اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وهناك طرق أخرى تلي هذه الطرق ... (١).

وكان لابن عباس مدرسة في التفسير بمكة ، فكان يجلس لأصحابه من التابعين يفسر لهم كتاب الله تعالى.

يقول الإمام ابن تيمية :

«أما التفسير ، فأعلم الناس به أهل مكة ، لأنهم أصحاب ابن عباس ، كمجاهد وعطاء ابن أبي رباح ، وعكرمة مولى ابن عباس ، وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاوس ، وأبي الشعثاء ، وسعيد بن جبير وأمثالهم ..» (٢).

قيمة التّفسير المأثور عن الصّحابة

بعض المحدّثين يعطي التفسير المأثور عن الصحابي حكم المرفوع ، ومن هؤلاء الإمام الحاكم في مستدركه إذ يقول (٣) :

«ليعلم طالب الحديث : أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل ـ عند الشيخين ـ حديث مسند».

ولكن قيد «ابن الصلاح والنووي» وغيرهما هذا الإطلاق بما يرجع إلى أسباب النزول ، وما لا مجال للرأي فيه.

يقول ابن الصلاح (٤) :

«ما قيل من أن تفسير الصحابي حديث مسند ، فإنما ذلك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية يخبر به الصحابي ، أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا مدخل للرأي فيه ، كقول جابر ـ رضي الله عنه ـ : كانت اليهود تقول :

من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، فأنزل الله عزوجل :

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) .. الآية. فأما سائر تفاسير الصحابة التي لا تشتمل على إضافة شيء إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فمعدودة في الموقوفات».

وذكروا أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع إذا لم يكن للرأي فيه مجال. وأما ما يكون للرأي فيه مجال فله حكم الموقوف.

وما حكم عليه بالوقف : قال بعض العلماء : لا يجب الأخذ به لأنه مجتهد فيه وقد يصيب وقد يخطىء.

__________________

(١) راجع : حبر الأمة عبد الله بن عباس ١٤٦ وما بعدها.

(٢) مقدمة في أصول التفسير ص ١٥.

(٣) راجع : تدريب الراوي ص ٦٤ ، التفسير والمفسرون للذهبي ١ / ٩٤.

(٤) مقدمة ابن الصلاح ص ٢٤.

٤١

وقال بعضهم :

يجب الأخذ به لأنه إما سمعه من الرسول ، وإما فسره برأيه ، وهم أدرى الناس بكتاب الله ، وهم أهل اللسان ، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال ولا سيما ما ورد عن الأئمة الأربعة وابن مسعود وابن عباس وغيرهم (١).

يقول الزركشي (٢) :

«اعلم أن القرآن قسمان : قسم ورد تفسيره بالنقل ، وقسم لم يرد. والأول : إما أن يرد عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، أو الصحابة ، أو رؤوس التابعين ، فالأول يبحث فيه عن صحة السند ، والثاني ينظر فيه تفسير الصحابي ، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتماده ، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه ...».

ويقول الحافظ ابن كثير (٣) :

«.. وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة ، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك ، لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ، ولا سيما علماؤهم وكبراؤهم ، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، والأئمة المهديين ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم».

مدرسة مكّة

تلاميذ ابن عبّاس :

١ ـ سعيد بن جبير :

هو (٤) : سعيد بن جبير بن هشام الأسدي ، مولى بني والبة ، يكنى بأبي محمد (٥) أو بأبي عبد الله (٦). كان حبشي الأصل ، أسود اللون ، أبيض الخصال (٧).

هو أحد كبار التابعين ، وإمام من أئمة الإسلام في التفسير ، وكثرة العلم الصالح.

كان في أول أمره كاتبا لعبد الله بن عتبة بن مسعود ، ثم لأبي بردة الأشعري ، ثم تفرغ للعلم حتى صار إماما علما (٨).

__________________

(١) التفسير والمفسرون ص ٩٥ (بتصرف).

(٢) البرهان ٢ / ١٨٣.

(٣) مقدمة تفسير ابن كثير / الجزء الأول.

(٤) ترجمته في : طبقات ابن سعد ٦ / ٢٥٦ ، تقريب التهذيب ١ / ٢٩٢ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٠٤ ، تهذيب التهذيب ٤ / ١١ ، البداية والنهاية ٩ / ١٠٣ ، الأعلام ٣ / ١٤٥.

(٥ ، ٦) طبقات ابن سعد ، والبداية والنهاية وغيرهما.

(٧) التفسير والمفسرون ١ / ١٠٤.

(٨) الإسرائيليات والموضوعات ص ٩٥.

٤٢

أخذ العلم عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعبد الله بن مغفل المزني وغيرهم. وتخرج من مدرسة ابن عباس (١).

وكان ابن عباس يثق بعلمه ، ويحيل عليه من يستفتيه ، وكان يقول لأهل الكوفة إذا أتوه ليسألوه عن شيء : أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير (٢).

وكان يحب أن يسمع منه ، قال له مرة : حدّث ، فقال : أحدّث وأنت هنا؟ فقال : أليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا شاهد فإن أصبت فذاك ، وإن أخطأت علمتك (٣).

مكانته في التفسير : كان ـ رضي الله عنه ـ من أعلم التابعين بالقراءات. يقول إسماعيل بن عبد الملك (٤) : «كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود ، وليلة بقراءة زيد بن ثابت ، وليلة بقراءة غيره ، وهكذا أبدا».

وساعدته معرفته بالقراءات على معرفة معاني القرآن وأسراره ، ومع ذلك كان يتورع من القول في التفسير برأيه.

يروي ابن خلكان (٥) : «أن رجلا سأل سعيدا أن يكتب له تفسير القرآن فغضب وقال :

لأن يسقط شقي أحب إليّ من ذلك».

وقد شهد له التابعون بتفوقه في العلم ولا سيما التفسير. قال قتادة (٦) : «وكان أعلم الناس أربعة : كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك ، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير ، وكان عكرمة أعلمهم بالسير ، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام».

وقال سفيان الثوري (٧) : «خذوا التفسير عن أربعة : سعيد بن جبير ، ومجاهد بن جبر ، وعكرمة ، والضحاك». وقال خصيف (٨) : «كان من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب ، وبالحج عطاء ، وبالحلال والحرام طاوس ، وبالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبر ، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير».

نموذج من تفسيره : قال سعيد بن جبير : السبع المثاني هي : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس. قال : وسميت بذلك لأنها بينت فيها الفرائض والحدود(٩).

قتله :

قتل ـ رضي الله عنه ـ سنة أربعة وتسعين من الهجرة ، قتله الحجاج بن يوسف الثقفي

__________________

(١) الإسرائيليات والموضوعات ص ٩٥.

(٢) التفسير والمفسرون ١ / ١٠٥.

(٣) طبقات ابن سعد ٦ / ٢٥٧ ، ووفيات الأعيان ١ / ٢٠٤.

(٤) وفيات الأعيان ١ / ٢٠٤.

(٥) وفيات الأعيان ١ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٦) الإسرائيليات والموضوعات ص ٩٥.

(٧) الإسرائيليات والموضوعات ص ٩٥.

(٨) وفيات الأعيان ١ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٩) تفسير الطبري ١ / ٣٣ ، ٣٤.

٤٣

صبرا ، وذلك : أن سعيد بن جبير خرج على الخليفة مع ابن الأشعث ، فلما قتل ابن الأشعث وانهزم أصحابه من دير الجماجم هرب سعيد فلحق بمكة ، وكان واليها خالد بن عبد الله القسري ، فأخذه وبعث به إلى الحجاج. فقال له الحجاج : ما اسمك؟ قال : سعيد ابن جبير.

قال : بل أنت شقي بن كسير. قال : بل أمي كانت أعلم باسمي منك.

قال : شقيت أنت وشقيت أمك. قال : الغيب يعلمه غيرك.

قال : لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال : لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها.

قال : فما قولك في محمد؟ قال : نبي الرحمة وإمام الهدى.

قال : فما قولك في علي؟ أهو في الجنة أو هو في النار؟ قال : لو دخلتها وعرفت من فيها عرفت أهلها.

قال : فما قولك في الخلفاء؟ قال : لست عليهم بوكيل.

قال : فأيهم أعجب إليك؟ قال : أرضاهم لخالقهم.

قال : وأيهم أرضى للخالق؟ قال : علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم.

قال : فما بالك لم تضحك؟ قال : وكيف يضحك مخلوق خلق من طين والطين تأكله النار!!

قال : فما بالنا نضحك؟ قال : لم تستو القلوب.

ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت فجمعه بين يديه فقال سعيد :

إن كنت جمعت هذا لتتقي به من فزع يوم القيامة فصالح ، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، ولا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا ، ثم دعا الحجاج بالعود والناي ، فلما ضرب بالعود ، ونفخ بالناي بكى سعيد ، فقال : ما يبكيك هو اللعب؟

قال سعيد : هو الحزن ، أما النفخ فذكرني يوما عظيما ، يوم النفخ في الصور ، وأما العود

فشجرة قطعت من غير حق ، وأما الأوتار فمن الشاء تبعث معها يوم القيامة.

قال الحجاج : ويلك يا سعيد. قال : لا ويل لمن زحزح عن النار وأدخل الجنة.

قال الحجاج : اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك.

قال : اختر لنفسك يا حجاج ، فو الله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.

قال : أفتريد أن أعفو عنك؟ قال : إن كان العفو فمن الله ، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.

قال الحجاج : اذهبوا به فاقتلوه ، فلما خرج ضحك ، فأخبر الحجاج بذلك فرده وقال : ما أضحكك؟ قال : عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك.

فأمر بالنطع فبسط وقال : اقتلوه. فقال سعيد : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين.

قال : وجهوا به لغير القبلة. قال سعيد : فأينما تولوا فثم وجه الله.

٤٤

قال : كبوه لوجهه. قال سعيد : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.

قال الحجاج : اذبحوه. قال سعيد : أما إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة ، ثم دعا سعيد فقال : اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي.

وكان الحجاج إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه ويقول : يا عدو الله فيم قتلتني؟

فيقول الحجاج : ما لي ولسعيد بن جبير ، ما لي ولسعيد بن جبير (١)؟

ذكر عن الإمام أحمد أنه قال (٢) :

قتل سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج ـ أو قال مفتقر ـ إلى علمه.

٢ ـ مجاهد بن جبر :

هو : مجاهد بن جبر ، أبو الحجاج القرشي المخزومي ، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي. ولد سنة ٢١ ه‍ في خلافة عمر بن الخطاب ، وتوفي سنة ١٠٣ ه‍ (٣).

أحد أئمة التابعين والمفسرين ، وأحد أعلام القراء ، ومن خاصة أصحاب ابن عباس اشتهر بقوة حافظته ، حتى قال ابن عمر وهو آخذ بركابه :

«وددت أن ابني سالما وغلامي نافعا يحفظان حفظك» (٤).

كان مجاهد شغوفا بالعلم وخاصة التفسير. روى الفضل بن ميمون عن مجاهد قال (٥) : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة.

ويقول أيضا (٦) : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات ، أقف عند كل آية ، أسأله فيم نزلت وكيف كانت؟

ولا تعارض بين الروايتين ، فالأولى لتمام الضبط والتجويد ، والثانية للعلم والتفسير.

أسند مجاهد عن أعلام الصحابة وعلمائهم : عن ابن عمر ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وابن عمرو ، وأبي سعيد ، ورافع بن خديج ... وروى عنه خلق من التابعين (٧).

__________________

(١) انظر / وفيات الأعيان ١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ، تذكرة الحفاظ ٧١ ـ ٧٣ ، البداية والنهاية ٩ / ١٠١ ـ ١٠٣.

(٢) طبقات ابن سعد ٦ / ٢٦٦ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٠٦ ، الأعلام ٣ / ١٤٥.

(٣) طبقات ابن سعد ٥ / ٤٤٦ ، تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٢ ، البداية والنهاية ٩ / ٢٣٢.

(٤ ، ٥) ميزان الاعتدال ٣ / ٩.

(٤ ، ٥) ميزان الاعتدال ٣ / ٩.

(٦) تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٢.

(٧) البداية والنهاية ٩ / ٢٣٢.

٤٥

مكانته في التفسير : كان مجاهد أقل أصحاب ابن عباس رواية عنه في التفسير ، وكان أوثقهم.

قال سفيان الثوري (١) : «إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به».

وقال ابن تيمية (٢) : «ولذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم» غير أن بعض العلماء كان لا يأخذ بتفسيره .. يقول أبو بكر بن عياش : قلت للأعمش : ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟

قال : كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب (٣).

لكن هذا لا يقدح في صدقه وعدالته ، فقد «أجمعت الأمة على إمامته والاحتجاج به. وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة».

ثم إن سؤال أهل الكتاب أمر مباح ـ فيما لا يتعلق بحكم تشريعي ـ أباحه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٤).

كان مجاهد ـ رضي الله عنه ـ يعطي عقله حرية واسعة في فهم بعض نصوص القرآن التي يبدو ظاهرها بعيدا ، فإذا ما مر بنص قرآني من هذا القبيل وجدناه ينزله بكل صراحة ووضوح على التشبيه والتمثيل ، وتلك الخطة كانت فيما بعد مبدءا معترفا به ومقررا لدى المعتزلة في تفسير القرآن بالنسبة لمثل هذه النصوص» (٥).

نموذج من تفسير مجاهد : روى ابن كثير أن مجاهدا قال في قوله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) قال : أما الظاهرة فالإسلام والقرآن والرسول والرزق ، وأما الباطنة فما ستر من العيوب والذنوب (٦).

وقال في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قال : من لم يتب إذا أصبح وإذا أمسى فهو من الظالمين (٧).

٣ ـ عكرمة :

هو : عكرمة بن عبد الله البربري المدني ، مولى عبد الله بن عباس ، يكنى بأبي عبد الله. أصله من البربر بالمغرب (٨).

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٣٠.

(٢) مقدمة في أصول التفسير ص ٧ لابن تيمية.

(٣) طبقات ابن سعد ٥ / ٤٦٦ ، ميزان الاعتدال ٣ / ٣٣٩.

(٤) يقول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.

(٥) التفسير والمفسرون ١ / ١٠٨.

(٦ ، ٧) البداية والنهاية ٩ / ٢٣٤.

(٦ ، ٧) البداية والنهاية ٩ / ٢٣٤.

(٨) طبقات ابن سعد ٥ / ٢٨٧ ، وفيات الأعيان ١ / ٣١٩ ، البداية والنهاية ٩ / ٢٥٤ ، الأعلام ٥ / ٤٣.

٤٦

سمع من مولاه «ابن عباس» ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وعمرو بن العاص ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري ، وغيرهم (١).

تتلمذ على يدي عبد الله بن عباس ، وكان ابن عباس لا يألو جهدا في تثقيفه وتعليمه ، بل إنه كان يقسو عليه حتى يعلمه. روى ابن أبي شيبة عن عكرمة قال (٢) :

«كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل يعلمني القرآن والسنة».

وروى البخاري في صحيحه عن عكرمة أن ابن عباس قال له (٣) :

«حدّث الناس كل جمعة مرة ، فإن أبيت فمرتين ، فإن أكثرت فثلاث مرات ، ولا تملّ الناس هذا القرآن ، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم ، ولكن أنصت ، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه ، وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه ، فإني عهدت رسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأصحابه لا يفعلون ذلك».

لقد اهتم ابن عباس بتلميذه هذا اهتماما كبيرا ، وكأنه كان يعدّه ليكون خليفته في تفسير القرآن ، وكان يكافئه إذا ما أحسن فهم آية أشكلت على ابن عباس.

روى داود بن أبي هند عن عكرمة قال :

قرأ ابن عباس هذه الآية (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) قال ابن عباس : لم أدر أنجا القوم أم هلكوا؟ قال : فما زلت أبين له حتى عرف أنهم نجوا ، فكساني حلة (٤).

قال شهر بن حوشب : «عكرمة حبر هذه الأمة» (٥).

وقد شهد له الأئمة الأعلام بالثقة والعدالة :

قال المروزي : قلت لأحمد : يحتج بحديث عكرمة؟ فقال : نعم يحتج به (٦).

وقال ابن معين : إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة وفي حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام(٧).

وقال البخاري : ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة (٨).

وقد أخرج له : البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.

علمه ومكانته في التفسير : كان عكرمة على درجة كبيرة من العلم ، فهو من أعلم الناس بالسير والمغازي. قال سفيان عن عمرو قال (٩) :

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٥ / ٢٨٧.

(٢) البداية والنهاية ٩ / ٢٥٥ ، والكبل : القيد.

(٣) ميزان الاعتدال ٣ / ٩٣.

(٤) طبقات ابن سعد ٥ / ٢٨٨.

(٥) ميزان الاعتدال ٣ / ٩٣ ، مقدمة فتح الباري ص ٤٥٠.

(٦) مقدمة فتح الباري ص ٤٥٠.

(٧) معجم الأدباء ١٢ / ١٨٩.

(٨) مقدمة فتح الباري ص ٤٥٠.

(٩) البداية والنهاية ٩ / ٢٥٥ ، مقدمة فتح الباري ص ٤٥٠.

٤٧

كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصفون ويقتتلون وهو من علماء زمانه بالفقه والقرآن.

أما التفسير فقد شهد له الأئمة بذلك. يقول الشعبي : ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة (١).

وقال حبيب بن أبي ثابت :

اجتمع عندي خمسة : طاوس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير ، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما ، فلما نفد ما عندهما جعل يقول :

أنزلت آية كذا في كذا ، وأنزلت آية كذا في كذا (٢).

نموذج من تفسير عكرمة : قال عكرمة في قوله تعالى (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي بالشهوات (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالتوبة (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) أي التسويف (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) الموت (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الشيطان (٣).

وتوفي عكرمة رضي الله عنه بالمدينة سنة سبع ومائة للهجرة وقيل سنة أربعة ومائة (٤).

٤ ـ طاوس :

هو : طاوس بن كيسان الخولاني ، أبو عبد الرحمن.

أول طبقة أهل اليمن من التابعين ، وهو من أبناء الفرس الذين أرسلهم كسرى إلى اليمن(٥).

أدرك جماعة من الصحابة وروى عنهم ، وروايته عن ابن عباس أكثر ، وأخذه عنه في التفسير أكثر من غيره ، ولهذا عدّ من تلاميذ ابن عباس ، وجاء ذكره في مدرسته بمكة (٦).

روى عنه خلق من التابعين ، منهم : مجاهد ، وعطاء ، وعمرو بن دينار وغيرهم (٧).

شهد له ابن عباس بالورع والتقوى فقال : «إني لأظن طاوسا من أهل الجنة» (٨). وطاوس ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

كان طاوس ـ رضي الله عنه ـ جريئا في الحق ، لا يخشى فيه لومة لائم.

روى الزهري (٩) : أن سليمان رأى رجلا يطوف بالبيت ، له جمال وكمال ، فقال : من هذا يا زهري؟

__________________

(١) البداية والنهاية ٩ / ٢٥٥.

(٢) مقدمة فتح الباري ص ٤٥٠.

(٣) البداية والنهاية ٩ / ٢٥٩.

(٤) تهذيب التهذيب ٧ / ٢٦٣ ـ ٢٧٣ ، تذكرة الحفاظ ١ / ٩٠ ، البداية والنهاية ٩ / ٢٥٣.

(٥) البداية والنهاية ٩ / ٢٤٤.

(٦) التفسير والمفسرون ١ / ١١٤.

(٧) البداية والنهاية ٩ / ٢٤٥.

(٨) تهذيب التهذيب ٥ / ٩.

(٩) البداية والنهاية ٩ / ٢٤٧.

٤٨

فقلت : هذا طاوس ، وقد أدرك عدة من الصحابة ، فأرسل إليه سليمان ، فأتاه ، فقال : لوما حدثتنا؟! فقال : حدثني أبو موسى قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

«إن أهون الخلق على الله عزوجل من ولي أمور المسلمين شيئا فلم يعدل فيهم». فتغير وجه سليمان ، فأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه فقال : لوما حدثتنا!!

فقال : حدثني رجل من أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال ابن شهاب : ظننت أنه أراد عليا ـ قال :

دعاني رسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى طعام في مجلس من مجالس قريش ، ثم قال :

«إن لكم على قريش حقا ، ولهم على الناس حق ، ما إذا استرحموا رحموا ، وإذا حكموا عدلوا ، وإذا ائتمنوا أدوا ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».

قال : فتغير وجه سليمان ، وأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه وقال : لوما حدثتنا!! فقال : حدثني ابن عباس أن آخر آية نزلت من كتاب الله (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١).

علمه : بلغ طاوس من العلم مبلغا عظيما ، وكان واثقا من علمه هذا ...

أنكر عليه سعيد بن جبير قوله عن ابن عباس : إن الخلع طلاق ، فلقيه مرة فقال له : لقد قرأت القرآن قبل أن تولد ، ولقد سمعته وأنت إذ ذاك همك لقم الثريد».

وقال قيس بن سعد :

«كان طاوس فينا مثل ابن سيرين فيكم».

والتفسير المأثور عنه قليل جدا ، ومعظمه يرويه عن ابن عباس ، ولقلة التفسير المأثور عنه وطول باعه في الفقه قالوا عنه : إنه فقيه لا مفسر ، وعده علماء الفقه فقيها.

نموذج من تفسيره : قال في قوله تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) الآية «هو الرجل يعطي العطية ويهدي الهدية ليثاب أفضل من ذلك ، ليس فيه أجر ولا وزر».

وقد توفي طاوس ـ رضي الله عنه ـ يوم السابع من ذي الحجة سنة ١٠٦ ه‍ ، ووافته منيته وهو يحج بيت الله الحرام ، وصلى عليه هشام بن عبد الملك وهو خليفة.

٥ ـ عطاء بن أبي رباح :

هو : عطاء بن أبي رباح ، وأبو رباح هو : أسلم بن صفوان ، مولى آل أبي ميسرة بن أبي خثيم الفهري (٢).

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٨١.

(٢) طبقات ابن سعد ٥ / ٤٦٧ ، وفيات الأعيان ١ / ٣١٨ ، البداية والنهاية ٩ / ٣١٧ ، ٣١٨.

٤٩

سيد التابعين علما وعملا وإتقانا في زمانه بمكة (١).

قال ابن سعد (٢) :

سمعت بعض أهل العلم يقول : كان عطاء أسود ، أعور ، أفطس ، أشل ، أعرج ، ثم عمي بعد ذلك.

وكان ثقة ، فقيها ، عالما ، كثير الحديث.

قال أبو جعفر الباقر وغير واحد (٣) :

ما بقي أحد في زكانه أعلم بالمناسك منه ، وزاد بعضهم : وكان قد حج سبعين حجة ، وعمّر مائة سنة ، وكان في آخر عمره يفطر في رمضان من الكبر والضعف ، ويفدي عن إفطاره.

روى عن عدد كثير من الصحابة ، منهم ابن عمر ، وابن عمرو ، وعبد الله بن الزبير ، وأبو هريرة وغيرهم.

وسمع من ابن عباس التفسير وغيره. وروى عنه من التابعين عدة منهم : الزهري ، وعمرو بن دينار ، وقتادة ، والأعمش وغيرهم (٤).

مكانته في التفسير : كان ابن عباس يقول لأهل مكة إذا جلسوا إليه : تجتمعون إليّ يا أهل مكة وعندكم عطاء (٥)؟

وقال قتادة (٦) :

كان أعلم التابعين أربعة : كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك ، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير ، وكان عكرمة أعلمهم بالسير ، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام.

لم يكن عطاء مكثرا من رواية التفسير عن ابن عباس فضلا عن تفسيره هو ، ولعل إقلاله في التفسير يرجع إلى تحرجه من القول بالرأي (٧).

قال عبد العزيز بن رفيع (٨) : سئل عطاء عن مسألة فقال : لا أدري ، فقيل له : ألا تقول فيها برأيك؟ قال : إني أستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي.

لكنه كان يدلي برأيه ـ أحيانا ـ في التفسير.

روى الطبراني ـ بسنده ـ عن يحيى بن ربيعة الصنعاني قال : سمعت عطاء بن أبي رباح يقول في قوله تعالى : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٣ / ٧٠.

(٢) طبقات ابن سعد ٥ / ٤٩٦ ، البدآية والنهاية ٩ / ٣١٨.

(٣) البدآية والنهاية ٩ / ٣١٨.

(٤) البدآية والنهاية ٩ / ٣١٨.

(٥) تذكرة الحفاظ ١ / ٩١.

(٦) طبقات ابن سعد ٥ / ٤٦٩.

(٧) التفسير والمفسرون ١ / ١١٥.

(٨) التفسير والمفسرون ١ / ١١٥.

٥٠

يُصْلِحُونَ) قال : كانوا يقرضون الدراهم ، قيل : كانوا يقصون منها ويقطعونها (١).

وقيل لعطاء : إن ها هنا قوما يقولون : الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، فقال (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) فما هذا الهدى الذي زادهم؟ قلت : ويزعمون أن الصلاة والزكاة ليستا من دين الله ، فقال : قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) فجعل ذلك دينا (٢).

وتوفي رضي الله عنه سنة أربع عشرة ومائة من الهجرة (٣).

وبعد ..

فهذه هي مدرسة التفسير بمكة ، تلك التي أسسها حبر الأمة عبد الله بن عباس ، وهؤلاء أشهر شيوخها الذين تخرجوا فيها على يدي ابن عباس ، وفي نهاية مطافنا معها نرصد ما يلي :

* كان لهذه المدرسة دور ضخم في نشر التفسير ، وقد هيأ لها هذا الدور : نبوغ شيوخها ، بالإضافة إلى موطن المدرسة «مكة» حيث البيت الحرام الذي يأتيه الناس من كل فج عميق.

* لم يكتف شيوخ هذه المدرسة بنشر التفسير في مكة ، وإنما كان لهم دور بالغ الأهمية خارج مكة .. فقد كان لسعيد بن جبير رحلة إلى الري نشر فيها الكثير من العلم (٤) ، وكذلك كان لمجاهد رحلات خارج مكة ، واستقر طاوس باليمن ينشر هناك علم ابن عباس وتفسيره ، وأما عكرمة فقد طاف البلاد الإسلامية شرقا وغربا ، إذ رحل إلى خراسان ، واليمن ، والعراق ، والشام ، ومصر ، والحرمين (٥).

جزى الله هؤلاء الأعلام عن القرآن والمسلمين خير الجزاء.

مدرسة المدينة

تلاميذ أبيّ بن كعب :

قامت مدرسة المدينة في التفسير على الصحابي الجليل أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ فهو أستاذها وأشهر مفسريها.

وكان بالمدينة كثير من التابعين ، أقاموا بها ، فجلسوا إلى «أبي» يعلمهم كتاب الله وسنته .. ومن أشهر هؤلاء :

__________________

(١ ، ٢) البداية والنهاية ٩ / ٣١٨ ، ٣١٩.

(٣) المصدر نفسه ٩ / ٣١٧.

(٤) راجع : حبر الأمة عبد الله بن عباس ص ١٤٥.

(٥) راجع : وفيات الأعيان ١ / ٣١٩ ، معجم الأدباء ١٢ / ١٨١ ، البداية والنهاية ٩ / ٢٥٤.

٥١

١ ـ أبو العالية :

هو : زياد وقيل : رفيع بن مهران الرياحي ، مولاهم (١).

مخضرم ، أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بسنتين.

روى عن : علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي بن كعب ، وغيرهم.

كان من ثقات التابعين ، وقد أجمع عليه أصحاب الكتب الستة.

كان يحفظ القرآن ويتقنه ، قال :

«قرأت القرآن بعد وفاة نبيكم بعشر سنين».

وقال : «قرأت القرآن على عهد عمر ثلاث مرات».

وقال فيه ابن أبي داود :

«ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبي العالية».

رويت عنه نسخة كبيرة في التفسير ، رواها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ ، وهو إسناد صحيح.

توفي سنة تسعين من الهجرة على أرجح الأقوال.

٢ ـ محمد بن كعب القرظي :

هو : محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي ، المدني ، أبو حمزة ، أو أبو عبد الله.

له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة منهم :

علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وغيرهم. وروى عن أبي بن كعب بالواسطة (٢).

قال فيه ابن سعد (٣) : كان ثقة ، عالما ، كثير الحديث ، ورعا. وهو من رجال الكتب الستة.

قال فيه ابن عون (٤) :

ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي.

نموذج من تفسيره (٥) : قال في قوله تعالى : (.. اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا ..) اصبروا على دينكم ، وصابروا لوعدكم الذي وعدتم ، ورابطوا عدوكم الظاهر والباطن ، واتقوا الله فيما بيني وبينكم ، لعلكم تفلحون إذا لقيتموني.

توفي سنة مائة وثمان من الهجرة (٦) وقيل بعد ذلك.

__________________

(١) راجع : تهذيب التهذيب ٣ / ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ، ومقدمة فتح الباري ص ٤٢٢ ، وانظر : التفسير والمفسرون ١ / ١١٦ ، ١١٧.

(٢) البداية والنهاية ٩ / ٢٦٨ وما بعدها.

(٣ ، ٤) راجع : التفسير والمفسرون ١ / ١١٧ ، والإسرائيليات والموضوعات ٩٨.

(٥) البداية والنهاية ٩ / ٢٦٨.

(٦) المصدر نفسه.

٥٢

٣ ـ زيد بن أسلم :

هو (١) : زيد بن أسلم العدوي ، المدني ، الفقيه ، المفسر. أبو أسامة أو أبو عبد الله.

كان أبوه مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ...

وكان زيد من كبار التابعين الذين عرفوا القول بالتفسير.

قال فيه الإمام أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي : ثقة ، وهو عند أصحاب الكتب الستة.

عرف بغزارة العلم. كان يفسّر القرآن برأيه ولا يتحرج من ذلك ، إذ يرى جواز التفسير بالرأي.

وأشهر من أخذ التفسير عن زيد بن أسلم من علماء المدينة : ابنه عبد الرحمن بن زيد ، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة.

وتوفي سنة ست وثلاثين ومائة للهجرة ، وقيل غير ذلك.

مدرسة العراق

تلاميذ عبد الله بن مسعود :

قامت هذه المدرسة على عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وغيره ، إلا أن ابن مسعود هو أشهر أساتذتها ، أو هو أستاذها الأول لطول باعه في هذا الميدان ، بالإضافة إلى أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حين ولى عمار بن ياسر على الكوفة سيّر معه عبد الله ابن مسعود معلما ووزيرا ، فجلس إليه أهل الكوفة وأخذوا عنه أكثر من غيره.

ومن أهم سمات هذه المدرسة : شيوع طريقة الاستدلال فيها ، نظرا لأن أهل العراق عرفوا بأنهم أهل الرأي ، وقد وضع حجر الأساس لهذه الطريقة عبد الله بن مسعود (٢).

ومن أشهر رجال هذه المدرسة :

١ ـ علقمة بن قيس :

هو : علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك ، أبو شبل ، النخعي ، الكوفي.

كان من أكابر أصحاب ابن مسعود وعلمائهم. وكان يشبه بابن مسعود ، وكان أعلم أصحابه بعلم ابن مسعود (٣).

قال عثمان بن سعيد : «قلت لابن معين : علقمة أحب إليك أم عبيدة؟ فلم يخير ، قال عثمان : كلاهما ثقة ، وعلقمة أعلم بعبد الله».

وروى عبد الرحمن بن يزيد قال : قال عبد الله : ما أقرأ شيئا ولا أعلمه إلا علقمة يقرؤه ويعلمه.

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٣ / ٣٩٥ ـ ٣٩٧ ، وراجع : التفسير والمفسرون ١ / ١١٨ ، ١١٩.

(٢) التفسير والمفسرون ١ / ١٢٠ (بتصرف وإيجاز).

(٣) تهذيب التهذيب ٧ / ٢٧٦ ـ ٢٧٨ ، البداية والنهاية ٨ / ٢١٩.

٥٣

قال فيه الإمام أحمد : ثقة من أهل الخير. وهو عند أصحاب الكتب الستة.

مات سنة إحدى وستين ، وقيل سنة اثنتين وستين عن تسعين سنة (١).

٢ ـ مسروق :

هو : مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية الهمداني ، الكوفي ، العابد ، أبو عائشة.

سأله عمر يوما عن اسمه فقال له : اسمي مسروق بن الأجدع ، فقال عمر : الأجدع شيطان ، أنت مسروق بن عبد الرحمن (٢).

روى عن الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وغيرهم.

وكان أعلم أصحاب ابن مسعود ، وأكثرهم أخذا منه ، قال علي بن المديني : ما أقدم على مسروق أحدا من أصحاب عبد الله ، يعني ابن مسعود.

وقال الشعبي : ما رأيت أطلب للعلم منه.

وقد وثقه علماء الجرح والتعديل ، فقال ابن معين :

ثقة ، لا يسأل عن مثله ، وقال ابن سعد : كان ثقة ، وله أحاديث صالحة ، وقد أخرج له الستة.

توفي ـ رضي الله عنه ـ سنة ثلاث وستين من الهجرة على الأشهر (٣).

٣ ـ عامر الشعبي :

هو : عامر بن شراحيل الشعبي ، الحميري ، الكوفي ، التابعي الجليل أبو عمرو.

قاضي الكوفة (٤).

كان علّامة أهل الكوفة ، إماما حافظا ، ذا فنون.

وقد أدرك خلقا من الصحابة ، وروى عنهم ، ومنهم : عمر ، وعلي ، وابن مسعود وإن لم يسمع منهم ، وروى عن أبي هريرة ، وعائشة ، وابن عباس ، وأبي موسى الأشعري ، وغيرهم.

قال الشعبي : أدركت خمسمائة من الصحابة ..

والشعبي ثقة ، فهو عند أصحاب الكتب الستة ، وقال ابن حبان في الثقات : كان فقيها شاعرا.

وعن سليمان بن أبي مجلز قال : ما رأيت أحدا أفقه من الشعبي ، لا سعيد بن المسيب ، ولا طاوس ، ولا عطاء ، ولا الحسن ، ولا ابن سيرين.

__________________

(١) راجع المصدرين السابقين

(٢) تهذيب التهذيب ١٠ / ١٠٩ ـ ١١١ ، التفسير والمفسرون ١ / ١٢١ ، ١٢٢ ، والإسرائيليات والموضوعات ٩٩.

(٣) تهذيب التهذيب ١٠ / ١٠٩ ـ ١١١ ، التفسير والمفسرون ١ / ١٢١ ، ١٢٢ ، والإسرائيليات والموضوعات ٩٩.

(٤) تهذيب التهذيب ٥ / ٦٥ ـ ٦٩ ، البداية والنهاية ٩ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

٥٤

وقال ابن سيرين :

قدمت الكوفة وللشعبي حلقة ، وأصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يومئذ كثير (١).

ومع أنه قد أوتي هذا الحظ الوافر من العلم لم يكن جريئا على كتاب الله حتى يقول فيه برأيه. قال ابن عطية (٢) :

كان جلة من السلف كسعيد بن المسيب ، وعامر الشعبي يعظمون تفسير القرآن ، ويتوقفون عنه تورّعا واحتياطا لأنفسهم ، مع إدراكهم وتقدمهم.

توفي سنة أربع ومائة من الهجرة (٣) ، وقيل سنة تسع ومائة.

٤ ـ الحسن البصري :

هو : الحسن بن أبي الحسن يسار البصري ، أبو سعيد ، مولى الأنصار. وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، ربي في حجرها وأرضعته بلبانها ، فعادت عليه بركة النبوة (٤).

ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب.

وهو أحد كبار التابعين الأجلاء علما وعملا وإخلاصا ، شهد له بالعلم خلق كثير.

قال أنس بن مالك :

«سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا» وقال سليمان التيمي : «الحسن شيخ أهل البصرة». وروى أبو عوانة عن قتادة أنه قال :

«ما جالست فقيها قط إلا رأيت فضل الحسن عليه».

وكان أبو جعفر الباقر يقول عنه : «ذلك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء» (٥).

وقد التزم الحسن البصري بمنهجه السلفي في تفسير الآيات المتعلقة بالله وصفاته ، ولم يمنعه هذا الالتزام من حرية العقل حين تعرض لغيرها ، يقول في تفسير قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له ، وهذه هي عقيدة السلف التي بنوها على ما يتعلق بالآية من سبب نزولها ، فعن أبي هريرة قال :

جاءت مشركو قريش إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يخاصمونه في القدر ، فنزلت هذه الآية (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)(٦).

__________________

(١) راجع لهذه الأقوال : تهذيب التهذيب ، البداية والنهاية ، والتفسير والمفسرون.

(٢) مقدمة تفسير القرطبي ١ / ٣٤.

(٣) البداية والنهاية ٩ / ٢٣٩.

(٤) تهذيب التهذيب ٢ / ٢٦٣ ـ ٢٧٠ ، البداية والنهاية ٩ / ٢٨٠ ، الحسن البصري للإمام أبي الفرج بن الجوزي ـ هدية مجلة الأزهر / محرم ١٤٠٨ ه‍.

(٥) تهذيب التهذيب ٢ / ٢٦٣.

(٦) البغوي الفراء ٢٢١.

٥٥

وكان الحسن يعمل عقله وفكره في فهم القرآن وتفسيره. يقول في قوله تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) :

«إن الله لم يجعل لأهل النار مدة ، بل قال لابثين فيها أحقابا ، فو الله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر إلى الأبد فليس للأحقاب عدة إلا الخلود» (١).

وتوفي رحمه‌الله سنة عشر ومائة من الهجرة عن ثمان وثمانين سنة.

٥ ـ قتادة :

هو : قتادة بن دعامة السدوسي ، الأكمه ، أبو الخطاب ، عربي الأصل ، كان يسكن البصرة.

أحد علماء التابعين ، والأئمة العاملين ، روى عن أنس بن مالك وجماعة من التابعين منهم : سعيد بن المسيب ، وأبو العالية ، وزرارة بن أوفى ، وعطاء ، ومجاهد ، وابن سيرين ، ومسروق ، وأبو مجلز وغيرهم (٢).

وحدث عنه جماعات من الكبار كالأعمش ، وشعبة ، والأوزاعي ، وغيرهم.

وكان قوي الحافظة ، واسع الاطلاع في الشعر العربي ، بصيرا بأيام العرب.

كان قتادة على مبلغ عظيم من العلم فضلا عما اشتهر به من معرفته لتفسير كتاب الله تعالى ؛ وقد شهد له بذلك كبار التابعين والعلماء.

قال فيه سعيد بن المسيب : «ما أتاني عراقي أحسن من قتادة».

وقد استخدم قتادة معرفته باللغة العربية في التفسير ، وأعمل فكره في تفهم الآيات ، بجانب روايته عن السلف.

وقد توفي رضي الله عنه سنة سبع عشرة ومائة من الهجرة عن ست وخمسين سنة على المشهور. وقيل سنة خمس عشرة ومائة (٣).

وبعد ...

فهذه هي مدارس التفسير المشهورة في عصر التابعين ، الذين تلقوا غالب أقوالهم في التفسير عن الصحابة ، وبعضهم استعان بأهل الكتاب ، ثم اجتهدوا مستعينين على ذلك بما بلغوا من العلم ودقة الفهم ، وقرب عهدهم من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والعرب الخلص ، فلم تفسد سليقتهم ...

وهناك مدارس أخرى غير هذه المدارس الثلاث ، ولكنها لم ترق لشهرة هذه الثلاث.

ومن هذه : مدرسة مصر التي اشتهر من شيوخها :

__________________

(١) البغوي الفراء ٢٢٢.

(٢) وفيات الأعيان ٢ / ١٧٩ ، البداية والنهاية ٩ / ٣٢٦ ، تهذيب التهذيب ٨ / ٣٥١.

(٣) راجع : تهذيب التهذيب ٨ / ٣٥١ ـ ٣٥٦ ، البداية والنهاية ٩ / ٣٢٥ ، ٣٢٦.

٥٦

يزيد بن حبيب الأزدي ، وأبو الخير مرثد بن عبد الله وغيرهما.

ومدرسة اليمن التي أرسى دعائمها طاوس بن كيسان ، وكان من أشهر شيوخها : وهب ابن منبه الصنعاني.

وهكذا بذل هؤلاء التابعون جهدا ضخما في حمل الأمانة عن الصحابة ، ثم جاء تابعو التابعين ليكملوا المسيرة وظلت تتوارث حتى وصلت إلينا ، فجزى الله كل من أسهم في هذا العلم خير الجزاء ، ونفعنا الله بالقرآن وعلومه.

قيمة التّفسير المأثور عن التّابعين

تفسير التابعي إما أن يكون مأثورا عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو عن صحابته ، أو لا. فإن كان مأثورا عن النبي يأخذ حكم تفسيره ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وكذلك إن كان مأثورا عن الصحابة.

وإن لم يكن مأثورا عن النبي ولا عن الصحابة فقد اختلف العلماء في الرجوع إليه والأخذ بأقوال التابعين فيه.

* فقد نقل عن أبي حنيفة أنه قال (١) :

ما جاء عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فعلى الرأس والعين ، وما جاء عن الصحابة تخيّرنا ، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.

* ونقلوا عن الإمام أحمد روايتين ، إحداهما بالقبول ، والأخرى بعدم القبول (٢).

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يؤخذ بتفسير التابعين ، لأنهم لم يسمعوا من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بخلاف تفسير الصحابة الذين سمعوا من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وشاهدوا القرائن والأحوال.

وأكثر المفسرين على الأخذ بأقوال التابعين ، لأنهم تلقوا على أيدي الصحابة كما سبق أن ذكرنا.

والرأي الذي نرجحه ونميل إليه هو ما ذكره ابن تيمية ، قال (٣) :

«قال شعبة بن الحجاج وغيره : أقوال التابعين ليست حجة ، فكيف تكون حجة في التفسير!! يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم ، وهذا صحيح ، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة ، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم ، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن ، أو السنة ، أو عموم لغة العرب ، أو أقوال الصحابة في ذلك».

__________________

(١) راجع : التفسير والمفسرون للذهبي ١ / ١٢٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) مقدمة في أصول التفسير / ابن تيمية ٢٨ ـ ٢٩ ، الإتقان في علوم القرآن ٢ / ١٧٩.

٥٧

سمات التّفسير في تلك المرحلة

اتسم التفسير في تلك المرحلة بعدة سمات ، من أبرزها (١) :

* أنه اعتمد على التلقي والرواية ، وغلب على التلقي والرواية طابع الاختصاص ، فكان لكل بلد مدرسته وأستاذه ، فمكة أستاذها ابن عباس ، والمدينة أستاذها أبي بن كعب ، والعراق أستاذه ابن مسعود ... وهكذا.

* دخول أهل الكتاب في الإسلام كان سببا في تسلل الدخيل إلى علم التفسير ، وقد تساهل التابعون في النقل عنهم ـ فيما لا يتعلق بالأحكام الشرعية ـ بدون تحرّ ونقد ، وأكثر من روي عنه في ذلك من مسلمي أهل الكتاب :

عبد الله بن سلام ، كعب الأحبار ، وهب بن منبه ، وغيرهم.

* كان بدهيا أن يختلف التابعون في التفسير ، نظرا لتعددهم وكثرتهم واختلاف مدارسهم التي تخرجوا فيها ، ولكنه خلاف ليس بالكثير إذا ما قيس بالعصور اللاحقة.

* كما ظهرت نواة الخلاف المذهبي ، إذ ظهرت بعض التفسيرات تحمل في طياتها بذورا لتلك المذاهب ...

التّفسير في عصر التّدوين

تبدأ هذه المرحلة في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي. إذ انتشر التدوين بصورة واسعة ، وعني العرب «بتدوين كل ما يتصل بدينهم الحنيف ، فقد تأسست في كل بلدة إسلامية مدرسة دينية عنيت بتفسير الذكر الحكيم ، ورواية الحديث النبوي ، وتلقين الناس الفقه وشؤون التشريع. وكان كثير من المتعلمين في هذه المدارس يحرصون على تدوين ما يسمعونه ...» (٢).

تدوين التفسير : اختلف في أول من ألف تفسيرا «مكتوبا» ، فبعضهم يذكر أن «عبد الملك بن جريج» (٣) [ت ١٤٩ ه‍] هو أول من ألف تفسيرا مكتوبا ..

وذكر ابن النديم : أن أبا العباس ثعلب قال : كان السبب في إملاء كتاب الفراء في المعاني أن عمر بن بكير كان من أصحابه ، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل ، فكتب إلى الفراء : إن الأمير الحسن بن سهل ، ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب ، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا ، أو تجعل في ذلك كتابا أرجع إليه

__________________

(١) راجع : التفسير والمفسرون ١ / ١٣١ ، ١٣٢.

(٢) تاريخ الأدب العربي / العصر الإسلامي د. شوقي ضيف ٤٥٢.

(٣) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، أو أبو خالد ، أو أبو الوليد ، مولاهم ، من علماء مكة ومحدثيها ، ولد سنة ٨٠ ه‍ ، توفي سنة ١٤٩ ه‍ ، أول من صنف بالحجاز الكتب ، نقل عنه ابن جرير في تفسيره. راجع طبقات ابن سعد.

٥٨

فعلت ، فقال الفراء لأصحابه : اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابا في القرآن ... فقال الفراء لرجل اقرأ بفاتحة الكتاب نفسرها ، ثم نوفي الكتاب كله ، فقرأ الرجل وفسر الفراء ، قال أبو العباس : «لم يعمل أحد قبله مثله ، ولا أحسب أن أحدا يزيد عليه» (١).

وبذلك يكون ابن النديم قد عد «الفراء» أول من ألف تفسيرا للقرآن مدوّنا.

ولكن ابن حجر يذكر أن التفسير المدون كان قبل الفراء وقبل ابن جريج إذ يقول (٢) :

«وكان عبد الملك بن مروان [ت ٨٦ ه‍] سأل سعيد بن جبير [ت ٩٥ ه‍] أن يكتب إليه بتفسير القرآن ، فكتب سعيد بهذا التفسير ، فوجده عطاء بن دينار في الديوان فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير».

ويبدو أنه من الصعب تحديد أول من فسر القرآن تفسيرا مدونا على تتابع آياته وسوره كما في المصحف.

أقسام التّفسير

وظل الخلف يحمل رسالة السلف جيلا بعد جيل حتى وصلت مسيرة التفسير إلى تابعي التابعين ، وهنا تعددت اتجاهات التفسير إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية هي :

أولا ـ الاتجاه الأثري (التفسير بالمأثور)

والمأثور : اسم مفعول من أثرت الحديث أثرا : والأثر اسم منه ، وحديث مأثور : أي منقول(٣).

وعلى ذلك فهو يشمل المنقول عن الله تبارك وتعالى ـ في القرآن الكريم ـ ، والمنقول عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، والمنقول عن الصحابة ، والمنقول عن التابعين.

وجلّ الذين يكتبون عن تاريخ التفسير ويتحدثون عن الاتجاه الأثري يبدأونه بالطبري فيقطعون بذلك اتصال سلسلة التطور في الأوضاع التفسيرية بين القرن الأول والقرن الثالث بإضاعة الحلقة من تلك السلسلة التي تمثل منهج التفسير في القرن الثاني ، لأن تفسير ابن جرير الطبري ألف في أواخر القرن الثالث ، وصاحبه توفي في أوائل القرن الرابع ... وبالوقوف على هذه الحلقة ـ وهي إفريقية تونسية ـ يتضح كيف تطور فهم التفسير عما كان عليه في عهد ابن جريج ، إلى ما أصبح عليه في تفسير الطبري ، ويتضح لمن كان الطبري مدينا له بذلك المنهج الأثري النظري الذي درج عليه في تفسيره العظيم ...

«ذلك التفسير هو أقدم التفاسير الموجودة اليوم على الإطلاق ، ويعد صاحبه مؤسس

__________________

(١) الفهرست ص ٩٩.

(٢) تهذيب التهذيب ٧ / ١٩٨.

(٣) المصباح المنير (أثر) ، الإسرائيليات والموضوعات (أبو شهبة ص ٦٤).

٥٩

طريقة التفسير النقدي ، أو الأثري النظري الذي صار إليه بعده «ابن جرير الطبري» واشتهر بها.

ذلك هو تفسير «يحيى بن سلام» التميمي البصري المتوفى سنة ٢٠٠ ه‍ ، ويقع في ثلاث مجلدات ضخمة ، وقد بناه على إيراد الأخبار مسندة ، ثم تعقبها بالنقد والاختيار ، وكان يبني اختياره على المعنى اللغوي والتخريج الإعرابي .. وتوجد من هذا التفسير نسخة بتونس» (١).

ويعد ابن جرير الطبري ربيب تلك الطريقة ، طريقة يحيى بن سلام ، وثمرة غرسه.

وقد ذكر السيوطي عددا من مفسري هذا الاتجاه الأثري منهم :

* يزيد بن هارون ت ١١٧ ه‍.

* شعبة بن الحجاج ت ١٦٠ ه‍.

* وكيع بن الجراح ت ١٩٧ ه‍.

* سفيان بن عيينة ت ١٩٨ ه‍ ، وغيرهم.

«ابن جرير الطبري» (٢) :

لكن التفسير حين انتهى إلى الطبري في أوائل القرن الثالث الهجري «كان نهرا مزبدا ، ذا ركام ورواسب ، قد انصب إلى بحر خضمّ عباب ، فامتزج بمائه ، وتشرب من عناصره ، وصفا إليه من زبده ، وتطهر لديه من ركامه ورواسبه» (٣).

«وابن جرير» فقيه ، عالم ، تبحر في فنون شتى من العلم ، فهو أحد المشاهير من رجال التاريخ ، ويعد كتابه «تاريخ الأمم والملوك ..» فيه مرجع المراجع ، وبه صار إمام المؤرخين غير منازع.

وقد شهد له بذلك كثير من الأعلام. يقول الخطيب البغدادي (٤) :

«جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، وكان حافظا لكتاب الله ، عارفا بالقراءات كلها ، بصيرا بالمعاني ، فقيها في الأحكام ، عالما بالسنن وطرقها ، وصحيحها وسقيمها ، وناسخها ومنسوخها ، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، عارفا بأيام الناس وأخبارهم ، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك ، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله ....».

لقد امتلك الطبري أدوات التفسير فاستخدمها بمهارة وحذق ، ومن هنا عدّ تفسيره «ذا أولية بين كتب التفسير ، أولية زمنية ، وأولية من الناحية الفنية والصياغة .. أما أوليته الزمنية فلأنه أقدم كتاب في التفسير وصل إلينا وما سبقه من المحاولات التفسيرية ذهبت بمرور

__________________

(١) التفسير ورجاله / ابن عاشور ص ٢٧.

(٢) هو : محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب ، الإمام أبو جعفر الطبري ، ولد سنة ٢٢٤ ه‍ ، وتوفي سنة ٣١٠ ه‍ وقد جاوز الثمانين بخمس أو ست سنين.

(٣) التفسير ورجاله ص ٣٠.

(٤) البداية والنهاية لابن كثير ١١ / ١٥٦.

٦٠