اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

لغات : «اللّاتي» ـ وهي لغة القرآن ـ و «اللّات» ـ بكسر التاء بلا ياء ـ و «اللّواتي» ، و «اللّوات» ـ بلا ياء ، وأنشد أبو عبيدة : [الرجز]

٣٠١ ـ من اللّواتي والّتي واللّات

زعمن أنّي قد كبرت لداتي (١)

و «اللّواء» بإسقاط «التاء» حكاه الجوهريّ.

وزاد ابن الشّجريّ : «اللّائي» بالهمز وإثبات «الياء» ، و «اللاء» بكسر «الهمزة» وحذف «الياء» و «اللّا» بحذف الهمزة ، فإن جمعت الجمع ، قلت في «اللاتي» : «اللواتي» وفي «اللائي» : «اللوائي».

قال الجوهريّ : وتصغير «الّتي» «اللّتيّا» بالفتح والتشديد ، قال الراجز : [الرجز]

٣٠٢ ـ بعد اللّتيّا واللّتيّا والّتي

إذا علتها أنفس تردّت (٢)

وبعض الشعراء أدخل على «الّتي» حرف النداء ، وحرف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلّا في قولنا : «يا ألله» وحده ، فكأنه شبهها به ؛ من حيث كانت الألف واللّام غير مفارقتين لها ؛ وقال : [الوافر]

٣٠٣ ـ من اجلك يا الّتي تيّمت قلبي

وأنت بخيلة بالودّ عنّي (٣)

ويقال : «وقع فلان في اللّتيّا والّتي» وهما اسمان من أسماء الداهية.

فصل

قال ابن الخطيب (٤) : انتفاء إتيانهم بالسورة واجب ، فهلّا جيء ب «إذا» الذي للوجوب دون «إن» الذي (٥) للشك؟ والجواب : من وجهين :

أحدهما : أنه ساق القول معهم على حسب حسابهم ، وأنهم لم يكونوا بعد جازمين بالعجز عن المعارضة ؛ لاتكالهم على فصاحتهم ، واقتدارهم على الكلام.

والثّاني : أنه تهكّم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة لمن هو دونه : «إن غلبتك لم أبق عليك» ، وهو عالم أنه غالبه تهكما به. فإن قيل : ما معنى

__________________

(١) ينظر مجاز القرآن : ١ / ١١٩ ، وخزانة الأدب : ٦ / ٨٠ ، ١٥٤ ، ولسان العرب (لتا) ، والقرطبي : ١ / ١٦٣.

(٢) ينظر القرطبي : ١ / ١٦٣.

(٣) ينظر أسرار العربية : ص ٢٣٠ ، والكتاب : ٢ / ١٩٧ ، ولسان العرب (لتا) ، والمقتضب : ٤ / ٢٤١ ، وخزانة الأدب : ٢ / ٢٩٣ ، والدرر : ٣ / ٣١ ، والأشباه والنظائر : ٢ / ١٧٩ ، والإنصاف : ١ / ٣٣٦ ، والجنى الداني : ص ٢٤٥ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٢٩٩ ، وشرح المفصل : ٢ / ٢٨ ، واللامات : ص ٥٣ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٧٤.

(٤) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ١١١.

(٥) في أ : التي.

٤٤١

اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله. والجواب : إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صحّ عندهم صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا صحّ ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار ، فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ) قائما مقام قوله : فاتركوا العناد ، فأناب إبقاء النار منابه.

و «الحجارة» روي عن ابن مسعود والفراء ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنها حجارة الكبريت (١) ، وخصّت بذلك ؛ لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الإيقاد ، ونتن الرائحة ، وكثرة الدّخان ، وشدّة الالتصاق بالأبدان ، وقوة حرها إذا حميت.

وقيل : المراد بالحجارة الأصنام ، لأنهم لما قرنوا أنفسهم بها في الدنيا حيث نحتوها أصناما ، وجعلوها أندادا لله ، وعبدوها من دونه قال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] وفي معنى «الناس والحجارة» و «حصب جهنم» في معنى «وقودها».

ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشّفعاء ، والشهداء الذين يشفعون لهم ، ويستدفعون بها المضار عن أنفسهم جعلهم الله عذابهم ، فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغا في تحسيرهم ، ونحوه ما يفعل بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحّوا بها ، ومنعوها من الحقوق ، حيث يحمى عليها في نار جهنّم ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.

قال ابن الخطيب (٢) : والقول بأنها حجارة الكبريت تخصيص بغير دليل ، بل فيه ما يدلّ على فساده ؛ لأن الغرض هنا تفخيم صفة النّار ، والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد ، فلا يدلّ الإيقاد بها على قوة النار.

أما لو حملناه على سائر الحجارة ، دلّ على عظم أمر النار ؛ فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران ، فكأنه قال : تلك النّار نار بلغت لقوتها أن تتعلّق في أوّل أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدّنيا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ٣٨١) بإسنادين عن ابن مسعود موقوفا وأخرجه الحاكم (٢ / ٢٦١) من طريق محمد بن عبيد عن مسعر عن عبد الملك الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» وزاد نسبته إلى : عبد الرزاق وسعيد بن منصور والفريابي وهناد بن السري في كتاب الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في «الشعب».

(٢) ينظر الرازي : ٢ / ١١٣.

٤٤٢

قال القرطبي : «وليس في قوله تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤] دليل على أنه ليس فيها غير الناس والحجارة ، بدليل ما ذكره في غير موضع ، من كون الجن والشياطين فيها» وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كل مؤذ في النّار» (١) وفي تأويله وجهان :

أحدهما : كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار.

والثاني : أن كل ما يؤذي النّاس في الدنيا من السّباع والهوام وغيرها في النار معدّ لعقوبة أهل النار.

وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي للكافرين خاصّة.

روى مسلم عن العباس بن عبد المطّلب (٢) ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله ، إنّ أبا طالب (٣) كان يحوطك وينصرك ، فهل ينفعه ذلك؟ قال : «نعم ، وجدته في غمرات من النّار فأخرجته إلى ضحضاح» (٤).

وفي رواية : «ولو لا أنا لكان في الدّرك الأسفل من النار» ويدلّ على هذا التأويل قوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

وقال ابن الخطيب (٥) : وليس فيها ما يدلّ على أنه ليس هناك نيران أخر غير موصوفة بهذه الصّفة ، معدّة لفساق أهل الصلاة.

قوله تعالى : (أُعِدَّتْ) فعل لما لم يسمّ فاعله ، والقائم مقام الفاعل ضمير «النّار» ، والتاء واجبة ، لأن الفعل أسند إلى ضمير المؤنّث ، ولا يلتفت إلى قوله : [المتقارب]

__________________

(١) أخرجه الخطيب (١١ / ٢٩٩) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (٢ / ٧٤٩) وابن عساكر كما في «كنز العمال» (١٤ / ٥٢٣) رقم (٣٩٤٨٤) قال ابن الجوزي : هذا حديث لا يصح.

وقال المتقي الهندي في «الكنز» (١٤ / ٥٢٣) : قال المناوي : خبر غريب.

(٢) العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، أبو الفضل : من أكابر قريش في الجاهلية والإسلام ولد في ٥١ ق ه وهو جد الخلفاء العباسيين ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وصفه : أجود قريش كفا وأوصلها ، هذا بقية آبائي ، وهو عمه ، كان محسنا لقومه وعمي في آخر حياته توفي في ٣٢ ه‍.

ينظر نكت الهميان : ١٧٥ ، صفة الصفوة : ١ / ٢٠٣ ، ذيل المذيل : ١٠ ، ابن عساكر : ٧ / ٢٢٦ ، الخميس : ١ / ١٦٥ ، المرزباني : ٢٦٢ ، المحبر : ٦٣ ، الأعلام : ٣ / ٢٦٢.

(٣) عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم ، من قريش ، أبو طالب : والد علي رضي الله عنه ، وعم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكافله ومربيه ، ومناصره ، كان من أبطال بني هاشم ورؤسائهم ، ومن الخطباء العقلاء الأباة ، وله تجارة كسائر قريش ، نشأ النبي في بيته ، وسافر معه إلى الشام ، ودافع عن النبي أثناء الدعوة ولد سنة ٨٥ قبل الهجرة وتوفي سنة ٣ قبل الهجرة.

ينظر طبقات ابن سعد : ١ / ٧٥ ، ابن الأثير : ٢ / ٣٤ ، الأعلام : ٤ / ١٦٦.

(٤) أخرجه البخاري : ٧ / ٢٣٢ ، ٢٣٣ ، كتاب مناقب الأنصار باب قصة أبي طالب (٣٨٨٣) ، ومسلم والحميدي رقم (٤٦٠)

(٥) ينظر الرازي : ٢ / ١١٣.

٤٤٣

٣٠٤ ـ فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (١)

لأنه ضرورة ؛ خلافا لابن كيسان.

و «للكافرين» متعلّق به ، ومعنى «أعدّت» : هيّئت ؛ قال : [مجزوء الكامل]

٣٠٥ ـ أعددت للحدثان سا

بغة وعدّاء علندى (٢)

وقرىء (٣) : «أعتدت» من العتاد بمعنى العدة ، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ

__________________

(١) البيت لعامر بن جوين الطائي.

ينظر الكتاب لسيبويه : ٢ / ٤٦ ، والعيني : ٢ / ٤٦٤ ، وابن يعيش : ٥ / ٩٤ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٧١ ، والمغني : ٢ / ٦٥٦ رقم ٨٩٥ ، وابن الشجري : ١ / ١٥٨ ، ١٦١ ، ومجاز القرآن : ٢ / ٦٧ ، ١٢٤ ، والأخفش : ٥٥ / ٣٠٠ ، ومعاني القرآن للفراء : ١ / ١٢٧ ، والكامل : ٢ / ٢٧٩ ، ٣ / ٩١ ، المذكر والمؤنث للمبرد : ١١٢ ، والمسائل الشيرازيات : ص ٩ ، والإيضاح باب المذكر والمؤنث ، والخصائص : ٢ / ١١٤ ، والمحتسب : ٢ / ١١٢ ، والإفصاح لأبي نصر الفارقي : ٩٩ ، والتنبيه لعلي بن حمزة : ٣٠٣ ، البسيط في شرح جمل الزجاجي : ص ١ / ٢٦٥ ، وشرح أبيات سيبويه لابن السيرافي : ١ / ٥٥٧ ، فرحة الأديب : ١٠٢ ، إعراب القرآن للنحاس : ١ / ٦١٩ ، ما يجوز للشاعر في الضرورة : ١٠٢٣ ، الرد على النحاة : ٦٣ ، شرح المفصل : ٥ / ٩٤ ، ضرائر الشعر : ٢٧٥ ، رصف المباني : ١٦٦ ، شرح اللمحة البدرية : ٢ / ٢٩٢ ، والتصريح : ١ / ٢٧٨.

والأصل في اتّصال تاء التأنيث بالفعل ، إن كان الضمير المفرد مؤنثا ، تلحق الفعل علامة تفصل بين تأنيث الفاعل وتذكيره لا غير ، وهي التاء ؛ فتقول : هند قامت ؛ كما تقول : قامت هند ، فإن كان التأنيث لفظيا غير معنوي ، كنت في إثبات العلامة وحذفها مخيرا ، نحو : «قالت الأعراب» ، و «قال نسوة» ؛ لأن تأنيث الجماعة غير حقيقي ؛ وكذلك إذا وقع الفصل بينهما ، قال الله ـ تعالى ـ : (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ، وقال تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) ، ففصل بينهما بالمفعول ، وأثبت وحذف ، وقالت العرب : حضر القاضي اليوم امرأة ، فحذفوا مع الفصل في التأنيث الحقيقي. فإن تأخّر الفعل عن التأنيث غير الحقيقي ، لم تحذف العلامة إلا في ضرورة الشعر ، نحو :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

بتأويل : ولا مكان أبقل ؛ لأنك إذا أضمرت الفاعل صار الضمير بمنزلة جزء من الفعل ، ويقبح أن يكون الجزء مخالفا طبيعة كلّه في التذكير والتأنيث. (شرح اللمع لابن برهان العكبري ص ١ / ٤٤).

ومنهم من يرويه : ولا أرض أبقلت إبقالها ـ على تخفيف الهمزة من «إبقالها» ، وإلقاء حركتها على التاء من أبقلت ، ولا شاهد فيه على هذه الرواية ، وهذه الرواية من إصلاح بعض الرواة ، والذي أنشده الرواة هو الموجود في الكتب القديمة. (شرح أبيات سيبويه ١ / ٣٩٣) وقال ابن خلف : الشاهد أنه ذكر فيه «أبقل» مع أنه مسند إلى ضمير الأرض ؛ للضرورة حملا على المكان ، وهو قبيح. وقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب «النبات» عندما أنشد هذا البيت : إن الأرض تذكر وتؤنث ، وكذلك السماء فلا ضرورة فيه ، وزعم «الصاغاني» في «العباب» : أن الرواية «ولا روض أبقل إبقالها» ـ ولو كان البيت كذلك ، لقال : ولا روض أبقل إبقاله ، بتذكير الضمير ، مع أن سيبويه رواه : ولا أرض ، وهو ثقة والاعتماد عليه أكثر. (شرح أبيات المغني ص ٨ / ١٧).

(٢) البيت لعمرو بن معد يكرب. ينظر الحماسة : (١ / ١٠٤) ، الدر المصون : (١ / ١٥٦).

(٣) قرأ بها عبد الله بن مسعود.

انظر الشواذ ص ٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٥١ ، والدر المصون : ١ / ١٥٦.

٤٤٤

لها ؛ لكونها مستأنفة جوابا لمن قال : لمن أعدت (١)؟

وقال أبو البقاء : محلها النصب على الحال من «النار» ، والعامل فيها «اتقوا».

قيل : وفيه نظر ، فإنها معدة للكافرين اتقوا أم لم يتقوا ، فتكون حالا لازمة ، لكن الأصل في الحال التي ليست للتوكيد أن تكون منتقلة ، فالأولى أن تكون استئنافا.

قال أبو البقاء (٢) : ولا يجوز أن تكون حالا من الضمير في «وقودها» لثلاثة أشياء :

أحدها : أنها مضاف إليها.

الثاني : أن الحطب لا يعمل يعني أنه اسم جامد.

الثالث : الفصل بين المصدر أو ما يعمل عمله ، وبين ما يعمل فيه الخبر وهو «الناس» ، يعني أن الوقود بالضم ، وإن كان مصدرا صالحا للعمل ، فلا يجوز ذلك أيضا ؛ لأنه عامل في الحال ، وقد فصلت بيه وبينها بأجنبي ، وهو «الناس» وقال السّجستاني : «أعدّت للكافرين» من صلة «التي» كقوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

قال ابن الأنباري : وهذا غلط ؛ لأن «التي» هنا وصلت بقوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ) فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية ، بخلاف التي في «آل عمران».

قلت : ويمكن ألا يكون غلطا ؛ لأنا لا نسلم أن (وَقُودُهَا النَّاسُ) ـ والحالة هذه ـ صلة ، بل إما معترضة ، لأن فيها تأكيدا وإما حالا ، وهذان الوجهان لا يمنعهما معنى ، ولا صناعة.

قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥)

اعلم : أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ لمّا تكلّم في التوحيد والنّبوّة ، تكلّم بعدهما في المعاد ، وبيّن عقاب (٣) الكافر ، وثواب المطيع ، ومن عادة الله ـ تعالى ـ أنه إذا ذكر الوعيد ، أن يعقبه بذكر الوعد.

وهاهنا فصول :

الأوّل : هذه الآيات صريحة في أنّ الجنّة والنّار مخلوقتان ؛ لأنه ـ تعالى ـ [قال](٤) في صفة النّار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ، وقال في صفة الجنّة في آية أخرى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] ، وقال هاهنا : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) ، وهذا إخبار عن وقوع هذا الملك وحصوله ، وحصول الملك في الحال يقتضي حصول

__________________

(١) في أ : أعددت.

(٢) ينظر الإملاء : ١ / ٢٥.

(٣) في أ : عذاب.

(٤) سقط في أ.

٤٤٥

المملوك في الحال ؛ فدلّ على أنّ الجنّة والنّار مخلوقتان.

الثاني : مجامع اللّذّات : إما المسكن ، أو المطعم ، أو المنكح.

فوصف تعالى المسكن بقوله : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) والمطعم بقوله : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) والمنكح بقوله (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ).

ثم هذه الأشياء إن حصلت ، وقارنها خوف الزوال ، كان النّعيم منغّصا ، فبيّن ـ تعالى ـ زوال هذا الخوف بقوله : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) ؛ فدلّت الآية على كمال النّعيم والسّرور.

الثالث : قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) هذه الجملة معطوفة على ما قبلها ، عطف جملة ثواب المؤمنين ، على جملة ثواب الكافرين ، وجاز ذلك ؛ لأنّ مذهب سيبويه ـ وهو الصّحيح ـ : أنّه لا يشترط في عطف الجمل التّوافق معنى ، بل تعطف الطلبيّة على الخبرية ؛ وبالعكس ؛ [بدليل](١) قوله : [الطويل]

٣٠٦ ـ تناغي غزالا عند باب ابن عامر

وكحّل أماقيك الحسان بإثمد (٢)

وقول امرىء القيس : [الطويل]

٣٠٧ ـ وإنّ شفائي عبرة مهراقة

وهل عند رسم دارس من معوّل (٣)؟

وقال ابن الخطيب : ليس الّذي اعتمد بالعطف هو الأمر ، حتى يطلب له مشاكل من أمر ونهي يعطف عليه ، إنما المعتمد بالعطف هو جملة ثواب المؤمنين ؛ فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والضرب وبشّر عمرر بالعفو والإطلاق.

وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون عطفا على «فاتّقوا» ليعطف أمرا على أمر ، وهذا قد رده أبو حيان بأن «فاتقوا» جواب الشرط ، فالمعطوف يكون جوابا ؛ لأن حكمه حكمه ، ولكن لا يصح ؛ لأن تبشيره للمؤمنين لا يترتب على قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا).

وقرىء : «وبشّر» [ماضيا] مبنيّا للمفعول.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) البيت لحسان بن ثابت. ينظر ديوانه : ص ١٣٤ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨٧٢ ، شرح الأشموني : ٢ / ٤٣٤ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٤٨٣ ، الدر المصون : (١ / ١٥٧).

(٣) ينظر ديوانه : ٩ ، وخزانة الأدب : ٣ / ٤٤٨ ، ٥ / ٢٧٧ ، و ٢٨٠ ، والدرر : ٥ / ١٣٩ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٢٥٧ ، شرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٤٩ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٧٧٢ ، والكتاب : ٢ / ١٤٢ ، ولسان العرب [عول][هلل] ، والمنصف : ٣ / ٤٠ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٤٣٤ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٨٧٢ ، مغني اللبيب : ٢ / ٣٥٠ ، همع الهوامع : ٤ / ٧٧ ، وشرح التبريزي على المعلقات : (٥٧) ، والشنقيطي : (٥٩) ، والمقتضب : ٤ / ٧٤ ، والدر المصون : ١ / ١٥٧.

٤٤٦

وقال الزمخشري : «وهو عطف على أعدت».

قيل : وهذا لا يتأتى على إعراب «أعدت» حالا ؛ لأنها لا تصلح للحالية.

وقيل : عطفها على «أعدت» فاسد ؛ لأن «أعدت» صلة «التي» ، والمعطوف على الصلة صلة ، ولا يصلح أن يقال : «الباء» التي بشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنّات ، إلّا أن يعتقد أن قوله : أعدّت» مستأنف ، والظاهر أنّه من تمام الصلة ، وأنّه حال من الضمير في «وقودها» ، والمأمور بالبشارة يجوز أن يكون الرسول عليه‌السلام ، وأن يكون كلّ سامع ، كما قال عليه‌السلام : «بشّر المشّائين إلى المساجد في الظّلم بالنّور التّامّ يوم القيامة» (١) ، لم يأمر بذلك أحدا بعينه ، وإنّما كل أحد مأمور به.

و «البشارة» : أوّل خبر من خير أو شرّ ؛ قالوا : لأنّ أثرها يظهر في البشرة ، وهي ظاهر جلد الإنسان ؛ وأنشدوا : [الوافر]

٣٠٨ ـ يبشّرني الغراب ببين أهلي

فقلت له : ثكلتك من بشير (٢)

وقال آخر : [الطويل]

٣٠٩ ـ وبشّرتني يا سعد أنّ أحبّتي

جفوني وأنّ الودّ موعده الحشر (٣)

وهذا رأي سيبويه (٤) ، إلّا أنّ الأكثر استعمالها في الخير ، وإن استعملت في الشّرّ فبقيد ؛ كقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ) [آل عمران : ٢١] وإن أطلقت ، كان للخير.

وقال البغويّ : «البشارة كل خبر صدق».

وقال ابن الخطيب : إنّها الخبر الذي يظهر السرور ، ولهذا قال الفقهاء : إذا قال لعبيده : أيّكم يبشّرني بقدوم فلان فهو حرّ ، فبشّروه فرادى ، عتق أولهم ؛ لأنّه هو الذي أفاد خبره السرور. ولو قال مكان «بشّرني» : أخبرني عتقوا جميعا؟ لأنّهم جميعا أخبروه ، وظاهر كلام الزمخشري أنّها تختص بالخير ؛ لأنّه تأوّل (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ) على العكس في

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في «الكبير» (١٢ / ٣٥٨) وابن عساكر : (٢ / ٥١) والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٢ / ٣٣) وقال : وفيه العباس بن عامر الضبي ولم أجد من ترجمه وبقية رجاله موثقون وأخرجه الترمذي (٢٢٣) وأبو داود (١ / ٢٢٠) وابن ماجه (٧٨١) عن بريدة الأسلمي مرفوعا بلفظ : بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة وقال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه.

وللحديث شواهد انظرها في «مجمع الزوائد» (١ / ٣ / ٣١).

(٢) ينظر البحر المحيط : (١ / ٢٥٣) ، الدر المصون : (١ / ١٥٧).

(٣) البيت لسلمة بن يزيد الجعفي ينظر الدرر : ٤ / ١٨٢ ، سمط اللآلي : ص ٧٠٨ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١٠٨١ ، المقاصد النحوية : ٣ / ٢٧٣ ، وليلى بنت سلمى في حماسة البحتري : ص ٣٧٤ ، همع الهوامع : ٢ / ٣٥ ، والدر المصون : ١ / ١٥٧.

(٤) ينظر الكتاب : ٢ / ١٠٧ ، ٢٢٧.

٤٤٧

الكلام الذي يقصد به الزيادة في غيظ المستهزأ به وتألّمه ، كما يقول الرّجل لعدوّه : أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك.

والفعل منها بشر وبشّر مخففا ومثقلا ، فالتثقيل للتكثير بالنسبة إلى البشيرة.

وقد قرىء (١) المضارع مخففا ومشدّدا.

وأمّا الماضي فلم يقرأ به إلّا مثقلا نحو (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) [هود : ٧١] وفيه لغة أخرى : أبشر مثل أكرم.

وأنكر أبو حاتم التخفيف ، وليس بصواب لمجيء مضارعه.

وبمعنى البشارة : البشور والتّبشير والإبشار ، وإن اختلفت أفعالها ، والبشارة أيضا : الجمال ، والبشير : الجميل ، وتباشير الفجر أوائله.

وكون صلة «الّذين» فعلا ماضيا دون كونه اسم فاعل ، دليل على أنه يستحقّ التبشير بفضل الله ممن وقع منه الإيمان ، وتحقّق به وبالأعمال الصالحة.

و «الصّالحات» : جمع «صالحة» ، وهي من الصفات التي جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل ؛ قال : [البسيط]

٣١٠ ـ كيف الهجاء وما تنفكّ صالحة

من آل لأم بظهر الغيب تأتيني (٢)

وعلامة نصبه الكسرة ؛ لأنّه من باب جمع المؤنث السالم نيابة عن الفتحة ، التي هي أصل النّصب.

قال معاذ (٣) : «العمل الصالح الذي فيه أربعة أشياء : العلم والنّيّة والصّبر والإخلاص».

وقال عثمان بن عفّان : «أخلصوا الأعمال».

فصل

قال ابن الخطيب (٤) : هذه الآية تدلّ على أنّ الأعمال غير داخلة في الإيمان ؛ [لأنّه لمّا ذكر الإيمان](٥) ، ثمّ عطف عليه العمل الصالح ، فوجب التغير وإلا لزم التكرار ، وهو خلاف الأصل.

قوله : (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ).

__________________

(١) انظر السبعة : ٢٠٥ ، والدر المصون : ١ / ١٥٧.

(٢) البيت للحطيئة. ينظر ديوانه : (٨٦) ، الكشاف : ٤ / ٥٤٧ ، الدر المصون : ١ / ١٥٨.

(٣) في أ : قتادة.

(٤) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ١١٧.

(٥) سقط في أ.

٤٤٨

«جنّات» : اسم : «أنّ». و «لهم» خبر مقدّم. ولا يجوز تقديم خبر «أنّ وأخواتها إلّا ظرفا أو حرف جرّ ، و «أنّ» وما في حيّزها (١) في محل جرّ عند الخليل والكسائي ، ونصب عند سيبويه والفرّاء ؛ لأنّ الأصل : وبشّر الذين آمنوا بأنّ لهم ، فحذف حرف الجرّ مع «أنّ» ، وهو حذف مطّرد معها ، ومع «أنّ» الناصبة للمضارع ، بشرط أمن اللّبس ، بسبب طولهما بالصلة ، فلمّا حذف حرف الجرّ ، جرى الخلاف المذكور ، فالخليل والكسائيّ يقولان : «كأنّ الحرف موجود ، فالجرّ باق».

واستدلّ الأخفش لهما بقول الشّاعر : [الطويل]

٣١١ ـ وما زرت ليلى أن تكون حبيبة

إليّ ولا دين بها أنا طالبه (٢)

فعطف «دين» بالجرّ على محلّ «أن تكون» يبيّن كونها مجرورة.

قيل : «ويحتمل أن يكون من باب عطف التّوهّم ، فلا دليل فيه».

والفرّاء وسيبويه يقولان : وجدناهم إذا حذفوا حرف الجرّ ، نصبوا ؛ كقوله : [الوافر]

٣١٢ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

كلامكم عليّ إذن حرام (٣)

أي : بالدّيار ، ولا يجوز الجرّ إلّا في نادر شعر ؛ كقوله : [الطويل]

٣١٣ ـ إذا قيل : أيّ النّاس شرّ قبيلة؟

أشارت كليب بالأكف الأصابع (٤)

أي : إلى كليب ؛ وقول الآخر : [الكامل]

٣١٤ ـ ...........

حتّى تبذّخ فارتقى الأعلام (٥)

أي : إلى الأعلام.

__________________

(١) في أ : خبرها.

(٢) البيت للفرزدق ينظر ديوانه : ١ / ٨٤ ، والكتاب : ٣ / ٢٩ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٠٣ ، ولسان العرب (حنطب) ، وتخليص الشواهد : ص ٥١١ ، والدرر : ٥ / ١٨٣ ، وسمط اللآلي : ص ٥٧٢ ، وشرح شواهد المغني : ص ٨٨٥ ، والإنصاف : ص ٣٩٥ ، والمقاصد النحوية : ٢ / ٥٥٦ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني : ١ / ١٩٧ ، ومغني اللبيب : ص ٥٢٦ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٨١.

(٣) تقدم برقم (١٥٩).

(٤) البيت للفرزدق ينظر ديوانه : ١ / ٤٢٠ ، وتخليص الشواهد : ص ٥٠٤ ، وخزانة الأدب : ٩ / ١١٣ ، ١١٥ ، والدرر : ٤ / ١٩١ ، وشرح التصريح : ١ / ٣١٢ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ١٢ ، والمقاصد النحوية : ٢ / ٥٤٢ ، وأوضح المسالك : ٢ / ١٧٨ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٩٦ ، وشرح ابن عقيل : ص ٣٧٤ ، ومغني اللبيب : ١ / ٦١ ، ٢ / ٦٤٣ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٣٦ ، ٨١ ، والدر المصون : ١ / ١٥٨.

(٥) عجز بيت وصدره :

وكريمة من آل قيس ألفته

ينظر الهمع : (٢ / ٣٦) ، الدر المصون : (٤ / ١٩٢) ، شرح الأشموني : (٢ / ٣٠٠) ، شرح ابن عقيل : ص (٣٧٥) ، لسان العرب (ألف) ، المقاصد النحوية : ٣ / ٣٤١ ، الدر المصون : (١ / ١٥٨).

٤٤٩

و «الجنّة» : البستان.

وقيل : الأرض ذات الشّجر ، سمّيت بذلك لسترها من فيها ، ومنه «الجنين» لاستتاره ، و «المجنّ» : التّرس ، وكذلك «الجنّة» لأنّه يستر صاحبه ، و «الجنّة» لاستتارهم عن أعين النّاس.

قال الفرّاء : «الجنّة» ما فيه النخيل ، و «الفردوس» : ما فيه الكرم.

فإن قيل : لم نكّرت «الجنّات» وعرّفت «الأنهار»؟ فالجواب : أنّ «الجنّة» اسم لدار الثّواب كلها ، وهي مشتملة على جنّات كثيرة مرتبة مراتب على استحقاقات العاملين ، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنّات.

وأمّا تعريف «الأنهار» ، فالمراد به الجنس ، كما يقال : لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب ، يشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب ، أو يشار باللام إلى أنهار مذكورة في قوله : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد : ١٥].

قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هذه الجملة في محلّ نصب ، لأنّها صفة ل «جنّات».

و «تجري» مرفوع لتجرّده من الناصب والجازم ، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة في «الياء» استثقالا ، وكذلك تقدّر في كلّ فعل معتلّ نحو : «يدعو» ، و «يخشى» ، إلّا أنّها تقدّر في «الألف» تعذّرا.

«من تحتها» أي : من تحت أشجارها ومساكنها.

وقيل : من تحتها أي : بأمرهم.

كقول فرعون : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١] أي : بأمري.

و «الأنهار» : جمع نهر بالفتح ، وهي اللّغة العالية ، وفيه تسكين «الهاء» ولكن أفعال» لا ينقاس في «فعل» السّاكن العين ، بل يحفظ نحو : «أفراخ» ، و «أزناد» ، و «أفراد».

و «النّهر» : دون البحر ، وفوق الجدول ، وهل هو مجرى الماء ، أو الماء الجاري نفسه؟

والأوّل أظهر ؛ لأنّه مشتقّ من «نهرت» أي : وسّعت.

قال قيس بن الخطيم يصف طعنة : [الطويل]

٣١٥ ـ ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها

 ........... (١)

__________________

(١) تقدم برقم (٤٩).

٤٥٠

أي : وسّعت.

ومنه : «النّهار» لاتّساع ضوئه ، وإنّما أطلق على الماء مجازا إطلاقا للمحلّ على الحالّ.

ومنه قوله عليه‌السلام : «ما أنهر الدّم» (١) معناه : ما وسّع الذّبح ؛ حتّى يجري الدّم كالنّهر ، وجمع النّهر : نهر وأنهار ، ونهر نهر : كثير الماء.

قال أبو ذؤيب (٢) : [المتقارب]

٣١٦ ـ أقامت به وابتنت خيمة

على قصب وفرات نهر (٣)

وروي أنّ أنهار الجنة ليست في أخاديد ، إنّما تجري على سطح الجنّة منبسطة بالقدرة ، والوقف على «الأنهار» حسن وليس بتامّ و «من تحتها» متعلق ب «تجري» ، و «تحت» مكان لا يتصرّف ، وهو نقيض «فوق» ، إذا أضيفا أعربا ، وإذا قطعا بنيا على الضّمّ. و «من» لابتداء الغاية.

وقيل : زائدة.

وقيل : بمعنى «في» ، وهما ضعيفان.

واعلم أنّه إذا قيل بأنّ الجنّة هي الأرض ذات الشّجر ، فلا بدّ من حذف مضاف ، أي : من تحت عذقها أو أشجارها.

وإن قيل : بأنّها الشّجر نفسه ، فلا حاجة إلى ذلك.

وإذا قيل بأنّ الأنهار اسم للماء الجاري فنسبة الجري إليه حقيقة ، [وإن قيل بأنّه اسم للأخدود الذي يجري فيه ، فنسبة الجري إليه](٤) مجاز ؛ كقول مهلهل (٥) : [الكامل]

__________________

(١) أخرجه البخاري (٥ / ١٥٥ ـ ١٥٦) «كتاب الشركة» باب قسمة الغنائم (٢٤٨٨ ، ٢٥٠٧ ، ٣٠٧٥ ، ٥٤٩٨ ، ٥٥٠٣ ، ٥٥٠٦ ، ٥٥٠٩ ، ٥٥٤٣ ، ٥٥٤٤) ومسلم (٣ / ١٥٥٩) (٢٢ / ١٩٦٨) وأبو داود (٢٨٢١) والترمذي (١ / ٢٨١) وابن ماجه (٣١٧٨ ، ٣١٨٣) والنسائي (٢ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧) وأحمد (٤ / ١٤٠) وابن الجارود (٨٩٥) والبيهقي (٩ / ٢٤٦ ، ٢٤٧ ، ٢٨١).

ومن حديث مري بن قطري عن عدي بن حاتم بلفظ : أنهر الدم بما شئت واذكر اسم الله عزوجل.

أخرجه أبو داود (٢٨٢٤) والنسائي (٢ / ٢٠٦) وابن ماجه (٣١٧٧) والحاكم (٤ / ٢٤٠) وقال : صحيح على شرط مسلم.

(٢) خويلد بن خالد بن محرث أبو ذؤيب ، من بني هذيل بن مدركة من مضر : شاعر فحل مخضرم ، أدرك الجاهلية والإسلام ، وسكن المدينة ، واشترك في الغزو والفتوح ، وعاش إلى أيام عثمان ، قال البغدادي : هو أشعر هذيل من غير مدافعة ، وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة وفاته فأدركه وهو مسجى وشهد دفنه. ينظر الأعلام : ٢ / ٣٢٥ (٣٩٧٤) ، الأغاني : ٦ / ٥٦ ، الشعر والشعراء : ٢٥٢ ، خزانة البغدادي : ١ / ٢٠٣.

(٣) ينظر ديوان الهذليين : ١ / ١٤٦.

(٤) سقط في أ.

(٥) عدي بن ربيعة بن مرة بن هبيرة ، من بني جشم ، من تغلب ، أبو ليلى ، المهلهل شاعر من أبطال ـ

٤٥١

٣١٧ ـ نبّئت أنّ النّار بعدك أوقدت

واستبّ بعدك يا كليب المجلس (١)

قال أبو حيّان (٢) : وقد ناقض ابن عطية كلامه هنا ، فإنّه قال : «والأنهار : المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة» ثمّ قال : نسب الجري إلى النّهر ، وإنّما يجري الماء وحده توسّعا وتجوّزا ، كما قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وكما قال : [الكامل]

٣١٨ أ ـ نبّئت أنّ النّار ...

 ........... (٣)

والألف واللّام في «الأنهار» للجنس.

وقيل : للعهد لذكرها في سورة القتال.

وقال الزمخشري : يجوز أن تكون عوضا من الضّمير كقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] أي : «أنهارها» يعنى أنّ الأصل : واشتعل رأسي ، فعوّض «أل» عن ياء المتكلم ، وهذا ليس مذهب البصريين ، بل قال به بعض الكوفيّين ؛ وهو مردود بأنّه لو كانت «أل» عوضا من الضمير ، لما جمع بينهما ، وقد جمع بينهما ؛ قال النّابغة : [الطويل]

٣١٨ ب ـ رحيب قطاب الجيب منها رقيقة

بجسّ النّدامى بضّة المتجرّد (٤)

فقال : الجيب منها ، وأمّا ما ورد ، وظاهره ذلك ، فيأتي تأويله في موضعه.

قوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ).

تقدّم القول في «كلّما» وهذا لا يخلو إمّا أن يكون صفة ثانية ل «جنّات تجري» ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة ؛ لأنّه لمّا قيل : «أنّ لهم جنّات» لم يخل قلب السّامع أن يقع فيه أنّ ثمار تلك الجنّات تشبه ثمار الدّنيا أم لا؟

والعامل في «كلّما» هاهنا «قالوا».

و «منها» متعلّق ب «رزقوا» ، و «من» لابتداء الغاية ، وكذلك «من ثمرة» ، لأنّها بدل من قوله : «منها» بدل اشتمال بإعادة العامل.

__________________

ـ العرب في الجاهلية من أهل نجد وهو خال امرىء القيس الشاعر قيل لقب مهلهلا لأنه أول من هلهل نسج الشعر أي رققه وكان من أصبح الناس وجها ومن أفصحهم لسانا عكف في صباه على اللهو والتشبيب بالنساء ، فسماه أخوه كليب زير النساء أي جليسهن ، ولما قتل جساس بن مرة كليبا ثار المهلهل فانقطع عن الشراب واللهو وآلى أن يثأر لأخيه فكانت وقائع بكر وتغلب التي دامت أربعين سنة وكانت للمهلهل فيها العجائب والأخبار الكثيرة أما شعره فعالي الطبقة.

ينظر الأعلام : ٤ / ٢٢٠ (١٤٨٧) ، الشعر والشعراء : ٩٩ ، جمهرة أشعار العرب : ١١٥.

(١) ينظر أمالي القالي : (١ / ٩٥) ، مجالس ثعلب : (١ / ٣٧) ، القرطبي : (١ / ٢٣٩) ، الدر المصون : (١ / ١٥٩).

(٢) ينظر البحر المحيط : ١ / ٢٥٦.

(٣) تقدم قريبا.

(٤) البيت لطرفة في معلقته ، وليس للنابغة كما قال المؤلف. ينظر ديوانه : ص ١٣٠ ، خزانة الأدب : ٤ / ٣٠٣ ، ٨ / ٢٢٨ ، والمحتسب : ١ / ١٨٣ ، وشرح التصريح : ٢ / ٨٣.

٤٥٢

وإنّما قلنا : إنه بدل اشتمال ؛ لأنّه لا يتعلّق حرفان بمعنى واحد بعامل واحد ، إلّا على سبيل البدلية ، أو العطف.

وأجاز الزّمخشري أنّ «من» للبيان كقولك : «رأيت منك أسدا» ؛ وفيه نظر ؛ لأنّ من شرط ذلك أن يحلّ محلّها موصول ، وأن يكون ما قبلها محلّى ب «أل» الجنسية ، وأيضا فليس قبلها شيء يتبيّن بها ، وكونها بيانا لما بعدها بعيد جدا ، وهو غير المصطلح.

«رزقا» مفعول ثان ل «رزقوا» ، وهو بمعنى «مرزوق» ، وكونه مصدرا بعيد ؛ لقوله : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ، والمصدر لا يؤتى به متشابها ، وإنما يؤتى بالمرزوق كذلك.

قوله : (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ).

«قالوا» : هو العامل في «كلما» كما تقدّم ، و «هذا الّذي رزقنا» مبتدأ وخبر في محل نصب بالقول ، وعائد الموصول محذوف ؛ لاستكماله الشّروط ، أي : رزقناه.

و «من قبل» متعلّق به.

و «من» لابتداء الغاية ، ولمّا قطعت «قبل» بنيت [وإنما بنيت](١) على الضّمّة ؛ لأنها حركة لم تكن لها حال إعرابها.

واختلف في هذه الجملة ، فقيل : لا محلّ لها من الإعراب؟ لأنّها استئنافية ، فإنّه قيل : لما وصفت الجنّات ما حالها؟

فقيل : كلّما رزقوا قالوا.

وقيل : لها محلّ ، ثمّ اختلف فيه ، فقيل : رفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف ، واختلف في ذلك المبتدأ ، فقيل : ضمير «الجنّات» ، أي : هي كلّما وقيل ضمير «الّذين آمنوا» أي : هم كلّما رزقوا قالوا ذلك.

وقيل : محلّها نصب على الحال ، وصاحبها : إمّا «الذين آمنوا» ، وإمّا «جنات» ، وجاز ذلك ، وإن كانت نكرة ؛ لأنها تخصصت بالصفة ، وعلى هذين تكون حالا مقدّرة ؛ لأنّ وقت البشارة بالجنّات لم يكونوا مرزوقين ذلك.

وقيل : محلّها نصب على أنّها صفة ل «جنات» أيضا.

فصل في المشبه به في الآية

الآية تدلّ على أنّهم شبّهوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنّة برزقهم قبل ذلك ، فالمشبّه به أهو من أرزاق الدنيا ، أم من أرزاق الآخرة؟ ففيه وجهان :

__________________

(١) سقط في ب.

٤٥٣

أحدهما : أنّه من أرزاق الدنيا ، وفيه وجهان :

أحدهما : هذا الذي وعدنا به في الدّنيا.

والثّاني : هذا الذي رزقنا في الدنيا ، لأنّ لونه يشبه لون ثمار الدّنيا ، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك.

الوجه الثاني : أنّ المشبّه به ثمار الآخرة ، واختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين :

الأول : المراد تساوي ثوابهم في كلّ الأوقات في القدر (١) والدرجة ؛ حتّى لا يزيد ولا ينقص.

الثاني : المراد المشابهة في المنظر ، فيكون الثاني كأنّه الأوّل على ما روي عن الحسن ، ثمّ هؤلاء اختلفوا (٢) ، فمنهم من يقول : الاشتباه كما يقع في المنظر يقع في الطّعم. ومنهم من يقول : وإن حصل الاشتباه في اللّون ، لكنّها تكون مختلفة في الطّعم.

قال الحسن : يؤتى أحدهم بالصّحفة فيأكل منها ، ثمّ يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل ، فيقول الملك : «كل فاللّون واحد ، والطعم مختلف».

فإن قيل : قوله : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها) مع قوله : (قالُوا : هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ـ هذا صيغة عموم ، فيشمل كلّ الأوقات التي رزقوا فيها ، فيدخل فيه أوّل مرّة رزقوا في الجنّة ، فلا بدّ وأن يقولوا : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) فما الجواب على قولنا بأنّ المشبّه به ثمار الآخرة؟ والجواب أنّ عمل ذلك على ما وعدوا به في الدّنيا ، أو يكون تقدير الكلام : هذا الّذي رزقنا في الأزل.

قوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) الظاهر أنّها جملة مستأنفة.

وقال الزمخشريّ فيها : هو كقولك : «فلان أحسن بفلان» ونعم ما فعل ، ورأى من الرّأي كذا ، وكان صوابا.

ومنه : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل : ٣٤].

وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير ، يعني بكونها معترضة ، أي من أحوال أهل الجنّة ، فإنّ بعدها : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) ، وإذا كانت معترضة فلا محلّ لها. وقيل : هي عطف على «قالوا».

وقيل : محلّها النّصب على الحال ، وصاحبها فاعل «قالوا» أي : قالوا هذا الكلام في

__________________

(١) في أ : الوقت.

(٢) أخرج الطبري في «تفسيره» (١ / ٣٨٩) عن الحسن قال : «وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» قال : يشبه بعضه بعضا ، ليس فيه من رذل.

٤٥٤

هذا الحال ، ولا بدّ من تقدير «قد» قبل الفعل ، أي : «وقد أتوا» ، وأصل أتوا : أتيوا مثل : ضربوا ، فأعلّ كنظائره.

[وقرأ هارون](١) الأعور : «وأتوا» (٢) مبنيّا للفاعل ، والضّمير للولدان والخدم للتصريح بهم في غير موضع ، والضمير في «به» يعود على المرزوق الذي هو الثمرات ، كما أن هذا إشارة إليه. وقال الزمخشري : «يعود إلى المرزوق في الدّنيا والآخرة ؛ لأنّ قوله : (الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدّارين.

ونظير ذلك قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً ، فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥]».

أي : بجنسي الغنيّ والفقير المدلول عليهما بقوله : (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) ويعني بقوله : «انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدّارين» أنّه لمّا كان التقدير : مثل الّذي رزقناه كان قد انطوى على المرزوقين معا ، كما أنّ قولك : «زيد مثل حاتم» منطو على زيد وحاتم.

قال أبو حيّان : «وما قاله غير ظاهر ؛ لأنّ الظاهر عوده على المرزوق في الآخرة فقط ؛ لأنّه هو المحدّث عنه ، والمشبّه بالّذي رزقوه من قبل ، لا سيما إذا فسّرت القبلية بما في الجنّة ، فإنّه يتعيّن عوده على المرزوق في الجنّة فقط ، وكذلك إذا أعربت الجملة حالا ؛ إذ يصير التقدير : قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل وقد أتوا به ؛ لأنه الحامل لهم على هذا القول ، كأنّه أتوا به متشابها وعلى تقدير أن يكون معطوفا على قالوا ، لا يصحّ عوده على المرزوق في الدّارين ؛ لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضيا معنى ؛ لأنّ العامل في «كلّما» أو ما في حيزها يحتمل هنا أن يكون مستقبل المعنى ؛ لأنها لا تخلو من معنى الشرط ، وعلى تقدير كونها مستأنفة لا يظهر ذلك أيضا ، لأنّ هذه محدّث بها عن الجنّة وأحوالها».

قوله : (مُتَشابِهاً) حال من الضّمير في «به» ، أي : يشبه بعضه في المنظر ، ويختلف في الطعم (٣) ، قاله ابن عبّاس ، ومجاهد ، والحسن وغيرهم رضي الله ـ تعالى ـ عنهم.

وقال عكرمة : «يشبه ثمر الدّنيا ، ويباينه في جل الصّفات» (٤).

__________________

(١) في ب : وقرأها.

(٢) بها قرأ هارون الأعور والعتكي.

انظر البحر المحيط : ١ / ٢٥٨ ، والدر المصون : ١ / ١٦٠.

(٣) هذه الآثار أخرجها الطبري في «تفسيره» (١ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠ ـ ٣٩١ ـ ٣٩٢).

وذكرها الطبري في الدر المنثور (١ / ٨٣) وعزاها لوكيع وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد ولعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ٣٩١).

٤٥٥

قال ابن عبّاس : «هذا على وجه التّعجّب ، وليس في الدّنيا شيء مما في الجنّة سوى الأسماء ، فكأنّهم تعجّبوا لما رأوه من حسن الثّمرة ، وعظم خالقها».

وقال قتادة : «خيارا لا رذل (١) فيه (٢) ، كقوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه ؛ لأنّ فيها خيارا وغير خيار».

قوله : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) «لهم» خبر مقدّم ، وأزواج مبتدأ ، و «فيها» متعلّق بالاستقرار الذي تعلّق به الخبر.

قال أبو البقاء : «لا يكون فيها الخبر ، لأنّ الفائدة تقل ؛ إذ الفائدة في جعل الأزواج لهم».

وقوله : «مطهّرة» صفة ، وأتى بها مفردة على حدّ : النساء طهرت ومنه بيت الحماسة : [الكامل]

٣١٩ ـ وإذا العذارى بالدّخان تلفّعت

واستعجلت نصب القدور فملّت (٣)

وقرأ (٤) زيد بن عليّ (٥) : «مطهّرات» على حدّ : النساء طهرن.

وقرأ (٦) عبيد بن عمير (٧) : «مطهّرة» يعني : متطهّرة.

والزوج ما يكون معه آخر ، ويقال زوج للرّجل والمرأة ، وأمّا «زوجة» فقليل.

قال الأصمعيّ : لا تكاد العرب تقول : زوجة ، ونقل الفرّاء أنّها لغة «تميم» ، وأنشد للفرزدق : [الطويل]

٣٢٠ ـ وإنّ الّذي يسعى ليفسد زوجتي

كساع إلى أسد الشّرى يستبيلها (٨)

__________________

(١) في أ : بذل.

(٢) أخرجه الطبري : (١ / ٣٩٠) عن قتادة.

(٣) البيت لسلمى بن ربيعة. ينظر خزانة الأدب : ٨ / ٢٦ ، ٤٤ ، والدرر : ١ / ١٨٤ ، وشرح ديوان الحماسة : ص ٥٥ ، وشرح المفصل : ٥ / ١٠٥ ، ونوادر أبي زيد : ص ١٢١ ، ولعلباء بن أرقم في الأصمعيات : ص ١٦٢ ، وشرح اختيارات المفضل : ص ٨١٦ ، وهمع الهوامع : ١ / ٦٠ ، والدر المصون : ١ / ١٦١.

(٤) قرأ بها زيد بن علي.

انظر تفسير الرازي : ٢ / ١٢١ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٦٠ ، والدر المصون : ١ / ١٦١.

(٥) زيد بن علي بن أحمد بن محمد بن عمران بن أبي بلال أبو القاسم العجلي الكوفي شيخ العراق إمام حاذق ثقة توفي زيد ببغداد سنة ثمان وخمسين وثلاثة مائة. ينظر الغاية : ١ / ٢٩٨ (١٣٠٨).

(٦) انظر البحر المحيط : ١ / ٢٦٠ ، والرازي : ٢ / ١٢١.

(٧) عبيد بن عمير بن قتادة أبو عاصم الليثي المكي القاضي ذكر ثابت البناني أنه قص على عهد عمر رضي الله عنه ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن روى عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب روى عنه مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار ، قال مسلم ولد في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال مجاهد كنا نفخر على الناس بأربعة بفقيهنا وبقارئنا وبقاضينا ومؤذننا بفقيهنا ابن عباس ، وقارئنا عبد الله بن السائب وقاضينا عبيد بن عمير ، ومؤذننا أبو محذورة. مات سنة أربع وسبعين. ينظر الغاية : ١ / ٤٩٦ ، ٤٩٧ (٢٠٦٤).

(٨) ينظر ديوانه : (١٣٨) ، الأضداد : (٣٢٧) ، الدر المصون : (١ / ١٦١).

٤٥٦

وفي الحديث عن عمّار بن ياسر (١) في حقّ عائشة (٢) رضي الله تعالى عنهما : «إنّي لاعلم أنّها زوجته في الدّنيا والآخرة» ذكره البخاريّ (٣) رضي الله عنه ، واختاره الكسائيّ.

والزّوج أيضا : الصّنف (٤) ، والتثنية : زوجان.

والطّهارة : النظافة ، والفعل منها طهر بالفتح ، ويقلّ الضّم ، واسم الفاعل منها «طاهر» فهو مقيس على الأوّل ، شاذّ على الثّاني ، ك «خاثر» و «حامض» من خثر اللبن وحمض بضمّ (٥) العين. فإن قيل : هلّا قيل : طاهرة ، الجواب : في المطهّرة إشعار بأنّ مطهّرا طهّرهنّ ، وليس ذلك إلّا الله تعالى ، وذلك يفيد فخامة أمر أهل الثواب ، كأنّه قيل : إنّ الله ـ تعالى ـ هو الّذي زيّنهنّ.

قال مجاهد : «لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يلدن ولا يحضن ، ولا يمنين ولا يبغضن».

وقال بعضهم : «مطهّرة في اللغة أجمع من طاهرة وأبلغ».

__________________

(١) عمار بن ياسر بن عامر بن الحصين بن قيس بن ثعلبة بن عوف بن يام بن عنس العنسي أبو اليقظان مولى بني مخزوم ، صحابي جليل شهد بدرا والمشاهد ، وكان أحد السابقين الأولين. له اثنان وستون حديثا ، اتفقا على حديثين ، وانفرد البخاري بثلاث ومسلم بحديث. وعنه ابنه محمد وابن عباس وأبو وائل ، قال علي : استأذن عمار فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرحبا بالطيب المطيب. قتل بصفين مع علي رضي الله عنه.

ينظر الخلاصة : ٢ / ٢٦١ ، طبقات ابن سعد : ٣ / ١ / ١٧٦ ، تاريخ بغداد : ١ / ١٥٠ ، دول الإسلام : ١ / ٢٨ ، سير أعلام النبلاء : ١ / ٤٠٦.

(٢) عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما التيمية أم المؤمنين ، حبيبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لها ألفان ومائتان وعشرة أحاديث وعنها مسروق والأسود وابن المسيب وعروة والقاسم وخلق. قال عليه‌السلام «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» وقال عروة : ما رأيت أعلم بالشعر من عائشة ، وقال القاسم : كانت تصوم الدهر ، وقال هشام بن عروة : توفيت سنة سبع وخمسين ودفنت بالبقيع. ينظر ترجمتها في تهذيب التهذيب : (١٢ / ٤٣٣ رقم ٢٨٤١) ، التقريب : ٢ / ٦٠٦ ، أسماء الصحابة الرواة : ت / ٤. الثقات : ٣ / ٣٢٣. أسد الغابة : ٧ / ١٨٨ ، أعلام النساء : ٣ / ٩ ، تنوير قلوب المسلمين : ٩٤ ، ١١٦ ، السمط الثمين : ٣٣ ، الدر المنثور : ٢٨ ، الاستيعاب : ٤ / ١٨٨١. الاصابة : ٤ / ٣٤٨ ، ٨ / ١٦. تجريد أسماء الصحابة : ٢ / ٢٨٦.

(٣) محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري ، أبو عبد الله : حبر الإسلام والحافظ لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صاحب «الجامع الصحيح» و «التاريخ» و «الضعفاء» و «خلق أفعال العباد» و «الأدب المفرد» ، ولد في بخارى ١٩٤ ه‍ ، ونشأ يتيما ، وقام برحلة طويلة (سنة ٢١٠) في طلب الحديث ، فزار خراسان والعراق ومصر والشام ، وسمع من نحو ألف شيخ ، وجمع نحو ست مئة ألف حديث ، اختار منها في صحيحه ما وثق بروايته. توفي سنة ٢٥٦ ه‍

ينظر الأعلام : ٦ / ٣٤ ، تذكرة الحفاظ : ٢ / ١٢٢ ، تهذيب التهذيب : ٩ / ٤٧ ، دائرة المعارف الإسلامية : ٣ / ٤١٩ ، طبقات الحنابلة : ١ / ٢٧١.

(٤) في أ : الصفة.

(٥) في أ : بفتح.

٤٥٧

قوله : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) هم مبتدأ ، وخالدون خبره ، وفيها متعلّق به.

وقال القرطبيّ : «والظرف ملغيّ ، وقدّم ليوافق رؤوس الآي» وأجازوا أن يكون «فيها»

خبرا أول ، و «خالدون» خبر ثان ، وليس هذا بسديد ، وهذه الجملة والتي قبلها عطف على الجملة قبلهما حسب ما تقدّم.

وقال أبو البقاء : «وهاتان الجملتان مستأنفتان ، ويجوز أن تكون الثانية حالا من الهاء والميم في «لهم» ، والعامل فيها معنى الاستقرار».

قال القرطبي (١) : «ويجوز في غير القرآن نصب «خالدين» على الحال».

و «الخلود» : المكث الطويل ، وهل يطلق على ما لا نهاية له بطريق الحقيقة أو المجاز؟ قولان.

قالت المعتزلة (٢) : «الخلد» (٣) : هو الثبات اللّازم ، والبقاء الدائم الذي لا يقطع ، واحتجّوا بالآية ، وبقوله : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤] فنفى الخلد عن البشر مع أنّه ـ تعالى ـ أعطى بعضهم العمر الطويل ، والمنفيّ غير المثبت ، فالخلد هو البقاء الدّائم ؛ وبقول امرىء القيس : [الطويل]

٣٢١ ـ وهل ينعمن إلّا سعيد مخلّد

قليل الهموم ما يبيت بأوجال (٤)

قال ابن الخطيب (٥) : وقال أصحابنا : الخلد هو الثّبات الطويل ، سواء دام أو لم يدم ؛ واستدّلوا بقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [التوبة : ١٠٠] ولو كان التأبيد داخلا في مفهوم الخلد ، لكان ذلك تكرّرا ، واستدّلوا أيضا بالعرف ؛ يقال : حبس فلان فلانا حبسا مخلّدا ، ويكتب في الأوقاف : وقف فلان وقفا مخلّدا.

وقال الآخرون : «العقل يدلّ على دوامه ؛ لأنه لو لم يجب الدوام ، لجوّزوا انقطاعه ، فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة ، لأنّ النّعمة كلّما كانت أعظم كان خوف انقطاعها أعظم وقعا في القلب ، وهذا يقتضي ألا ينفك أهل الثواب [ألبتة](٦) من الغم والحسرة ، وقد يجاب عنه بأنّهم عرفوا ذلك بقرينة قوله : «أبدا».

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا

__________________

(١) ينظر القرطبي : ١ / ١٦٧.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ١٢١.

(٣) في أ : الخلود.

(٤) ينظر ديوانه : (٢٧) ، الكتاب : ٢ / ٢٢٧ ، المحتسب : ٢ / ١٣٠ ، أمالي ابن الشجري : ١ / ٢٧٤ ، الدرر : ٢ / ١٠٧ ، الدر المصون : ١ / ١٦٢.

(٥) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ١٢١.

(٦) سقط في ب.

٤٥٨

الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٢٧)

اعلم أنّه ـ تعالى ـ لمّا بيّن كون القرآن معجزا ، أورد الكفّار هنا شبهة قدحا في ذلك ، وهي أنّه جاء في القرآن ذكر النّحل ، والعنكبوت ، والنّمل ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء ، فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته ، فضلا عن كونه معجزا ، وأجاب الله ـ تعالى ـ عنه بأنّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة ، إذا كان ذكرها مشتملا على حكم بالغة ، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تعلّق هذه الآية بما قبلها.

روي عن ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنّه لما قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣] فطعن في أصنامهم ، ثمّ شبّه عبادتها ببيت العنكبوت.

قالت اليهود : أي قدر للذّباب والعنكبوت حتّى يضرب الله المثل بهما؟! فنزلت هذه الآية(١).

وقيل : إنّ المنافقين طعنوا في ضرب الأمثال بالنّار ، والظلمات ، والرّعد ، والبرق في قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧] وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) قالوا : الله أجلّ وأعلى من أن يضرب الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية (٢) ، وهذه رواية أبي صالح عن ابن عبّاس.

وروى عطاء عن ابن عبّاس أيضا أنّ هذا الطعن كان من المشركين (٣).

فقال القفّال رحمه‌الله : الكلّ محتمل هاهنا. أمّا اليهود ، فلأنه قيل في آخر الآية : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) وهذا صفة اليهود ؛ لأنّ الخطاب بالوفاء بالعهد إنّما هو لبني إسرائيل ، وأمّا الكفّار والمنافقون فقد ذكروا في سورة «المدثر» : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [المدثر : ٣١] ، فالذين في قلوبهم مرض هم الكافرون المنافقون ، والذين كفروا يحتمل المشركين ، لأنّ السورة مكّيّة ، فقد جمع الفريقان هاهنا.

إذا ثبت هذا ، فنقول : احتمال الكلّ هاهنا قائم ؛ لأنّ الكافرين والمنافقين واليهود

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٨٨) وعزاه لعبد الغني الثقفي في «تفسيره» والواحدي عن ابن عباس.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٨٨) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة.

(٣) أخرجه عبد الغني الثقفي في «تفسيره» والواحدي كما في «الدر المنثور» (١ / ٨٨) عن ابن عباس.

٤٥٩

كانوا متوافقين في إيذاء الرّسول ، وقد مضى من أوّل السّورة إلى هذا الموضع ذكر المنافقين ، واليهود ، والمشركين ، وكلّهم من الّذين كفروا.

ثمّ قال القفّال : «وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب ؛ لأنّ معناه مفيد في نفسه».

فصل في معنى الحياء واشتقاقه

الحياء : تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم (١) ، واشتقاقه من الحياة ، ومعناه على ما قال الزمخشري : نقصت حياته ، واعتلت مجازا ، كما يقال : نسي وخشي ، وشظي القوس : إذا اعتلت هذه الأعضاء ، جعل الحييّ لما يعتريه من الانكسار ، والتّغيّر منتكس (٢) القوة منتقص الحياة كما قالوا : فلان هلك من كذا حياء ، ومات حياء ، وذاب حياء ، يعني بقوله : «نسي وخشي وشظي» أي : أصيب نساه ، وهو «عرق» وحشاه ، وهو ما احتوى عليه البطن ، وشظاه وهو عظم في الورك ، واستعماله هنا في حقّ الله ـ تعالى ـ مجاز عن التّرك.

وقيل : مجاز عن الخشية ؛ لأنّها أيضا من ثمراته ، ورجّحه الطّبريّ ، وجعله الزمخشريّ من باب المقابلة ، يعني أنّ الكفّار لمّا قالوا : أما يستحي ربّ محمد أن يضرب المثل بالمحقّرات ، «قوبل» قولهم ذلك بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) ؛ [ونظيره قول](٣) أبي تمّام : [الكامل]

٣٢٢ ـ من مبلغ أفناء يعرب كلّها

أنّي بنيت الجار قبل المنزل (٤)

لو لم يذكر بناء الدّار لم يصحّ بناء الجار.

وقيل : معنى لا يستحيي ، لا يمتنع ، وأصل الاستحياء الانقباض عن الشّيء ، والامتناع منه ؛ خوفا من مواقعة (٥) القبيح ، وهذا محال على الله تعالى ، وفي «صحيح مسلم» عن أم سلمة قالت : «جاءت أم سليم إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إنّ الله لا يستحي من الحقّ» (٦) المعنى لا يأمر بالحياء فيه ، ولا يمتنع من ذكره.

قال ابن الخطيب : «القانون في أمثال هذه الأشياء ، أنّ كلّ صفة ثبتت للعبد مما يختص (٧) بالأجسام ، فإذا وصف الله بذلك ، فذلك محمول على نهايات الأعراض ، لا

__________________

(١) في أ : وقد تقدم.

(٢) في أ : منكس.

(٣) في ب : ونظيره بقوله.

(٤) ينظر البيت في ديوانه : ٣ / ٤٧ ، الكشاف : ١ / ١١٣ ، الدر المصون : ١ / ١٦٣.

(٥) في أ : موافقة.

(٦) أخرجه البخاري : (١ / ٤٦ ، ٨٠) ومسلم (١ / ١٧٢) والنسائي (١ / ٤٢).

(٧) في ب : ينتقص.

٤٦٠