اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

صحّة الثانية في ذلك كما سيأتي محررا ، ولفساد قولهم : «لو كان إنسانا لكان حيوانا» ؛ إذ لا يلزم من امتناع الإنسان امتناع الحيوان ، ولا يجزم بها خلافا لقوم ، فأما قوله : [الرمل]

٢٦٧ ـ لو يشأ طار به ذو ميعة

لاحق الآطال نهد ذو خصل (١)

وقول الآخر : [البسيط]

٢٦٨ ـ تامت فؤادك لو يحزنك ما صنعت

إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا (٢)

فمن تسكين المتحرك ضرورة. وأكثر ما تكون شرطا في الماضي ، وقد تأتي بمعنى «إن» ؛ كقوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا) [النساء : ٩] وقوله : [الطويل]

٢٦٩ ـ ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت

عليّ ودوني جندل وصفائح

[لسلّمت تسليم البشاشة أو زقا

إليها صدى من جانب القبر صائح](٣)(٤)

ولا تكون مصدرية على الصحيح ، وقد تشرّب معنى التمني ، فتنصب المضارع بعد «الفاء» جوابا لها ؛ نحو : (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ) [الشعراء : ١٠٢] وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى.

قال ابن الخطيب (٥) : المشهور أن «لو» تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، ومنهم من أنكر ذلك ، وزعم أنها لا تفيد إلا الرّبط ، واحتج عليه بالآية والخبر :

أما الآية فقوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣] ، فلو أفادت كلمة «لو» انتفاء الشّيء لانتفاء غيره لزم التّناقض ؛ لأن قوله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) يقتضي أنه ما علم فيهم خيرا وما أسمعهم ، وقوله : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) يفيد أنه ما أسمعهم ، ولا تولوا ؛ لكن عدم

__________________

ـ الحديث لابن قتيبة من غير إسناد وقال في «اللآلىء» منهم من يجعله من كلام عمر وقد كثر السؤال عنه ولم أقف له على أصل.

(١) البيت لعلقمة الفحل. ينظر ديوانه : ١٣٤ ، ولامرأة من بني الحارث في الحماسة البصرية : ١ / ٢٤٣ ، وخزانة الأدب : ١١ / ٢٩٨ ، والدرر : ٥ / ٩٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١١٠٨ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦٦٤ ، ولعلقمة أو لامرأة من بني الحارث في المقاصد النحوية : ٢ / ٥٣٩ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر : ١ / ٣٣٤ ، وتذكرة النحاة : ٣٩ ، والجنى الداني : ٢٨٧ ، وشرح الأشموني : ٣ / ٥٨٤ ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٧١ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٦٤ ، وينظر الدر المصون : ١ / ١٤٣.

(٢) البيت للقيط بن زرارة ينظر لسان العرب (تيم) ، والعقد الفريد : ٦ / ٨٤ ، وجمهرة اللغة : ص ٤١١ ، وشرح الأشموني : ٣ / ٥٨٤ ، ٦٠٤ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦٦٥ ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٧١ ، الدر المصون : (١ / ١٤٣).

(٣) سقط في أ.

(٤) البيتان لتوبة بن الحمير. ينظر الأمالي : (١ / ١٩٧) ، شرح ابن عقيل : (٣ / ١٩٣) ، الحماسة : (٢ / ٦٥) ، الدرر : (٢ / ٨٠) ، والدر المصون : (١ / ١٤٣).

(٥) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ٧٤.

٤٠١

التولي خير ، فيلزم أن يكون قد علم فيهم خيرا ، وما علم فيهم خيرا. وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : «نعم الرّجل صهيب (١) لو لم يخف الله لم يعصه» فعلى مقتضى قولهم : يلزم أنه خاف الله وعصاه ، وذلك مناقض ، فعلمنا أن كلمة «لو» إنما تفيد الربط.

و «شاء» أصله : «شيء» على «فعل» بكسر العين ، وإنما قلبت «الياء» «ألفا» للقاعدة الممهدة ومفعوله محذوف تقديره : ولو شاء الله إذهابا ؛ وكثر (٢) حذف مفعوله ومفعول «أراد» ، حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب ؛ كقوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [الزمر : ٤] ؛ وأنشدوا : [الطويل]

٢٧٠ ـ ولو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع (٣)

واللام في «لذهب» جواب «لو».

واعلم أن جوابها يكثر دخول «اللام» عليه مثبتا ، وقد تحذف ؛ قال تعالى : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) [الواقعة : ٧٠].

ويقلّ دخولها عليه منفيا ب «ما» ، ويمتنع دخولها عليه منفيّا بغير «ما» ؛ نحو : «لو قمت لم أقم» ؛ لتوالي لامين (٤) فيثقل ، وقد يحذف ؛ كقوله : [الكامل]

٢٧١ ـ لا يلفك الرّاجوك إلّا مظهرا

خلق الكرام ولو تكون عديما (٥)

و «بسمعهم» متعلّق ب «ذهب».

وقرىء (٦) «لأذهب» فتكون «الياء» زائدة أو تكون فعل وأفعل بمعنى ، ونحوه (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] والمراد من السمع : الأسماع ، أي : لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة.

__________________

(١) صهيب بن سنان الرومي أبو يحيى النمري ، سبته الروم فابتاعته كلب فقدمت به مكة فابتاعه ابن جدعان فأعتقه ، صحابي مشهور ، شهد بدرا له أحاديث ، انفرد له البخاري بحديث ومسلم بثلاثة وعنه ابن عمر ، وابن أبي ليلى وابن المسيب. قال ابن سعد : مات بالمدينة سنة ثمان وثلاثين ، وقال يعقوب بن سفيان : سنة أربع وصلى عليه سعد. ينظر الخلاصة : ١ / ٤٧٢ (٣١١٦) ، تهذيب الكمال : ٢ / ٦١٣ ، تهذيب التهذيب : ٤ / ٤٣٨ ، تقريب التهذيب : ١ / ٣٧٠ ، الكاشف : ٢ / ٣٢.

(٢) في أ : وكثير.

(٣) البيت لإسحاق الخزيمي. ينظر الكامل : (٤ / ٣) ؛ الدلائل : (١١٦) ، شرح الحماسة : (٣ / ١٠٥٣) ، الدر المصون : (١ / ١٤٣).

(٤) في أ : الاثنين.

(٥) البيت ينظر في جواهر الأدب : ص ٢٦٧ ، شرح التصريح : ٢ / ٢٥٦ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٤٤٦ ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٦١ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٤٦٩ ، وشرح الأشموني : ٣ / ٦٠٠ ، والجنى الداني : ص ٢٨٥ ، الدر المصون : (١ / ١٤٤).

(٦) قرأ بها ابن أبي عبلة.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٠٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٣٠ ، والدر المصون : ١ / ١٤٤.

٤٠٢

وقيل : لذهب بما استفادوا من العزّ (١) والأمان الذي لهم بمنزلة السمع والبصر.

وقرأ ابن عامر وحمزة (٢) «شاء» و «جاء» حيث كان بالإمالة.

قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

هذه جملة مؤكّدة لمعنى ما قبلها ، و «كلّ شيء» متعلّق ب «قدير» وهو «فعيل» بمعنى «فاعل» ، مشتق من القدرة ، وهي القوة والاستطاعة ، وفعلها «قدر» بفتح العين ، وله ثلاثة عشر مصدرا : «قدرة» بتثليث القاف ، و «مقدرة» بتثليث الدال ، و «قدرا» ، و «قدرا» ، و «قدرا» ، و «قدارا» ، و «قدرانا» ، و «مقدرا» ، و «مقدرا» و «قدير» أبلغ من «قادر» ، قاله الزّجاج.

وقيل : هما بمعنى واحد ؛ قاله الهرويّ (٣).

والشيء : ما صحّ أن يعلم من وجه ويخبر عنه ، وهو في الأصل مصدر «شاء يشاء» ، وهل يطلق على المعدوم والمستحيل؟ خلاف مشهور.

فصل في بيان هل المعدوم شيء؟

استدلّ بعضهم بهذه الآية على أن المعدوم شيء ، قال : «لأنه ـ تعالى ـ أثبت القدرة على الشيء ، والموجود لا قدرة عليه ؛ لاستحالة إيجاد الموجود ، فالذي عليه القدرة معدوم وهو شيء ، فالمعدوم شيء».

والجواب : لو صحّ هذا الكلام لزم أنّ ما لا يقدر الله عليه ألا يكون شيئا ، فالموجود إذا لم يقدر الله عليه وجب ألا يكون شيئا.

فصل في بيان وصف الله تعالى بالشيء

قال ابن الخطيب : احتج جهم بهذه الآية على أنه ـ تعالى ـ ليس بشيء. لأنه ـ تعالى ـ ليس بمقدور له ، فوجب ألّا يكون شيئا ، واحتج أيضا بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١].

قال : «لو كان الله ـ تعالى ـ شيئا ، لكان ـ تعالى ـ مثل نفسه ، فكان قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) كذب ، فوجب ألا يكون شيئا ؛ حتى لا تتناقض هذه الآية».

__________________

(١) في أ : الغي.

(٢) وكذلك أمال ابن ذكوان وخلف ، والداجوني عن هشام.

انظر إتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٨١.

(٣) أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الباشاني أبو عبيد الهروي باحث من أهل هراة (في خراسان) له كتاب الغريبين ، غريب القرآن وغريب الحديث ، و «ولاة هراة». ينظر الأعلام : ١ / ٢١٠ (١١٢٠) ، وفيات الأعيان : ١ / ٢٨ ، بغية الوعاة : ١٦١.

٤٠٣

قال ابن الخطيب (١) : وهذا الخلاف في الاسم ؛ لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم ، قال: واحتج أصحابنا بقوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ) [الأنعام : ١٩].

وبقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] والمستثنى داخل في المستثنى منه ، فوجب أن يكون شيئا.

فصل في أن مقدور العبد مقدور لله تعالى

قال ابن الخطيب (٢) : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى ، خلافا لأبي هاشم وأبي عليّ.

وجه الاستدلال : أن مقدور العبد شيء ، وكلّ شيء مقدور لله ـ تعالى ـ بهذه الآية ، فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدورا لله تعالى.

فصل في جواز تخصيص العام

تخصيص العام جائز في الجملة (٣) ، وأيضا تخصيص العام بدليل

__________________

(١) ينظر الرازي : ٢ / ٧٤.

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) والعام من حيث هو عام يقبل التخصيص ، فإن العلماء إلّا شذوذا منهم متفقون على هذا ، وهو مقطوع به في الشريعة المطهرة ، حتى قيل : ليس في القرآن عام غير مخصص ، إلا في ستة مواضع فقط ، وخلاف العلماء في جواز تأخير المخصص عن العام وعدمه : فالحنفية يوجبون كونه مقارنا ، وغيرهم يجيزون تأخيره ، وهو ينبني على الخلاف في قطعية العام ؛ فالحنفية لما قالوا بقطعية العام والتخصيص يصيره ظنيا ، فهو مغيّر له من القطع الى الظن ، فيكون بيان تغيير ، وهو لا يجوز تأخيره ، وعند غيرهم : العام لكونه ظنيّا لا يغيّره المخصص ، بل يقرر الاحتمال الذي كان فيه من قبل ، فيكون حينئذ بيان تقرير فيجوز تأخيره ، ثم التخصيص الذي قلنا : إنه يلحق العام ، وهو عبارة عن قصر العام على بعض متناولاته ، بمعنى : إخراج بعض ما كان داخلا تحت العام ، على تقدير عدم المخصص ، وهو بعد أن يلحقه التخصيص يبقى حجة ، فيما عدا المخرج ؛ كما كان ـ مثل ما روي أن فاطمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ احتجّت على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في ميراث أبيها ، بعموم آية الوصية مع أن القاتل والكافر خصا منها ، ولم ينكر أحد من الصحابة احتجاجها ، بل عدل أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في حرمانها إلى الاحتجاج بقوله ـ عليه‌السلام ـ «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ولا نورث». والعام في نظر أهل الأصول هو : عرفه أبو الحسين البصريّ في «المعتمد» بقوله : «هو اللّفظ المستغرق لما يصلح له».

وزاد الإمام الرّازي على هذا التّعريف في «المحصول» : «... بوضع واحد» وعليه جرى البيضاويّ في «منهاجه».

وعرّفه إمام الحرمين الجوينيّ في «الورقات» بقوله : «العامّ ما عمّ شيئين فصاعدا».

وإلى ذلك أيضا ذهب الإمام الغزاليّ ؛ حيث عرّفه بأنّه : اللّفظ الواحد الدّالّ من جهة واحدة على شيئين فصاعدا ... ـ

٤٠٤

العقل (١) ، فإن قيل : إذا كان اللّفظ موضوعا للكل ، ثم تبين أن الكل غير مراد كان كذبا ، وذلك يوجب الطّعن في كلّ القرآن.

والجواب : أن لفظ «الكلّ» كما أنه يستعمل في المجموع ، فقد يستعمل مجازا في الأكثر ، وإذا كان ذلك مجازا مشهورا في اللّغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذبا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٢٢)

اعلم أنه ـ تعالى ـ لما بين أحكام الفرق الثلاثة ـ أعني المؤمنين والكفار والمنافقين ـ أقبل عليهم بالخطاب وهو من باب «الالتفات».

__________________

ـ ويرى «سيف الدّين الآمديّ» : أنّ العامّ هو اللّفظ الواحد الدّالّ على قسمين فصاعدا مطلقا معا.

واختار ابن الحاجب أنّ العامّ ما دلّ على مسمّيات ؛ باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا.

ويرى أبو بكر الجصّاص من الحنفيّة أنّ العامّ ما ينتظم جمعا من الأسماء أو المعاني.

وعرفه الإمام فخر الدّين البزدوي بأنّه : «كلّ لفظ ينتظم جمعا من الأسماء لفظا أو معنى».

ويرى الإمام النّسفيّ : أنه ما يتناول أفرادا متّفقة الحدود على سبيل الشّمول.

ينظر البرهان لإمام الحرمين : ١ / ٣١٨ ، البحر المحيط للزركشي : ٣ / ٥ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ٢ / ١٨٥ ، سلاسل الذهب للزركشي : ص ٢١٩ ، التمهيد للإسنوي : ص ٢٩٧ ، نهاية السول له : ٢ / ٣١٢ ، زوائد الأصول له : ص ٢٤٨ ، منهاج العقول للبدخشي : ٢ / ٧٥ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ص ٦٩ ، التحصيل من المحصول للأرموي : ١ / ٣٤٣ ، المنخول للغزالي : ص ١٣٨ ، المستصفى له : ٢ / ٣٢ ، حاشية البناني : ١ / ٣٩٢ ، الإبهاج لابن السبكي : ٢ / ٨٢ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي : ٢ / ٢٥٤ ، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني : ص ٣٢٦ ، حاشية العطار على جمع الجوامع : ١ / ٥٠٥ ، المعتمد لأبي الحسين : ١ / ١٨٩ ، إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي : ص ٢٣٠ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم : ٣ / ٣٧٩ ، التحرير لابن الهمام : ص ٦٤ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه : ١ / ١٩١ ، ميزان الأصول للسمرقندي : ١ / ٣٨٥ ، كشف الأسرار للنسفي : ١ / ١٥٩ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى : ٢ / ١٠١ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني : ١ / ٣٨ ، حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين : ص ٦٨ ، شرح المنار لابن ملك : ص ٤٥ ، الوجيز للكراماستي : ص ١١ ، الموافقات للشاطبي : ٣ / ٢٦٠ ، تقريب الوصول لابن جزيّ : ص ٧ ، إرشاد الفحول للشوكاني : ص ١١٢ ، شرح مختصر المنار للكوراني : ص ٤٥ ، نشر البنود للشنقيطي : ١ / ٢٢ ، فواتح الرحموت لابن نظام الدين الأنصاري : ١ / ٢٥٥ ، شرح الكوكب المنير للفتوحي : ص ٣٤٣.

(١) كما يعلم بضرورته تخصيص الله ـ تعالى ـ عن قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، ونظيره : تخصيص الصبيّ والمجنون عن خطاب التكليف ؛ لعدم فهمهما إياه. ومنهم من منع ذلك ، وهو باطل ، إذ العقل لمّا عارض العموم ، امتنع إعمالهما وتركهما وإعمال النقل فقط ؛ إذ ترجيحه على العقل الذي هو أصله يقدح فيهما ، فتعيّن إعمال العقل فقط ، فإن أراد بالمخصّص المؤثر في التخصيص ، لم يكن العقل مخصّصا ، ولا الكتاب ، ولا السنّة أيضا ؛ إذ الإرادة هي المؤثّرة في التخصيص. ينظر التحصيل : ١ / ٣٨٦.

٤٠٥

«يا» حرف نداء وهي أم الباب.

وزعم بعضهم أنها اسم فعل ، وقد تحذف نحو : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) [يوسف : ٢٩].

وينادى بها المندوب والمستغاث. قال أبو حيان (١) : «وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلّا بها».

وزعم بعضهم أن قراءة (٢) : «أمن هو قانت» [الزمر : ٩] بتخفيف الميم أن الهمزة فيه للنداء ، وهو غريب ، وقد يراد بها مجرد التنبيه فيليها الجمل الاسمية والفعلية ، قال تعالى : (أَلَّا يَسْجُدُوا) [النمل : ٢٥] بتخفيف ألا ؛ وقال الشاعر : [الطويل]

٢٧٢ ـ ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال

 ........... (٣)

وقال آخر : [البسيط]

٢٧٣ ـ يا لعنة الله والأقوام كلّهم

والصّالحين على سمعان من جار (٤)

و «أي» اسم منادى في محلّ نصب ، ولكنه بني على «الضم» ؛ لأنه مفرد معرفة ، وزعم الأخفش أنها هنا موصولة ، وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ مضمر ، والجملة صلة ، والتقدير : «يا الّذين هم النّاس» ، والصحيح الأول ، والمرفوع بعدها صفة لها ، [والمشهور](٥) : يلزم رفعه ، ولا يجوز نصبه على المحلّ خلافا للمازني.

__________________

(١) محمد بن يوسف بن علي بن حيان بن يوسف ، الشيخ الإمام العلامة ، الحافظ المفسر النحوي اللغوي ، أثير الدين أبو حيان الأندلسي ، الجياني ، الغرناطي ، ثم المصري. ولد في ٦٥٢ قرأ العربية علي رضي الدين القسنطيني ، وبهاء الدين ابن النحاس وغيرهما ، سمع نحوا من أربعمائة شيخ ، وكان ظاهريا فانتحى إلى الشافعية ، له مصنفات منها «البحر المحيط في التفسير» والنهر من البحر ، «وشرح التسهيل» «وارتشاف الضرب». سمع منه الأئمة العلماء ، وأضر قبل موته بقليل توفي بالقاهرة في صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة.

انفرط ابن قاضي شهبة : ٣ / ٦٧ ، الأعلام : ٨ / ٢٦ ، ط. السبكي : ٦ / ٣١ ، الدرر الكامنة : ٤ / ٣٠٢.

(٢) ستأتي في الزمر آية (٩).

(٣) صدر بيت للشماخ بن ضرار وعجزه :

وقبل منايا غاديات وآجال

ينظر ديوانه : (٤٥٦) وهو من شواهد الكتاب : (٢ / ٣٠٧) ، ابن يعيش : (٨ / ١١٥) ، الدر المصون : (١ / ١٤٤).

(٤) ينظر البيت في أمالي ابن الحاجب : ص ٤٤٨ ، الإنصاف : ١ / ١١٨ ، الجنى الداني : ص ٣٥٦ ، خزانة الأدب : ١١ / ١٩٧ ، جواهر الأدب : ص ٢٩٠ ، الدرر : ٣ / ٢٥ ، ٥ / ١١٨ ، رصف المباني : ص ٣ ، ٤ ، شرح أبيات سيبويه : ٢ / ٣١ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٧٩٦ ، شرح المفصل : ٢ / ٢٤ ، ٤٠ ، الكتاب : ٢ / ٢١٩ ، اللامات : ص ٣٧ ، ومغني اللبيب : ص ٢ / ٣٧٣ ، المقاصد النحوية : ٤ / ٢٦١ ، همع الهوامع : ١ / ١٧٤ ، ٢ / ٧٠ ، والكامل : (٤٧) ، السمط : (٥٤٦) ، والدر المصون : (١ / ١٤٥).

(٥) سقط في أ.

٤٠٦

و «ها» زائدة للتنبيه لازمة لها ، والمشهور فتح هائها ، ويجوز ضمّها إتباعا للياء ، وقد قرأ ابن عامر (١) بذلك في بعض المواضع نحو «أيّه المؤمنون» [النور : ٣١] والمرسوم يساعده.

ولا توصف «أي» هذه إلا بما فيه الألف واللام ، أو بموصول هما فيه ، أو باسم إشارة نحو : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) [الحجر : ٦] وقال الشاعر : [الطويل]

٢٧٤ ـ ألا أيّهذا النّابح السّيد إنّني

على نأيها مستبسل من ورائها (٢)

وفسر بعضهم يا زيد : أنادي زيدا ، وأخاطب زيدا ، وهو خطأ من وجوه :

أحدها : أن قوله : «أنادي زيدا» خبر يحتمل الصدق والكذب ، وقوله : يا زيد لا يحتملهما.

وثانيها : أن قولنا : «يا زيد» يقتضي أن زيدا منادى في الحال ، و «أنادي زيدا» لا يقتضي ذلك.

وثالثها : أن قولنا : «يا زيد» يقتضي صيرورة زيد مخاطبا هذا الخطاب ، و «أنادي زيدا» لا يقتضي ذلك ؛ لأنه لا يمكن أن يخبر إنسانا آخر بأن أنادي زيدا.

ورابعها : أن قولنا : أنادي زيدا إخبار عن النداء ، والإخبار عن النداء غير النداء.

واعلم أن «يا» حرف وضع في أصله لنداء البعيد ، وإن كان لنداء القريب ، [لكن بسبب أمر مهم جدّا ، وأما نداء القريب فله : «أي» والهمزة](٣) ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب ، تنزيلا له منزلة البعيد.

فإن قيل : فلم يقول الداعي : «يا رب» ، «يا الله» وهو أقرب إليه من حبل الوريد؟

قلنا : هو استبعاد لنفسه من مظانّ الزّلفى ، إقرارا على نفسه بالتقصير.

و «أي» وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن «ذو» الذي وصلة إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل ، وهم اسم مبهم ، فافتقر إلى ما يزيل إبهامه ، فلا بد وأن يردفه اسم جنس ، أو ما جرى مجراه ، ويتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء.

ول «أي» معان أخر كالاستفهام ، والشرط ، وكونها موصولة ، ونكرة موصوفة لنكرة ، وحالا لمعرفة. و «النّاس» صفة «أي» ، أو خبر مبتدأ محذوف حسب ما تقدم من الخلاف.

__________________

(١) ستأتي في النور ٣١.

(٢) البيت للفضل بن الأخضر. ينظر الحماسة : (١ / ٣٠١) ، المقرب : (١ / ١٧٦) ، والدر المصون : (١ / ١٤٥).

(٣) سقط في أ.

٤٠٧

و (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) جملة أمرية لا محلّ لها ؛ لأنها ابتدائية.

(الَّذِي خَلَقَكُمْ) فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : نصبه على النّعت ل «ربكم».

الثّاني : نصبه على القطع.

الثالث : رفعه على القطع أيضا. وقد تقدّم معناه.

فصل في تقسيم ورود النداء في القرآن الكريم

قال ابن عبّاس رضي الله عنه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لأهل «مكة» ، و «يا أيّها الّذين آمنوا» لأهل «المدينة» (١) ، ورد على قوله هذه الآية بأن البقرة مدنية.

وقال غيره : كلّ ما كان في القرآن من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدني.

وأما قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فمنه مكّي ، ومنه [مدني](٢) وهذا خطاب عام ؛ لأنه لفظ جمع معرف ، فيفيد العموم ، لكنه مخصوص في حقّ ما لا يفهم ، كالصّبي ، والمجنون ، والغافل ، ومن لا يقدر ، لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦].

ومنهم من قال : إنه مخصوص في حق العبيد ، لأنّ الله ـ تعالى ـ أوجب عليهم طاعة مواليهم ، واشتغالهم بطاعة المولى كمنعهم عن الاشتغال بالعبادات ، والأمر الدّال على وجوب طاعة المولى أخصّ من الأمر الدّال على وجوب العبادة ، والخاصّ مقدّم على العام ، والكلام على هذا مذكور في أصول الفقه.

قال ابن الخطيب : قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يتناول جميع الناس الموجودين في ذلك العصر ، فهل يتناول الّذين سيوجدون بعد ذلك أم لا؟

قال : «والأقرب أنه لا يتناولهم ؛ لأن قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب مشافهة ، وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز» ، وأيضا فالذين سيوجدون ما كانوا موجودين في تلك الحالة ، وما لا يكون موجودا لا يكون إنسانا ، فلا يدخل تحت قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ).

فإن قيل : فوجب أن يتناول أحدا من الّذين وجدوا بعد ذلك الزمان ، وإنه باطل قطعا.

قلنا : لو لم يوجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك ، إلّا أنا عرفنا بالتّواتر من دين

__________________

(١) ذكر هذا الأثر السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٧٣) عن ابن مسعود وعزاه للبزار والحاكم وابن مردويه.

وعزاه أيضا لأبي عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن الضريس وابن المنذر وأبي الشيخ في «التفسير» عن علقمة.

(٢) سقط في أ.

٤٠٨

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تلك الخطابات ثابتة في حقّ من سيوجد بعد ذلك إلى قيام السّاعة ؛ فلهذه الدلالة المنفصلة أوجبنا العموم.

فصل في المراد بالعبادة في القرآن

قال ابن عبّاس رضي الله عنه : «كلّ ما ورد في القرآن من العبادة فمعناها التوحيد».

وقال ابن الخطيب (١) : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أمر كلّ واحد بالعبادة ، فهل يفيد أمر الكلّ بكل عبادة؟ الحقّ لا ؛ لأن قوله : (اعْبُدُوا) معناه : أدخلوا هذه الماهية في الوجود ، فإذا أتوا بفرد من أفراد هذه الماهيّة في الوجود فقد أدخلوا الماهية (٢) في الوجود ؛ لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية ، لأن هذه العبادة عبارة عن العبادة مع قيد كونها هذه ، ومتى وجد المركب فقد وجد فيه قيده ، فالآتي بفرد من أفراد العبادة أتى بالعبادة ، وأتى بتمام ما اقتضاه قولنا : «اعبدوا» ، وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة.

فصل في قول منكري التكليف

ذكر ابن الخطيب (٣) عن منكري التكليف أنهم لا يجوّزون ورود الأمر من الله ـ تعالى ـ بالتكاليف لوجوه :

منها أنّ الّذي ورد به التكليف : إما أن يكون قد علم الله في الأزل (٤) وقوعه ، أو علم أنه لا يقع ، أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك ، فإن كان الأوّل كان واجب الوقوع ، فلا فائدة في الأمر به ، وإن علم أنه لا يقع كان ممتنع الوقوع ، فكان الأمر به أمرا بإيقاع الممتنع ، وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولا بالجهل على الله ، وهو محال.

وأيضا فورود الأمر بالتكاليف إمّا أن يكون لفائدة ، أو لا لفائدة ، فإن كان لفائدة فإما أن يعود إلى المعبود ، أو إلى العابد (٥) ، أمّا إلى المعبود فمحال ؛ لأنه كامل لذاته ، والكامل لذاته لا يكون كاملا بغيره ، ولأنا نعلم بالضرورة أنّ الإله العالي على الدّهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده. وإن كانت الفائدة تعود إلى العابد (٦) فمحال ؛ لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللّذّة ودفع الألم ، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ قادر على تحصيل كلّ ذلك للعبد ، من غير واسطة هذه المشاق ، فيكون توسّطها عبثا ،

__________________

(١) ينظر الرازي : ٢ / ٧٧.

(٢) الماهية : تطلق غالبا على الأمر المتعقل ، مع قطع النّظر عن الوجود الخارجي ؛ والأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب «ما هو» يسمى : ماهيّة ؛ ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى : حقيقة ؛ ومن حيث إنه محلّ الحوادث : جوهرا. انظر التعريفات للجرجاني : ص (٢٠٥).

(٣) ينظر الرازي : ٢ / ٧٨.

(٤) في أ : الأولى.

(٥) في أ : العباد.

(٦) في أ : العباد.

٤٠٩

والعبث غير جائز على الحكيم. وأيضا إنّ العبد غير موجد لأفعاله ؛ لأنه غير عالم بتفاصيلها ، ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجدا له ، وإذا لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، فإن أمره بذلك الفعل حالة ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل ، وإن أمره حالة ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال ، وكل ذلك باطل.

وأجاب ابن الخطيب بوجهين :

أحدهما : أن أصحاب هذه الشّبه ، أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التّكليف ، فهذا التكليف ينفي التكليف ، وإنه متناقض.

والثاني : أن عندنا يحسن من الله كل شيء ، سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره ؛ لأنه ـ تعالى ـ خالق مالك ، والمالك لا اعتراض عليه في فعله.

والخلق اختراع الشّيء على غير مثال سبق ، وهذه الصّفة ينفرد بها الباري تعالى ، ويطلق أيضا على «التقدير» ؛ قال زهير : [الكامل]

٢٧٥ ـ ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثمّ لا يفري (١)

وقال الحجّاج : «ما خلقت إلّا فريت ولا وعدت إلّا وفيت» وهذه الصّفة لا يختص بها الله تعالى ، وقد غلط أبو عبد الله البصري في أنه لا يطلق اسم «الخالق» على الله ـ تعالى ؛ قال: «لأنه محال ، وذلك أن التقدير والتسوية في حقّ الله ممتنعان ، لأنهما عبارة عن التفكّر والظّن» ، وكأنه لم يسمع قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ) [الحشر : ٢٤](اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] ، وكأنّه لا يعلم أن الخلق يكون عبارة عن الإنشاء والاختراع.

قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) محلّه العطف على المنصوب في «خلقكم» و «من قبلكم» صلة «الذين» ، فيتعلّق بمحذوف على ما تقرر. و «من» لابتداء الغاية ، واستشكل بعضهم وقوع «من قبلكم» صلة من حيث إن كل ما جاز أن يخبر به جاز أن يقع صلة ، و «من قبلكم» ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة إلا بتأويل ، فكذلك الصّلة.

قال : وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف صح الإخبار والوصل به تقول : «نحن في يوم طيب» ، فيكون التقدير هنا ـ والله أعلم ـ «والّذين كانوا من زمان قبل زمانكم».

وقال أبو البقاء (٢) : والتقدير : «والذين خلقهم من قبل خلقكم ، فحذف الخلق ، وأقام الضمير مقامه».

وقرأ زيد بن علي : «والّذين من قبلكم» ـ بفتح الميم ـ.

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه : (٩٤) ، المحرر الوجيز : (١ / ١١٤) ، الرازي : (١ / ٨٩) ، روح المعاني : (١ / ١٨٤) ، والقرطبي : (١ / ١٥٧) ، والدر المصون : (١ / ١٤٦).

(٢) ينظر الاملاء : ١ / ٢٣.

٤١٠

قال الزمخشري (١) : ووجهها على إشكالها أن يقال : أقحم الموصول الثاني بين الأوّل وصلته تأكيدا ، كما أقحم جرير في قوله : [البسيط]

٢٧٦ ـ يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم

 ........... (٢)

تيما الثاني بين الأوّل ، وما أضيف إليه ، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في نحو : «لا أبا لك» قيل : هذا الذي قاله مذهب لبعضهم ؛ ومنه قوله : [الطويل]

٢٧٧ ـ من النّفر اللّاء الّذين إذا هم

يهاب اللّئام حلقة الباب قعقعوا (٣)

ف «إذا» وجوابها صلة «اللّاء» ، ولا صلة للذين ؛ لأنه توكيد للأول ، إلا أن بعضهم يرد هذا القول ، ويجعله فاسدا من جهة أنه لا يؤكد الحرف إلا بإعادة ما اتّصل به ، فالموصول أولى بذلك ، وخرج الآية والبيت على أن «من قبلكم» صلة للموصول الثّاني ، والموصول الثّاني وصلته خبر لمبتدأ محذوف ، والمبتدأ وخبره صلة الأول ، والتقدير : «والّذين هم من قبلكم» ، وكذا [البيت](٤) فجعل «إذا» وجوابها صلة [للّذين ، والّذين خبر لمبتدأ محذوف ، وذلك المبتدأ وخبره صلة](٥) ل «اللاء» ، ولا يخفى ما في هذا التعسّف.

قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

«لعل» واسمها وخبرها ، وإذا ورد ذلك في كلام الله ـ تعالى ـ فللناس فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أن «لعلّ» على بابها من الترجّي والإطماع ، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين ، أي: لعلّكم تتقون على رجائكم وطمعكم ؛ وكذا قال سيبويه في قوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٢] : أي : اذهبا على رجائكما.

__________________

(١) صدر بيت وعجزه :

لا يلقينكم في سوءة عمر

ينظر ديوانه : (٢١١) ، المقتضب : (٤ / ٢٢٩) ، الخصائص : (١ / ٣٤٥) ، النوادر : (١٣٩) ، الأزهية : (٢٤٧) ، العيني : (٤ / ٢٤٠) ، أمالي ابن الشجري : (٢ / ٨٣) ، والكشاف : (١ / ٩١) ، والدر المصون : (١ / ١٤٦).

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ٩١.

(٣) البيت لأبي الربيس ينظر في خزانة الأدب : ٦ / ٧٨ ، ٧٩ ، ٨٠ ، ٨٣ ، ٨٤ ، ٨٦ ، ٨٧ ، ٨٩ ، ولسان العرب (لوى) ، الأشباه والنظائر : ٤ / ٣٠٨ ، والحيوان : ٣ / ٤٨٦ ، والعقد الفريد : ٥ / ٣٤٣ ، الدر المصون : (١ / ١٤٦).

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

٤١١

والثّاني : أنها للتعليل : أي : اعبدوا ربّكم ؛ لكي تتّقوا ، وبه قال قطرب ، والطبريّ وغيرهما ؛ وأنشدوا : [الطويل]

٢٧٨ ـ وقلتم لنا : كفّوا الحروب لعلّنا

نكفّ ووثّقتم لنا كلّ موثق

فلمّا كففنا الحرب كانت عهودكم

كلمع سراب في الملا متألّق (١)

أي : لنكفّ الحرب (٢) ، ولو كانت «لعلّ» للترجّي ، لم يقل : ووثّقتم لنا كلّ موثق.

والثّالث : أنها للتعرّض للشيء ؛ كأنه قيل : افعلوا ذلك متعرضّين لأن تتّقوا.

وقال القفّال : «لعل» مأخوذة من تكرير الشيء لقولهم : عللا بعد نهل ، و «اللام» فيها هي «لام» التأكيد كاللام التي تدخل في «لقد» ، فأصل «لعل» : «عل» ؛ لأنهم يقولون : «علك أن تفعل كذا» : أي لعلك. وإن كانت حقيقة في التكرير والتأكيد ، كان (٣) قول القائل : افعل كذا لعلّك تظفر بحاجتك. معناه : افعله ؛ فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه ، وهذه الجملة على كل قول متعلّقة من جهة المعنى ب «اعبدوا» أي : اعبدوا على رجائكم التّقوى ، أو لتتقوا ، أو متعرّضين للتقوى ، وإليه مال المهدوي ، وأبو البقاء.

وقال ابن عطيّة : «[يتجه](٤) تعلّقها بخلقكم ؛ لأنّ كل مولود يولد على الفطرة ، فهو بحيث يرجى أن يكون متقيا» ، إلّا أن المهدوي منع من ذلك.

قال : لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي ، ولم يذكر الزمخشري غير تعلّقها ب «خلقكم» ثم رتب على ذلك سؤالين :

أحدهما : أنه كما خلق المخاطبين لعلّهم يتقون ، كذلك خلق الذين من قبلهم لذلك فلم خصّ المخاطبين بذلك دون من قبلهم؟

وأجاب عن ذلك بأنه لم يقصره عليهم ، بل غلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادة الجميع.

السّؤال الثاني : هلا قيل : «تعبدون» لأجل «اعبدوا» أو اتقوا لمكان «تتقون» ليتجاوب (٥) طرفا النظم؟

وأجاب بأن التقوى ليست غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النّظم ، وإنّما التقوى قصارى أمر العابد ، وأقصى جهده.

__________________

(١) ينظر البيتان في أمالي ابن الشجري : (١ / ٥١) ، الطبري : (١ / ١٩٧) ، وروح المعاني : (١ / ١٨٦) ، القرطبي : (١ / ١٥٨) ، الدر المصون : (١ / ١٤٧).

(٢) في أ : الحروب.

(٣) في أ : وأن.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : ليتجاوز.

٤١٢

قال أبو حيّان (١) : وأما قوله : ليتجاوب طرفا النّظم ، فليس بشيء ؛ لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم ، إذ يصير اللفظ : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون ، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، وهذا بعيد في المعنى ؛ إذ هو مثل : اضرب زيدا لعلك تضربه ، واقصد خالدا لعلك تقصده ، ولا يخفى ما في ذلك من غثاثة اللفظ ، وفساد المعنى ، والذي يظهر به صحّته أن يكون (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) متعلّقا بقوله : «اعبدوا» فالّذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة ، فناسب أن يتعلّق بها ذلك ، وأتى بالموصول وصلته في سبيل التوضيح ، أو المدح الذي تعلقت به العبادة ، فلم يجأ بالموصول ليحدّث (٢) عنه ، بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة ، فلم يكن يتعلّق به دون المقصود ، وأجاب بعضهم عن كلام الزمخشري بأنه جعل «لعل» متعلّقة ب «خلقكم» لا ب «اعبدوا» ، فلا يصير التقدير : اعبدوا لعلكم تعبدون ، وإنما التقدير : اعبدوا الذي خلقكم لعلكم تعبدون ؛ أي خلقكم لأجل العبادة ، يوضّحه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].

وفي «لعلّ» لغات كثيرة ، وقد يجرّ بها ؛ قال : [الوافر]

٢٧٩ ـ لعلّ الله فضّلكم علينا

بشيء أنّ أمّكم شريم (٣)(٤)

ولا تنصب الاسمين على الصحيح ، وقد تدخل «أن» في خبرها ؛ حملا على «عسى» ؛ قال : [الطويل]

٢٨٠ ـ لعلّك يوما أن تلمّ ملمّة

 ...........(٥)

وقد تأتي للاستفهام والتعليل كما تقدم ، ولكن أصلها أن تكون للترجّي والطمع في المحبوبات والإشفاق من المكروهات ك «عسى» ، وفيها كلام طويل يأتي في غضون هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

و «تتّقون» أصله «توتقيون» ؛ لأنه من «الوقاية» ، فأبدلت الواو ياء قبل تاء الافتعال ، وأدغمت فيها ، وقد تقدم ذلك في «المتقين» ، ثم استثقلت «الضّمة» على «الياء» فقدرت ، فسكنت الياء والواو بعدها ، فحذفت الياء لالتقاء السّاكنين ، وضمت القاف لتجانسها ، فوزنه (٦) الآن «تفتعون» ، وهذه الجملة أعني «لعلكم تتقون» لا يجوز أن تكون حالا ؛ لأنها طلبية ، وإن كانت عبارة بعضهم توهم ذلك ، ومفعول «تتقون» محذوف أي : تتقون الشرك ، أو النار.

__________________

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٢٣٥.

(٢) في أ : ليحذر.

(٣) في أ : مريم.

(٤) ينظر في خزانة الأدب : ١٠ / ٤٢٢ ، ٤٢٣ ، ٤٣٠ ، وجواهر الأدب : ص ٤٠٣ ، وأوضح المسالك : ٣ / ٤٧ ، وشرح ابن عقيل : ص ٣٥١ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٢٨٤ ، وشرح التصريح : ٢ / ٢ ، وشرح قطر الندى : ص ٢٤٩ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٢٤٧ ، والمقرب : ١ / ١٩٣ ، ورصف المباني : ص ٣٧٥ ، والجنى الداني : ص ٥٨٤ ، والعيني : (٣ / ٢٤٧) ، والدر المصون : (١ / ١٤٧).

(٥) ينظر الدر المصون : ١ / ١٤٨.

(٦) في أ : فوزنها.

٤١٣

فصل في الاستدلال بالآية على الصانع

هذه الآية تدلّ على الصانع القادر الفاعل المختار ، سأل بعض الدهرية الشّافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ ما الدّليل على الصانع؟ فقال : ورقة الفرصاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم؟ قالوا : نعم.

قال : فتأكلها دودة القزّ فيخرج منها الإبريسم ، ويأكلها النحل فيخرج منها العسل ، والشّاة فيخرج منها البعر ، وتأكلها الظّباء فينعقد في نوافجها المسك ، فمن الذي جعلها لذلك مع أن الطّبع واحد؟ فاستحسنوا ذلك وآمنوا على يديه ، وكانوا سبعة عشر.

وسئل أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ عن الصّانع فقال : الوالد يريد الذكر ، فيكون أنثى ، وبالعكس فيدلّ على الصّانع. وتمسك أحمد بن حنبل بقلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها ، ظاهرها كالفضّة المذابة ، وباطنها كالذهب الإبريز ، ثم انشقت الجدران ، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير ، فلا بدّ من الفاعل ؛ عنى بالقلعة البيضة ، وبالحيوان الفرخ.

وقال آخر : عرفت الصّانع بنحلة بأحد طرفيها عسل ، وبالآخر لسع ، والعسل مقلوب لسع.

فإن قيل : ما الفائدة في قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، وخلق الذين من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم.

والجواب : أن الأمر وإن كان على ما ذكر ولكن علمهم بأن الله ـ تعالى ـ خلقهم كعلمهم بأنه خلق من قبلهم ؛ لأن طريقة العلم بذلك واحدة.

وأيضا أن من قبلهم كالأصول لهم ، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع ، كأنه ـ تعالى ـ يذكرهم عظيم إنعامه عليهم ، أي : لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت ، بل كنت منعما عليك قبل أن وجدت بألوف سنين ، بسبب أني كنت خالقا لأصولك.

فإن قيل : إذا كانت العبادة تقوى فقوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ما وجهه؟

والجواب من وجهين :

الأول : لا نسلّم أن العبادة نفس التقوى ، بل العبادة فعل يحصل به التقوى ؛ لأن الاتّقاء هو الاحتراز عن المضارّ ، والعبادة فعل المأمور به ، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز ، بل موجب الاحتراز ، فإنه ـ تعالى ـ قال : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) لتحترزوا به عن عقابه.

وإذا قيل في نفس الفعل : «إنه اتقاء» ، فذلك غير ما يحصل به الاتقاء ، لكن لما اتصل أحد الأمرين بالآخر أجري اسمه عليه.

٤١٤

الثاني : أنه ـ تعالى ـ إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا ، على ما قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] فكأنه ـ تعالى ـ أمر بعبادة الرّبّ الذي خلقهم لهذا الغرض ، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة.

فصل في القراءات في الآية

قرأ أبو عمرو (١) : خلقكم بالإدغام ، وقرأ ابن السّميفع (٢) : «وخلق من قبلكم».

قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) يحتمل النصب والرّفع ، فالنصب من خمسة أوجه :

أحدها : أن يكون نصبه على القطع.

الثاني : أنه نعت لربكم.

الثالث : أنه بدل منه.

الرابع : أنه مفعول ل «تتقون» ، وبه قال أبو البقاء.

الخامس : أنه نعت النعت ، أي : الموصول الأول ، لكن المختار أن النعت لا ينعت ، بل إن جاء ما يوهم ذلك جعل نعتا للأول ، إلا أن يمنع مانع فيكون نعتا للنعت ، نحو قولهم : «يا أيها الفارس ذو الجمة» (٣) فذو الجمة نعت للفارس لا ل «أي» ؛ لأنها لا تنعت إلا بما تقدم ذكره.

والرّفع من وجهين :

أحدهما وهو الأصح : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو الذي جعل.

والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره قوله بعد ذلك : فلا تجعلوا لله ، وهذا فيه نظر من وجهين :

أحدهما : أنّ صلته ماضية فلم يشبه الشرط ، فلا يزاد في خبره «الفاء».

الثاني : عدم الرابط ، إلا أن يقال بمذهب الأخفش ، وهو أن يجعل الربط مكرر الاسم الظّاهر إذا كان بمعناه نحو : «زيد قام أبو عبد الله» إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد ، وكذلك هنا أقام الجلالة مقام الضّمير ، كأنه قال : الّذي جعل لكم ، فلا تجعلوا له أندادا.

و «الذي» كلمة موضوعة للإشارة إلى المفرد (٤) عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك (٥) : ذهب الرجل الذي أبوه منطلق ، فأبوه منطلق قضية معلومة ، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الّذي ، وهو يحقّق قولهم : إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل.

__________________

(١) انظر تفسير الرازي : ٢ / ٩٣.

(٢) ينظر تفسير الرازي : ٢ / ٩٣.

(٣) في أ : الجهة.

(٤) في أ : الفرد.

(٥) في أ : كقوله.

٤١٥

وإذا ثبت هذا فقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشا ، والسّماء بناء ، وذلك تحقيق قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥].

و «جعل» فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون بمعنى «صيّر» فتتعدى لمفعولين فيكون «الأرض» مفعولا أول ، و «فراشا» ، مفعولا ثانيا.

والثاني : أن يكون بمعنى «خلق» فيتعدّى لواحد وهو «الأرض» ويكون «فراشا» حالا.

و «السماء بناء» عطف على «الأرض فراشا» على التقديرين المتقدمين ، و «لكم» متعلق

بالجعل أي : لأجلكم ، والفراش : قيل : البساط ، وقيل : مثلها.

وقيل : ما يوطأ ، ويقعد عليه.

واعلم أنه ـ تعالى ـ ذكر ها هنا أنه جعل الأرض فراشا ، ونظيره قوله : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) [النمل : ٦١] وقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) [طه : ٥٣].

واعلم أن كون الأرض فراشا مشروط بأمور :

قال ابن الخطيب (١) : أحدها : كونها ساكنة ؛ فإنها لو كانت متحركة لم يمكن الانتفاع بها لما تقرر في المعقولات.

الثاني : ألا تكون في غاية الصّلابة كالحجر ؛ فإن النّوم عليه والمشي مما يؤلم البدن ، وأيضا لو كانت الأرض من الذّهب مثلا لتعذّرت الزراعة ولتعذّر حفرها ، وتركيبها لما يراد.

وألّا تكون في غاية اللين كالماء الذي تغوص فيه الرّجل.

الثالث : ألّا يكون في غاية اللّطافة والشفافية ؛ فإن الشفّاف لا يستقر النور عليه ، وما كان كذلك فإنه لا يتسخن بالشمس فكان يبرد جدّا ، فجعل كيفية لونه أخضر ليستقر النور عليه ، فيتسخن فيصلح أن يكون فراشا للحيوانات.

الرابع : أن تكون بارزة من الماء ؛ لأن طبع الأرض أن يكون غائصا في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطة بالأرض ، ولو كانت كذلك لما كانت فراشا لنا ، فقلب (٢) الله طبيعة الأرض وأخرج بعض أجزائها [من المياه](٣) كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشا لنا.

__________________

(١) ينظر الرازي : ٣ / ٩٤.

(٢) في أ : فغلّب.

(٣) سقط في ب.

٤١٦

ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشا ألا تكون كرة واستدل بهذه الآية ، وهذا بعيد ؛ لأن الكرة إذا عظمت جدّا كانت القطعة منها كالسطح (١) في إمكان الاستقرار عليه ، والذي يؤيده كون الجبال أوتادا للأرض ويمكن الاستقرار عليها ، فها هنا أولى.

فصل في منافع الأرض وصفاتها

فأولها : الأشياء المتولّدة فيها من المعادن ، والنبات ، والحيوان ، والآثار العلوية والسّفلية ، ولا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى.

وثانيها : اختلاف بقاع الأرض ، فمنها أرض رخوة ، وصلبة ، ورملة ، وسبخة ، وحرّة ، قال تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) [الرعد : ٤].

وقال تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) [الأعراف : ٥٨].

وثالثها : اختلاف طعمها وروائحها.

ورابعها : اختلاف ألوانها فأحمر ، وأبيض ، وأسود ، ورمادي ، وأغبر ، قال تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) [فاطر : ٢٧].

وخامسها : انصداعها بالنبات ، قال تعالى : (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) [الطارق : ١٢].

وسادسها : كونها خازنة للماء المنزل ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) [المؤمنون : ١٨].

وسابعها : العيون والأنهار العظام.

وثامنها : ما فيها من المفاوز والفلوات (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) [ق : ٧].

وتاسعها : أن لها طبع الكرم ؛ لأنك تدفع إليها حبّة واحدة وهي تردها عليك سبعمائة (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) [البقرة : ٢٦١].

وعاشرها : حباتها بعد موتها (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) [يس : ٣٣].

الحادي عشر : ما فيها من الدّواب المختلفة الألوان والصّور والخلق (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) [البقرة : ١٦٤].

الثانية عشرة : ما فيها من النبات المختلف ألوانه ، وأنواعه ، ومنافعه : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [ق : ٧].

وفي اختلاف ألوانها دلالة ، واختلاف روائحها دلالة ، فمنها قوت البشر ، ومنها

__________________

(١) في أ : كالمسطح.

٤١٧

قوت البهائم : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) [طه : ٥٤] ومطعوم البشر ، فمنها الطعام ومنها الإدام ، ومنها الرّواء ، ومنها الفاكهة ، ومنها الأنواع المختلفة في الحلاوة والحموضة ، ومنها كسوة البشر ؛ لأن الكسوة إمّا نباتية وهي القطن والكتان ، وإما حيوانية وهي الشّعر والصّوف ، والأبريسم ، والجلود ، وهي من الحيوانات التي بثّها الله في الأرض ، فالمطعوم من الأرض ، والملبوس من الأرض ؛ ثم قال : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٨].

وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا نعلمها نحن ، والله [تعالى عالم بها](١) ،

فصل

قال بعضهم : السّماء أفضل من الأرض لوجوه :

أحدها : أن السّماء متعبّد الملائكة ، وما فيها بقعة عصي الله فيها.

وثانيها : لما أتى آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الجنّة بتلك المعصية قيل : اهبط من الجنة ، وقال الله : «لا يسكن في جواري من عصاني».

وثالثها : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢] وقوله : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [الفرقان : ٦١] ولم يذكر في الأرض مثل ذلك.

ورابعها : في أكثر الأمر ورد ذكر السّماء مقدما على الأرض في الذكر.

وقال آخرون : بل الأرض أفضل ؛ لوجوه :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ وصف بقاعا في الأرض بالبركة (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) [آل عمران : ٩٦] ، (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) [القصص : ٣٠](إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) [الإسراء : ١].

ووصف أرض «الشام» بالبركة فقال : (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الأعراف : ١٣٧].

ووصف جملة الأرض بالبركة فقال : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ) [فصلت : ٩] إلى قوله : (وَبارَكَ فِيها) [فصلت : ١٠].

فإن قيل : فأي بركة في الفلوات الخالية ، والمفاوز المهلكة؟

قلنا : إنها مساكن الوحوش ومرعاها ، ومساكن النّاس إذا احتاجوا إليها ، فلهذه البركة قال تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [الذاريات : ٢٠] وهذه الآيات وإن كانت حاصلة لغير المؤمنين ، لكن لمّا لم ينتفع بها إلا الموقنون جعلها آيات للمؤمنين تشريفا لهم كما قال : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

__________________

(١) في ب : أعلم.

٤١٨

وثانيها : أنه ـ سبحانه ـ خلق الأنبياء المكرمين من الأرض على ما قال : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ) [طه : ٥٥] ولم يخلق من السماء شيئا ، لأنه قال : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢].

وثالثها : أن الله ـ تعالى ـ أكرم نبيّه ، فجعل الأرض كلها مسجدا ، وجعل ترابها طهورا.

فصل في فضل السّماء

وهو من وجوه :

الأول : أن الله ـ تعالى ـ زيّنها بسعبة أشياء : بالمصابيح (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥].

وبالقمر (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] وبالشمس : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٦].

وبالعرش ، وبالكرسي ، وباللوح المحفوظ ، وبالقلم ، فهذه السّبعة ثلاثة منها ظاهرة ، وأربعة مثبتة (١) بالدلائل السّمعية (٢).

الثاني : أنه ـ تعالى ـ سمّاها بأسماء تدلّ على عظم شأنها سماء ، وسقفا محفوظا ، وسبعا طباقا ، وسبعا شدادا ، ثم ذكر عاقبة أمرها فقال : (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) [المرسلات : ٩] ، (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) [التكوير : ١١] ، (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] ، و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] ، (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء : ١٠٤] ، (تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) [المعارج : ٨] ، (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) [الطور : ٩]. (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) [الرحمن : ٣٧].

وذكر مبدأها فقال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١] وقال : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠] فهذا الاستقصاء والتشديد في كيفية حدوثها وفنائها يدلّ على أنه ـ سبحانه وتعالى ـ خلقها لحكمة بالغة على ما قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص : ٢٧].

الثّالث : أنه ـ تعالى ـ جعل السّماء قبلة الدعاء ، فالأيدي ترفع إليها ، والوجوه تتوجّه نحوها ، وهي منزل الأنوار ، ومحل الضياء والصّفاء ، والطهارة ، والعصمة من الخلل والفساد.

والبناء : مصدر «بنيت» ، وإنما قلبت «الياء» همزة لتطرّفها بعد ألف زائدة ، وقد يراد به المفعول ، و «أنزل» عطف على «جعل» و «من السماء» متعلّق به ، وهي لابتداء الغاية،

__________________

(١) في أ : مبينة.

(٢) في أ : السبعة.

٤١٩

ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أن تكون حالا من «ما» ؛ لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها نصبت حالا ، وحينئذ معناها التبعيض ، وثمّ مضاف محذوف أي : من مياه السماء ماء.

وأصل «ماء» موه بدليل قولهم : «ماهت الرّكيّة تموه» وفي جمعه مياه وأمواه ، وفي تصغيره : مويه ، فتحركت «الياء» وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، فاجتمع حرفان خفيفان : «الألف» و «الهاء» ، فأبدلوا من «الهاء» أختها وهي الهمزة ؛ لأنها أجلد منها.

فإن قيل : كيف قال : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) [البقرة : ٢٢] وإنما ينزل من السّحاب؟ فالجواب أن يقال : ينزل من السّماء إلى السحاب ، ومن السحاب إلى الأرض.

فصل في أوجه ورود لفظ الماء

قال أبو العباس المقري : ورد لفظ الماء في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأوّل : بمعنى الماء المطلق كهذه الآية.

الثاني : بمعنى النّطفة. قال تعالى : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦].

وقوله : (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة : ٨].

الثالث : بمعنى القرآن. قال تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرعد : ١٧] بمعنى القرآن ، احتمله الناس على قدر.

قوله : «فأخرج» عطف على «أنزل» مرتب عليه ، و «به» متعلق به ، و «الباء» فيه للسببية ، و «من الثمرات» متعلّق به أيضا ، و «من» هنا للتبعيض ، كأنه قصد بتنكير (١) الماء والرزق معنى البعضيّة ، كأنه قيل : وأنزل من السماء بعض الماء ، فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ؛ إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات ، إنما ذكر بعض رزقهم.

وأبعد من جعلها زائدة لوجهين :

أحدهما : زيادتها في الواجب ، وكون المجرور بها معرفة ، وهذا لا يقول به بصريّ ولا كوفيّ إلّا أبا الحسن الأخفش (٢).

والثاني : أن يكون جميع الثمرات رزقا لنا. وهذا يخالف الواقع ؛ إذ كثير من الثمرات ليس رزقا لنا. وجعلها الزمخشري لبيان الجنس ، وفيه نظر ؛ إذ لم يتقدم ما يبين هذا ، وكأنه يعني أنه بيان ل «رزقا» من حيث المعنى.

و «رزقا» ظاهره أنه مفعول به ناصبه «أخرج» ، ويجوز أن يكون «من الثمرات» في موضع المفعول به ، والتقدير : فأخرج ببعض الماء بعض الثمرات ، وفي «رزقا» حينئذ وجهان :

__________________

(١) في أ : تذكير.

(٢) ينظر معاني القرآن : ٩٨.

٤٢٠