اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قراءة الجماعة «أزلهما» يجوز أن تكون من «زلّ عن المكان» : إذا تنحى عنه ، فتكون من الزوال كقراءة «حمزة» ، ويدل عليه قول امرىء القيس : [الطويل]

٤٠٤ ـ كميت يزلّ اللّبد عن حال متنه

كما زلّت الصّفواء بالمتنزّل (١)

وقال أيضا : [الطويل]

٤٠٥ ـ يزلّ الغلام الخفّ عن صهواته

ويلوي بأثواب العنيف المثقّل (٢)

فرددنا قراءة الجماعة إلى قراءة «حمزة» ، أو نرد قراءة «حمزة» إلى قراءة الجماعة بأن نقول : معنى أزالهما أي : صرفهما عن طاعة الله ، فأوقعهما في الزّلّة ؛ لأن إغواءه وإيقاعه لهما في الزّلّة سبب للزوال ، ويحتمل أن تفيد كل قراءة معنى مستقلّا ، فقراءة الجماعة تؤذن بإيقاعهما في الزّلّة ، فيكون «زلّ» بمعنى : استزلّ ، وقراءة «حمزة» تؤذن بتنحيتهما عن مكانهما ، ولا بدّ من المجاز في كلتا القراءتين ، لأن الزّلل أصله من زلّة القدم ، فاستعمل هنا في زلّة الرأي والتنحية لا يقدر عليها الشّيطان ، وإنما يقدر على الوسوسة التي هي سبب التنحية.

و «عنها» متعلّق بالفعل قبله ، ومعنى «عن» هنا السّببية إن أعدنا الضمير على «الشجرة» أي : أوقعهما في الزّلّة بسبب الشجرة.

قال «الزّمخشري» لفظة «عن» في هذه الآية كما في قوله : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [الكهف : ٨٢].

ويجوز أن تكون على بابها من المجاوزة إن عاد الضمير على «الجنّة» ، وهو الأظهر ، لتقدّم ذكرها ، وتجيء عليه قراءة «حمزة» واضحة ، ولا تظهر قراءته كلّ الظهور على كون الضمير ل «الشجرة».

قال «ابن عطيّة» (٣) فأما من قرأ «أزالهما» فإنه يعود على «الجنة» فقط.

وقيل : الضّمير للطاعة ، أو للحالة ، أو للسماء ، وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة السياق عليهما. وهذا بعيد جدّا.

فإن قيل : إن الله ـ تعالى ـ قد أضاف الإزلال إلى «إبليس» فلم عاتبهما على ذلك الفعل؟

__________________

ـ وعللها : ١ / ٨١ ، والسبعة : ١٥٣ ، وحجة القراءات : ٩٤ ، وشرح شعلة : ٢٦١ ، وإتحاف : ١ / ٣٨٨.

وقرأ بها الحسن وأبو رجاء. انظر البحر المحيط : ١ / ٣١٣ ، والقرطبي : ١ / ٢١٣.

(١) تقدم برقم (٢٣٤).

(٢) ينظر الزجاجي : (٢ / ٤٤٥) ، المعلقات للزوزني : (٢٥) ، المقرب (٤٨٥) ، التبريزي : (١١٦) ، الشنقيطي : (٦٦) ، الدر المصون : (١ / ١٩٣).

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٢٩.

٥٦١

والجواب : أن قوله : «فأزلهما» أنهما عند وسوسته أتيا بذلك الفعل ، وأضيف ذلك إلى «إبليس» كما في قوله تعالى : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٦] قال تعالى حاكيا عن إبليس : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] ، هذا قول المعتزلة ، والتحقيق في هذه الإضافة ما ذكرناه ، وهو أن القادر على الفعل والترك مع التّساوي يستحيل أن يكون موجدا لأحد هذين الأمرين إلا عند انضمام الدّاعي إليه ، والدّاعي في حقّ العبد عبارة عن علم أو ظن ، أو اعتقاد بكون الفعل مشتملا على مصلحة ، فإذا حصل ذلك العلم أو الظن بسبب منبّه نبه عليه كان الفعل مضافا إلى ذلك المنبّه ؛ لأنه هو الفاعل لما لأجله صار الفاعل بالقوة فاعلا بالفعل ، فهكذا المعنى انضاف ـ هاهنا ـ إلى الوسوسة.

فإن قيل : كيف كانت الوسوسة؟

فالجواب : هي التي حكى الله عنها في قوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠] فلم يقبلا ذلك منه ، فلما أيس عدل إلى اليمين على ما قال تعالى : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٢١] فلم يصدقاه. والظاهر أنه بعد ذلك عدل إلى شيء آخر ، وهو أنه شغلهما باستيفاء اللّذّات المباحة حتى صارا مستغرقين فيها ، فحصل بسبب استغراقهما فيها نسيان النهي ، فعند ذلك حصل ما حصل ، والله أعلم.

فصل في بيان كيف وسوس إبليس لآدم

اختلفوا في أنه كيف تمكّن إبليس من وسوسة آدم عليه الصلاة والسلام ، مع أن إبليس كان خارج الجنّة ، وآدم عليه الصّلاة والسّلام داخل الجنّة؟ وذكروا فيه وجوها :

أحدها : ما روي عن وهب بن منبّه والسدي عن ابن عباس وغيره : أن إبليس أراد دخول الجنة ، فمنعته الخزنة ، فأتى الحية بعد ما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد من الحيوانات ، فابتلعته الحية وأدخلته الجنّة خفية من الخزنة ، فلما دخلت الحيّة الجنة خرج إبليس من فيها واشتغل بالوسوسة ، فلا جرم لعنت الحيّة ، وسقطت قوائمها ، وصارت تمشي على بطنها ، وجعل رزقها في التراب ، وصارت عدوا لبني آدم ، وأمرنا بقتلها في الحلّ والحرم (١).

قال ابن الخطيب (٢) : وهذا وأمثاله يجب ألا يلتفت إليه ؛ لأن إبليس لو قدر على

__________________

(١) أخرجه الطبري (١ / ٥٢٥ ـ ٥٢٦) عن وهب بن منبه وأخرجه أيضا (١ / ٥٢٧) عن ابن عباس وابن مسعود.

وأورده السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٨٠) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن مسعود وعبد الرزاق عن ابن عباس وسفيان بن عيينة وعبد الرزاق وابن المنذر وابن عساكر عن ابن عباس أيضا.

(٢) ينظر الرازي : ٣ / ١٥.

٥٦٢

الدخول في فم الحيّة فلم لم يقدر على أن يجعل نفسه حيّة ثم يدخل الجنّة؟ ولأن الحية لو فعلت ذلك ، فلم عوقبت مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة؟ وأيضا فلما خرج من بطنها صارت في الجنة كانت الملائكة والخزنة يرونه.

وثانيها : أن «إبليس» دخل الجنّة في صورة دابّة ، وهذا القول أقلّ فسادا من الأول.

وثالثها : قال بعض أهل الأصول : لعلّ آدم وحوّاء ـ عليهما‌السلام ـ كانا يخرجان إلى باب الجنة ، وإبليس كان بقرب الماء يوسوس لهما.

ورابعها : قال الحسن : كان إبليس في الأرض ، وأوصل الوسوسة إليهما في الجنّة.

قال بعضهم : هذا بعيد ؛ لأن الوسوسة كلام خفيّ ، والكلام الخفي لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السّماء.

واختلفوا في أن «إبليس» باشر خطابهما ، أو أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه.

حجّة الأول : قوله تعالى : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٢١] وذلك يقتضي المشافهة ، وكذا قوله : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) [الأعراف : ٢٢].

وحجّة الثاني : أن آدم وحواء ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ كان يعرفانه ، ويعرفان ما عنده من العداوة والحسد ، فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله ، فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة بعض أتباع إبليس.

وقد يجاب عن هذا بأن إبليس لما خالف أمر ربّه ولعن لعلّه انتقل من تلك الصورة التي يعرف بها إلى صورة أخرى ، ولعلّ إبليس تشكّل لهما في صورة لا يعرفانها ، فإن له قدرة التشكل ، والله أعلم.

فصل في بيان أن آدم عصى ربه ناسيا

اختلفوا في صدور ذلك الفعل عن آدم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بعد النبوة ، هل فعله ناسيا أو ذاكرا؟

قال طائفة من المتكلّمين : فعله ناسبا ، واحتجوا بقوله تعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] ومثلوه بالصّائم إذا أكل ناسيا ، وهذا باطل من وجهين :

الأول : قوله تعالى : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) [الأعراف : ٢٠].

وقوله : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) يدلّ على أنه ما نسي النهي حال الإقدام.

الثاني : أنه لو كان ناسيا لما عوتب على ذلك الفعل.

أما من حيث العقل فلأن الناسي غير قادر على الفعل فلا يكون مكلفا به لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦].

٥٦٣

وأما من حيث النقل فلقوله عليه الصلاة والسلام : «رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان».

وقد يجاب عن الأول بأنا لا نسلّم أن آدم وحواء ـ عليهما الصلاة والصلام ـ قبلا من إبليس ذلك الكلام وصدّقاه ؛ لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في ذلك التصديق أعظم من أكل الشّجرة ؛ لأن إبليس لما قال لهما : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) الآية فقد ألقى إليهما سوء الظّن بالله ـ تعالى ـ ودعاهما إلى ترك التّسليم لأمره ، والرضا بحكمه ، وأن يعتقدا فيه كون إبليس ناصحا لهما ، وأن الرب ـ تعالى ـ قد غشهما ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة ، فوجب أن تكون المعاتبة في ذلك أشد ، وأيضا آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان عالما بتمرد «إبليس» ، وكونه مبغضا له وحاسدا له ، فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوّه مع هذه القرائن ، وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام.

وأما الجواب الثاني : فهو أن العتاب إنما حصل على قلّة التحفّظ من أسباب النسيان ، وهذا الضرب من السّهو موضوع عن المسلمين ، وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به ، وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خطرهم ومثّلوه بقوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب : ٣٢] ، ثم قال : (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠].

وقال عليه الصلاة والسلام : «أشدّ النّاس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» (١) ، ولقد كان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التّشديدات في التّكليف ما لم يكن على غيره.

وذكر بعض المفسّرين أن حوّاء سقته الخمر ، فسكر وفي أثناء السّكر فعل ذلك قالوا وهذا ليس ببعيد ؛ لأنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان مأذونا له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة ، فكان مأذونا له في تناول الخمر ، ولقائل أن يقول : إن خمر الجنّة لا يسكر لقوله تعالى في صفة خمر الجنة : (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات : ٤٧].

القول الثاني : أن آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فعله عامدا ؛ فهاهنا قولان :

أحدهما : أن ذلك النهي نهي تنزيه ، لا نهي تحريم ، وقد تقدم.

الثاني : أنه تعمّد وأقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، وذلك لا يقتضي كون الذّنب

كبيرة ، وهذا اختيار أكثر المعتزلة.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه في السنن ٢ / ١٣٣٤ كتاب الفتن (٣٦) باب الصبر على البلاء (٢٣) حديث رقم ٤٠٢٣ ـ والحاكم في المستدرك ٣ / ٤٤٣.

والبخاري في التاريخ الكبير ٨ / ١١٥.

وذكره الزبيدي في الإتحاف ٥ / ١١٦ ، ٨ / ١٢١ ، ٥٦٠ ، ٩ / ٥٢٣.

والهندي في كنز العمال حديث رقم ٦٧٨٠ ، ٦٧٨١ ، ٦٨٣٠.

٥٦٤

وبيان خطأ الاجتهاد أنه لما قيل له : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [الأعراف : ١٩] فلفظ «هذه» يشار به إلى الشّخص ، وقد يشار به إلى النوع ، كما روي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخذ حريرا وذهبا بيده وقال : «هذان حلال لإناث أمّتي حرام على ذكورها» وأراد به نوعهما ، وتوضأ مرة وقال : «هذا وضوء لا يقبل الله الصّلاة إلّا به» وأراد نوعه ، فلما سمع آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) ظنّ أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة ، فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع ، فكان مخطئا في ذلك الاجتهاد ؛ لأن مراد الله ـ تعالى ـ النهي عن النوع لا عن الشخص.

والاجتهاد في الفروع إذا كان خطأ لا يوجب استحقاق العقاب لاحتمال كونه صغيرة مغفورة كما في شرعنا.

فإن قيل : الكلام على هذا القول من وجوه :

أحدها : أن كلمة «هذا» في أصل اللغة للإشارة إلى الشّيء الحاضر ، وهو لا يكون إلا شيئا معينا ، فإن أشير بها إلى النوع ، فذاك على خلاف الأصل ، وأيضا فلأنه ـ تعالى ـ لا تجوز الإشارة عليه ، فوجب أن يكون أمر بعض الملائكة بالإشارة إلى ذلك الشّخص ، فكان ما عداه خارجا عن النهي لا محالة ، وإذا ثبت هذا فالمجتهد مكلف يحمل اللفظ على حقيقته ، فآدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما حمل لفظ «هذه» على المعيّن كان قد فعل الواجب ، ولا يجوز له حمله على النوع ، وهذا متأيد بأمرين :

أحدهما : أن قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) أفاد الإذن في تناول كل ما في الجنّة إلا ما خصه الدليل.

والثاني : أن العقل يقتضي حلّ الانتفاع بجميع المنافع إلّا ما خصّه الدليل ، والدليل المخصص لم يدلّ على ذلك المعيّن ، وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحقّ بسبب تناول غيره وإن كان من ذلك النوع المنهي عنه عتابا ، فوجب على هذا أن يكون مصيبا لا مخطئا.

الاعتراض الثاني : هب أن لفظة «هذه» مترددة بين الشخص والنوع ، ولكن هل قرن الله بهذا اللّفظ ما يدلّ على أن المراد منه النوع دون الشخص أو لا؟

فإن قرن به ، فإما أن يقال : إن آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قصر في معرفة ذلك البيان ، فحينئذ يكون قد أتى بالذّنب ، وإن لم يقصر بل عرفه ، فحينئذ يكون إقدامه على التّناول من شجرة من ذلك النوع إقداما على الذنب قصدا.

الاعتراض الثالث : أن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لا يجوز لهم الاجتهاد ؛ لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظنّ وذلك إنما يجوز في حقّ من لا يتمكن من تحصيل العلم ، أمّا الأنبياء فإنهم قادرون على تحصيل اليقين ، فوجب ألا يجوز لهم الاجتهاد ؛ لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلا وشرعا ، وذا ثبت ذلك ثبت أن الإقدام على الاجتهاد معصية.

٥٦٥

الاعتراض الرابع : هذه المسألة إما أن تكون من المسائل القطعية أو الظنية ، فإن كانت من القطعيات كان الخطأ فيها كبيرا ، وحينئذ يعود الإشكال ، وإن كانت من الظّنيات فإن قلنا : إن كل مجتهد مصيب فلا يتحقّق الخطأ فيها أصلا.

وإن قلنا : المصيب فيها واحد ، والمخطىء فيها معذور بالاتفاق ، فكيف صار هذا القدر من الخطأ سببا لإخراج آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الجنة؟

والجواب عن الأول : أن لفظة «هذا» وإن كان في الأصل إشارة إلى الشّخص ، لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع كما تقدم بيانه.

والجواب عن الثاني : أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ كان قد قرن به ما دلّ على أنّ المراد هو النوع ، لكن لعلّ آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قصر في معرفة ذلك الدّليل ؛ لأنه ظنّ أنه لا يلزمه ذلك في الحال.

أو يقال : إنه عرف ذلك الدليل في وقت ما نهاه الله ـ تعالى ـ عن عين الشّجرة ، فلما طالت المدة غفل عنه ؛ لأن في الخبر أن آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقي في الجنّة الدهر الطويل ، ثم أخرج.

والجواب عن الثالث : أنه لا حاجة هاهنا إلى إثبات أن الأنبياء تمسّكوا بالاجتهاد ، فإنّا بيّنّا أنّ آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قصّر في معرفة تلك الدّلالة ، وإن كان قد عرفها ، لكنه قد نسيها ، وهو المراد من قوله تعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥].

والجواب عن الرّابع : يمكن أن يقال [كانت](١) الدلالة قطعية [إلا أنه](٢) ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما نسيها صار النّسيان عذرا في ألّا يصير الذنب كبيرا ، أو يقال : كانت ظنية إلّا أنه ترتّب عليه من التّشديدات ما لم يترتّب على خطأ سائر المجتهدين ؛ لأن ذلك يجوز أن يختلف باختلاف الأشخاص ، وكما أن الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ مخصوص بأمور كثيرة في باب التّشديدات بما لا يثبت في حق الأمة فكذا هاهنا.

واعلم أنه يمكن أن يقال في المسألة وجه آخر ، وهو أنه ـ تعالى ـ لما قال : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [الأعراف : ١٩] فهم آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ من هذا النهي أنهما إنما نهيا حال اجتماعهما ؛ لأن قوله : (وَلا تَقْرَبا) نهي لهما عن الجمع ، ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الانفراد ، فلعل الخطأ في الاجتهاد إنما وقع من هذا الوجه.

قوله : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : لأنه.

٥٦٦

«الفاء» ـ هنا (١) ـ فاء السببية.

وقال المهدويّ : إذا جعل «فأزلهما» بمعنى زلّ عن المكان كان قوله : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) توكيدا ، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر ، وهذا الذي قاله المهدويّ أشبه شيء بالتأسيس لا التأكيد ، لإفادته معنى جديدا.

قال «ابن عطية» : وهنا محذوف يدلّ عليه الظاهر تقديره : فأكلا من الشّجرة ، يعني بذلك أن المحذوف [يقدر](٢) قبل قوله : «فأزلّهما».

و «ممّا كانا» متعلّق ب «أخرج» ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، وأن تكون نكرة موصوفة ، أي : من المكان أو النعيم الّذي كانا فيه ، أو من مكان ، أو نعيم كانا فيه ، فالجملة من «كان» واسمها وخبرها لا محلّ لها على الأوّل ومحلّها الجرّ على الثاني ، و «من» لابتداء الغاية.

فصل في قصة الإغواء

روي عن ابن عبّاس ، وقتادة قال الله تعالى لآدم : ألم يك فيما أبحتك الجنّة مندوحة عن الشّجرة ، قال : بلى يا ربّ وعزّتك ، ولكن ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا قال : فبعزّتي لأهبطنّك إلى الأرض ، ثم لا تنال العيش إلا كدّا ، فأهبطا من الجنة ، فكانا يأكلان فيها رغدا فعلم [صنعة](٣) الحديد ، وأمر بالحرث فحرث وزرع وسقى ، حتى إذا بلغ حصد ، ثم داسه ، ثم ذراه ، ثم طحنه ، ثم خبزه ، ثم أكله ، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله تعالى (٤). ويروى أن «إبليس» أخذ من الشجرة التي نهي آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عنها فجاء بها إلى حوّاء فقال : انظري إلى هذه الشّجرة ما أطيب ريحها ، وأطيب طعمها ، وأحسن لونها ، فلم يزل يغويها حتى أخذتها فأكلتها وقالت لآدم : كل فإني قد أكلت فلم تضرني ، فأكل منها فبدت لهما سوآنهما ، وبقيا] عرايا ، فطلبا ما يستتران به ، فتباعدت الأشجار عنهما ، وبكّتوه بالمعصية ، فرحمته (٥) شجرة التين ، فأخذ من ورقها ، فاستتروا به فبلي بالعري دون الشجر (٦).

__________________

(١) زاد في أ : هنا واضحة.

(٢) في أ : تقدير.

(٣) سقط في ب.

(٤) ذكر هذا الأثر السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٠٨) وعزاه لسفيان بن عيينة وعبد الرزاق وابن المنذر وابن عساكر في «تاريخه» عن ابن عباس.

(٥) في ب : وحمته.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ٥٢٦) وفي «التاريخ» (١ / ٥٤) وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ١٤٣).

٥٦٧

وقيل لحواء : كما أدميت الشجرة ، فذلك يصيبك الدّم كلّ شهر ، وتحملين وتضعين كرها ، وتشرفين [به](١) على الموت ، وزاد (٢) الطبري والنّقّاش (٣) ، وتكونين سفيهة وقد كنت حليمة [ولعنت](٤) الحية وردّت قوائمها في جوفها ، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم ، ولذلك أمرنا بقتلها (٥).

قوله : (اهْبِطُوا) جملة أمرية في محلّ نصب بالقول قبلها ، وحذفت الألف من «اهبطوا» في اللفظ ؛ لأنها ألف وصل ، وحذفت الألف من «قلنا» في اللفظ ؛ لسكونها وسكون الهاء بعدها.

وقرىء (٦) : «اهبطوا» بضم الباء ، وهو كثير في غير المتعدّي.

وأما الماضي ف «هبط» بالفتح فقط ، وجاء في مضارعه اللّغتان ، والمصدر «الهبوط» بالضم ، وهو النزول.

وقيل : الانتقال مطلقا.

وقال المفضل (٧) : الهبوط : الخروج من البلد ، وهو ـ أيضا ـ الدخول.

وفيه نظر : لأن «إبليس» حين أبى عن السّجود أخرج من الجنة لقوله تعالى : (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) [الأعراف : ١٣] وقوله : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [الحجر : ٣٤] وزلة آدم وحوّاء إنما وقعت بعد ذلك بمدّة طويلة ، فكيف يكون متناولا له فيها وهو من الأضداد؟

والضمير في «اهبطوا» الظاهر أنه لجماعة ، فقيل : لآدم وحواء والحيّة وإبليس (٨).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه أحمد بن منيع وابن أبي الدنيا في كتاب «البكاء» وابن المنذر وأبو الشيخ في «العظمة» عن ابن عباس كما ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٠٩)».

(٣) محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون ، أبو بكر النقاش عالم القرآن وتفسيره صاحب شفاء الصدور توفي سنة ٣٥١ ه‍ ينظر وفيات الأعيان : (١ / ٤٨٩) ، إرشاد الأريب : (٦ / ٤٩٦) ، غاية النهاية : (٢ / ١١٩) ، الأعلام : (٦ / ٨١).

(٤) سقط في ب.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ٥٢٩) وفي تاريخه (١ / ٥٥).

(٦) قرأ بها أبو حيوة فيما رواه عنه محمد بن مصفى.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٢٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٣١٤ ، والدر المصون : ١ / ١٩٣ ، والقرطبي : ١ / ٢١٨.

(٧) المفضل بن محمد الضبي النحوي المقري الأديب توفي سنة ١٦٨ ، ينظر غاية النهاية : (٢ / ٣١٧).

(٨) أخرجه الطبري في تفسيره (١ / ٥٣٥) عن أبي صالح.

وأخرجه أيضا عن ابن عباس (١ / ٥٣٦) وكذا في «تاريخه» (١ / ٥٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١١٠) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٥٦٨

وقيل : لهما وللحيّة. وفيه بعد ؛ لأنّ المكلفين بالإجماع هم الملائكة والجنّ والإنس.

وقيل : لهما وللوسوسة. وفيه بعد.

وقيل : لبني آدم وبني إبليس (١) ، وهذا وإن كان نقل عن «مجاهد والحسن» لا ينبغي أن يقال ؛ لأنهما لم يولد لهما في الجنة بالاتفاق. وقال الزّمخشريّ : إنه يعود لآدم وحواء ، والمراد هما وذرّيتهما ؛ لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعّبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم ، ويدلّ عليه : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) [طه : ١٢٣]. وهذا ضعيف ؛ لأن الذّرية ما كانوا موجودين في ذلك الوقت ، فكيف يتناولهم الخطاب؟ أما من زعم أن أقل الجمع اثنان ، فلا يرد عليه شيء من هذا.

قوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) هذه جملة من مبتدأ وخبر ، وفيها قولان :

أصحهما : أنها في محل نصب على الحال ، أي : اهبطوا متعادين.

والثاني : أنها لا محل لها ؛ لأنها استئناف إخبار بالعداوة.

وأفرد لفظ «عدو» وإن كان المراد به جمعا لأحد وجهين :

إما اعتبارا بلفظة «بعض» فإنه مفرد ، وإمّا لأن «عدوّا» أشبه بالمصادر في الوزن ك «القبول» ونحوه.

وقد صرح «أبو البقاء» (٢) بأن بعضهم جعل «عدوّا» مصدرا ، قال : وقيل : «عدو» مصدر ك «القبول والولوع» ، فلذلك لم يجمع.

وعبارة «مكي» (٣) قريبة من هذا. فإنه قال : وإنما وحد وقبله جمع ؛ لأنه بمعنى المصدر ، تقديره : «ذوي عداوة» ونحوه : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) [الشعراء : ٧٧] و (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون : ٤].

واشتقاق العدو من «عدا» ـ «يعدو» : إذا ظلم.

وقيل : من «عدا» ـ «يعدو» : إذا جاوز الحق ، وهما متقاربان.

وقيل : من عدوتي الجبل ، وهما طرفاه ، فاعتبروا بعد ما بينهما.

ويقال : عدوة ، وقد يجمع على «أعداء».

فأما حصول العداوة بين آدم وإبليس فلقوله تعالى : (يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) [طه : ١١٧] ، وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦].

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (١ / ٥٣٥) وأبو الشيخ كما في «الدر المنثور» (١ / ١١٠) عن مجاهد.

(٢) ينظر الإملاء : ١ / ١٩٣.

(٣) ينظر المشكل : ١ / ٢٠٤.

٥٦٩

وأما عداوة الحيّة فلما نقله أهل التفسير من إدخاله إبليس في فيها ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتلوا الحيّات صغيرها وكبيرها وأبيضها وأسودها ، فإن من قتلها كانت له فداء من النار ومن قتلته كان شهيدا» (١).

وما كان من الحيات في البيوت فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن بالمدينة جنّا قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان» (٢).

وفي رواية : «إنّ لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرّجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر» (٣).

وصفة الإنذار أن يقول : أنذرتكم بالعهد الذي أخذه عليكم نوح ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وأنشدكم بالعهد الذي أخذه عليكم سليمان ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أن تخرجوا.

وأما كون الجنّ حيات فلقوله عليه الصّلاة والسّلام : «الجنّ على ثلاثة أثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء ، وثلث حيّات وكلاب ، وثلث يحلّون ويظعنون» (٤).

واللّام في «لبعض» متعلقة ب «عدو» ، فلما قدم عليه انتصب حالا ، فتتعلّق اللام حينئذ بمحذوف ، وهذه الجملة الحالية لا حاجة إلى ادعاء حذف «واو» الحال منها ؛ لأن الرّبط حصل بالضمير ، وإن كان الأكثر في الجمل الاسمية الواقعة حالا أن تقترن بالواو.

و «البعض» في الأصل مصدر بعض الشيء يبعضه ، إذا قطعه فأطلق على القطعة من النّاس ؛ لأنها قطعة منه ، وهو مقابل «كلّا» ، وحكمه حكمه في لزوم الإضافة معنى ، وأنه

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في «الكبير» (٥ / ٢٠ ، ٨١) وذكره الهيثمي في «المجمع» (٤ / ٤٩) عن سراء بنت نبهان الغنوية.

وقال الحافظ الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير وفيه أحمد بن الحارث الغساني وهو متروك.

والحديث ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٥ / ٤٤) رقم (٤٠٠١٠).

(٢) أخرجه مسلم «كتاب السلام» باب قتل الحيات وغيرها رقم (١٣٩) ومالك في «الموطأ» (٩٧٧) والبغوي في «شرح السنة» (١٢ / ١٩٤) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤ / ٩٤).

(٣) ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (٢ / ٣١٧) رقم (٢٤٦٦) عن أبي سعيد وذكره الهيثمي في «المجمع» (٤ / ٥١) عن سهل بن سعد بلفظ : هذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئا فتعوذوا منه فإن عاد فاقتلوه.

وعزاه للطبراني في الكبير وقال : ورجاله رجال الصحيح.

(٤) أخرجه الحاكم : (٢ / ٤٥٦) وابن حبان (٢٠٠٧) والطبراني في «الكبير» (٢٢ / ٢١٤) وفي «مسند الشاميين» رقم (١٩٥٦) والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص (٣٨٨) وأبو نعيم في «الحلية» (٥ / ١٣٧) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤ / ٩٥) عن أبي ثعلبة الخشني.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (٨ / ١٣٦) وقال : رواه الطبراني ورجاله وثقوا.

٥٧٠

معرفة بنيّة الإضافة فلا تدخل عليه «أل» وينتصب عنه الحال ؛ تقول : «مررت ببعض جالسا» وله لفظ ومعنى ، وقد تقدم تقرير ذلك.

تنبيه

من قال : إن جنّة آدم كانت في السماء فسّر الهبوط بالنزول من العلو إلى أسفل ، ومن قال : إنها كانت في الأرض فسره بالتحوّل من مكان إلى آخر كقوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) [البقرة : ٦١].

قوله : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ).

هذه الجملة يجوز فيها الوجهان المتقدّمان في الجملة قبلها من الحالية ، والاستئناف كأنه قيل : اهبطوا متعادين ، ومستحقين الاستقرار.

و «لكم» خبر مقدم. و «في الأرض» متعلّق بما تعلّق به الخبر من الاستقرار.

وتعلقه به على وجهين :

أحدهما : أنه حال.

والثاني : أنه غير حال ، بل كسائر الظروف ، ويجوز أن يكون «في الأرض» هو الخبر ، و «لكم» متعلّق بما يتعلّق به هو من الاستقرار ، لكن على أنه غير حال ؛ لئلا يلزم تقديم الحال على عاملها المعنوي ، على أن بعض النحويين أجاز ذلك إذا كانت الحال نفسها ظرفا ، أو حرف جر كهذه الآية ، فيكون في «لكم» أيضا الوجهان ، قال بعضهم : ولا يجوز أن يكون «في الأرض» متعلّقا ب «مستقر» ، سواء جعل مكانا أو مصدرا ؛ أما كونه مكانا فلأن أسماء الأمكنة لا تعمل ، وأما كونه مصدرا فلأن المصدر الموصول لا يجوز تقديم معموله عليه.

ولقائل أن يقول : هو متعلّق به على أنه مصدر ، لكنه غير مؤول بحرف مصدريّ ، بل بمنزلة المصدر في قولهم : «له ذكاء ذكاء الحكماء» وقد اعتذر صاحب هذا القول بهذا العذر نفسه في موضع آخر مثل هذا. و «إلى حين» الظّاهر أنه متعلّق ب «متاع» ، وأن المسألة من باب الإعمال ؛ لأن كلّ واحد من قوله : (مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ) يطلب قوله : (إِلى حِينٍ) من جهة المعنى. وجاء الإعمال هنا على مختار البصريين ، وهو إعمال الثّاني وإهمال الأول ، فلذلك حذف منه ، والتقدير : ولكم في الأرض مستقرّ إليه ، ومتاع إلى حين ، ولو جاء على إعمال الأول لأضمر في الثاني.

فإن قيل : من شرط الإعمال أن يصحّ تسلّط كل من العالمين على المعمول ، و «مستقر» لا يصحّ تسلّطه عليه لئلّا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله ، والمصدر بتقدير الموصول.

فالجواب : أن المحذور في المصدر الذي يراد به الحدث ، وهذا لم يرد به حدث ،

٥٧١

فلا يؤول بموصول ، وأيضا فإنّ الظرف وشبهه فيه روائح الفعل حتى الأعلام ؛ كقوله : [الرجز]

٤٠٦ ـ أنا ابن ماويّة إذ جدّ النّقر (١) و «مستقر» يجوز أن يكون اسم مكان ، وأن يكون اسم مصدر ، «مستفعل» من القرار ، وهو اللّبث ؛ ولذلك سميت الأرض قرارا ؛ قال : [الكامل]

٤٠٧ ـ ...........

فتركن كلّ قرارة كالدّرهم (٢)

ويقال : استقر وقرّ بمعنى واحد.

قال قوم : «المستقرّ» : حالتا الحياة والموت ، وروى السّدي عن ابن عباس أن المستقرّ هو القبر ، والأول أولى ؛ لأنه ـ تعالى ـ قرن به المتاع من الأكل والشرب وغيره ، وذلك لا يليق إلا بحال الحياة ؛ ولأنه خاطبهم بذلك عند الإهباط ، وذلك يقتضي حال الحياة والمتاع.

واختار أبو البقاء (٣) أن يكون «إلى حين» في محلّ رفع صفة ل «متاع».

و «المتاع» : البلغة مأخوذة من متع النهار ، أي : ارتفع.

وقال أبو العباس المقرىء : و «المتاع» على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى «العيش» كهذه الآية.

الثاني : بمعنى «المنفعة» قال تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ) [المائدة : ٩٦] أي : منفعة لكم ولأنعامكم.

الثالث : بمعنى «قليل» قال تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) [الرعد : ٢٦] أي : قليل.

و «الحين» : القطعة من الزمان طويلة كانت أو قصيرة ، وهذا هو المشهور.

وقيل : الوقت البعيد ، ويقال : عاملته محاينة ، من الحين ، وأحينت بالمكان : إذا أقمت به حينا. وحان حين كذا ، أي : قرب ؛ قالت بثينة : [الطويل]

٤٠٨ ـ وإنّ سلوّي عن جميل لساعة

من الدّهر ما حانت ولا حان حينها (٤)

وقال بعضهم : تزاد عليه التّاء فيقال : «تحين قمت» ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله

__________________

(١) البيت لعبد الله بن ماوية. ينظر المسالك : (٣ / ٣٨٩) ، الإنصاف : (٤٣٢) ، الدرر : (٢ / ١٤١ ، ٢٣٤) ، مغني اللبيب : (٢ / ٢٣٤) ، شواهد المغني : (٢ / ٨٤٤) ، الهمع : (٢ / ١٠٧ ، ١٠٨) ، التصريح : (٢ / ٢٤١) ، اللسان «نفذ» ، الدر المصون : (١ / ١٩٥).

(٢) تقدم برقم (٢٦٤).

(٣) ينظر الاملاء : ١ / ٣١.

(٤) ينظر البيت في القرطبي : (١ / ٣٢٢) ، الأضداد : (٢٤٤) ، اللسان : «حين» ، الدر المصون : (١ / ١٩٥).

٥٧٢

تعالى ، وأنشد على زيادة التاء قوله : [الكامل]

٤٠٩ ـ ألعاطفون تحين ما من عاطف

والمطعمون زمان أين المطعم (١)

فصل في المراد بالحين

واختلفوا في «الحين» على أقوال فقالت فرقة : إلى الموت.

وقيل : إلى قيام السّاعة ، فالأوّل قول من يقول : المستقرّ هو البقاء في الدّنيا.

والثّاني قول من يقول : المستقر هو في القبور.

وقيل : الحين : الأجل ، والحين : المدّة ، قال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ) [الإنسان : ١].

والحين : الساعة ، قال تعالى : (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ) [الزمر : ٥٨] والحين ستة أشهر ، قال تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) [إبراهيم : ٢٥].

وقيل كل سنة ، والحين : الغدوة والعشية ، قال تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم : ١٧].

وقيل : الحين : اسم كالوقت يصح لجميع الأزمان كلّها طالت أم قصرت.

فصل في هبوط آدم ومن معه

يروى أن آدم أهبط ب «سرنديب في الهند» بجبل يقال له «نود» ، ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها ، وأوديتها ، فامتلأ ما هنالك طيبا ، فمن ثم يؤتى بالطّيب من ريح آدم عليه الصلاة والسلام.

وكان السّحاب يمسح رأسه فأصلع ، فأورث ولده الصّلع (٢).

روى البخاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خلق الله آدم وطوله ستّون ذراعا» (٣).

وأهبطت حواء ب «جدّة» وإبليس ب «الأبلّة» و «الأبلة» موضع من «البصرة» على أميال ، والحية ب «بيسان».

__________________

(١) البيت لأبي وجزة السعدي ينظر في لسان العرب (ليت) ، (عطف) ، (أين) ، (حين) ، (ما) ، وخزانة الأدب : ٤ / ١٧٥ ، ١٧٦ ، ١٧٨ ، ١٨٠ ، والدرر : ٢ / ١١٥ ، ١١٦ ، والإنصاف : ١ / ١٠٨ ، الأزهية : ص ٢٦٤ ، الجنى الداني : ص ٤٨٧ ، والدرر : ٢ / ١٢٢ ، ورصف المباني : ص ١٦٣ ، ١٧٣ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ١٦٣ ، وشرح الأشموني : ٣ / ٨٨٢ ، ومجالس ثعلب : / ٢٧٠١ ، والممتع في التصريف : ١ / ٢٧٣ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٢٦ ، الدر المصون : ١ / ٩٥.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١١٤) وعزاه لابن سعد عن ابن عباس.

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ٦٠) ومسلم كتاب صفة الجنة باب ١١ رقم ٢٨ وأحمد (٢ / ٣١٥) وعبد الرزاق (١٩٤٣٥) وأبو عوانة (١ / ١٨٨).

٥٧٣

وقيل : ب «سجستان» ، وقيل : ب «أصفهان» (١) ، ولو لا أن العربدّ يأكلها ويغنى كثيرا منها لخلت (٢) «سجستان» من أجل الحيات. [ذكره أبو الحسن المسعودي](٣).

قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٣٧)

الفاء في قوله : «فتلقى» عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها ، و «تلقى» «تفعل» من اللّقاء بمعنى المجرّد.

وله معان أخر : مطاوعة «فعل» نحو : «كسرته فتكسر».

والتجنب نحو : «تجنب» أي : جانب الجنب.

والتكلّف نحو : تحلّم.

والصيرورة نحو : تألّم.

والاتخاذ : نحو : تبنّيت الصبي ، أي : اتخذته ابنا.

ومواصلة العمل في مهلة نحو : تجرّع وتفهم.

وموافقة استفعل نحو : تكبر.

والتوقّع نحو : تخوّف.

والطّلب نحو : تنجّز حاجته.

والتكثير نحو : تغطّيت بالثياب.

والتلبّس بالمسمّى المشتقّ منه نحو : تقمّص ، أو العمل فيه نحو : تسحّر.

والختل : نحو : تغفلته.

وزعم بعضهم أن أصل «تلقّى» : «تلقّن» بالنون فأبدلت النون ألفا ، وهذا غلط ؛ لأن ذلك إنما ورد في المضعّف نحو «قصّيت أظافري» و «تظنّيت» و «أمليت الكتاب» في «قصصت» ، و «تظنّنت» ، و «أمللت» فأحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا.

قال القفّال : أصل التلقّي هو التعرّض للقاء ، ثم وضع في موضع الاستقبال للمتلقّي ، ثم يوضع موضع القبول والأخذ ، قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل : ٦] ويقال : خرجنا نتلقى [الحاجّ](٤) ، أي : نستقبلهم ، وكان ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يتلقّى الوحي ، أي : يستقبله ويأخذه.

وإذا كان هذا أصل الكلمة ، وكان من تلقى رجلا فتلاقيا لقي كل واحد صاحبه ، فأضيف الاجتماع إليهما معا صلح أن يشتركا في الوصف بذلك ، فجاز أن يقال : تلقّى آدم

__________________

(١) ذكر هذا الأثر السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١١٩) وعزاه للديلمي في مسند الفردوس عن علي بسند واه.

(٢) في ب : لأخليت.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : الحجاج.

٥٧٤

بالنّصب على معنى جاءته عن الله ـ تعالى ـ كلمات ، و «من ربه» متعلّق ب «تلقى» ، و «من» لابتداء الغاية مجازا.

وأجاز أبو البقاء أن يكون في الأصل صفة ل «كلمات» فلما قدم انتصب حالا ، فيتعلّق بمحذوف ، و «كلمات» مفعول به.

وقرأ (١) «ابن كثير» بنصب «آدم» ، ورفع «كلمات» ، وذلك أن من تلقّاك فقد تلقيته ، فتصبح نسبة الفعل إلى كلّ واحد.

وقيل : لما كانت الكلمات سببا في توبته جعلت فاعلة ، ولم يؤنث الفعل على هذه القراءة وإن كان الفاعل مؤنثا ؛ لأنه غير حقيقي ، وللفصل أيضا ، وهذا سبيل كل فعل فصل بينه وبين فاعله المؤنّث بشيء ، أو كان الفاعل مؤنثا مجازيا.

فصل في الكلمات التي دعا بها آدم ربه

اختلفوا في تلك الكلمات ما هي؟

فروى «سعيد بن جبير» رضي الله عنه : أن آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قال : يا ربّ ألم تخلقني بيدك بلا واسطة؟ قال : بلى قال : يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال : بلى. قال : ألم تسكني جنتك؟ قال : بلى. قال : يا ربّ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال : بلى. قال يا رب إن تبت وأصلحت تردّني إلى الجنة؟ قال : بلى. فهو قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ)(٢).

وزاد السّدي فيه : يا ربّ هل كنت كتبت علي ذنبا؟ قال : نعم (٣).

وقال النّخعي : أتيت ابن عباس فقلت : ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال : علّم الله آدم وحواء أمر الحجّ فحجا ، وهي الكلمات التي تقال في الحجّ ، فلما فرغا من الحجّ أوحى الله ـ تعالى ـ إليهما أني (٤) قبلت توبتكما.

وروي عن ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، ومجاهد ، وقتادة في قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٥) [الأعراف :

__________________

(١) انظر حجة القراءات : ٩٤ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ٢٣ ، وإعراب القراءات : ١ / ٨٢ ، والعنوان : ٦٩ ، وشرح الطيبة : ٤ / ١٩ ، وشرح شعلة : ٢٦١ ، وإتحاف : ١ / ٣٨٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ٥٤٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١١٦) وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في «التوبة» وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ٥٤٤).

(٤) في ب : بأني.

(٥) أخرجه الطبري (١ / ٥٤٣) في تفسيره عن أبي العالية. ـ

٥٧٥

٢٣] ، وعن مجاهد أيضا : «سبحانك اللهم لا إله إلّا أنت ظلمات نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم» (١).

وقالت طائفة : رأي مكتوبا على ساق العرش : محمد رسول الله ، فتشفّع بذلك (٢).

وعن ابن عباس ، ووهب بن منبّه أن الكلمات سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت عملت سوءا ، وظلمات نفسي [فاغفر لي إنك خير الغافرين ، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا ، وظلمات نفسي](٣) فتب عليّ إنك أنت التّوّاب الرحيم (٤).

قالت عائشة رضي الله عنها : لما أراد الله أن يتوب على آدم ، وطاف بالبيت سبعا ـ والبيت حينئذ ربوة حمراء ـ فلما صلّى ركعتين استقبل البيت ، وقال : «اللهم إنك تعلم سرّي وعلانيتي ، فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي ، اللهمّ إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلّا ما كتبت لي ورضّني بما قسمت لي» فأوحى الله ـ تعالى ـ إلى آدم يا آدم يا آدم قد غفرت لك ذنوبك ، ولن يأتي أحد من ذرّيتك ، فيدعوني بمثل الذي دعوتني إلّا غفرت ذنبه ، وكشفت همومه وغمومه ، ونزعت الفقر من عينيه ، وجاءته الدّنيا وهو لا يريدها (٥).

قوله : (فَتابَ عَلَيْهِ) عطف على ما قبله ، ولا بدّ من تقدير جملة قبلها أي : فقالها. و «الكلمات» جمع «كلمة» وهي : اللّفظ الدّالّ على معنى مفرد ، وتطلق على الجمل

__________________

وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في «الشعب» عن قتادة كما في «الدر المنثور» (١ / ١١٧).

وأخرجه الثعلبي من طريق عكرمة عن ابن عباس.

وأخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (١ / ١١٧).

وأخرجه الطبري (١ / ٥٤٥) عن مجاهد وزاد السيوطي نسبته في «الدر المنثور» (١ / ١١٨) لوكيع وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

وأخرجه هناد في الزهد عن سعيد بن جبير كما في «الدر المنثور» (١ / ١١٨).

وأخرجه عبد بن حميد عن الحسن والضحاك كما في «الدر» (١ / ١١٨).

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ٥٤٥) وذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ١٤٧).

(٢) روي هذا مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٢ / ٦١٥) وقال : صحيح الإسناد.

ورده الذهبي بقوله : بل موضوع.

وأورده ابن كثير في تاريخه (٢ / ٣٢٣) وأقر كلام الذهبي.

وأخرجه الطبراني في «الصغير» (٢٠٧).

وقال الهيثمي في «المجمع» (٨ / ٣٥٣) : رواه الطبراني في «الأوسط والصغير» وفيه من لم أعرفهم.

(٣) سقط في ب.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١١٨) وعزاه لعبد بن حميد عن عبد الله بن زيد والبيهقي في «الشعب» وابن عساكر عن أنس.

(٥) أخرجه الجندي وابن عساكر في «فضائل مكة» والطبراني عن عائشة كما ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١١٧).

٥٧٦

المفيدة مجازا تسمية للكلّ باسم الجزء كقوله تعالى : (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) ثم فسرها بقوله : (أَلَّا نَعْبُدَ) [آل عمران : ٦٤] إلى آخر الآية ، وقال : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ) [المؤمنون : ١٠٠] يريد قوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ) إلى آخره ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد» (١) وهو قوله : [الطويل]

٤١٠ ـ ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

وكلّ نعيم لا محالة زائل (٢)

فسمى هذا البيت كلمة ، والتوبة : الرجوع ، ومعنى وصف الله ـ تعالى ـ بذلك أنه عبارة عن العطف على عباده ، وإنقاذهم من العذاب.

وقيل : قبول توبته.

وقيل : خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسمى ، وآخر الطّاعات على جوارحه ، ووصف العبد بها ظاهر ؛ لأنه يرجع عن المعصية إلى الطاعة.

و (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) صفتا مبالغة ، ولا يختصّان بالباري تعالى.

قال تعالى : (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) [البقرة : ٢٢٢] ، ولا يطلق عليه «تائب» ، وإن صرح بفعله مسند إليه تعالى. وقدم «التواب» على «الرحيم» لمناسبة (فَتابَ عَلَيْهِ) ، ولأنه مناسب لختم الفواصل بالرحيم.

وقوله : (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) نظير قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢].

وأدغم أبو عمرو هاء «إنّه» في هاء «هو» ، واعترض على هذا بأنّ بين المثلين ما يمنع من الإدغام وهو «الواو» ؛ وأجيب : بأن «الواو» وصلة زائدة لا يعتدّ بها ؛ بدليل سقوطها في قوله : [الوافر]

٤١١ ـ له زجل كأنّه صوت حاد

إذا طلب الوسيقة أو زمير (٣)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٥ / ١٢٨) كتاب المناقب باب أيام الجاهلية حديث رقم (٣٨٤١) عن أبي هريرة.

وابن ماجه في السنن (٢ / ٢٣٦) كتاب الأدب باب الشعر حديث رقم (٣٧٥٧) ـ وأحمد في المسند (٢ / ٣٣٩) ، (٣ / ٢٤٨ ، ٣٩٣ ، ٤٥٨) ـ والبخاري في التاريخ الكبير (٧ / ٢٤٩) وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح حديث رقم ٤٧٨٦.

(٢) ينظر في ديوانه : ٢٥٦ ، جواهر الأدب : ٣٨٢ ، خزانة الأدب : ٢ / ٢٥٥ و ٢٥٧ ، الدرر : ١ / ٧١ ، ديوان المعاني : ١ / ١١٨ ، وسمط اللآلي : ٢٥٣ ، شرح الأشموني : ١ / ١١ ، شرح التصريح : ١ / ٢٩ ، شرح شذور الذهب : ٣٣٩ ، شرح شواهد المغني : ١ / ١٥٠ و ١٥٣ و ١٥٤ و ٣٩٢ ، شرح المفصل : ٢ / ٧٨ ، العقد الفريد : ٥ / ٢٧٣ ، لسان العرب (رجز) ، المقاصد النحوية : ١ / ٥ و ٧ و ٢٩١ ، أوضح المسالك : ٢ / ٢٨٩ ، رصف المباني : ٢٦٩ ، شرح قطر الندى : ٢٤٨ ، والدر المصون : ١ / ١٩٦.

(٣) البيت للشماخ في ديوانه : ص ١٥٥ وينظر شرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٣٧ ، والكتاب : ١ / ٣٠ ، لسان العرب (ها) ، والدرر : ١ / ١٨١ ، الخصائص : ١ / ٣٧١ ، الإنصاف : ٢ / ٥١٦ ، الأشباه والنظائر : ٢ / ـ

٥٧٧

وقوله : [البسيط]

٤١٢ ـ أو معبر الظّهر ينبي عن وليّته

ما حجّ ربّه في الدّنيا ولا اعتمرا (١)

والمشهور قراءة «إنه» بكسر «إن» ، وقرىء (٢) بفتحها على تقدير لام العلّة ، وقرأ (٣) الأعمش : «آدم مّن رّبّه» مدغما.

فصل في نظم الآية

قوله : (فَتابَ عَلَيْهِ) أي : قبل توبته ، أو وفقه للتوبة ، وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم الجمعة.

فإن قيل : لم قال «عليه» ولم يقل : «عليهما» ، وحواء مشاركة له في الذنب.

فالجواب : أنها كانت تبعا له كما طوى حكم النّساء في القرآن والسّنة.

وقيل : لأنه خصّه بالذكر في أوّل القصّة بقوله : (اسْكُنْ) [البقرة : ٣٥] ، فكذلك خصّه بالذكر في التلقّي.

وقيل : لأن المرأة حرمة ومستورة ، فأراد الله السّتر بها ، ولذلك لم يذكرها في القصّة في قوله: (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١].

قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٣٨)

كرر قوله : (قُلْنَا : اهْبِطُوا) ؛ لأن الهبوطين مختلفان باعتبار تعلّقهما ، فالهبوط الأوّل علّق به العداوة (٤) ، والثاني علّق به إتيان الهدى.

وقيل : لأن الهبوط الأول من الجنّة إلى السماء ، والثاني من السماء إلى الأرض. واستبعده بعضهم لوجهين :

الأول : لقوله : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) [البقرة : ٣٦] وذكر هذا في الهبوط الثّاني

__________________

ـ ٣٧٩ ، خزانة الأدب : ٢ / ٣٨٨ ، ٥ / ٢٧٠ ، ٢٧١ ، والمقتضب : ١ / ٢٦٧ ، همع الهوامع : ١ / ٥٩ ، الدر المصون : ١ / ١٩٦.

(١) البيت لرجل من باهلة ينظر شرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٢٢ ، الكتاب : ١ / ٣٠ ، الإنصاف : ٢ / ٥١٦ ، خزانة الأدب : ٥ / ٢٦٩ ، لسان العرب (عبر) ، والمقتضب : ١ / ٣٨ ، المقرب : ٢ / ٢٠٤ ، الدر المصون : ١ / ١٩٦.

(٢) قرأ بها أبو نوفل بن أبي عقرب. انظر البحر المحيط : ١ / ٣١٩ ، والدر المصون : ١ / ١٩٦ ، والقرطبي : ١ / ٢٢٣.

(٣) ونسبت إلى أبي عمرو ، ويعقوب.

انظر إتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٨٩.

(٤) في أ : العذاب.

٥٧٨

أولى. وهذا ضعيف ؛ لأنه يجوز أن يراد : ولكم في الأرض مستقرّ بعد ذلك.

وثانيهما : أنه قال في الهبوط الثّاني : (اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) ، والضمير في «منها» عائد إلى «الجنّة» ، وذلك يقتضي كون الهبوط الثاني من الجنّة.

قال «ابن عطيّة» (١) : وحكى «النّقاش» أن الهبوط الثّاني إنما هو من الجنّة إلى السّماء ، والأولى في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض ، وهو الآخر (٢) في الوقوع.

وقيل : كرّر على سبيل التّأكيد نحو قولك : «قم قم».

والضّمير في «منها» يعود على الجنّة ، أو السّماء.

قال «ابن الخطيب» (٣) : وعندي فيه وجه ثالث ، وهو أن آدم وحواء لما أتيا بالزّلّة أمرا بالهبوط ، فتابا بعد الأمر بالهبوط ، فأعاد الله الأمر بالهبوط مرّة ثانية ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزّلّة حتى يزول بزوالها ، بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة ؛ لأن الأمر به كان تحقيقا للوعد المتقدّم في قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(٤) [البقرة : ٣٠].

قوله : «جميعا» حال من فاعل «اهبطوا» أي : مجتمعين : إما في زمان واحد ، أو في أزمنة متفرقة ؛ لأن المراد الاشتراك في أصل الفعل ، وهذا هو الفرق بين «جاءوا جميعا» ، و «جاءوا معا» ، فإن قوك : «معا» يستلزم مجيئهم جميعا في زمن واحد ، لما دلّت عليه «مع» من الاصطحاب بخلاف «جميعا» فإنها لا تفيد إلا أنه لم يتخلّف أحد منهم عن المجيء من غير تعرّض لاتحاد الزمان.

و «جميع» في الأصل من ألفاظ التّوكيد ، نحو : «كل» ، وبعضهم عدها معها.

وقال «ابن عطية» : و «جميعا» حال من الضمير في «اهبطوا» ، وليس بمصدر ولا اسم فاعل ، ولكنه عوض منهما دالّ عليهما ، كأنه قال : هبوطا جميعا أو هابطين جميعا ، كأنه يعني أن الحال في الحقيقة محذوف ، وأن «جميعا» تأكيد له ، إلّا أن تقديره بالمصدر ينفي جعله حالا إلا بتأويل لا حاجة إليه.

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٣١.

(٢) في ب : الأخير.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٢٥.

(٤) في أ : قال الحكيم الترمذي : إن آدم ـ عليه‌السلام ـ لما أهبط إلى الأرض ، جاء «إبليس» إلى السّباع ، فأشلاهم على آدم ليؤذوه ، وكان أشدهم عليه الكلب ، فأميت فؤاده ، فروي أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ أمره أن يضع يده على رأسه ، فوضعها ، فاطمأن إليه وألفه ، فصار ممن يكرمه ، ويحرس ولده ، ويموت فؤاده ، فيفزع من الآدميين ، فلو رمي بمدر ، ولّى هاربا ثم يعود آلفا له ، ففيه شعبة من «إبليس» ، وفيه شعبة من مسحة آدم ـ عليه‌السلام ـ ، فهو بشعبة إبليس ينبح ، ويهر ، ويعدو على الآدمي ، وبمسحة آدم مات فؤاده ، حتى ذلّ ، وانقاد ، وألف به وبولده ، يحرسهم ، ولهثه على كل أحواله من موت فؤاده.

قلت : ولا أظن هذا ثابتا.

٥٧٩

وقال بعضهم : التّقدير : قلنا : اهبطوا مجتمعين ، فهبطوا جميعا ، فحذف الحال من الأول لدلالة الثّاني عليه ، وحذف العامل من الثاني لدلالة الأول عليه ، وهذا تكلّف لم تدع إليه الضرورة.

قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ) الفاء مرتبة معقبة. و «إمّا» أصلها : إن الشرطية زيدت عليها «ما» تأكيدا ، و «يأتينكم» في محلّ جزم بالشّرط ؛ لأنه بني لاتصاله بنون التوكيد.

وقيل : بل هو معرب مطلقا.

وقيل : مبني مطلقا.

والصّحيح : التفصيل : إن باشرته كهذه الآية بني ، وإلا أعرب ، نحو : هل يقومان؟ وبني على الفتح طلبا للخفّة ، وقيل : بل بني على السّكون ، وحرك بالفتح لالتقاء السّاكنين.

وذهب الزجاج والمبرد إلى أن الفعل الواقع بعد «إن» الشّرطية المؤكّدة ب «ما» يجب تأكيده بالنون ، قالا : ولذلك لم يأت التّنزيل إلّا عليه ، وذهب سيبويه إلى أنّه جائز لا واجب ؛ لكثرة ما جاء به منه في الشعر غير مؤكّد ، فكثرة مجيئه غير مؤكّد يدلّ على عدم الوجوب ؛ فمن ذلك قوله : [الطويل]

٤١٣ ـ فإمّا تريني كابنة الرّمل ضاحيا

على رقّة أحفى ولا أتنعّل (١)

وقول الآخر : [البسيط]

٤١٤ ـ يا صاح إمّا تجدني غير دي جدة

فما التّخلّي عن الخلّان من شيمي (٢)

وقول الآخر : [المتقارب]

٤١٥ ـ فإمّا تريني ولي لمّة

فإنّ الحوادث أودى بها (٣)

وقول الآخر : [الكامل]

٤١٦ ـ زعمت تماضر أنّني إمّا أمت

يسدد أبينوها الأصاغر خلّتي (٤)

__________________

(١) البيت للشنفرى. ينظر البحر المحيط : ١ / ٣٢١ ، شرح الأشموني : ٢ / ٤٩٧ ، والدر المصون : ١ / ١٩٧.

(٢) ينظر أوضح المسالك : ٤ / ٩٧ ، وخزانة الأدب : ١١ / ٤٣١ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٤٩٧ ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٠٤ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٣٣٩ ، الدر المصون : ١ / ١٩٧.

(٣) البيت للأعشى في ديوانه (٢٢١) وهو في الكتاب (٢ / ٤٦) ، وابن يعيش (٥ / ٩٥) ، (٩ / ٦ / ٤١) ، الأمالي الشجرية (٢ / ٣٤٥) ، الإنصاف (٢ / ٤٦٤) ، التصريح (١ / ٢٧٨) ، الأشموني (٢ / ٥٤) ، (٣ / ٢١٦) ، الدر المصون ١ / ١٩٨.

(٤) البيت لسلمى بن ربيعة ينظر الأصمعيات : (١٦١) ، الحماسة : (١ / ٢٨٦) ، النوادر : (١٢١) ، ابن الشجري : (٢ / ٦٩) ، الهمع : (٢ / ٦٣) ، المفصل : (٥١٩) ، الدرر : (٢ / ٧٩) ، الدر المصون : (١ / ١٩٧) ، والبحر المحيط : (١ / ٣٢١).

٥٨٠