقات الحفاظ : ٦٢٨.

(٢) ذكره الطبري في التفسير : ١ / ١١١ ، والفخر الرازي : ١ / ٦٤ ، وابن كثير في التفسير : ١ / ١٦ ، ٣٢ من رواية ابن وهب بهذا الإسناد ، وقال : إسناده صحيح ، وذكر الطبري في التاريخ : ٤ / ١٦٠ نحو معناه بسياق آخر ، بدون إسناد.

(٣) أخرج الشطر الثاني منه أبو داود (٢ / ٢٨٧) من حديث عروة بن محمد ثني أبي عن جدي مرفوعا ، وأخرجه من حديث معاوية أبو نعيم في «الحلية» (٢ / ١٣٠) بلفظ : الغضب من الشيطان ، والحديث ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» : ٢ / ١٠٣ بلفظ : «الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصّبر العسل» وعزاه للطبراني في الكبير ، والبيهقي في «شعب الإيمان» بسند ضعيف من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة مرفوعا ، وفي لفظ الطبراني وأبي الشيخ عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده بلفظ : «الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل» لكن له شواهد منها : ما رواه الترمذي بسند ضعيف أيضا عن أبي سعيد الخدري رفعه : «الغضب جمرة في قلب ابن آدم» ، ومنها ما رواه أبو داود عن عطية السعدي رفعه : «إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار» ، ورواه أبو نعيم بسند ضعيف عن معاوية بلفظ : «الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار» ، ومنها : ما رواه أبو الشيخ عن أبي سعيد بلفظ : «الغضب من الشيطان ، فإذا وجده أحدكم قائما ، فليجلس ، وإن وجده جالسا ، فليضطجع» اه.

(٤) البيت للنابغة الذبياني : ينظر : ديوانه (٢٠) ، والطبري : ١ / ٧٦ ، واللسان : «شطن» ، والمحرر الوجيز: ١ / ٥٩ ، والدر المصون : ١ / ٤٨.

٩٧

وقال آخر : [الخفيف]

٤ ـ أيّما شاطن عصاه عكاه

ثمّ يلقى في السّجن والأكبال (١)

وحكى سيبويه (٢) ـ رحمه‌الله ـ : «تشيطن» أي : فعل فعل الشّياطين ؛ فهذا كلّه يدل على أنه من «شطن» ؛ لثبوت النون ، وسقوط الألف في تصاريف الكلمة ، ووزنه على هذا : «فيعال».

وقيل : هو مشتقّ من «شاط ـ يشيط» أي : هاج ، واحترق ، ولا شكّ أن هذا المعنى موجود فيه ، فأخذوا بذلك أنه مشتقّ من هذه المادّة ؛ لكن لم يسمع في تصاريفه إلّا ثابت النّون ، محذوف الألف ؛ كما تقدم ، ووزنه على هذا «فعلان» ، ويترتب على القولين : صرفه وعدم صرفه ، إذا سمّي به ، وأما إذا لم يسمّ به ، فإنّه متصرف ألبتة ؛ لأنّ من شرط امتناع «فعلان» الصّفة ألّا يؤنّث بالتاء ، وهذا يؤنّث بها ؛ قالوا : «شيطانة».

قال ابن الخطيب : و «الشّيطان» مبالغة في الشّيطنة ؛ كما أنّ «الرّحمن» مبالغة في الرحمة. و «الرّجيم» في حقّ الشيطان «فعيل» بمعنى «فاعل».

إذا عرفت هذا ، فهذه الكلمة تقتضي الفرار من الشّيطان الرّجيم إلى الرحمن الرّحيم.

قوله : «الرّجيم» نعت له على الذّمّ ، وفائدة النعت : إما إزالة اشتراك عارض في معرفة ؛ نحو : «رأيت زيدا العاقل».

وإمّا تخصيص نكرة ؛ نحو : «رأيت رجلا تاجرا» وإمّا لمجرد مدح ، أو ذمّ ، أو ترحّم ؛ نحو : «مررت بزيد المسكين» وقد يأتي لمجرد التّوكيد ؛ نحو قوله : (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣] ولا بدّ من ذكر قاعدة في النعت ، تعمّ فائدتها :

اعلم أن النعت إن كان مشتقا بقياس ، وكان معناه لمتبوعه ، لزم أن يوافقه في أربعة من عشرة ؛ أعني في واحد من ألقاب الإعراب : الرفع ، والنّصب ، والجرّ ، وفي واحد من : الإفراد ، والتثنية ، والجمع ، وفي واحد من : التّذكير ، والتأنيث ، وفي واحد من : التّعريف ، والتّنكير.

__________________

(١) البيت لأمية بن أبي الصلت : ينظر ديوانه (٥١) ، وإعراب ثلاثين سورة من القرآن : (٧) ، ومجمع البيان : ١ / ٣٨ ، واللسان : «شطن» ، والصحاح : «شطن» ، والطبري : ١ / ٧٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٥٩ ، والدر المصون : ١ / ٤٨.

(٢) عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء ، أبو بشر ، الملقب سيبويه : إمام النحاة ، وأول من بسط علم النحو ، ولد في إحدى قرى «شيراز» ، وقدم البصرة ، فلزم الخليل بن أحمد ففاقه ، وصنف كتابه المسمى : «كتاب سيبويه» ، من النحو لم يصنع قبله ولا بعده مثله ، ناظر الكسائي ، وأجازه الرشيد بعشرة آلاف درهم ، كان أنيقا جميلا توفي شابا ، ولد سنة ١٤٨ ه‍ وتوفي سنة ١٨٠ ه‍.

انظر ابن خلكان : ١ / ٣٨٥ ، والبداية والنهاية : ١٠ / ١٧٦ ، والأعلام : ٥ / ٨١.

٩٨

وإن كان معناه لغير متبوعه ، وافقه في اثنين من خمسة : في واحد من ألقاب الإعراب ، وفي واحد من التعريف والتنكير (١) ؛ نحو : «مررت برجلين عاقلة أمّهما» ، فلم يتبعه في تثنية ولا تذكير.

وإذا اختصرت ذلك كلّه ، فقل : النعت يلزم أن يتبع منعوته في اثنين من خمسة مطلقا : في واحد من ألقاب الإعراب ، وفي واحد من التعريف والتنكير ، وفي الباقي كالفعل ؛ يعني : أنّك تضع موضع النعت فعلا ، فمهما ظهر في الفعل ، ظهر في النعت ؛ مثاله ما تقدم في : «مررت برجلين [عاقلة أمّهما»](٢) ؛ لأنك تقول : «مررت برجلين عقلت أمّهما».

«والرّجيم» قد تبع موصوفه في أربعة من عشرة ؛ لما عرفت ، وهو مشتقّ من «الرّجم» ، والرّجم أصله : الرّمي بالرّجام ، وهي الحجارة ، ويستعار الرّجم للرمي بالظّنّ والتوهّم. قال زهير (٣) : [الطويل]

٥ ـ وما الحرب إلّا ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجّم (٤)

ويعبّر به ـ أيضا ـ عن الشّتم ؛ قال تعالى : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) [مريم : ٤٦] قيل : أقول فيك قولا سيئا.

والمراجمة : المسابّة الشديدة استعارة كالمقاذفة ، فالرجيم معناه : المرجوم ، فهو «فعيل» بمعنى «مفعول» ؛ كقولهم : كفّ خضيب أي : مخضوب ؛ ورجل لعين أي : ملعون قال الرّاغب (٥) : والتّرجمان تفعلان من ذلك كأنه يعني أنّه يرمي بكلام (٦) من يترجم عنه إلى

__________________

(١) سقط في : أ.

(٢) في أ : أمهما عاقلة.

(٣) زهير بن أبي سلمى بن ربيعة بن رياح المزني من مضر ، حكيم شعراء الجاهلية ، ولد بالمدينة. قال ابن الأعرابي : كان لزهير من الشعر ما لم يكن لغيره ، كان أبوه شاعرا ، وخاله شاعرا ، وأخته شاعرة ، وابناه شاعرين ، وأخته الخنساء شاعرة ، كانت قصائده تسمى الحوليات. توفي ١٣ ق ه.

ينظر معاهد التنصيص : ١ / ٣٢٧ ، وجمهرة الأنساب : ٢٥ ، ٤٧ ، وصحيح الأخبار : ١ / ٧ و ١١٢ ، وآداب اللغة : ١ / ١٠٥ ، والشعر والشعراء : ٤٤ ، والأعلام ٣ / ٥٢.

(٤) البيت لزهير بن أبي سلمى : ينظر في ديوانه (١٠٧) ، والدرر : ٥ / ٢٤٤ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٣٨٤ ، ولسان العرب : ١٢ / ٢٢٨ (رجم) ، وشرح قطر الندى : ص ٢٦٢ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٩٢ ، والخزانة : ٣ / ١١ ، والدر المصون : ١ / ٤٩.

(٥) الحسين بن محمد بن المفضل : أبو القاسم الأصفهاني المعروف بالراغب : أديب من الحكماء العلماء ، من أهل «أصبهان» سكن «بغداد» ، واشتهر حتى كان يقرن بالإمام الغزالي ، من كتبه : «محاضرات الأدباء» و «الأخلاق» ويسمى : «أخلاق الراغب» ، و «جامع التفاسير» ، و «المفردات في غريب القرآن» ، أخذ عنه البيضاوي في تفسيره. توفي سنة ٥٠٢ ه‍ ـ ١١٠٨ م.

ينظر الأعلام : ٢ / ٢٥٥ ، وروضات الجنات : ٢٤٩ ، وكشف الظنون : ١ / ٣٦.

(٦) في أ : لكلام.

٩٩

غيره ؛ والرّجمة : أحجار القبر ، ثمّ عبر بها عنه ؛ وفي الحديث : «لا ترجّموا قبري» ، أي : لا تضعوا عليه الرّجمة.

ويجوز أن يكون بمعنى «فاعل» ؛ لأنه يرجم غيره بالشرّ ، ولكنّه بمعنى «مفعول» أكثر ، وإن كان غير مقيس.

ثم في كونه مرجوما وجهان :

الأول : أن معنى كونه مرجوما كونه ملعونا من قبل الله تعالى ؛ قال الله تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [الحجر : ٣٤] واللّعن يسمّى رجما.

وحكى الله تعالى ـ عن والد إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) قيل : عنى بقوله الرّجم بالقول.

وحكى الله ـ تعالى ـ عن قوم نوح عليه‌السلام أنهم قالوا : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦] وفي سورة يس : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) [يس : ١٨].

والوجه : أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوما ؛ لأنه ـ تعالى ـ أمر الملائكة برمي الشّياطين بالشّهب والثّواقب ؛ طردا لهم من السّموات ، ثم وصف بذلك كلّ شرّير متمرّد وأما قوله في بعض وجوه الاستعاذة : إنّ الله هو السّميع العليم ، ففيه وجهان :

الأول : أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ، ومعلوم أنّ الوسوسة كأنها كلام خفيّ في قلب الإنسان ، ولا يطلع عليها أحد ، فكأن العبد يقول : يا من هو يسمع كلّ مسموع ، ويعلم كلّ سرّ خفيّ أنت تعلم وسوسة الشيطان ، وتعلم غرضه منها ، وأنت القادر على دفعها عنّي ، فادفعها عنّي بفضلك ؛ فلهذا السّبب كان ذكر السّميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار.

الثاني : أنّه إنما تعيّن هذا الذّكر بهذا الموضع ؛ اقتداء بلفظ القرآن ؛ وهو قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ٢٠٠].

وقال في حم السّجدة : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت : ٣٦].

فصل في احتجاج المعتزلة لإبطال الجبر

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله تعالى ـ : قالت المعتزلة (١) قوله : (أَعُوذُ بِاللهِ) يبطل القول بالجبر من وجوه :

__________________

(١) أساس نشأتهم «واصل بن عطاء» مع أستاذه «الحسن البصري» في حكم مرتكب الكبيرة ، وإليه تنسب طائفة المعتزلة ، وطريقهم في البحث : تحكيم العقل في كل شيء ، ومحاولة الوصول عن طريقه إلى كل شيء ، ولهم فضل عظيم في الدفاع عن الإسلام ، لأنهم قاوموا أصحاب العقائد الباطنة والأديان الأخرى بالحجة والبرهان. ـ

١٠٠