اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) «إنّ» واسمها و «معكم» خبرها ، والأصل في «إنا» : «إننا» لقوله تعالى : (إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً) [آل عمران : ١٩٣] ، وإنما حذفت نوني «إنّ» لما اتصلت بنون «نا» ، تخفيفا.

وقال أبو البقاء (١) : «حذفت النون الوسطى على القول الصحيح ، كما حذفت في «إن» إذا خففت».

و «مع» ظرف والضمير بعده في محلّ خفض بإضافته إليه وهو الخبر ـ كما تقدم ـ فيتعلّق بمحذوف وهو ظرف مكان ، وفهم الظرفية منه قلق.

قالوا : لأنه يدلّ على الصحبة ، ومن لازم الصحبة الظّرفية ، وأما كونه ظرف مكان ، لأنه يخبر به عن الجثث نحو : «زيد معك» ، ولو كان ظرف زمان لم يجز فيه ذلك.

واعلم أن «مع» لا يجوز تسكين عينها إلا في شعر كقوله : [الوافر]

٢١٠ ـ فريشي منكم وهواي معكم

وإن كانت زيارتكم لماما (٢)

وهي حينئذ على ظرفيتها خلافا لمن زعم أنها حينئذ حرف جرّ ، وإن كان النّحاس ادّعى الإجماع في ذلك ، وهي من الأسماء اللازمة للإضافة ، وقد تقطع لفظا ، فتنتصب حالا غالبا ، تقول : جاء الزيدان معا أي : مصطحبين ، وقد تقع خبرا ، قال الشاعر : [الطويل]

٢١١ ـ حننت إلى ريّا ونفسك باعدت

مزارك من ريّا وشعباكما معا (٣)

ف «شعباكما» مبتدأ ، و «معا» خبره ، على أنه يحتمل أن يكون الخبر محذوفا ، و «معا» حال.

واختلفوا في «مع» حال قطعها عن الإضافة ؛ هل هي من باب المقصور نحو : «عصى» و «رحا» ، أو المنقوص نحو : «يد» و «دم»؟ قولان :

__________________

(١) ينظر الإملاء : ١ / ٢٠.

(٢) البيت لجرير ينظر ديوانه : ص ٢٢٥ ، وللراعي النميري في ملحق ديوانه : ص ٣٣١ ، وينظر الكتاب : ٢ / ٤٢٨٧ ، أوضح المسالك : ٣ / ١٤٩ ، ولسان العرب (معع) ، وشرح ابن عقيل : ص ٣٩٥ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣٢٠ ، ورصف المباني : ص ٣٢٩ ، والجنى الداني : ص ٣٠٦ ، ومعاني القرآن : (١ / ٥٤) ، والأمالي الشجرية : (١ / ٢٤٥) ، (٢ / ٢٥٤) ، وابن يعيش : (٢ / ١٢٨) ، (٥ / ١٣٨) ، وشرح الكافية الشافية : (٢ / ٩٥١) ، وارتشاف الضرب : (٢ / ٢٦٧) ، وشرح الألفية لابن الناظم : (٣٩٩) ، والتصريح : (٢ / ٤٨ ، ١٩٠) ، ومجمع البيان : (١ / ١١٠) ، والدر المصون : (١ / ١٢٤) شرح أبيات سيبويه : ٢ / ٢٩١ ، المقاصد النحوية : ٣ / ٤٣٢.

(٣) البيت للصمة القشيري ينظر الأغاني : ٦ / ٨ ، ٩ ، وأمالي القالي : ١ / ١٩٠ ، وسمط اللآلي : ص ٤٦١ ، وشرح ديوان الحماسة : ص ١٢١٥ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٤٣١ ، العيني : (٣ / ٤٣١) ، شرح الألفية لابن الناظم : (٣٩٩) ، والدر المصون : (١ / ١٢٤).

٣٦١

الأوّل : قول يونس ، والأخفش.

والثاني : قول الخليل وسيبويه ، وتظهر فائدة ذلك إذا سمّي به

فعلى الأول تقول : «جاءني معا» و «رأءت معا» و «مررت بمعا».

وعلى الثاني : «جاءني مع» و «رأيت معا» و «مررت بمع» ك «يد» ، ولا دليل على القول الأوّل في قوله : «وشعبا كما معا» ؛ لأن معا منصوب على الظّرف النائب عن الخبر ، نحو : «زيد عندك» وفيها كلام كثير.

فصل في نظم الآية

لم كانت مخاطبتهم للمؤمنين بالجملة الفعلية ومخاطبة شياطينهم بالجملة الاسمية محققة ب «إن»؟

قال ابن الخطيب : الجواب : ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديرا بأقوى الكلامين ؛ لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم ، لا في ادعاء أنهم في الدّرجة الكاملة منه ، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة ، لأن القول الصادر عن النّفاق والكراهة قلّما يحصل معه المبالغة ، وإما لعلمهم بأن ادّعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين ، وأما كلامهم مع إخوانهم ، فكانوا يقولونه عن الاعتقاد ، ويعلمون أنّ المستمعين يقبلون ذلك منهم ، فلا جرم كان التأكيد لائقا به. واختلفوا في قائل هذا القول أهم كلّ المنافقين ، أو بعضهم؟

فمن حمل الشّياطين على كبار المنافقين ، فحمل هذا القول على أنه من صغارهم ، فكانوا يقولون للمؤمنين : «آمنا» ، وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا : «إنا معكم» ، ومن قال : المراد بالشّياطين الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كلّ المنافقين.

وقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) كقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : ١١] ، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها من الإعراب لاستئنافها ؛ إذ هي جواب لرؤسائهم ، كأنهم لما قالوا لهم : «إنّا معكم» توجّه عليهم سؤال منهم ، وهو : فما بالكم مع المؤمنين تظاهرونهم على دينهم ، فأجابوهم بهذه الجملة.

وقيل : محلّها النصب ، لأنها بدل من قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ).

وقياس تخفيف همزة «مستهزؤون» ونحوه أن تجعل بين بين ، أي بين الهمزة والحرف الذي منه حركتها وهو «الواو» ، وهو رأي سيبويه ، ومذهب الأخفش قلبها «ياء» محضة.

وقد وقف حمزة على (مُسْتَهْزِؤُنَ) و (فَمالِؤُنَ) [الصافات : ٦٦] و (لِيُطْفِؤُا) [الصف : ٨] و (لِيُواطِؤُا) [التوبة : ٣٧] و (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) [يونس : ٥٣] و (الْخاطِئِينَ) [يوسف : ٥٧] و (الْخاطِؤُنَ) [الحاقة : ٣٧] ، و (مُتَّكِئِينَ) [الكهف : ٣١] و (مُتَّكِؤُنَ)

٣٦٢

[يس : ٥٦] ، و (الْمُنْشِؤُنَ) [الواقعة : ٧٢] بحذف صورة الهمزة اتباعا لرسم المصحف.

وقولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) توكيد لقولهم : «إنّا معكم».

وقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) الله : رفع بالابتداء ، و «يستهزىء» : جملة فعلية في محلّ رفع خبر ، و «بهم» متعلّق به ، ولا محل لهذه الجملة لاستئنافها.

و «يمدّهم» يتركهم ويمهلهم ، وهو في محلّ رفع أيضا لعطفه على الخبر ، وهو «يستهزىء». و «يعمهون» في محلّ الحال من المفعول في «يمدّهم» ، أو من الضمير في «طغيانهم» ، وجاءت الحال من المضاف إليه ؛ لأنّ المضاف مصدر.

و «في طغيانهم» يحتمل أن يتعلّق ب «يمدهم» ، أو ب «يعمهون» ، وقدّم عليه ، إلّا إذا جعل «يعمهون» حالا من الضّمير في «طغيانهم» ، فلا يتعلّق به حينئذ ، لفساد المعنى.

وقد منع أبو البقاء أن يكون «في طغيانهم» ، و «يعمهون» حالين من الضّمير في «يمدهم» معللا ذلك بأن العامل الواحد لا يعمل في حالين ، وهذا على رأي من منع ذلك.

وأما من يجيز تعدّد الحال مع عدم تعدّد صاحبها فيجيز ذلك ، إلّا أنه في هذه الآية ينبغي أن يمنع من ذلك لا لما ذكره أبو البقاء ، بل لأن المعنى يأبى جعل هذا الجار والمجرور حالا ؛ إذ المعنى منصب على أنه متعلّق بأحد الفعلين ، أعني : «يمدّهم» ، أو «يعمهون» لا بمحذوف على أنه حال.

والمشهور فتح «الياء» من «يمدهم».

وقرىء شاذا (١) «يمدّهم» بضم الياء.

فقيل : الثلاثي (٢) والرّباعي بمعنى واحد تقول : «مدّه» و «أمدّه» بكذا.

وقيل : «مدّه» إذا زاده عن جنسه ، و «أمدّه» إذا أراده من غير جنسه.

وقيل : مدّه في الشّرّ لقوله تعالى : (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) [مريم : ٧٩] ، وأمدّه في الخير لقوله تعالى : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) [نوح : ١٢](وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ) [الطور : ٢٢] ، (أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) [آل عمران : ١٢٤] إلّا أنه يعكر على هذين الفرقين أنه قرىء : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) [الأعراف : ٢٠٣] باللغتين ، ويمكن أن يجاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيه ضم «الياء» أنه بمنزلة قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ) [آل عمران : ٢١] ، (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) [الليل : ١٠] يعني أبو علي ـ رحمه‌الله ـ بذلك أنه على سبيل التهكّم.

__________________

(١) انظر الكشاف : ١ / ٦٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٠٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٨٠.

(٢) في أ : الثاني.

٣٦٣

وأصل المدد الزيادة.

وقال الزمخشري (١) : فإن قلت : لم زعمت أنه من المدد دون المدّ في العمر والإملاء والإمهال؟

قلت : كفاك دليلا على ذلك قراءة ابن كثير ، وابن محيصن (٢) : «ويمدهم» وقراءة نافع (٣) : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ) [الأعراف : ٢٠٢] على أنّ الذي بمعنى أمهل إنما هو مدّ له ب «اللام» كأملى له.

والاستهزاء لغة : السخرية واللّعب ؛ يقال : هزىء به ، واستهزأ ، قال : [الرجز]

٢١٢ ـ قد هزئت منّي أمّ طيسله

قالت : أراه معدما لا مال له (٤)

وقيل : أصله الانتقام ؛ وأنشد : [الطويل]

٢١٣ ـ قد استهزؤوا منهم بألفي مدجّح

سراتهم وسط الصّحاصح جثّم (٥)

فعلى هذا القول الثّاني نسبة الاستهزاء إليه ـ تعالى ـ على ظاهرها.

وأما على القول الأول فلا بد من تأويل وهو من وجوه :

الأول : قيل : المعنى : يجازيهم على استهزائهم ، فسمى العقوبة باسم الذّنب ليزدوج الكلام ، ومنه : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ) [الشورى : ٤٠] ، (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [البقرة : ١٩٤].

وقال : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ، (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤].

وقال عليه الصلاة والسلام : «اللهمّ إنّ فلانا هجاني ، وهو يعلم أني لست بشاعر ، اللهم فاهجه ، اللهم فالعنه عدد ما هجاني» (٦) ؛ وقال عليه الصلاة والسّلام : «تكلّفوا من الأعمال ما تطيقون فإنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا» (٧) ؛ وقال عمرو بن كلثوم : [الوافر]

__________________

(١) ينظر الكشاف : ١ / ٦٧.

(٢) انظر : القراءة السابقة.

(٣) ستأتي في الأعراف آية (٢٠٢).

(٤) البيت لصخر الهلالي. ينظر أمالي القالي : (٢ / ٢٨٤) ، النكت والعيون : (١ / ١٣٧) ، القرطبي : (١ / ٢٠٧) الدر المصون : (١ / ١٢٦).

(٥) ينظر القرطبي : ١ / ١٤٥ ، والدر المصون : ١ / ١٢٦.

(٦) أخرجه ابن أبي حاتم في العلل (٢ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣) رقم (٢٢٨٣) وقال أبو حاتم : هذا حديث خطأ إنما يروونه عن عدي بن ثابت مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا البراء بن عازب.

(٧) أخرجه البخاري (٤ / ٢٥١) رقم (١٩٧٠) بلفظ : خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ومسلم (صلاة المسافرين) ب (٣١) رقم (٢٢) وأحمد (٦ / ٨٤) والبيهقي (٣ / ١٧) وعبد الرزاق ـ

٣٦٤

٢١٤ ـ ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا (١)

وثانيها : أنّ ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع إليهم ، وغير ضارّ بالمؤمنين ، فيصير كأن الله استهزأ بهم.

وثالثها : أنّ من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة ، فذكر الاستهزاء ، والمراد حصول الهوان لهم فعبّر بالسّبب عن المسبّب.

ورابعها : أنّ استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدّنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة ، كما أنهم أظهروا [للنّبي و](٢) المؤمنين أمرا مع أنّ الحاصل منهم في السر خلافه ، وهذا ضعيف ؛ لأنه ـ تعالى ـ لما أظهر لهم أحكام الدّنيا ، فقد أظهر الأدلّة الواضحة بما يعاملون به في الدّار الآخرة ، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا.

وخامسها : أن الله ـ تعالى ـ يعاملهم معاملة المستهزىء في الدّنيا والآخرة ، أما في الدنيا ، فلأنه أطلع الرسول على أسرارهم لمبالغتهم في إخفائها ، وأمّا في الآخرة فقال ابن عبّاس : هو أن يفتح لهم بابا من الجنة ، فإذا رأوه المنافقون خرجوا من الجحيم متوجّهين إلى الجنة ، فإذا وصلوا إلى باب الجنة ، فهناك يغلق دونهم الباب ، فذلك قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ)(٣) [المطففين : ٣٤] وقيل : هو أن يضرب للمؤمنين نور يمشون به على صراط ، فإذا وصل المنافقون إليه حيل بينهم وبينه ، كما قال تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) [الحديد : ١٣] الآية.

فإن قيل : هلا قيل : إن الله يستهزىء بهم ليكون مطابقا لقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤]؟

__________________

ـ (٢٠٥٦٦) وابن عبد البر في التمهيد (١ / ١٩٢) والطبري في تفسيره (٢٩ / ٥٠).

وأخرجه أبو داود في السنن (١ / ٤٣٥) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا فإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل والنسائي في السنن (٢ / ٦٨) كتاب القبلة (٩) باب المصلي يكون بينه وبين الإمام سترة حديث رقم (٧٦٢).

وابن ماجه في السنن (٢ / ١٤١٧) كتاب الزهد (٣٧) باب المداومة على العمل (٢٧) ، حديث رقم (٤٢٤٠).

وأحمد في المسند (٦ / ٦١) ، ١٧٦ ، ٢٤١ ، ٢٧٦).

وابن أبي شيبة في المصنف (٣ / ٨٣).

وذكره ابن حجر في فتح الباري ٤ / ١٧٣.

والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٥ / ١٦٠) ولفظه تكلفوا من العمل ما تطيقون.

(١) البيت من معلقته المشهورة. ينظر شرح المعلقات السبع للزوزني (١٠٢) ، والتبيان في علم المعاني والبديع والبيان (٣٤٨) ، والبحر (١ / ١٨٦) ، والقرطبي : (١ / ١٤٥) والدر المصون : (١ / ١٢٦).

(٢) سقط في أ.

(٣) الأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٩) وعزاه للبيهقي في «الأسماء والصفات» عن ابن عباس.

٣٦٥

والجواب : أنّ «يستهزىء» يفيد حدوث الاستهزاء وتجدّده وقتا بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) [التوبة : ١٢٦].

و «الطّغيان» : الضلال مصدر طغى يطغى طغيانا وطغيانا بكسر الطّاء وضمها. وبكسر الطّاء قرأ زيد بن علي (١) ، ولام «طغى» قيل : ياء. وقيل : واو ، يقال : طغيت وطغوت ، وأصل المادّة مجاوزة الحدّ ، ومنه : طغى الماء.

و «العمه» : التردّد والتحيّر ، وهو قريب من العمى ، إلا أن بينهما عموما وخصوصا ؛ لأن العمى يطلق على ذهاب ضوء العين ، وعلى الخطأ في الرأي ، والعمه لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي ، يقال : عمه عمها وعمهانا فهو عمه وعامه.

فصل في الرد على المعتزلة

قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه :

أحدها : قوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) [الأعراف : ٢٠٣] أضاف ذلك الغيّ إلى إخوانهم ، فكيف يكون مضافا إلى الله.

وثانيها : أن الله ـ تعالى ـ ذمّهم على هذا الطغيان ، فلو كان فعلا لله ـ تعالى ـ فكيف يذمهم عليه؟

وثالثها : لو كان فعلا لله ـ تعالى ـ لبطلت النبوة ، وبطل القرآن ، فكان الاشتغال بتفسيره عبثا.

ورابعها : أنه ـ تعالى ـ أضاف الطّغيان إليهم بقوله : (فِي طُغْيانِهِمْ) ، ولو كان من الله لما أضافه إليهم فظهر أنه إنما أضافه إليهم ليعلم أنه ـ تعالى ـ غير خالق لذلك ، ومصداقه أنه حين أسند المدّ إلى الشّياطين أطلق الغيّ ، ولم يقيده بالإضافة في قوله : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) إذا ثبت هذا ، فلا بدّ من التأويل ، وهو من وجوه :

أحدها : قال الكعبيّ وأبو مسلم الأصفهاني : إن الله ـ تعالى ـ لمّا منحهم ألطافه التي منحها للمؤمنين ، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مظلمة بتزايد الرّين فيها ، وكتزايد النور في قلوب المؤمنين ، فسمى ذلك النور مددا ، وأسنده إلى الله تعالى ؛ لأنه مسبّب عن فعله بهم.

وثانيها : أن يحمل على منع القسر والإلجاء.

وثالثها : أن يسند فعل الشيطان إلى الله ـ تعالى ـ لأنه بتمكينه ، وإقداره ، والتّخلية بينه وبين إغواء عباده.

__________________

(١) وهي لغة يقال : طغيان بالضم والكسر كما قالوا : لقيان ، وغينان بالضم والكسر. انظر البحر المحيط : ١ / ٢٠٣.

٣٦٦

ورابعها : قال الجبّائي : ويمدهم أي يمد عمرهم ، ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون ، وهذا ضعيف من وجهين :

الأول : ما بيّنا أنه لا يجوز في اللّغة تفسير «ويمدهم» بالمدّ في العمر.

الثاني : هب أنه يصحّ ذلك ، ولكنه يفيد أنه ـ تعالى ـ يمد عمرهم بغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون ، وذلك يفيد الإشكال.

أجاب القاضي عن ذلك بأنه ليس المراد أنه ـ تعالى ـ يمدّ عمرهم بغرض أن يكونوا في الطغيان ، بل المراد أنه ـ تعالى ـ يبقيهم ، ويلطف بهم في الطّاعة ، فيأبون إلّا أن يعمهوا.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)(١٦)

«أولئك» : رفع بالابتداء و «الذين» وصلته خبره.

وقوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) هذه الجملة عطف على الجملة الواقعة صلة ، وهي: «اشتروا».

وزعم بعضهم أنها خبر المبتدأ ، وأنّ الفاء دخلت في الخبر لما تضّمنه الموصول من معنى الشّرط ، فيصير نظير قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) [البقرة : ٢٧٤] ، ثم قال : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ). وهذا وهم ؛ لأن «الذين» ليس مبتدأ حتى يدّعي دخول الفاء في خبره ، بل هو خبر عن «أولئك» كما تقدّم. فإن قيل : يكون الموصول مبتدأ ثانيا ، فتكون الفاء دخلت في خبره.

قلنا : يلزم من ذلك عدم الربط بين المبتدأ والجملة الواقعة خبرا عنه ، وأيضا فإنّ الصّلة ماضية معنى.

فإن قيل : يكون «الّذين» بدلا من «أولئك» فالجواب يصير الموصول مخصوصا لإبداله من مخصوص ، والصّلة أيضا ماضية.

فإن قيل : يكون «الذين» صفة ل «أولئك» ، ويصير نظير قولك : «الرجل الذي يأتيني فله درهم».

قلنا : يرد بما رد به السؤال الثّاني ، وبأنه لا يجوز أن يكون وصفا له ؛ لأنه أعرف منه ، ففسد هذا القول.

والمشهور ضمّ واو «اشتروا» لالتقاء الساكنين ، وإنما ضمت تشبيها بتاء الفاعل.

وقيل : للفرق بين واو الجمع والواو الأصلية نحو : (لَوِ اسْتَطَعْنا) [التوبة : ٤٢].

وقيل : لأن الضمة ـ هنا ـ أخفّ من الكسرة ؛ لأنّها من جنس الواو.

٣٦٧

وقيل : حركت بحركة الياء المحذوفة ، فإن الأصل : «اشتريوا» كما سيأتي.

وقيل : هي للجمع فهي مثل : «نحن». وقرىء بكسرها (١) على أصل التقاء الساكنين ، وبفتحها ؛ لأنها أخف.

وأجاز الكسائي همزها تشبيها لها ب «أدؤر» و «أثؤب» وهو ضعيف ؛ لأن ضمها غير لازم.

وقال أبو البقاء : «ومنهم من يختلسها ، فيحذفها لالتقاء السّاكنين ؛ وهو ضعيف جدّا ، لأن قبلها فتحة ، والفتحة لا تدلّ عليها».

وأصل اشتروا : اشتريوا ، فتحركت الياء ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، ثم حذفت لالتقاء السّاكنين ، وبقيت الفتحة دالّة عليها.

وقيل : بل حذفت الضّمّة من الياء فسكنت ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الياء لالتقائها ساكنة مع «الواو».

فإن قيل : واو الجمع قد حركت ، فينبغي أن يعود السّاكن المحذوف؟

فالجواب : أنّ هذه الحركة عارضة فهي في حكم السّاكن ، ولم يجىء ذلك إلّا في ضرورة الشعر ؛ وأنشد الكسائيّ :

٢١٥ ـ يا صباح لم تنام العشيّا

 ........... (٢)

فأعاد الألف لما حركت الميم حركة عارضة.

و «الضّلالة» مفعوله ، وهي : الجور عن القصد ، وفقد الاهتداء ، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين.

و «بالهدى» متعلّق ب «اشتروا» والباء هنا للعوض ، وهي تدخل على المتروك أبدا.

فأما قوله تعالى : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) [النساء : ٧٤] ، فإنّ ظاهره أن الآخرة هي المأخوذة لا المتروكة.

فالجواب ما قاله الزّمخشريّ : «أن المراد ب «المشترين» المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النّفاق ، ويخلصوا الإيمان بالله ـ تعالى ـ ورسوله ، ويجاهدوا في الله حقّ الجهاد ، فحينئذ دخلت «الباء» على المتروك».

والشّراء ـ هاهنا ـ مجاز عن الاستبدال بمعنى أنهم لما تركوا الهدى ، وآثروا الضلالة ، جعلوا بمنزلة المشترين لها بالهدى ، ثم رشح هذا المجاز بقوله تعالى : (فَما

__________________

(١) وهوقراءة ابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر ، وقرأ بالفتح قعنب أبو السمال العدوي ، انظر المحرر الوجيز : ١ / ٩٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٠٤ ، والقرطبي : ١ / ١٤٧.

(٢) ينظر الدر المصون : ١ / ١٢٧.

٣٦٨

رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) فأسند الرّبح إلى التّجارة ، والمعنى : فما ربحوا في تجارتهم ؛ ونظير هذا التّرشيح قول الآخر : [الطويل]

٢١٦ ـ بكى الخزّ من روح وأنكر جلده

وعجّت عجيجا من جذام المطارف (١)

لما أسند البكاء إلى الخزّ من أجل هذا الرجل ـ وهو روح ـ وإنكاره لجلده مجازا رشّحه بقوله : «وعجّت المطارف من جذام» أي : استغاثت الثياب من هذه القبيلة. وقول الآخر : [الطويل]

٢١٧ ـ ولمّا رأيت النّسر عزّ ابن داية

وعشّش في وكريه جاش له صدري (٢)

لما جعل «النّسر» عبارة عن الشّيب ، و «ابن داية» وهو الغراب عبارة عن الشباب ، مجازا رشّحه بذكر التعشّش في الوكر ، وقول الآخر : [الوافر]

٢١٨ ـ فما أمّ الرّدين وإن أدلّت

بعالمة بأخلاق الكرام

إذا الشّيطان قصّع في قفاها

تنفّقناه بالحبل التّؤام (٣)

لما قال : «قصّع في قفاها» أي : دخل من القاصعاء ، وهي : جحر من جحرة اليربوع رشّحه بقوله : «تنفّقناه» أي : أخرجناه من النّافقاء ، وهي ـ أيضا ـ من جحرة اليربوع فكذا هنا لما ذكر سبحانه الشّر ، أتبعه بما يشاكله ، وهو الربح تمثيلا لخسارتهم.

والربح : الزيادة على رأس المال.

وقوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) هذه الجملة معطوفة على قوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ).

والمهتدي : اسم فاعل من اهتدى ، و «افتعل» هنا للمطاوعة ، ولا يكون «افتعل» للمطاوعة إلا من فعل متعدّ.

وزعم بعضهم أنه يجيء من اللّازم ، واستدل على ذلك بقول الشاعر : [الرجز]

٢١٩ ـ حتّى إذا اشتال سهيل في السّحر

كشعلة القابس ترمي بالشّرر (٤)

قال : ف «اشتال» افتعل لمطاوعة «شال» ، وهو لازم ، وهذا وهم ؛ لأن «افتعل» هنا ليس للمطاوعة ، بل بمعنى «فعل» المجرد.

__________________

(١) البيت لحميدة بنت النعمان. ينظر الكتاب : (٢ / ٢٥) ، والمقتضب : (٣ / ٣٦٤) ، وشرح جمل الزجاجي : (١ / ٢٦٤) ، والمخصص : (١٧ / ٤٠) والاقتضاب : (١١٧ ، ٢٠٦) ، البحر المحيط : (١ / ٢٠٥) ، الدر المصون : (١ / ١٢٦).

(٢) البيت لابن المعتز. ينظر ديوانه : ٢ / ٤٣ ، شواهد الكشاف : ٤ / ٣٩٤ ، الدر : ١ / ١٢٨.

(٣) ينظر البيتان في الكشاف : ١ / ٧١ ، الدر المصون : ١ / ١٢٨.

(٤) ينظر البيت في الممتع : (١٩٣) ، المنصف : (١ / ٧٥) ، واللسان مادة (شول) ، البحر المحيط : (١ / ١٩٥) ، روح المعاني : (١ / ١٦٢) ، والدر المصون : (١ / ١٢٨).

٣٦٩

ومعنى الآية أنهم ما كانوا مهتدين من الضلالة ، وقيل : مصيبين في تجارتهم ؛ لأنّ المقصود من التّجارة سلامة رأس المال ، والربح ، وهؤلاء أضاعوا الأمرين ؛ لأن رأس مالهم هو العقل الخالي عن المانع ، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة مانعة من الاشتغال بطلب العقائد الحقة.

فهؤلاء مع أنهم لم يربحوا فقد أفسدوا رأس المال ، وهو العقل الهادي إلى العقائد الحقّة.

وقال قتادة : «انتقلوا من الهدى إلى الضّلالة ، ومن الطاعة إلى المعصية ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السّنّة إلى البدعة».

قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)(١٧)

اعلم أن المقصود من ضرب المثال أنه يؤثر في القلب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، وذلك لأن الغرض من المثل تشبيه الخفيّ بالجليّ والغائب بالشاهد ، فيتأكّد الوقوف على ماهيته ، ويصير الحس مطابقا للعقل ، وذلك هو النهاية في الإيضاح في الترغيب في الإيمان لذا مثل بالظّلمة ، فإذا أخبرت عن ضعف أمر ومثّلته بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في وقعه في القلب بالخبر مجردا.

قوله : «مثلهم» : مبتدأ و «كمثل» جار ومجرور خبره ، فيتعلّق بمحذوف على قاعدة الباب ، ولا مبالاة بخلاف من يقول : إنّ «كاف» التشبيه لا تتعلّق بشيء ، والتقدير : مثلهم مستقر كمثل. وأجاز أبو البقاء (١) وابن عطية (٢) أن تكون «الكاف» اسما هي الخبر ، ونظيره قول الشاعر : [البسيط]

٢٢٠ ـ أتنتهون؟ ولن ينهى ذوي شطط

كالطّعن يذهب فيه الزّيت والفتل (٣)

وهذا مذهب الأخفش : يجيز أن تكون «الكاف» اسما مطلقا.

وأما مذهب سيبويه فلا يجيز ذلك إلا في شعر ، وأمّا تنظيره بالبيت فليس كما قال ؛ لأنّ في البيت نضطر إلى جعلها اسما لكونها فاعلة ، بخلاف الآية.

__________________

(١) البيت للأعشى ينظر ديوانه : ١١٣ ، والأشباه والنظائر : ٧ / ٢٧٩ ، والجنى الداني : ٨٢ ، وخزانة الأدب : ٩ / ٤٥٣ و ٤٥٤ ، ١٠ / ١٧٠ ، والدرر : ٤ / ١٥٩ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٢٨٣ ، شرح شواهد الإيضاح : ٢٣٤ ، وشرح المفصل : ٨ / ٤٣ ، ولسان العرب [دنا] ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٢٩١ ، والخصائص : ٢ / ٣٦٨ ، ورصف المباني : ١٩٥ ، أمالي ابن الشجري : (٢ / ٢٢٩) والأصول : (١ / ٤٣٩) وشرح جمل الزجاجي : (١ / ٤٧٨) ، وشرح الألفية لابن الناظم : (٣٦٩) ، والدر المصون : ١ / ١٢٨ ، المحرر : ١ / ٩٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٠٩ ، وروح المعاني : (١ / ١٦٣).

(٢) ينظر الاملاء : ١ / ٢٠.

(٣) تقدم برقم (٢٢٠).

٣٧٠

والذي ينبغي أن يقال : إن «كاف» التشبيه لها ثلاثة أحوال :

حال يتعيّن فيها أن تكون اسما ، وهي ما إذا كانت فاعلة ، أو مجرورة بحرف ، أو إضافة. مثال الفاعل : [البسيط]

٢٢١ ـ أتنتهون ولن ينهى ...

 ........... (١)

البيت.

ومثال جرّها بحرف قول امرىء القيس : [الطويل]

٢٢٢ ـ ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا

تصوّب فيه العين طورا وترتقي (٢)

وقوله : [الوافر]

٢٢٣ ـ وزعت بكالهراوة أعوجيّ

إذا ونت الرّكاب جرى وثابا (٣)

ومثال جرّها بالإضافة قوله : [السريع أو الرجز]

٢٢٤ ـ فصيّروا مثل كعصف مأكول (٤)

وحال يتعيّن أن تكون فيها حرفا ، وهي : الواقعة صلة ، نحو : جاء الذي كزيد ؛ لأن جعلها اسما يستلزم حذف عائد مبتدأ من غير طول الصّلة ، وهذا ممتنع عند البصريين.

وحال يجوز فيها الأمران ، وهي ما عدا ذلك نحو : «زيد كعمرو».

وأبعد من جعلها زائدة في الآية الكريمة ، أي : مثلهم مثل الذي ، ونظّره بقوله : «فصيّروا مثل كعصف» كأنه جعل المثل والمثل بمعنى واحد ، والوجه أن المثل ـ هنا ـ بمعنى القصّة والتقدير : صفتهم وقصتهم كقصّة المستوقد ، فليست زائدة على هذا

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٩٩.

(٢) ينظر ديوانه ص ١٧٦ ، وأدب الكاتب : ص ٥٠٥ ، وخزانة الأدب : ١٠ / ١٦٧ ، ١٧١ ، ورصف المباني : ص ١٩٦ ، وأمالي ابن الشجري : (٢ / ٢٩٩) ، والاقتضاب : (٤٢٩) ، وشرح جمل الزجاجي : (١ / ٤٧٨) ، والجامع لأحكام القرآن : (١ / ١٤٨) ، والدر المصون : (١ / ١٢٩).

(٣) البيت لابن غادية السلمي ينظر الاقتضاب : ص ٤٢٩ ، وأدب الكاتب : ص ٥٠٥ ، ولسان العرب (وثب) ، (ثوب) ، والمقرب : ١ / ١٩٦ ، وجمهرة اللغة : ص ١٣١٨ ، ورصف المباني : ص ١٩٦ ، وسر صناعة الإعراب : ص ٢٨٦ ، شرح جمل الزجاجي : ١ / ٤٧٨ ، المخصص : ١٤ / ٦٤ ، الدر المصون : ١ / ١٢٩.

(٤) البيت لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٨١ ؛ وخزانة الأدب ١٠ / ١٦٨ ، ١٧٥ ، ١٨٤ ، ١٨٩ ؛ وشرح التصريح ١ / ٢٥٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٥٠٣ ، والمقاصد النحويّة ٢ / ٤٠٢ ، ولحميد الأرقط في الدرر ٢ / ٢٥٠ ، والكتاب ١ / ٤٠٨ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٥٢ ؛ والجنى الداني ص ٩٠ ؛ وخزانة الأدب ٧ / ٧٣ ؛ ورصف المباني ص ٢٠١ ؛ وسرّ صناعة الإعراب ص ٢٩٦ ، وشرح الأشموني ١ / ١٥٨ ؛ ولسان العرب ٩ / ٢٤٧ (عصف) ؛ ومغني اللبيب ١ / ١٨٠ ؛ والمقتضب ٤ / ١٤١ ، ٣٥٠ ، وهمع الهوامع ١ / ١٥٠ ، والدر المصون ١ / ١٢٩.

٣٧١

التأويل ، وهذا جواب عن سؤال أيضا ، وهو أن يقال : قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) يقتضي تشبيه مثلهم مثل المستوقد ، فما مثل المنافقين ومثل المستوقد حتّى شبّه أحدهما بالآخر؟

فالجواب : أن يقال : استعير المثل للقصّة وللصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة ، كأنه قيل : قصّتهم العجيبة كقصّة الذي استوقد نارا ، وكذا قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الرعد : ٣٥] أي فيما قصصنا عليه من العجائب قصّة الجنّة العجيبة.

(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦٠] أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة.

(مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) [الفتح : ٢٩] أي : وصفهم وشأنهم المتعجّب منه ، ولكن المثل ـ بالفتح ـ في الأصل بمعنى مثل ومثيل نحو : شبه وشبه وشبيه. وقيل : بل هي في الأصل الصّفة.

وأما المثل في قولهم : «ضرب مثلا» فهو القول السّائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه ، ولذلك حوفظ على لفظه فلم يغير.

و «الذي» : في محلّ خفض بالإضافة ، وهو موصول للمفرد المذكّر ، ولكن المراد به ـ هنا ـ جمع ولذلك روعي معناه في قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ) فأعاد الضمير عليه جمعا ، والأولى أن يقال : إنّ «الذي» وقع وصفا لشيء يفهم الجمع ، ثم حذف ذلك الموصوف للدّلالة عليه.

والتقدير : ومثلهم كمثل الفريق الذي استوقد ، أو الجمع الذي استوقد ؛ ويكون قد روعي الوصف (١) مرة ، فعاد الضمير عليه مفردا في قوله : (اسْتَوْقَدَ ناراً) و «حوله» ، والموصوف أخرى فعاد الضمير عليه مجموعا في قوله : «بنورهم» ، و «تركهم».

وقيل : إنّ المنافقين ذاتهم لم يشبهوا بذات المستوقد ، وإنما شبهت قصّتهم بقصّة المستوقد ، ومثله قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ) [الجمعة : ٥] وقوله : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [محمد : ٢٠].

وقيل : المعنى : ومثل كل واحد منهم كقوله : (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧] أي : يخرج كلّ واحد منكم. ووهم أبو البقاء ، فجعل هذه الآية من باب ما حذفت منه النّون تخفيفا ، وأنّ الأصل : «الذين» ثم خففت بالحذف ، وكأنه مثل قوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] ؛ وقول الشاعر : [الطويل]

٢٢٥ ـ وإنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (٢)

والأصل : «كالذين خاضوا» «وإنّ الذين حانت». وهذا وهم ؛ لأنه لو كان من باب

__________________

(١) في أ : الموصوف.

(٢) تقدم برقم (٧٩).

٣٧٢

ما حذفت النون منه لوجب مطابقة الضمير جمعا كما في قوله تعالى : (كَالَّذِي خاضُوا) و «دماؤهم» ، فلما قال تعالى : (اسْتَوْقَدَ) بلفظ الإفراد تبيّن أحد الأمرين المتقدّمين : إمّا بصلة من باب وقوع المفرد موقع الجمع ؛ لأن المراد به الجنس ، أو أنه من باب ما وقع فيه من صفة لموصوف يفهم الجمع.

وقال الزمخشري ما معناه : إنّ هذه الآية مثل قوله تعالى : (كَالَّذِي خاضُوا) ، واعتل لتسويغ ذلك بأمرين.

أحدهما : أن «الذي» لما كان وصلة لوصف المعارف ناسب حذف بعضه لاستطالته ، قال : «ولذلك نهكوه بالحذف ، فحذفوا ياءه ثم كسرته ، ثم اقتصروا منه على اللّام في أسماء الفاعلين والمفعولين».

والأمر الثاني : أنّ جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون ، إنما ذلك علامة لزيادة الدّلالة ، ألا ترى أنّ سائر الموصولات لفظ الجمع والمفرد فيهن سواء؟

وهذا القول فيه نظر من وجهين :

أحدهما : أن قوله ظاهر في جعل هذه الآية من باب حذف نون «الذين» ، وفيه ما تقدّم من أنه كان ينبغي أن يطابق الضمير جمعا كما في الآية الأخرى التي نظر بها.

والوجه الثاني : أنه اعتقد كون الموصول بقيته «الذي» ، وليس كذلك ، بل «أل» الموصولة اسم موصول مستقلّ ، أي : غير مأخوذ من شيء ، على أنّ الراجح من جهة الدّليل كون «أل» الموصولة حرفا لا اسما كما سيأتي.

وليس لمرجّح أن يرجّح قول الزمخشري بأنهم قالوا : إنّ الميم في قولهم : «م الله» بقية «أيمن» ، فإذا انتهكوا «أيمن» بالحذف حتى صار على حرف واحد ، فأولى أن يقال بذلك فيما بقي على حرفين ، لأن «أل» زائدة على ماهية «الذي» ، فيكونون قد حذفوا جميع الاسم ، وتركوا ذلك الزائد عليه ، بخلاف «ميم» «أيمن» ، وأيضا فإن القول بأن «الميم» بقية «أيمن» قول ضعيف مردود يأباه قول الجمهور.

وفي «الّذي» لغات : أشهرها ثبوت الياء ساكنة وقد تشدّد مكسورة مطلقا ، أو جارية بوجوه الإعراب ، كقوله : [الوافر]

٢٢٦ ـ وليس المال فاعلمه بمال

وإن أرضاك إلّا للّذيّ

ينال به العلاء ويصطفيه

لأقرب أقربيه وللقصيّ (١)

__________________

(١) ينظر الأمالي الشجرية : (٢ / ٣١٥). والأزهية : (٢٩٣) ، والإنصاف : (٢ / ٦٧٥) ، وشرح جمل الزجاجي : (١ / ١٧٠) ، والهمع : (١ / ٨٢) ، الخزانة : (٢ / ٤٩٧) ، والدرر : (٢ / ٥٥) ، واللسان (لذا) ، ورصف المباني : (٧٦) ، والدر المصون : (١ / ١٣٠).

٣٧٣

فهذا يحتمل أن يكون مبنيّا ، وأن يكون معربا. وقد تحذف ساكنا ما قبلها ؛ كقول الآخر : [الطويل]

٢٢٧ ـ فلم أر بيتا كان أحسن بهجة

من اللّذ به من آل عزّة عامر (١)

أو مكسورا ؛ كقوله : [الرجز]

٢٢٨ ـ واللّذ لو شاء لكانت برّا

أو جبلا أشمّ مشمخرّا (٢)

ومثل هذه اللغات في «التي» أيضا.

قال بعضهم : «وقولهم : هذه لغات ليس بجيّد ؛ لأن هذه لم ترد إلّا ضرورة ، فلا ينبغي أن تسمى لغات».

و «استوقد» : «استفعل» بمعنى «أفعل» ، نحو : «استجاب» بمعنى «أجاب» ، وهو رأي الأخفش وعليه قول الشاعر : [الطويل]

٢٢٩ ـ وداع دعا : يا من يجيب إلى الهدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب (٣)

أي : فلم يجبه.

وقيل : بل السّين للطلب ، ورجّح قول الأخفش بأن كونه للطّلب يستدعي حذف جملة ، ألا ترى أن المعنى : استدعوا نارا فأوقدوها ، فلما أضاءت ؛ لأن الإضاءة لا تنشأ عن الطلب إنما تنشأ عن الإيقاد.

والفاء في قوله : «فلمّا» للسبب.

وقرأ ابن السّميفع : «كمثل الذين» بلفظ الجمع ، واستوقد بالإفراد ، وهي مشكلة ، وقد خرجوها على أوجه أضعف منها وهي التوهّم ، أي : كأنه نطق ب «من» ؛ إذ أعاد ضمير المفرد على الجمع كقولهم : «ضربني وضربت قومك» أي : ضربني من ، أو يعود على اسم فاعل مفهوم من «استوقد» ، والعائد على الموصول محذوف ، وإن لم يكمل شرط الحذف ، والتقدير : استوقدها مستوقد لهم. وهذه القراءة تقوّي قول من يقول : إنّ أصل «الذي» : «الذين» ، فحذفت النون.

و «لمّا» حرف وجوب لوجوب هذا مذهب سيبويه.

وزعم الفارسي وتبعه أبو البقاء ، أنها ظرف بمعنى «حين» ، وأن العامل فيها جوابها ،

__________________

(١) ينظر البيت في الإنصاف : (٦٧١) ، الدرر (١ / ٥٦) ، والهمع : (١ / ٨٢) ، والدر المصون : (١ / ١٣٠).

(٢) ينظر الأمالي الشجرية : ١ / ٣٠٥ ، الإنصاف : ٢ / ٦٧٦ ، شرح جمل الزجاجي لابن عصفور : ١ / ١٧٠ ، اللمع : ١ / ٨٢ ، خزانة الأدب : ٥ / ٥٠٥ ، الدرر : ١ / ٥٦ ، الخزانة : ٢ / ٤٩٨ ، الدر : ١ / ١٣٠.

(٣) البيت لكعب بن سعد الغنوي ينظر الأصمعيات ٩٦ ، معاني القرآن للأخفش ١ / ٢٠٨ ، مجاز القرآن ١ / ٦٧ ، ١١٢ ، ٢٤٥ ، ٣٢٦ ، والعجز في أدب الكاتب ٤١٩.

٣٧٤

وقد ردّ عليه بأنها أجيبت ب «ما» النافية ، و «إذا» الفجائية ، قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر : ٤٢].

وقال تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥] ، و «ما» النافية ، و «إذا» الفجائية لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما ، فانتفى أن تكون ظرفا.

وتكون «لما» أيضا جازمة لفعل واحد ، معناها نفي الماضي المتّصل بزمن الحال ، ويجوز حذف مجزومها ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٢٣٠ ـ فجئت قبورهم بدءا ولمّا

فناديت القبور فلم يجبنه (١)

وتكون بمعنى «إلّا» ، قال تعالى : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الزخرف: ٣٥] في قراءة من قرأ بالتّشديد (٢).

و «أضاء» : يكون لازما ومتعديا ، فإن كان متعديا ، ف «ما» مفعول به ، وهي موصولة ، و «حوله» ظرف مكان مخفوض به ، صلة لها ، ولا يتصرّف ، وبمعناه : حوال ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٢٣١ ـ وأنا أمشي الدّألى حوالكا (٣)

ويثنّيان ؛ قال عليه الصلاة والسلام : «اللهمّ حوالينا» (٤).

__________________

(١) ينظر خزانة الأدب : ١٠ / ١١٣ ، ١١٧ ، والدرر : ٤ / ٢٤٥ ، ٥ / ٦٩ ، والأشباه والنظائر : ٤ / ١١٣ ، ولسان العرب (لمم) ، وشرح الأشموني : ٣ / ٥٧٦ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦٨١ ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٨٠ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٥٧ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ١٤٩ ، الكافية الشافية : ٣ / ١٥٧٧ ، الدر : ١ / ١٣١.

(٢) ستأتي في الزخرف (٥٣).

(٣) البيت لضب. ينظر الكتاب : ١ / ١٧٦ ، الكامل : ٣٧٤ ، أمالي الزجاجي : ١٣٠ ، المخصص : ١٣ / ٢٢٦ ، ٢٣٣ ، الهمع : ١ / ٤١ ، الدرر : ١ / ١٥ ، الدر : ١ / ١٣١.

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح (٢ / ٤٧) ، كتاب الجمعة باب الاستسقاء في الجمعة حديث رقم (٩٣٣) ، (٢ / ٧٧) كتاب الاستسقاء باب الاستسقاء في المسجد حديث رقم (١٠١٣) ، (١٠١٤) ، (١٠١٥) ، (٨ / ٤٥) كتاب الأدب باب التبسم والضحك حديث رقم (٦٠٩٣) ، (٨ / ١٣٤) كتاب الدعوات باب الدعاء غير مستقبل القبلة حديث رقم (٦٣٤٢).

ومسلم في الصحيح (٢ / ٦١٢ ، ٦١٤) كتاب الاستسقاء (٩) باب الدعاء في الاستسقاء (٢) حديث رقم (٨ / ٨٩٧).

والنسائي في السنن (٣ / ١٦٠ ، ١٦١ ، ١٦٢ ، ١٦٦ ، ١٦٧).

وابن ماجه في السنن حديث رقم (١٢٦٩).

وأحمد في المسند (٣ / ١٠٤ ، ١٨٧ ، ١٩٤ ، ٢٦١ ، ٢٧١) (٤ / ٢٣٦) ـ والبيهقي في السنن (٣ / ٣٥٣ ، ٣٥٤ ، ٣٥٥ ، ٣٥٦) ، (٤ / ٢٢١) ـ وابن سعد (١ / ١ / ١٧) ، (١ / ٢ / ٤٢) وابن أبي شيبة (١٠ / ٢١٩) ، (١١ / ٤٨١) وابن خزيمة في صحيحه حديث رقم (١٤٢٣) ، (١٧٨٩) وعبد الرزاق في مصنفه حديث رقم (٤٩١٠) ، (٤٩١١) والطبراني في الكبير (١٠ / ٣٤٦).

٣٧٥

ويجمعان على «أحوال».

ويجوز أن تكون «ما» نكرة موصوفة ، و «حوله» صفتها ، وإن كان لازما ، فالفاعل ضمير «النار» أيضا ، و «ما» زائدة ، و «حوله» منصوب على الظرف العامل فيه «أضاء».

وأجاز الزمخشري أن تكون «ما» فاعله موصولة ، أو نكرة موصوفة ، وأنّث الفعل على المعنى ، والتقدير : فلما أضاءت الجهة التي حوله أو جهة حوله.

وأجاز أبو البقاء فيها أيضا أن تكون منصوبة على الظرف ، وهي حينئذ : إما بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، والتقدير : فلما أضاءت النّار المكان الذي حوله ، أو مكانا حوله ، فإنه قال : يقال : ضاءت النّار ، وأضاءت بمعنى ، فعلى هذا تكون «ما» ظرفا.

وفي «ما» ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون بمعنى الذي.

والثاني : هي نكرة موصوفة ، أي : مكانا حوله.

والثالث : هي زائدة.

وفي عبارته بعض مناقشة ، فإنه بعد حكمه على «ما» بأنها ظرفية كيف يجوّز فيها ـ والحالة هذه ـ أن تكون زائدة ، وإنما أراد في «ما» هذه من حيث الجملة ثلاثة أوجه.

وقول الشاعر : [الطويل]

٢٣٢ ـ أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى اللّيل حتّى نظّم الجزع ثاقبه (١)

يحتمل التعدّي واللزوم كالآية الكريمة.

وقرأ ابن السّميفع : «ضاءت» ثلاثيا.

قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) هذه الجملة الظاهر أنها جواب ل «ما».

وقال الزمخشري : «جوابها محذوف ، تقديره : فلما أضاءت خمدت» وجعل هذا أبلغ من ذكر الجواب ، وجعل جملة قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) مستأنفة أو بدلا من جملة التمثيل.

وقد رد عليه بعضهم هذا بوجهين :

أحدهما : أن هذا التقدير مع وجود ما يغني عنه ، فلا حاجة إليه ؛ إذ التقديرات إنما تكون عند الضّرورات.

__________________

(١) البيت لأبي الطمحان القيني ينظر أمالي المرتضى ١ / ٢٥٧ ، وتخليص الشواهد ص ٢٠٢ ، وخزانة الأدب ٨ / ٩٥ ، ٩٦ ، وديوان المعاني ١ / ٢٢ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٥٩٨ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٦٠ ، ولسان العرب (خضض) ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٦٧ ، وللقيط بن زرارة في الحيوان ٣ / ٩٣ ، وينظر الدر المصون ١ / ١٣٢ الشعر والشعراء ص ٧١٥.

٣٧٦

والثّاني : أنه لا تبدل الجملة الفعلية من الجملة الاسمية.

و «بنورهم» متعلّق ب «ذهب» ، والباء فيه للتّعدية وهي مرادفة للهمزة في التّعدية ، هذا مذهب الجمهور.

وزعم أبو العباس أنّ بينهما فرقا ، وهو أن الباء يلزم معها مصاحبة الفاعل للمفعول في ذلك الفعل الذي قبله ، والهمزة لا يلزم فيها ذلك.

فإذا قلت : «ذهبت بزيد» فلا بدّ أن تكون قد صاحبته في الذّهاب فذهبت معه.

وإذا قلت : أذهبته جاز أن يكون قد صحبته وألّا يكون.

وقد رد الجمهور على المبرّد بهذه الآية ؛ لأن مصاحبته ـ تعالى ـ لهم في الذهاب مستحيلة.

ولكن قد أجاب [أبو الحسن] ابن عصفور عن هذا بأنه يجوز أن يكون ـ تعالى ـ قد أسند إلى نفسه ذهابا يليق به ، كما أسند إلى نفسه ـ تعالى ـ المجيء والإتيان على معنى يليق به ، وإنما يرد عليه بقول الشاعر : [الطويل]

٢٣٣ ـ ديار الّتي كانت ونحن على منى

تحلّ بنا لو لا نجاء الرّكائب (١)

أي : تجعلنا حلالا بعد أن كنّا محرمين بالحج ، ولم تكن هي محرمة حتى تصاحبهم في الحلّ ؛ وكذا قول امرىء القيس : [الطويل]

٢٣٤ ـ كميت يزلّ اللّبد عن حال متنه

كما زلّت الصّفواء بالمتنزّل (٢)

«الصفواء» الصخرة ، وهي لم تصاحب الذي تزله.

والضمير في «بنورهم» عائد على معنى الذي كما تقدم.

وقال بعضهم : هو عائد على مضاف محذوف تقديره : كمثل أصحاب الذي استوقد ، واحتاج هذا القائل إلى هذا التقدير ، قال : حتى يتطابق المشبه والمشبه به ؛ لأنّ المشبه جمع ، فلو لم يقدر هذا المضاف ، وهو «أصحاب» لزم أن يشبه الجمع بالمفرد وهو الذي استوقد. ولا أدري ما الذي حمل هذا القائل على منع تشبيه الجمع بالمفرد في صفة جامعة بينهما ، وأيضا فإنّ المشبّه والمشبه به إنما هو القصّتان ، فلم يقع التشبيه إلّا بين قصّتين إحداهما مضافة إلى جمع ، والأخرى إلى مفرد.

__________________

(١) البيت لقيس بن الخطيم ينظر ديوانه : ص ٧٧ ، وخزانة الأدب : ٧ / ٢٧ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ١٤٨ ، ولسان العرب (حلل) ، الأزمنة والأمكنة : ١ / ٢٧٨ ، وجواهر الأدب : ص ٤٥ ، المخصص : ١٥ / ٥٧ ، البحر المحيط : ١ / ٢١٤ ، الدر المصون : ١ / ١٣٢.

(٢) البيت من معلقته المشهورة. ينظر ديوانه : (٢٠) ، شرح القصائد العشر : (١١٠) ، وللشنقيطي : (٦٥) ، وشرح المعلقات السبع للزوزني : (٢٤) ، وشرح الجمل : (٢ / ٦٠٤) والشعر والشعراء : (١ / ١٣٠) والدر المصون : (١ / ١٣٢).

٣٧٧

قوله : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) ههذه جملة معطوفة.

فإن قيل : لم قيل : ذهب بنورهم ، ولم يقل : أذهب الله نورهم؟

فالجواب : أن معنى أذهبه : أزاله ، وجعله ذاهبا ، ومعنى ذهب به : إذا أخذه ، ومضى به معه ، ومنه : ذهب السّلطان بماله : أخذه ، قال تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) [يوسف : ١٥] فالمعنى : أخذ الله نوره ، وأمسكه ، فهو أبلغ من الإذهاب ، وقرأ اليماني : «أذهب الله نورهم».

فإن قيل : هلّا قيل : ذهب الله بضوئهم [لقوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ)؟

الجواب : ذكر النور أبلغ ؛ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة](١).

فلو قيل : ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب [الكمال ، وبقاء] ما يسمى نورا والغرض إزالة النّور عنهم بالكلية (٢) ، ألا ترى كيف ذكر عقيبه : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) والظلمة عبارة عن عدم النور.

وقوله : [(وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)](٣) هذه جملة معطوفة على قوله : «ذهب الله» ، وأصل الترك : التخلية ، ويراد به التّصيير ، فيتعدّى لاثنين على الصّحيح ؛ كقول الشّاعر : [البسيط]

٢٣٥ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب (٤)(٥)

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : بالمطية.

(٣) سقط في أ.

(٤) البيت للعباس بن مرداس. ينظر ديوانه : ٤٧ ، قصيدة رقم ٢ ، ص ٣١ ، المقتضب : ٢ / ٣٥ ، الكتاب : ١ / ٣٧ ، المحتسب : ١ / ٥١ ، أمالي ابن الشجري : ١ / ١٦٥ ، اللمع : ٢ / ٨٢ ، الدرر : ٢ / ١٠٦ ، شرح المفصل : ٢ / ٤٢ ، ٨ / ٥٠ ، الخزانة : ١ / ٣٣٩ ، الشذور : ٣٦٩ ، المغني : ١ / ٣١٥ ، ونسب البيت إلى خفاف بن ندبة وهو في ملحقات ديوانه : ص ١٢٦ ، ونصه (أمرتك الرّشد) ونسب لعمرو بن معديكرب الزبيدي وهو في ديوانه : ٦٣ ، الأصول : ١ / ١٧٨ ، شرح الجمل لابن عصفور : ١ / ٣٠٥ ، الدرر : ٢ / ١٠٦ ، الدر : ١ / ١٣٣.

(٥) الأفعال المقتضية للمفعول على ضربين : فعل يصل إلى مفعوله بنفسه ، نحو : ضربت زيدا ، فالفعل هنا أفضى بنفسه بعد الفاعل إلى المفعول ؛ لأن في الفعل قوّة أفضت إلى مباشرة الاسم ، وفعل ضعف عن تجاوز الفاعل إلى المفعول ؛ فاحتاج إلى ما يستعين به على تناوله ، والوصول إليه ، وذلك نحو : مررت وعجبت وذهبت ، لو قلت : عجبت زيدا ، ومررت جعفرا ، لم يجز ذلك ؛ لضعف هذه الأفعال في العرف والاستعمال من الإفضاء إلى هذه الأسماء ، فلما ضعفت اقتضى القياس تقويتها ؛ لتصل إلى ما تقتضيه من المفاعيل ، فرفدوها بالحروف ، وجعلوها موصلة لها إليها ، فقالوا : مررت بزيد ، وعجبت من خالد ، وذهبت إلى محمد ، وخصّ كل قبيل من هذه الأفعال بقبيل من هذه الحروف ، هذا هو القياس ، إلا أنّهم قد يحذفون هذه الحروف في بعض الاستعمال ؛ تخفيفا في بعض كلامهم ، فيصل الفعل بنفسه فيعمل ، قالوا من ذلك : اخترت الرجال زيدا واستغفرت الله ذنبا ، وأمرت زيدا الخير ؛ قال الله تعالى : «وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً» ، فقولهم : اخترت الرجال زيدا ، أصله من الرجال ؛ لأن ـ

٣٧٨

فإن قلنا : هو متعدّ لاثنين كان المفعول الأول هو الضمير ، والمفعول الثاني : (فِي ظُلُماتٍ) ، و (لا يُبْصِرُونَ) حال ، وهي حال مؤكدة ؛ لأن من كان في ظلمة فهو لا يبصر.

وصاحب الحال : إما الضمير المنصوب ، أو المرفوع المستكنّ في الجار والمجرور.

ولا يجوز أن يكون (فِي ظُلُماتٍ) حالا ، و (لا يُبْصِرُونَ) هو المفعول الثاني ؛ لأن المفعول الثاني خبر في الأصل ، والخبر لا يؤتى به للتأكيد ، فإذا جعلت (فِي ظُلُماتٍ) حالا فهم منه عدم الإبصار ، فلو يفد قولك بعد ذلك : (لا يُبْصِرُونَ) إلا التّأكيد ، لكن التأكيد ليس من شأن الأخبار ، بل من شأن الأحوال ؛ لأنها فضلات.

ويؤيّد ما ذكرت أن النحويين لما أعربوا قول امرىء القيس : [الطويل]

٢٣٦ ـ إذا ما بكى من خلفها انصرفت له

بشقّ وشقّ عندنا لم يحوّل (١)

أعربوا : «شقّ» مبتدأ و «عندنا» خبره ، و «لم يحوّل» جملة حالية مؤكدة ؛ قالوا : وجاز الابتداء بالنكرة ، لأنه موضع تفصيل ، وأبوا أن يجعلوا «لم يحوّل» خبرا ، و «عندنا» صفة ل «شق» مسوّغا للابتداء به قالوا : لأنه فهم معناه من قوله : «عندنا» ؛ لأنه إذا كان عنده علم منه أنه لم يحوّل.

وقد أعربه أبو البقاء كذلك ، وهو مردود بما ذكرت.

ويجوز إذا جعلنا «لا يبصرون» هو المفعول الثّاني أن يتعلّق «في ظلمات» به ، أو ب «تركهم» ، التقدير : «وتركهم لا يبصرون في ظلمات». وإن كان «ترك» متعديا لواحد كان «في ظلمات» متعلّقا ب «تركهم» ، و «لا يبصرون» حال مؤكّدة ، ويجوز أن يكون «في ظلمات» حالا من الضّمير المنصوب في «تركهم» ، فيتعلّق بمحذوف ، و «لا يبصرون»

__________________

ـ «اختار» فعل يتعدى إلى مفعول واحد بغير حرف الجر ، وإلى الثاني به ، والمقدّم في الرتبة وهو المنصوب بغير حرف جر ، فإن قدمت المجرور ، فلضرب من العناية للبيان ، والنية به التأخير ، والبيت الذي معنا الشاهد فيه قوله : «أمرتك الخير» وقوله : «أمرت به» فإن العبارة الأولى قد تعدى فيها الفعل الذي هو : «أمر» ، إلى مفعولين بنفسه ، وفي العبارة الثانية : قد تعدى إلى الأول منهما بنفسه ؛ وهو النائب عن الفاعل ، وإلى الثاني بحرف الجر ، والذي في كلام «سيبويه» والأعلم يدل على أنهما يعتبران الأصل في هذا الفعل ، أنه يتعدى إلى ثاني مفعوليه بحرف الجر ، ثم قد يحذف حرف الجر فيصل الفعل إلى المفعول الثاني بنفسه ، فيدل ذلك على أن النصب عندهما على نزع الخافض ، وأنه يقتصر فيه على المسموع ، قال الأعلم : «أراد الشاعر : أمرتك بالخير ؛ فحذف ووصل الفعل ، ونصب ، وسوّغ الحذف والنصب أن الخبر اسم فعل يحسن «أن» وما عملت فيه في موضعه ، وأن يحذف معها حرف الجر كثيرا ؛ تقول : أمرتك أن تفعل ، تريد : بأن تفعل ... فإن قلت : أمرتك بزيد ، لم يجز أن تقول : أمرتك زيدا ؛ لما بينت لك» ويريد بقوله «اسم فعل» : أنه اسم معنى دالّ على الحدث. ينظر المصادر السابقة لتخريج البيت.

(١) ينظر ديوانه : ١٢ ، رصف المباني : ٣١٦ ، شرح القصائد العشر : (٧٤) ، والشنقيطي : (٦٠) ، والبحر : (١ / ٢١٥) والدر المصون : (١ / ١٣٣).

٣٧٩

حال أيضا ، إما من الضمير في تركهم ، فيكون له حالان ، ويجري فيه الخلاف المتقدّم ، وإما من الضمير المرفوع المستكنّ في الجار والمجرور قبله ، فتكون حالين متداخلتين.

فصل في سبب حذف المفعول

فإن قيل : لم حذف المفعول من «يبصرون»؟

فالجواب : أنه من قبيل المتروك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدّر المنويّ كأنّ الفعل غير متعدّ أصلا.

قال ابن الخطيب (١) : ما وجه التمثيل في أعطي نورا ، ثم سلب ذلك النور ، مع أنّ المنافق ليس هو نور ، وأيضا أن من استوقد نارا فأضاءت قليلا ، فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم ، والمنافقون لا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان ، وأيضا مستوقد النّار قد اكتسب لنفسه النور ، والله ـ تعالى ـ ذهب بنوره ، وتركه في الظّلمات ، والمنافق لم يكتسب خيرا ، وما حصل له من الحيرة ، فقد أتي فيه من قبل نفسه ، فما وجه التّشبيه؟

والجواب : أنّ العلماء ذكروا في كيفية التّشبيه وجوها :

أحدها : قال السّدي : إن ناسا دخلوا في الإسلام عند وصوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى «المدينة» ثم إنهم نافقوا ، والتشبيه ـ هاهنا ـ في غاية الصحة ؛ لأنهم بإيمانهم أولا اكتسبوا نورا ، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك النور ، ووقعوا في حيرة من الدنيا ، وأما المتحيّر في الدّين ، فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبد الآبدين (٢).

وثانيها : إن لم يصحّ ما قاله السّدي بل كانوا منافقين من أول الأمر ، فهاهنا تأويل آخر.

قال ابن عباس ، وقتادة ، ومقاتل ، والضحاك ، والسدي ، والحسن : نزلت في المنافقين يقول : مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مغارة ، فاستدفأ ، ورأى ما حوله فاتّقى مما يخاف ، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره ، فبقي في ظلمة خائفا متحيرا ، فكذلك المنافقون بإظهارهم كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم ، وأولادهم ، وناكحوا المؤمنين ، وأورثوهم ، وقاسموهم الغنائم ، وسائر أحكام المسلمين ، فذلك نورهم ، فإذا ماتوا عادوا إلى الظّلمة والخوف (٣) ، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدّائم مثل الذّرة ، شبههم بمستوقد النّار الذي انتفع بضوئها قليلا ، ثم سلب ذلك ، فدامت حسرته وحيرته للظّلمة العظيمة التي جاءته عقيب النّور اليسير.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ٦٧.

(٢) انظر الدر المنثور : (١ / ٧٢ / ٧٣) للسيوطي.

(٣) ينظر المصدر السابق.

٣٨٠