اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

ولقائل القول الأول أن يجيب عنه بأن هذا نكرة لا معرفة ، وهو من الأسماء اللازمة النصب على المصدرية ، فلا ينصرف والناصب له فعل مقدر لا يجوز إظهاره ، وقد روي عن الكسائيّ أنه جعله منادى تقديره : يا سبحانك ومنعه جمهور النحويين وإضافته ـ هنا ـ إلى المفعول ؛ لأن المعنى : نسبحك نحن.

وقيل : بل إضافته للفاعل ، والمعنى تنزّهت وتباعدت من السّوء.

وسبحانك العامل فيه في محلّ نصب بالقول.

قوله : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) كقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) و «إلّا» حرف استثناء ، و «ما» موصولة ، و «علمتنا» صلتها ، وعائدها محذوف ، على أن يكون «علم» بمعنى «معلوم» ، ويجوز أن تكون مصدرية ، وهي في محلّ نصب على الاستثناء ، ولا يجوز أن تكون منصوبة بالعلم الذي هو اسم «لا» ؛ لأنه إذا عمل كان معربا.

وقيل : في محلّ رفع على البدل من اسم «لا» على الموضع.

وقال ابن عطية : هو بدل من خبر التبرئة كقولهم : «لا إله إلا الله» ، وفيه نظر ؛ لأن الاستثناء إنّما هو من المحكوم عليه بقيد الحكم لا من المحكوم به.

ونقل هو عن «الزّهراوي» : أن «ما» منصوبة ب «علمتنا» بعدها ، وهذا غير معقول ؛ لأنه كيف ينتصب الموصول بصلته وتعمل فيه؟.

قال أبو حيان : إلّا أن يتكلّف له وجه بعيد ، وهو أن يكون استثناء منقطعا بمعنى لكن ، وتكون «ما» شرطية ، و «علمتنا» ناصب لها ، وهو في محل جزم بها ، والجواب محذوف ، والتقدير : «لكن ما علمتنا علمناه».

قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

فصل

الضمير يحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون تأكيدا لاسم «إنّ» ، فيكون منصوب المحل ، وأن يكون مبتدأ ، وخبره ما بعده ، والجملة خبر «إنّ» ، وأن يكون فصلا ، وفيه الخلاف المشهور.

وهل له محل من الإعراب أم لا؟

وإذا قيل : إن له محلّا ، فهل بإعراب ما قبله كما قال الفراء (١) ، فيكون في محل نصب ، أو بإعراب ما بعده فيكون في محل رفع كقول الكسائي؟

قوله : «الحكيم» خبر ثان أو صفة «العليم» ، وهما «فعيل» بمعنى «فاعل» وفيهما من المبالغة ما ليس فيه.

__________________

(١) ينظر معاني القرآن : ١ / ١٤٨ ، ٢ / ٢٣٨.

٥٢١

و «الحكم» لغة : الإتقان ، والمنع من الخروج عن الإرادة ، ومنه حكمة الدابة ؛ وقال جرير : [الكامل]

٣٧٣ ـ أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إنّي أخاف عليكم أن أغضبا (١)

وقدم «العليم» على «الحكيم» ؛ لأنه هو المتّصل به في قوله : «وعلم» ، وقوله : (لا عِلْمَ لَنا) فناسب اتصاله به ؛ ولأن الحكمة ناشئة عن العلم وأثر له ، وكثيرا ما تقدّم صفة العلم عليها.

والحكيم صفة ذات إن فسر بذي الحكمة ، وصفة فعل إن فسر بأنه المحكم لصنعته فكأن الملائكة قالت : أنت العالم بكل المعلومات ، فأمكنك تعليم آدم ، وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه.

وعن «ابن عباس» أن مراد الملائكة من «الحكيم» أنه هو الذي حكم بجعل آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ خليفة في الأرض (٢).

فصل

احتج أهل الإسلام بهذه الآية على أنه لا سبيل إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله ـ تعالى ـ وأنه لا يمكن التوصّل إليها بعلم النجوم والكهانة ، ونظيره قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩] وقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) [الجن : ٢٦].

قوله : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ).

آدم : مبني على الضم ؛ لأنه مفرد معرفة ، وكل ما كان كذلك بني على ما كان يرفع به ، وهو في محلّ نصب لوقوعه موقع المفعول به ، فإن تقديره : ادعوا آدم ، وبني لوقوعه موقع المضمر ، والأصل : يا إياك كقولهم : «يا إيّاك قد كفيتك» ، و «يا أنت» ؛ كقوله [الرجز]

٣٧٤ ـ يا أبجر بن أبجر يا أنتا

أنت الّذي طلّقت عام جعتا

قد أحسن الله وقد أسأتا (٣)

و «يا إيّاك» أقيس من «يا أنت» ؛ لأن الموضع موضع نصب ، ف «إياك» أليق به،

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٥٠) ، الكشاف : (٤ / ٣٣٦) ، اللسان : حكم ، الدر المصون : (١ / ١٨٤).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ٦٧٥) والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص ٧٨.

وأورده الشوكاني في «فتح القدير» (١ / ٦٥) وعزاه لابن جرير.

(٣) ينظر الأبيات في التصريح : (٢ / ١٦٤) ، الهمع : (١ / ١٧٤) ، الدرر : (١ / ١٥١) ، شرح الأشموني : (٣ / ١٣٥) ، أوضح المسالك : (٣ / ٧٢) ، الدر المصون : (١ / ١٨٤).

٥٢٢

وتحرزت بالمفرد عن المضاف نحو : يا عبد الله ، ومن الشبيه به ، وهو عبارة عما كان الثّاني فيه من تمام معنى الأوّل نحو : «يا خيرا من زيد» و «يا ثلاثة وثلاثين» ، وبالمعرفة من النكرة المقصودة ؛ نحو قوله : [الطويل]

٣٧٥ ـ فيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن

نداماي من نجران أن لا تلاقيا (١)

فإن هذه الأنواع الثلاثة معربة نصبا.

«أنبئهم» فعل أمر ، وفاعل ، ومفعول ، والمشهور «أنبئهم» مهموز مضموما ، وقرىء (٢) بكسر الهاء. ويروى عن «ابن عامر» ، كأنه أتبع الهاء لحركة «الباء» ، ولم يعتد ب «الهمزة» ، لأنها ساكنة ، فهي حاجز غير حصين.

وقرىء (٣) بحذف الهمزة ، ورويت عن «ابن كثير» ، قال «ابن جنّيّ» هذا على إبدال الهمزة ياء ، كما تقول : أنبيت كأعطيت ، قال : وهذا ضعيف في اللّغة ؛ لأنه بدل لا تخفيف ، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.

وهذا من أبي الفتح غير مرض ، لأن البدل جاء في سعة الكلام ، حكى «الأخفش» في «الأوسط» أنهم يقولون في أخطأت : أخطيت ، وفي توضأت : توضيت.

قال : وربما حرّكوه إلى «الواو» ، وهو قليل قالوا : «رفوت» في «رفأت» ، ولم أسمع «رفيت».

إذا تقرر ذلك ، فللنحويين في صرف العلّة المبدل من الهمزة نظر في أنه هل يجرى مجرى العلّة الأصلي أم ينظر إلى أصله؟ ورتبوا على ذلك أحكاما ، ومن جملتها : هل يحذف جزما كالحرف غير المبدل أم لا نظرا إلى أصله؟ واستدل بعضهم على حذفه جزما بقول زهير : [الطويل]

__________________

(١) البيت لعبد يغوث بن وقاص ينظر خزانة الأدب : ٢ / ١٩٤ ، ١٩٥ ، ١٩٧ ، والكتاب : ٢ / ٢٠٠ ، ولسان العرب (عرض) ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٢٠٦ ، والعقد الفريد : ٥ / ٢٢٩ ، وشرح التصريح : ٢ / ١٦٧ ، والأشباه والنظائر : ٦ / ٢٤٣ ، وشرح اختيارات المفضل : ص ٧٦٧ ، خزانة الأدب : ١ / ٤١٣ ، ٩ / ٢٢٣ ، والمقتضب : ٤ / ٤٢٠٤ ، ورصف المباني : ص ١٣٧ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٤٤٥ ، وشرح شذور الذهب : ص ١٤٥ ، وشرح ابن عقيل : ص ٥١٥ ، وشرح قطر الندى : ص ٢٠٣ ، الدر المصون : ١ / ١٨٤.

(٢) ونسبها أبو علي الفارسي إلى ابن كثير ، وقال : قال أحمد : هذا خطأ لا يجوز. انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٦ ـ ٧ ، والسبعة : ١٥٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٩٨ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٨٦ ، والدر المصون : ١ / ١٨٤ ، وإعراب القراءات : ١ / ٨٢.

(٣) وهي قراءة ابن كثير من طريق القواس ، وقراءة الحسن والأعرج.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٢٢ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٩٨ ، والدر المصون : ١ / ١٨٤ ، والمحتسب : ١ / ٦٦.

٥٢٣

٣٧٦ ـ جريء متى يظلم يعاقب بظلمه

سريعا وإلّا يبد بالظّلم يظلم (١)

لأن أصله : «يبدأ» بالهمزة ، فكذلك هذه الآية أبدلت الهمزة ياء ، ثم حذفت حملا للأمر على المجزوم.

وقرىء : «أنبيهم» (٢) بإثبات «الياء» نظرا إلى «الهمزة» وهل تضم «الهاء» نظرا للأصل أم تكسر نظرا للصورة؟

وجهان منقولان عن «حمزة» عند الوقف عليه.

و «بأسمائهم» : متعلّق ب «أنبئهم» ، وهو المفعول الثاني كما تقدّم ، وقد يتعدّى ب «عن» نحو : «أنبأته عن حاله» ، وأما تعديته ب «من» في قوله : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) [التوبة : ٩٤] فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

قوله : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

والمراد من هذا الغيب أنه كان عالما بأحوال آدم قبل نطقه ، وهذا يدل على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل حدوثها ، وذلك يدلّ على بطلان مذهب «هشام بن الحكم» في أنه لا يعلم الأشياء إلّا عند وقوعها ، فإن قيل : قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يدلّ على أنّ العبد قد يعلم الغيب ؛ لأن الإيمان بالشّيء فرع العلم به ، وهذا الآية مشعرة بأن علم الغيب ليس إلّا لله تعالى ، وأن كل من سواه فهم خالون عن علم الغيب.

والجواب : ما تقدم في قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣].

قوله : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) «قال» جواب «فلما» ، والهمزة للتقرير إذا دخلت على نفي قررته ، فيصير إثباتا كقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) [الشرح : ١] أي : قد شرحنا.

و «لم» حرف جزم ، و «أقل» : مجزوم بها حذفت عينه ، وهي «الواو» لالتقاء الساكنين ، و «لكم» متعلّق به ، و «اللام» للتبليغ ، والجملة من قوله : «إنّي أعلم» في محلّ نصب بالقول.

وقد تقدم نظائر هذا التركيب.

قوله : (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) كقوله (أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) من كون «أعلم» فعلا مضارعا ، و «أفعل» بمعنى «فاعل» أو «أفعل» تفضيل ، وكون ما في محلّ نصب أو جر ، وقد تقدم.

__________________

(١) ينظر ديوانه : ص ٢٤ ، وخزانة الأدب : ٣ / ١٧ ، ٧ / ١٣ ، والدرر : ١ / ١٦٥ ، وسر صناعة الإعراب : ٢ / ٧٣٩ ، وشرح شواهد الشافية : ص ١٠ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٣٨٥ ، والممتع في التصريف : ١ / ٣٨١ ، ٢ / ٤٥٨ ، وشرح شافية ابن الحاجب : ١ / ٢٦ ، والمقرب : ١ / ٥٠ ، وهمع الهوامع : ١ / ٥٢ ، الدر المصون : ١ / ١٨٤.

(٢) قرأ بها ابن أبي عبلة ، انظر الشواذ : ٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٩٨ ، والدر المصون : ١ / ١٨٥.

٥٢٤

والظاهر : أن جملة قوله : «وأعلم» معطوفة على قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ) ، فتكون في محلّ نصب بالقول.

وقال «أبو البقاء» (١) : إنه مستأنف ، وليس محكيا بالقول ، ثم جوّز فيه ذلك.

و «تبدون» وزنه : «تفعون» ؛ لأن أصله : تبدوون مثل : تخرجون ، فأعلّ بحذف «الواو» بعد سكونها ، و «الإبداء» : الإظهار ، و «الكتم» الإخفاء ؛ يقال : بدا يبدو بداء ؛ قال : [الطويل]

٣٧ ـ ...........

بدا لك في تلك القلوص بداء (٢)

وقوله : (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) عطف على «ما» الأولى بحسب ما تكون عليه من الإعراب.

روي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير : أن قوله : «ما تبدون» أراد به قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وبقوله : (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أراد به ما أسر «إبليس» في نفسه من الكبر وألّا يسجد.

قال «ابن عطية» (٣) : وجاء «تكتمون» للجماعة ، والكاتم واحد في هذا القول على تجوّز العرب واتّساعها ، كما يقال لقوم قد جنى منهم واحد : أنتم فعلتم كذا ، أي : منكم فاعله ، وهذا مع قصد تعنيف ، ومنه قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) [الحجرات : ٤] وإنما ناداه منهم عيينة.

وقيل : «الأقرع» (٤).

وقيل : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) من الأمور الغائبة ، والأسرار الخفية التي يظن في

__________________

(١) ينظر الاملاء : ١ / ٣٠.

(٢) عجز بيت لمحمد بن بشير العدوالي الخارجي وصدره :

لعلك والموعود حق لقاؤه

ينظر الخصائص : (٣٦٨) ، ابن الشجري : (٢ / ١٧) ، الهمع : (١ / ٢٤٧) ، الدرر : (١ / ٢٠٤) ، الأغاني : (١٤ / ١٥) ، التصريح : (١ / ٢٦٨) ، اللسان : (بدا) ، التاج : (بدا) ، الدر المصون : (١ / ١٨٥).

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٢٣.

(٤) الأقرع بن حابس بن عقال المجاشعي الدارمي التميمي : صحابي من سادات العرب في الجاهلية قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وفد من بني دارم (من تميم) فأسلموا ، وشهد حنينا وفتح مكة والطائف وسكن المدينة ، وكان من المؤلفة قلوبهم ورحل إلى دومة الجندل في خلافة أبي بكر وكان مع خالد بن الوليد في أكثر وقائعه حتى اليمامة ، واستشهد بالجوزجان وفي المؤرخين من يرى أن اسمه «فراس» وأن الأقرع لقب له لقرع كان برأسه وكان حكما في الجاهلية.

ينظر الأعلام : ٢ / ٥ (٣٦) ، الذيل على الكاشف : رقم ٨٦ ، تعجيل المنفعة : ٦١ ، تاريخ البخاري الصغير : ٥٩ ، أسد الغابة : ١ / ١٣٥ ، الإصابة : ١ / ١٠١.

٥٢٥

الظاهر أنه لا مصلحة فيها ، ولكن لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أنّ المصلحة في خلقها.

وقيل إنه ـ تعالى ـ لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجيبا قالوا : ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أكرم عليه منه ، فهذا الذي كتموا ، ويجوز أن يكون هذا القول سرّا أسروه بينهم ، فأبداه بعضم لبعض ، وأسروه عن غيرهم ، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان.

وقالت طائفة : الإبداء والكتم المراد به العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع ، وهذه الآية تدلّ على فضيلة العلم.

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)(٣٤)

العامل في «إذ» محذوف دلّ عليه قوله : «فسجدوا» ، تقديره : أطاعوا وانقادوا ، فسجدوا ؛ لأن السجود ناشىء عن الانقياد.

وقيل : العامل «اذكر» مقدرا.

وقيل : زائدة وقد تقدّم ضعف هذين القولين.

وقال «ابن عطية» : «وإذ قلنا» معطوف على «إذ» المتقدمة ، ولا يصحّ هذا لاختلاف الوقتين.

وقيل : «إذ» بدل من «إذ» الأولى ، ولا يصحّ لما تقدّم ، ولتوسّط حرف العطف ، وجملة «قلنا» في محل خفض بالظرف ، ومنه التفات من الغيبة إلى التكلّم للعظمة ، و «اللام» للتّبليغ كنظائرها.

والمشهور جرّ تاء «الملائكة» بالحرف ، وقرأ (١) «أبو جعفر» بالضم إتباعا لضمة «الجيم» ، ولم يعتد بالسّاكن ، وغلّطه الزّجاج وخطأه الفارسي (٢) ، وشبهه بعضهم بقوله تعالى : (وَقالَتِ اخْرُجْ) [يوسف : ٣١] بضم تاء التأنيث ، وليس بصحيح ، لأن تلك حركة التقاء السّاكنين ، وهذه حركة إعراب ، فلا يتلاعب بها ، والمقصود هناك يحصل بأي حركة كانت.

وقال الزمخشري : لا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية إلّا في لغة ضعيفة كقراءة (٣)(الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] يعني بكسر الدال.

__________________

(١) وكذلك قرأ بها سليمان بن مهران ، وقيل : هي لغة أزد شنوءة.

انظر البحر المحيط : ١ / ٣٠٢ ، والدر المصون : ١ / ١٨٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٢٤ ، والقرطبي : ١ / ٢٠٠ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٨٧.

(٢) سقط في ب.

(٣) وهي قراءة الحسن. انظر البحر المحيط : ١ / ١٣١ ، والدر المصون : ١ / ٦٥ ، والمحتسب : ١ / ٣٧ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٦٣.

٥٢٦

قال الشيخ «شهاب الدين» : وهذا أكثر شذوذا ، وأضعف من ذاك مع ما في ذاك من الضّعف المتقدم ؛ لأن ـ هناك ـ فاصلا ، وإن كان ساكنا.

وقال «أبو البقاء» : وهي قراءة ضعيفة جدّا ، وأحسن ما تحمل عليه أن يكون الرّاوي لم يضبط عن [القارىء](١) وذلك أن [القارىء](١) أشار إلى الضّم تنبيها على أنّ الهمزة المحذوفة مضمومة في الابتداء ، فلم يدرك الراوي هذه الإشارة ، وقيل : إنه نوى الوقف على «التّاء» ساكنة ، ثم حركها بالضم إتباعا لحركة الجيم ، وهذا من إجراء الوصل مجرى الوقف.

ومثله ما روي عن امرأة رأت رجلا مع نساء ، فقالت : «أفي السّوتنتنّه» ـ نوت الوقف على «سوءة» ، فسكنت التاء ، ثم ألقت عليها حركة همزة «أنتن» فعلى هذا تكون هذه حركة السّاكنين ، وحينئذ تكون كقوله : «قالت : أخرج» وبابه ، وإنما أكثر الناس توجيه هذه القراءة لجلالة قارئها أبي جعفر يزيد بن القعقاع شيخ نافع شيخ أهل «المدينة» وترجمتهما مشهورة.

و «اسجدوا» في محل نصب بالقول ، و «اللام» في «لآدم» الظّاهر أنها متعلّقة ب «اسجدوا» ، ومعناها التعليل ، أي : لأجله.

وقيل : بمعنى «إلى» أي : إلى [جهته له](٢) جعل قبلة لهم ، والسجود لله.

وقيل : بمعنى مع ، لأنه كان إمامهم كذا نقل.

وقيل : اللّام للبيان فتتعلّق بمحذوف ، ولا حاجة إلى ذلك.

و «فسجدوا» الفاء للتعقيب ، والتقدير : فسجدوا له ، فحذف الجار للعلم به ، والسّجود لغة : التذلّل والخضوع ، وغايته وضع الجبهة على الأرض ، وقال «ابن السكيت» : «هو الميل» ، قال «زيد الخيل» : [الطويل]

٣٧٨ ـ بجمع تضلّ البلق في حجراته

ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر (٣)

يريد : أن الحوافر تطأ الأرض ، فجعل بأثر الأكم للحوافر سجودا ؛ وقال آخر : [المتقارب]

٣٧٩ ـ ...........

سجود النّصارى لأحبارها (٤)

__________________

(١) سقط في ب.

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر الصحاح : (٢ / ٤٨٣) ، البحر : (١ / ٣٠٠) ، المحرر الوجيز : (١ / ٢٣١) ، الاضداد : (٢٥٧) ، القرطبي : (١ / ٢٠٠) ، اللسان «سجر» ، الدر المصون : (١ / ١٨٧).

(٤) عجز بيت لحميد بن ثور وصدره يأتي في الشاهد التالي وهو في ديوانه : ٩٦ ، الصحاح : (٢ / ٤٨٤) ، إصلاح المنطق : (٢٤٧) ، اللسان «سجد» ، القرطبي (١ / ٢٠٠) ، الدر المصون : (١ / ١٨٧).

٥٢٧

وفرق بعضهم بين «سجد» ، و «أسجد» ف «سجد» : وضع جبهته ، وأسجد : أمال رأسه وطأطأ ؛ قال الشاعر : [المتقارب]

٣٨٠ ـ فضول أزمّتها أسجدت

سجود النّصارى لأخبارها (١)

وقال آخر : [الطويل]

٣٨١ ـ وقلن له أسجد لليلى فأسجدا

 ...........(٢)

يعني : أن البعير طأطأ رأسه لأجلها.

ودراهم الأسجاد : دراهم عليها صور كانوا يسجدون لها ، قال : [الكامل]

٣٨٢ ـ ...........

وافى بها كدراهم الأسجاد (٣)

فصل في تعداد النعم العامة على بني آدم

اعلم أن هذا هو النعمة الرّابعة من النعم العامة على جميع البشر ، وهو أنه خصص آدم بالخلافة أولا ، ثم خصصه بالعلم ثانيا ، ثم بلوغه في العلم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم ، ثم ذكر الآن كونه مسجودا للملائكة.

فإن قيل : الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوي الله ـ تعالى ـ خلقة آدم بدليل قوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [ص ٧١ ـ ٧٢] ، فظاهر هذه الآية يدلّ على أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما صار حيّا صار مسجود الملائكة ؛ لأن «الفاء» في قوله : «فقعوا» للتعقيب ، وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء ، ومناظرته مع الملائكة في ذلك الوقت حصل بعد أن صار مسجود الملائكة.

فالجواب : أجمع المسلمون على أن ذلك السّجود ليس سجود عبادة ، ثم اختلفوا على ثلاثة أقوال :

الأول : أن ذلك السجود كان لله ـ تعالى ـ وآدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان كالقبلة ، وطعنوا في هذا القول من وجهين :

الأول : أنه لا يقال : صلّيت للقبلة ، بل يقال : صليت إلى القبلة ، فلو كان ـ عليه الصّلاة والسلام ـ قبلة لقيل : اسجدوا إلى آدم.

__________________

(١) تقدم برقم (٣٧٩).

(٢) هذا صدر بيت قاله أعرابي من بني أسد. ينظر الصحاح : (٢ / ٤٨٤) ، القرطبي : (١ / ٢٠٠) ، اللسان «سجد» ، الدر المصون : (١ / ١٨٧).

(٣) عجز بيت للأسود بن يعفر وصدره :

من خمر ذي نطق أغن منطق

ينظر الصحاح : (٢ / ٤٨٤) ، القاموس المحيط : (١ / ٣١٠) ، اللسان «سجد» ، القرطبي : (١ / ٢٠٠) ، الدر المصون : (١ / ١٨٧).

٥٢٨

الثاني : أن «إبليس» قال : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء : ٦٢] أي : أن كونه مسجودا يدلّ على أنه أعظم حالا من السّاجد ، ولو كان قبلة لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يصلّي إلى الكعبة ، ولم تكن الكعبة أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام.

والجواب عن الأول : أنه كما يجوز أن يقال : صلّيت إلى القبلة ، جاز أن يقال : صلّيت للقبلة ؛ قال تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] والصّلاة لله لا للدّلوك ؛ وقال حسان : [البسيط]

٣٨٣ ـ ما كنت أعرف أنّ الأمر منصرف

عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم

وأعرف النّاس بالقرآن والسّنن (١)

والجواب عن الثاني : لا نسلم أن التكرّم حصل بمجرد ذلك السّجود ، بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر.

والقول الثاني : أن السجدة كانت لآدم تعظيما له وتحيّة له كالسّلام منهم عليه ، وقد كانت الأمم السّالفة تفعل ذلك.

قال قتادة : قوله : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف : ١٠٠] كانت تحيّة الناس يومئذ.

الثّالث : أنّ السجود في أصل اللّغة : هو الانقياد والخضوع ، ومنه قوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦].

واعلم أن القول الأوّل ضعيف ، لأن المقصود تعظيم آدم عليه الصلاة والسلام ، وجعله مجرّد القبلة لا يفيد تعظيم حاله.

والقول الثالث : ضعيف أيضا ؛ لأن السجود في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك ؛ لأن الأصل عدم التغيير.

فإن قيل : السجود عبادة ، والعبادة لغير الله لا تجوز.

فالجواب : لا نسلم أنه عبادة ؛ لأن الفعل قد يصير بالمواضعة مفيدا كالقول ، كقيام أحدنا للغير يفيد من الإعظام ما يفيده القول ، وما ذاك إلا للعادة ، وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأرض وإلصاقه الجبين بها مفيدا ضربا من التعظيم ، وإن لم يكن ذلك عبادة ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبّد الله الملائكة بذلك إظهارا لرفعته وكرامته.

فصل في بيان أن الأنبياء أفضل من الملائكة

قال أكثر أهل السّنة : الأنبياء أفضل من الملائكة.

__________________

(١) ينظر الرازي : ٢ / ١٩٥.

٥٢٩

وقالت المعتزلة : الملائكة أفضل من الأنبياء ، وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني [وأبي عبد الله الحليميّ](١).

وحجّة المعتزلة أمور :

أحدها : قوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) [الأنبياء : ١٩] والمراد من هذه العنديّة القرب ، والشرف ، وهذا حاصل لهم لا لغيرهم.

ولقائل أن يقول : إنه ـ تعالى ـ أثبت هذه الصّفة في الآخرة لآحاد المؤمنين في قوله : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥].

وأما في الدنيا فقال عليه الصّلاة والسلام يقول الله سبحانه : «أنا مع المنكسرة قلوبهم لأجلي».

وهذا أكثر إشعارا بالتعظيم ؛ لأن كون الله ـ تعالى ـ عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عند الله.

وثانيها : قالوا : عبادات الملائكة أشقّ من عبادات البشر ، فيكونون أكثر ثوابا من عبادات البشر ، فإن الملائكة سكّان السماوات ، وهي جنّات ، وهم آمنون من المرض والفقر ، ثم إنهم مع استكمال أسباب النّعم لهم خاشعون وجلون كأنهم مسجونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنات ، بل يقبلون على الطّاعة الشاقة ، ولا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوما واحدا فضلا عن تلك الأعصار المتطاولة ، ويؤيّده قصّة آدم ـ عليه الصّلاة والسلام ـ فإنه أطلق له الأكل في جميع مواضع الجنة ، ثم إنه منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه.

وثالثها : أن انتقال المكلّف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من بستان إلى بستان ، أما الإقامة على نوع واحد ، فإنها تورث المشقّة والملالة ، والملائكة كلّ واحد منهم مواظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره ، فكانت عبادتهم أشقّ ، فيكون أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام : «أفضل الأعمال أحمزها» (٢) أي : أشقّها ، وقوله لعائشة : «إنّما أجرك على قدر نصبك» (٣).

ولقائل أن يقول : في الوجه الأول لا نسلّم أن عبادة الملائكة أشقّ.

أما قولهم : السماوات جنات.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر الفائق في غريب الحديث للزمخشري : ١ / ٣١٩ عن ابن عباس أنه سئل أي الأعمال أفضل فقال أحمزها.

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح (٣ / ٧١٤ ـ ٧١٥) كتاب العمرة (٢٦) باب أجر العمرة على قدر النصب (٨) حديث رقم (١٧٨٧) وأحمد في المسند (٦ / ٤٣).

٥٣٠

قلنا : نسلم ، ولم قلتم بأن العبادة في المواضع الطّيبة أشقّ من العبادة في المواضع الرّديئة؟ أكثر ما في الباب أنه تهيّأ لهم أسباب النعم ، فامتناعه عنها مع تهيئتها له أشق ، ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمعة على البشر ، ومع هذا يرضون بقضاء الله ، ولا تغيرهم تلك المحن عن المواظبة على عبوديته ، وهذا أعظم في العبودية.

وأما قولهم : المواظبة على نوع واحد من العبادة أشقّ.

قلنا : لما اعتادوا نوعا واحدا صاروا كالمجبورين الذين لا يقدرون على خلافه ؛ لأنّ العادة طبيعة خامسة ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الصّوم صوم داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» (١).

ورابعها : قالوا : عبادات الملائكة أدوم ؛ لأن أعمارهم أطول ، فكانت أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام : «أفضل العبّاد من طال عمره ، وحسن عمله» (٢).

ولقائل أن يقول : إن نوحا ولقمان والخضر ـ عليهم الصّلاة والسلام ـ كانوا أطول عمرا من محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فوجب أن يكونوا أفضل منه ، وذلك باطل بالاتفاق.

وخامسها : أنهم أسبق في كل العبادات فيكونون أفضل لقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة : ١٠ ، ١١] ولقوله عليه الصلاة والسلام : «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» (٣).

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصحيح : (٢ / ٨١٢) كتاب الصيام (١٣) باب النهي عن صوم الدهر وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم (٣٥) حديث رقم (١٨١ / ١١٥٩).

والنسائي في السنن (٤ / ٢٠٩) كتاب الصيام (٢٢) باب صوم يوم وإفطار يوم (٧٦) حديث رقم (٢٣٨٨) وابن عساكر ٦ / ٤١٩ ـ وذكره ابن حجر في فتح الباري : ٤ / ٢٢١ ، وابن كثير في البداية والنهاية : ٢ / ١٦.

والزبيدي في الإتحاف : ٤ / ٢٦١.

والهندي في كنز العمال حديث رقم ٢٤١٦٠.

(٢) أخرجه الترمذي في السنن (٤ / ٤٨٩) كتاب الزهد (٣٧) باب ما جاء في طول العمر للمؤمن (٢١) ، (٢٢) حديث رقم (٢٣٢٩) عن عبد الله بن بسر وعبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه أن رجلا قال يا رسول الله أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله قال فأي الناس شر؟ قال من طال عمره وساء عمله. حديث رقم ٢٣٣٠ قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه أحمد في المسند (٤ / ١٨٨) ، (٥ / ٤٠ ، ٤٣ ، ٤٧ ، ٤٨ ، ٤٩ ، ٥٠) ـ والدارمي في السنن (٢ / ٣٠٨) والبيهقي في السنن (٣ / ٣٧١) ـ والحاكم في المستدرك (١ / ٣٣٩) ـ والطبراني في الصغير (٢ / ٢٠). وابن أبي شيبة (١٣ / ٢٥٤ ، ٢٥٦) وذكره المنذري في الترغيب ٤ / ٢٥٤.

(٣) أخرجه مسلم في الصحيح (٢ / ٧٠٥) كتاب الزكاة (١٢) باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة (٢٠) حديث رقم (٦٩ / ١٠١٧) والترمذي في السنن حديث رقم ٢٦٧٥ وابن ماجه في السنن حديث رقم (٢٠٧). وأحمد في المسند (٤ / ٣٦١ ، ٣٦٢) ـ وابن أبي شيبة (٣ / ١٠٩) وابن خزيمة في ـ

٥٣١

ولقائل أن يقول : فهذا يقتضي أن يكون آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أفضل من محمد عليه الصلاة والسّلام ؛ لأنه أوّل من سنّ عبادة الله من البشر وأسبق ، وذلك باطل.

وسادسها : أن الملائكة رسل إلى الأنبياء ، والرسول أفضل من الأمة.

فإن قيل : إن السلطان إذا أرسل واحدا إلى جمع عظيم ليكون حاكما فيهم ، فإنه يكون أشرف منهم ، أمّا إذا أرسل واحدا إلى واحد ، فقد لا يكون الرسول أشرف ، كما إذا أرسل السلطان مملوكه إلى وزيره في مهمّة [فإنه لا يلزم أن يكون ذلك العبد أشرف من الوزير](١). قلنا : لكن جبريل ـ عليه‌السلام ـ مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر ، فعلى هذا يكون جبريل أفضل منهم.

وأيضا أن الملك قد يكون رسولا إلى ملك آخر أو إلى أحد من الأنبياء ، وعلى التقديرين الملك رسول ، وأمته رسل ، والرسول الذي كل أمته رسل أفضل من الرسول الذي ليس كذلك ، ولأن إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسلام ـ كان رسولا إلى لوط ـ عليه‌السلام ـ فكان أفضل منه ، وموسى كان رسولا إلى الأنبياء الذين كانوا في عصره ، فكان أفضل منهم.

ولقائل أن يقول : الملك إذا أرسل رسولا إلى بعض النواحي ، فقد يكون ذلك الرسول حاكما ومتوليا أمورهم ، وقد يكون ليخبرهم عن بعض الأمور مع أنه لا يجعله حاكما عليهم ، فالقسم الأوّل هم الأنبياء المبعوثون إلى أممهم ، فلا جرم كانوا أفضل من أممهم.

فإن قلتم : إن بعثة الملائكة إلى الأنبياء من القسم الأوّل حتى يلزم أن يكونوا أفضل من الأنبياء.

وسابعها : قوله : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء : ١٧٢] فقوله : «ولا الملائكة» خرج مخرج التأكيد للأول ، وهذا التأكيد إنما يكون بذكر الأفضل يقال : هذه الخشبة لا يقدر على حملها العشرة ، ولا المائة ، ولا يقال : لا يقدر على حملها العشرة ولا الواحد ، ويقال : هذا العالم لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا الملك ، ولا يقال : لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا البواب.

ولقائل أن يقول : هذه الآية إن دلّت ، فإنما تدلّ على فضل الملائكة المقرّبين على المسيح ، لكن لا يلزم منه فضل الملائكة المقربين على من هو أفضل من المسيح ، وهو

__________________

ـ صحيحه حديث رقم (٢٤٧٧) ـ والبيهقي في السنن (٤ / ١٧٦) ـ والطبراني في الكبير (٢ / ٣٥٨) ـ والدارمي في السنن (١ / ١٣١) ـ وذكره السيوطي في الدر المنثور ٦ / ٢٠١ والبيهقي في الزوائد ١ / ١٧٠ ، ١٧١.

(١) سقط في أ.

٥٣٢

محمد ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ وموسى وإبراهيم ـ عليهما الصلاة والسلام ـ بإجماع المسلمين.

ثم نقول قوله : «ولا الملائكة» ليس فيه إلا «واو» العطف ، و «الواو» للجمع المطلق ، فيدلّ على أنّ المسيح لا يستنكف ، والملائكة لا يستنكفون ، فأما أن يدلّ على أن الملائكة أفضل من المسيح فلا.

قال تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) [المائدة : ٢] أو نقول : سلمنا أن عيسى دون مجموع الملائكة في الفضل ، فلم قلتم : دون كل واحد من الملائكة في الفضل؟ فإن قيل : وصف الملائكة بكونهم مقربين يوجب ألّا يكون المسيح كذلك.

قلنا : تخصيص الشّيء بالذكر لا يدلّ على نفيه عما عداه.

وثامنها : قوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) [الأعراف : ٢٠] ولو لم يكن متقررا عند آدم وحواء ـ عليهما الصلاة والسلام ـ أن الملك أفضل من البشر لم يقدر «إبليس» على غرورهما بذلك.

ولقائل أن يقول : هذا قول «إبليس» فلا يكون حجّة ، ولا يقال : إن آدم اعتقد صحة ذلك ، واعتقاد آدم حجّة ، لأنا نقول : لعلّ آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ما كان نبيا في ذلك الوقت ، فلم يلزم من فضل الملك عليه في ذلك الوقت فضل الملك عليه حال ما صار نبيّا ، ولأن الزّلّة جائزة على الأنبياء.

وأيضا فهب أن الآية تدلّ على أن الملك أفضل من البشر في بعض الأمور المرغوبة.

فلم قلتم : إنها تدلّ على فضل الملك على البشر في باب القدرة والقوة ، والحسن والجمال ، والصفاء والنقاء عن الكدورات الحاصلة بسبب التركيبات؟ فإن الملائكة خلقوا من الأنوار وآدم خلق (١) من التراب ، فلعل آدم وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب إلّا أنه رغب في أن يكون مساويا لهم في تلك الأمور المعدودة.

وتاسعها : قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [الأنعام : ٥٠].

ولقائل أن يقول : يحتمل أن يكون المراد : ولا أقول لكم إني ملك في كثرة العلوم ، وشدة القوة ، ويؤيده أن الكفار طالبوه بأمور عظيمة نحو : صعود السّماء ، ونقل الجبال ، وإحضار الأموال العظيمة ، وأيضا قوله : (قُلْ : لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) يدلّ على

__________________

(١) في ب : مخلوق.

٥٣٣

اعترافه بأنه لا يعلم كلّ المعلومات ، فلذلك لا أدّعي قدرة مثل قدرة الملك ، ولا علما مثل علمه.

وعاشرها : قوله تعالى : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف : ٣١].

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد التشبيه في الجمال؟

قلنا : الأولى أن يكون هذا التشبيه في السّيرة لا في الصّورة ، لأن الملك إنما تكون سيرته المرضية لا بمجرد الصورة.

ولقائل أن يقول : قول المرأة : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [يوسف : ٣٢] كالصريح في أن مراد النّساء بقولهن : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف : ٣١] تعظيم لحسن يوسف وجماله لا في السّيرة ؛ لأن ظهور عذرها في شدّة عشقها ، إنما حصل بسبب فرط يوسف في الجمال لا بسبب فرط زهده وورعه ، فإن ذلك لا يناسب شدّة عشقها.

سلمنا أن المراد تشبيه يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالملك في حسن السّيرة ، فلم قلتم : يجب أن يكون يوسف أقل ثوابا من الملائكة؟

الحادي عشر : قوله تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٧٠] ، ومخلوقات الله ـ تعالى ـ إما المكلفون ، أو من عداهم ، ولا شك أن المكلفين أفضل من غيرهم ، فالمكلّفون أربعة أنواع : الملائكة ، والإنس ، والجنّ ، والشياطين ، ولا شكّ أن الإنس أفضل من الجنّ والشياطين ، فلو كان البشر أفضل من الملائكة لزم أن يكون البشر أفضل من كلّ المخلوقات ، وحينئذ لا يبقى لقوله : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) فائدة.

بل كان ينبغي أن يقال : «وفضّلناهم على جميع من خلقنا» ، ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر.

ولقائل أن يقول : هذا تمسّك بدليل الخطاب ؛ لأن التصريح بأنهم أفضل من كثير من المخلوقات لا يدلّ على أنه ليس أفضل من الباقي إلا بواسطة دليل الخطاب.

وأيضا فهب أن جنس الملائكة أفضل من [جنس بني آدم ، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من](١) المجموع الثاني [أن يكون كلّ واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من أفراد المجموع الثاني](٢) ، فإنا إذا قدرنا عشرة من العبيد كلّ واحد منهم يساوي مائة دينار ، وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوي مائتي دينار والتسعة الباقية كل واحد منهم دينارا ، فالمجموع الأول أفضل من المجموع الثاني ، إلا أنه حصل في المجموع الثّاني واحد هو أفضل من كلّ واحد من آحاد المجموع الأول فكذا هاهنا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

٥٣٤

الثاني عشر : قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار : ١٠ ، ١١] فيدخل فيه الأنبياء وغيرهم ، وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر لوجهين :

الأوّل : أنه ـ تعالى ـ جعلهم حفظة ، والحافظ للمكلّف عن المعصية يكون أبعد عن الخطأ من المحفوظ ، وذلك يقتضي كونهم أبعد عن المعاصي ، وأقرب إلى الطّاعات من البشر ، وذلك يقتضي مزيد الفضل.

والثاني : أنه ـ سبحانه ـ جعل كتابتهم حجّة للبشر في الطّاعات ، وعليهم في المعاصي ، وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقبول من قول البشر ، ولو كان البشر أعظم حالا منهم لكان الأمر بالعكس.

ولقائل أن يقول : أما كون الحافظ أكرم من المحفوظ ، فهذا بعيد ، فإن الملك قد يوكّل بعض عبيده على ولده.

وأما الثاني فقد يكون الشاهد أدون حالا من المشهود عليه.

الثالث عشر : قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [النبأ : ٣٨].

والمقصود من ذكر أحوالهم المبالغة في شرح عظمة الله وجلاله ، ولو كان في الخلق طائفة أخرى قيامهم وتضرعهم أقوى في الإنباء عن عظمة الله وجلاله وكبريائه من قيامهم لكان ذكرهم أولى.

ولقائل أن يقول : ذلك يدلّ على أنهم أزيد حالا من البشر في بعض الأمور ، فلم لا يجوز أن تكون تلك الحالة هي قوتهم وشدّتهم وبطشهم؟ وهذا كما يقال : إن السّلطان لما جلس وقف حول سريره ملوك أطراف العالم خاضعين فإن عظمة السّلطان إنما تشرح بذلك ، ثم إنّ هذا لا يدلّ على أنهم أكرم عند السلطان من ولده ، فكذا ها هنا.

الرابع عشر : قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] فبيّن تعالى أنه لا بدّ في صحّة الإيمان من الإيمان بهذه الأشياء ، فبدأ بنفسه ، وثنّى بالملائكة ، وثلّث بالكتب ، وربّع بالرسل ، وكذا في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨] ، وقال : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦] ، والتقديم في الذّكر يدلّ على التقديم في الدرجة ؛ لأن تقديم الأدون على الأشرف في الذكر قبيح عرفا ، فوجب أن يكون قبيحا شرعا.

ولقائل أن يقول : هذه الحجّة ضعيفة ؛ لأن الاعتماد إن كان على «الواو» ف «الواو» لا تفيد الترتيب ، وإن كان على التقديم في الذّكر فينتقض بتقديم سورة «تبّت» على سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١].

الخامس عشر : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) ، فجعل صلوات

٥٣٥

الملائكة كالتشريف للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذلك يدلّ على كون الملائكة أشرف من النبي. ولقائل أن يقول : هذا ينتقض بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي ، ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي ، فكذا في الملائكة.

واحتجّ من قال بتفضيل الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ على الملائكة بأمور :

أحدها : أن الله ـ تعالى ـ أمر الملائكة بالسجود لآدم ، وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة ، فوجب أن يكون آدم أفضل منهم ؛ لأن السجود نهاية التواضع ، وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح في العقول.

وثانيها : أن آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ خليفة له ، والمراد منه خلافة الولاية لقوله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) [ص : ٢٦].

ومعلوم أن أعلى الناس منصبا عند الملك من كان قائما مقامه في الولاية والتصرف ، فهذا يدل على أن آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان أشرف الخلائق.

فالدنيا خلقت متعة لبقائه ، والآخرة مملكة لجزائه ، وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبّر عليه ، والجن رعيته ، والملائكة في طاعته وسجوده ، والتواضع له ، ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته ، وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلّاته.

وثالثها : أن آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان أعلم ، والأعلم أفضل ، أما أنه أعلم فلأنه ـ تعالى ـ لما طلب منهم علم الأسماء (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] فعند ذلك قال الله : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [البقرة : ٣٣] وذلك يدلّ على أن آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان عالما بما لم يكونوا عالمين به ، والعالم أفضل لقوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩].

ورابعها : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٣٣] والعالم عبارة عن كل ما سوى الله ـ تعالى ـ فمعناه أن الله ـ تعالى ـ اصطفاهم على المخلوقات.

فإن قيل : يشكل بقوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [البقرة : ٤٧].

قلنا : الإشكال مدفوع ؛ لأن قوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود ، وحينما كانوا موجودين لم يكن محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ موجودا في ذلك الزمان ، والمعدوم لا يكون من العالمين ؛ لأن اشتقاق العالم من العلم فكل ما كان علما على الله ودليلا عليه فهو عالم ، وإذا كان كذلك لم يلزم اصطفاء الله إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ

٥٣٦

والملائكة كانوا موجودين ، فيلزم أن يكون الله ـ تعالى ـ قد اصطفى هؤلاء على الملائكة ، وأيضا فهب أن تلك الآية دخلها التخصيص لقيام الدليل ، وها هنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر ، فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم.

وخامسها : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] والملائكة من جملة العالمين ، فكان محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ رحمة لهم ، فوجب أن يكون أفضل منهم.

وسادسها : أنّ الآدمي له شهوة داعية إلى المعصية والملك ليست له هذه الشهوة ، والفعل مع المعارض القوي أشدّ منه بدون المعارض.

فإن قيل : الملائكة لهم شهوة تدعوهم إلى المعصية ، وهي شهوة الرئاسة.

قلنا : هب أن الأمر كذلك ، لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البطن والفرج ، وشهوة الرئاسة والملك ليس له إلا شهوة واحدة ، وهي شهوة الرئاسة ، والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشقّ من المبتلى بشهوة واحدة. وأيضا الملائكة لا يعملون إلّا بالنّص لقوله : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] وقوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] والبشر لهم قوّة الاستنباط والقياس ، والعمل بالاستنباط أشقّ من العمل بالنص ، وأيضا فإنّ الشبهات للبشر أكثر منها للملائكة ؛ لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السّيّارة أسبابا لحوادث هذا العالم ، فالبشر احتاجوا إلى دفع هذه الشّبهة ، والملائكة لا يحتاجون إليها ، لأنهم ساكنون في عالم السّماوات ، فيشاهدون كيفية افتقارها إلى المدبّر الصّانع ، وأيضا فإن الشيطان لا سبيل له إلى وسوسة الملائكة ، وهو مسلّط على البشر في الوسوسة ، وذلك تفاوت عظيم. إذا ثبت أن طاعتهم أشقّ ، فوجب أن يكونوا أكثر ثوابا للنص والقياس.

فأما النص قوله عليه الصلاة والسلام : «أفضل العبادات أحمزها» أي : أشقّها ، وأما القياس فإن الشيخ الذي ليس له ميل إلى النّساء إذا امتنع عن الزّنا ليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنه مع الميل الشّديد ، والشّوق العظيم.

وسابعها : أن الله ـ تعالى ـ خلق للملائكة عقولا بلا شهوة ، وخلق للبهائم شهوة بلا عقل ، وخلق الآدمي وجمع فيه الأمرين ، فصار الآدمي بسبب العقل فوق البهيمة بدرجة ، فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون الملائكة ، ثم وجدنا الآدمي إذا غلب هواه عقله ، فإنه يصير دون البهيمة على ما قال : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) فيجب أن يقال : إذا غلب عقله هواه أن يكون فوق الملائكة اعتبارا لأحد الطرفين بالآخر.

وثامنها : أن الملائكة حفظة ، وبنو آدم محفوظون ، والمحفوظ أشرف من الحافظ ، أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الأول ، فقالوا : قد سبق بيان أنّ من الناس من قال :

٥٣٧

المراد من السّجود التّواضع لا وضع الجبهة على الأرض ، وإن سلم أنه وضع الجبهة لكنه قال : السّجود لله وآدم قبله ، فزال الإشكال ، وإن سلم أن السجود كان لآدم ، فلم قلتم : إن ذلك لا يجوز من الأشرف؟ وذلك أن الحكمة قد تقتضي إظهار نهاية الانقياد ، والطاعة ، فإن للسلطان أن يجلس عبدا من عبيده ، ويأمر الأكابر بخدمته ، ويكون غرضه إظهار كونهم مطيعين منقادين له في كلّيات الأمور ، وأيضا فإن الله ـ تعالى ـ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فإن أفعاله غير معلّلة ، ولذلك قلنا : إنه لا اعتراض عليه في خلق الكفر في الإنسان ، ثم يعذبه عليه أبد الآباد ، وإذا كان كذلك ، فكيف يعترض عليه في أن أمر الأعلى بالسجود لمن هو دونه.

وأما الحجّة الثانية فجوابها أن كون آدم خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم ـ عليه‌السلام ـ كان أشرف من كل من في الأرض ولا يدلّ على كونه أشرف من ملائكة السماء.

فإن قيل : فلم لم يجعل واحدا من ملائكة السماء خليفة له في الأرض؟

قلت : لوجوه : منها أن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة ، ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل.

وأما الحجّة الثالثة : فلا نسلم أنّ آدم كان أعلم منهم ، وأكثر ما في الباب أن آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان عالما بتلك اللّغات ، وهم ما علموها ، لكنهم لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء ، مع أن آدم ـ عليه‌السلام ـ ما كان عالما بها ويحقق هذا أن محمدا ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ أفضل من آدم ـ عليه‌السلام ـ مع أن محمدا ما كان عالما بهذه اللّغات بأسرها ، وأيضا فإن «إبليس» كان عالما بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم من الجنّة ، وأن آدم ـ عليه‌السلام ـ ليس كذلك ، والهدهد قال لسليمان صلوات الله وسلامه عليه : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) [النمل : ٢٢] ولم يكن أفضل من سليمان ، سلمنا أنه كان أعلم منهم ، ولكن لم لم يجز أن يقال : إن طاعاتهم أكثر إخلاصا من طاعة آدم عليه الصلاة والسلام؟.

وأما الحجة الرابعة : فهي قويّة.

وأما الخامسة : فلا يلزم من كون محمّد ـ عليه الصّلاة والسلام ـ رحمة لهم أن يكون أفضل منهم كما في قوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الروم : ٥٠] ولا يمتنع أن يكون ـ عليه الصلاة والسلام ـ رحمة لهم من وجه ، وهم يكونون رحمة له من وجه آخر.

وأما الحجّة السادسة : وهي أن عبادة البشر أشقّ فهذا ينتقض بما أنا نرى الواحد من الصّوفية يتحمّل في طريق المجاهدة من المشاقّ والمتاعب ما يقطع بأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يتحمّل مثلها مع أنا نعلم أن محمدا عليه الصلاة والسلام أفضل من الكل.

٥٣٨

أما الحجّة السّابعة : فهي جمع بين الطّرفين من غير جامع.

فإن قيل : فإذا لم يكن أفضل منهم ، فما الحكمة بالأمر بالسجود له؟

قيل له : إنّ الملائكة لما استعظموا تسبيحهم ، وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريه استغناءه عنهم ، وعن عبادتهم.

وقال بعضهم : عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به ، فأمروا بالسجود له تكريما ، ويحتمل أن يكون إنما أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠].

فإن قيل : فقد استدلّ ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ على فضل البشر بأن الله ـ تعالى ـ أقسم بحياة محمّد عليه الصلاة والسلام فقال : (لَعَمْرُكَ) [الحجر : ٧٢] وأمنه من العذاب لقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] ، وقال للملائكة : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩].

قيل له : إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه فلم يقل : «لعمري» وأقسم بالسماء والأرض ، ولم يدلّ على أنها أرفع قدرا من العرش ، وأقسم ب (التِّينِ وَالزَّيْتُونِ).

وأما قوله سبحانه : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) فهو نظير قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) [الزمر : ٦٥] وهذا آخر الكلام في هذه المسألة.

قوله : «إلّا إبليس» «إلّا» حرف استثناء ، و «إبليس» نصب على الاستثناء ، وهل نصبه ب «إلا» وحدها أو بالفعل وحده أو به بوساطة «إلّا» أو بفعل محذوف أو ب «أن» أقوال؟

وهل هو استثناء متّصل أو منقطع؟ خلاف مشهور.

والأصح أنه متّصل ـ وأما قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] ، فلا يرد ؛ لأن الملائكة قد يسمون جنّا لاجتنانهم ، قال الشاعر في سليمان : [الطويل]

٣٨٤ ـ وسخّر من جنّ الملائك تسعة

قياما لديه يعملون بلا أجر (١)

وقال تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات : ١٥٨] يعني : الملائكة.

واعلم أن المستثنى على أربعة أقسام :

قسم واجب النّصب ، وقسم واجب الجرّ ، وقسم جائز فيه النصب والجر ، وقسم جائز فيه النّصب والبدل ممّا قبله ، والأرجح البدل.

__________________

(١) البيت للأعشى وليس في ديوانه وهو في البحر ١ / ٣٠٤ ، مجمع البيان ١ / ١٨٢ ، الطبري (٥٠٦) ، الدر المصون ١ / ١٨٦.

٥٣٩

الأول : المستثنى من الموجب والمقدّم ، والمكرر والمنقطع عند «الحجاز» مطلقا ، والواقع بعد «لا يكون» و «ليس» و «ما خلا» و «ما عدا» عند غير الجرميّ (١) ؛ نحو : «قام القوم إلّا زيدا» ، و «ما قام إلّا زيدا القوم» ، و «ما قام أحد إلّا زيدا إلا عمرا» ، و «قاموا إلّا حمارا» و «قاموا لا يكون زيدا» أو «ليس زيدا» و «ما خلا زيدا» و «ما عدا زيدا».

الثاني : المستثنى ب «غير» و «سوى» و «سوى» و «سواء».

الثالث : المستثنى ب «عدا» و «حاشا» و «خلا».

الرابع : المستثنى من غير الموجب ؛ نحو : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [النساء : ٦٦].

و «إبليس» اختلف فيه ، فقيل : إنه اسم أعجمي منح من الصّرف للعلمية والعجمة ، وهذا هو الصّحيح ، قاله «الزّجاج» وغيره ؛ وقيل : إنه مشتقّ من «الإبلاس» وهو اليأس من رحمة الله ـ تعالى ـ والبعد عنها ؛ قال : [السريع أو الرجز]

٣٨٥ ـ ...........

وفي الوجوه صفرة وإبلاس (٢)

ووزنه عند هؤلاء : «إفعيل» ؛ واعترض عليهم بأنه كان ينبغي أن يكون منصرفا ، وأجابوا بأنه أشبه الأسماء الأعجميّة لعدم نظيره في الأسماء العربية ؛ ورد عليهم بأن مثله في العربية كثير ؛ نحو : «إزميل» و «إكليل» و «إغريض» و «إخريط».

وقيل : لما لم يقسم به أحد من العرب ، صار كأنه دخيل في لسانهم ، فأشبه الأعجمية ، وفيه بعد.

فصل في جنس إبليس

اختلفوا في «إبليس».

فقال أكثر المتكلمين والمعتزلة : إنه لم يكن من الملائكة ، وهو مرويّ عن ابن عبّاس ، وابن زيد ، والحسن ، وقتادة ـ رضي الله عنهم ـ قالوا : «إبليس أبو الجنّ كما أن آدم أبو البشر ، ولم يكن ملكا فأشبه الحرف».

وقال شهر بن حوشب ، وبعض الأصوليين : «كان من الجن الذين كانوا في الأرض ، وقاتلهم الملائكة فسبوه صغيرا وتعبّد مع الملائكة وخوطب».

وحكاه الطبري ، وابن مسعود ، وابن جريح ، وابن المسيب ، وقتادة وغيرهم ، وهو

__________________

(١) صالح بن إسحاق أبو عمر الجرمي البصري مولى جرم بن زبان من قبائل اليمن انتهى إليه علم النحو في زمانه ، توفي سنة خمس وعشرين ومائتين.

ينظر : بغية الوعاة : ٢ / ٨ ـ ٩.

(٢) ينظر البيت في الخصائص : (١ / ٣٦٠) ، الأشموني : (١ / ٢٦٧) ، الطبري : (١ / ٥١٠) ، اللسان «بلس» ، الدر المصون : (١ / ١٨٧).

٥٤٠