اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان.

الثاني : يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أسراره ، والاطّلاع على أسرار المؤمنين ، فينقلونها إلى الكفار.

الثالث : أنهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفار ، كالقتل وغيره.

الرابع : أنهم كانوا يطمعون في أموال الغنائم.

فإن قيل : فالله تعالى كان قادرا على أن يوحي إلى نبيه كيفية مكرهم وخداعهم ، فلم لم يفعل ذلك هتكا لسترهم؟

قلنا : هو قادر على استئصال «إبليس» وذريته ولكنه ـ تعالى ـ أبقاهم وقواهم ، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو.

وقوله : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) فيه وجهان :

الأول : أنه ـ تعالى ـ يجازيهم على ذلك ، ويعاقبهم عليه ، فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلّا أنفسهم.

والثاني : ما ذكره أكثر المفسرين ، وهو أن وبال ذلك راجع إليهم في الدنيا ؛ لأن الله ـ تعالى ـ كان يدفع ضرر خداعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم ، وهو كقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ونظائره.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الجار والمجرور خبر مقدّم واجب التقديم لما تقدّم ذكره في قوله تعالى: (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة : ٧]. والمشهور تحريك الراء من «مرض».

وروى الأصمعي (١) عن أبي عمرو سكونها ، وهما لغتان في مصدر مرض يمرض.

«والمرض» : الفتور.

وقيل : الفساد.

وقيل : صفة توجب وقوع الخلل في الأفعال الصادرة عن الفاعل ، ويطلق على الظلمة ؛ وأنشدوا : [البسيط]

١٨٨ ـ في ليلة مرضت من كلّ ناحية

فما يحسّ به نجم ولا قمر (٢)

__________________

(١) عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي ، أبو سعيد الأصمعي ؛ راوية العرب وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان ولد ١٢٢ ه‍.

كان الرشيد يسميه شيطان الشعر ، قال الأخفش : ما رأينا أحدا أعلم بالشعر من الأصمعي وتصانيفه كثيرة منها الإبل مطبوع ، الأضداد مخطوط ، خلق الإنسان مطبوع وغيرها توفي سنة ٢١٦ ه‍.

ينظر السيرافي : ٥٨ ، جمهرة الأنساب : ٢٣٤ ، ابن خلكان : ١ / ٢٨٨ ، تاريخ بغداد : ١٠ / ٤١ ، نزهة الألبا : ١٥٠ ، طبقات النحويين ، الأعلام : ٤ / ١٦٢.

(٢) ينظر البحر المحيط : ١ / ١٨١ ، والدر المصون : ١ / ١١٦.

٣٤١

أي : لظلمتها ، ويجوز أن يكون أراد ب «مرضت» فسدت ، ثم بين جهة الفساد بالظّلمة.

قوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً).

هذه جملة فعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها ، متسبّبة عنها ، بمعنى أنّ سبب الزّيادة حصول المرض في قلوبهم ، إذ المراد بالمرض هنا الغلّ والحسد لظهور دين الله تعالى.

و «زاد» يستعمل لازما ومتعديا لاثنين ثانيهما غير الأول ك «أعطى وكسا» ، فيجوز حذف مفعوليه ، وأحدهما اختصارا واقتصارا ، تقول : «زاد المال» فهذا لازم ، و «زدت زيدا أجرا» ومنه : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) [الكهف : ١٣] ، (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة : ١٠] و «زدت زيدا» ولا تذكر ما زدته ، و «زدت مالا» ولا تذكر من زدته.

وألف «زاد» منقلبة عن ياء ؛ لقولهم : «يزيد».

وقرأ ابن عامر وحمزة (١) : «فزادهم» بالإمالة.

وزاد حمزة إمالة «زاد» حيث وقع ، و (زاغَ) [النجم : ١٧](وَخابَ) [إبراهيم : ١٥] ، و (طابَ) [النساء : ١٣] ، و «حاق» [الأنعام : ١٠] ، والآخرون لا يميلونها.

فصل في أوجه ورود لفظ المرض

ورد لفظ «المرض» على أربعة أوجه :

الأول : الشّك كهذه الآية.

الثاني : الزّنا قال تعالى : (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) [الأحزاب : ٣٢].

الثالث : الحرج قال تعالى : (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) [النساء : ١٠٢].

الرابع : المرض بعينه.

قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) نظيره قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [البقرة : ٧] وقد تقدّم. و «أليم» هنا بمعنى : مؤلم ، كقوله : [الوافر]

١٨٩ ـ ونرفع من صدور شمردلات

يصكّ وجوهها وهج أليم (٢)

ويجمع على «فعلاء» ك : «شريف وشرفاء» ، و «أفعال» مثل : «شريف وأشراف» ، ويجوز أن يكون «فعيل» : هنا للمبالغة محولا من «فعل» بكسر العين ، وعلى هذا تكون

__________________

(١) انظر شرح طيبة النشر : ٤ / ٤ ، والعنوان : ٦٨ ، والحجة للقراءات السبعة : ١ / ٣٢٠ ، وحجة القراءات : ٨٨ ، وإعراب القراءات : ١ / ٦٥ ، وإتحاف : ١ / ٣٧٨.

(٢) البيت لذي الرمة. ينظر ديوانه : ٦٧٧ ، الأضداد : ٨٤ ، اللسان (شمردل) الطبري : ١ / ١٥٦ ، القرطبي : ١ / ١٣٩ ، الدر : ١ / ١١٦.

٣٤٢

نسبة الألم إلى العذاب مجازا ، لأنّ الألم حلّ بمن وقع به العذاب لا بالعذاب ، فهو نظير قولهم : «شعر شاعر».

و (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) متعلّق بالاستقرار المقدر في «لهم» ، أي : استقر لهم عذاب أليم بسبب تكذيبهم.

و «ما» يجوز أن تكون مصدرية ، أي : بكونهم يكذبون ، وهذا على القول بأن ل «كان» مصدرا ، وهو الصحيح عند بعضهم للتصريح به في قول الشاعر : [الطويل]

١٩٠ ـ ببذل وحلم ساد في قومه الفتى

وكونك إيّاه عليك يسير (١)

فقد صرّح بالكون ، ولا جائز أن يكون مصدر «كان» التّامة لنصبه الخبر بعدها ، وهو «إياه» ، على أنّ للنظر في هذا البيت مجالا ليس هذا موضعه.

وعلى القول بأن لها مصدرا لا يجوز التصريح به معها ، لا تقول : «كان زيد قائما كونا» ، قالوا : لأن الخبر كالعوض من المصدر ، ولا يجمع بين العوض والمعوّض منه ، وحينئذ فلا حاجة إلى ضمير عائد على «ما» ؛ لأنها حرف مصدري على الصحيح ، خلافا للأخفش وابن السّراج في جعل المصدرية اسما.

ويجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، وحينئذ فلا بدّ من تقدير عائد أي : بالذي كانوا يكذبونه ، وجاز حذف العائد لاستكمال الشّروط ، وهو كونه منصوبا متصلا بفعل ، وليس ثمّ عائد آخر.

وزعم أبو البقاء أن كون «ما» موصولة اسمية هو الأظهر ، قال : لأنّ الهاء المقدرة عائدة على «الّذي» لا على المصدر. وهذا الّذي قاله غير لازم ، إذ لقائل أن يقول : لا نسلّم أنه لا بدّ من هاء مقدّرة حتى يلزم جعل «ما» اسمية ، بل من قرأ (يَكْذِبُونَ) مخففا فهو عنده غير متعدّ لمفعول ، ومن قرأه مشددا فالمفعول محذوف لفهم المعنى أي : بما كانوا يكذبون الرّسول والقرآن ، أو يكون المشدّد بمعنى المخفّف ، وقرأ الكوفيون (٢) : (يَكْذِبُونَ) بالفتح والتّخفيف ، والباقون بالضّم والتشديد.

و «يكذّبون» مضارع «كذّب» بالتشديد ، وله معان كثيرة : الرّمي بكذا ، ومنه الآية الكريمة والتعدية نحو : «فرّحت زيدا».

__________________

(١) ينظر البيت في شرح ابن عقيل : (١ / ٢٧٠) ، (٦٤) ، الأشموني (١ / ٢٣١) ، الهمع : (١ / ١١٤) ، الدرر : (١ / ٨٣) ، وارتشاف الضرب : (٢ / ٧٥) ، وشرح الألفية لابن الناظم : (١٣٢) ، والتصريح : (١ / ١٨٧) ، والدر المصون : (١ / ١١٦) ، أوضح المسالك : ١ / ٢٣٩ ، المقاصد النحوية : ٢ / ١٥.

(٢) وبها قرأ : عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وكذا خلق ، ووافقهم الحسن والأعمش. انظر حجة القراءات : ٨٨ ، والحجة : ١ / ٣٢٩ ، والعنوان في القراءات السبع : ٦٨ ، وإعراب القراءات : ١ / ٦٥ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٧٨ ، وشرح شعلة : ص ٢٥٨ ، وشرح طيبة النشر : ٤ / ٤.

٣٤٣

والتكثير نحو : «قطّعت الأثواب».

والجعل على صفة نحو : «قطّرته» أي : جعلته مقطرا ؛ ومنه : [السريع]

١٩١ ـ قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلّا أنا (١)

والتسمية نحو : «فسّقته» أي : سميته فاسقا.

والدعاء له نحو : «سقّيته» أي قلت له : «سقاك الله».

أو الدعاء عليه نحو : «عقّرته» أي قلت : عقرا لك.

والإقامة على الشيء نحو : «مرّضته» والإزالة نحو : «قذّيت عينه» أي : أزلت قذاها.

والتوجّه نحو : «شرّق وغرّب» ، أي : توجّه نحو الشرق والغرب.

واختصار الحكاية نحو : «أمّن» قال : آمين.

وموافقة «تفعّل» و «فعل» مخففا نحو : ولّى بمعنى تولّى ، وقدّر بمعنى قدر ، والإغناء عن «تفعّل» و «فعل» مخففا نحو «حمّر» أي تكلّم بلغة «حمير» ، قالوا : «من دخل ظفار حمّر وعرّد في القتال» هو بمعنى عرد مخففا ، وإن لم يلفظ به.

و «الكذب» اختلف النّاس فيه ، فقائل : هو الإخبار عن الشيء بخير ما هو عليه ذهنا وخارجا ، وقيل : بغير ما هو عليه في الخارج ، سواء وافق اعتقاد المتكلّم أم لا.

وقيل : الإخبار عنه بغير اعتقاد المتكلّم سواء وافق ما في الخارج أم لا ، والصّدق نقيضه.

فصل في معنى الآية

قال المفسّرون : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شكّ ونفاق (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) ؛ لأن الآيات كانت تنزل آية بعد آية ، كلما كفروا بآية ازدادوا كفرا ونفاقا ، وذلك معنى قوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] والسورة لم تفعل ذلك ، ولكنهم ازدادوا رجسا عند نزولها حين كفروا بها قبل ذلك ، وهو كقوله تعالى : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٦] والدعاء لم يفعل شيئا من هذا ، ولكنهم ازدادوا فرارا عنده ، وقال : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر : ٤٢].

قالت المعتزلة : لو كان المراد من المرض ـ ها هنا ـ الكفر والجهل لكان قوله :

__________________

(١) البيت لعمرو بن معد يكرب ينظر ديوانه : ص ١٦٧ ، والأغاني : ١٥ / ١٦٩ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ١٩٩ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ٤١١ ، والكتاب : ٢ / ٣٥٣ ، وله أو للفرزدق ينظر شرح شواهد المغني : ٢ / ٧١٩ ، الأشباه والنظائر : ٧ / ٢٤٣ ، وتخليص الشواهد : ص ١٨٤ ، وشرح المفصل : ٣ / ١٠١ ، ١٠٣ ، ولسان العرب (قطر) ، ومغني اللبيب : ١ / ٣٠٩ ، دلائل الإعجاز : ٣٣٧ ، الدر : ١ / ١١٧.

٣٤٤

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) محمولا على الكفر والجهل ، فيلزم أن يكون الله ـ تعالى ـ فاعلا للكفر والجهل.

قالت المعتزلة : ولا يجوز أن يكون الله ـ تعالى ـ فاعلا للكفر والجهل لوجوه :

أحدها : أنّ الكفار كانوا في غاية الحرص على الطّعن في القرآن ، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا فعل الله الكفر فينا ، فكيف تأمرنا بالإيمان؟

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ ذكر هذه الآيات في معرض الذّم لهم على كفرهم ، فكيف يذمّهم على شيء خلقه الله فيهم.

وثالثها : قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فإن كان الله خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم ، فأيّ ذنب لهم حتّى يعذبهم؟

ورابعها : أنه ـ تعالى ـ أضافه إليهم بقوله : (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) وبأنهم يفسدون في الأرض ، وأنهم هم السّفهاء ، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم ، وإذا ثبت هذا فلا بدّ من التأويل ، وهو من وجوه :

الأول : يحمل المرض على الغمّ ، لأنه يقال : مرض قلبي من أمر كذا ، والمعنى : أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا إثبات أمر النبي ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ ، واستعلاء شأنه يوما فيوما ، وذلك يؤدي إلى زوال رياستهم ، كما روي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرّ بعبد الله بن أبيّ على حمار ، فقال له : نحّ حمارك يا محمّد فقد آذانا ريحه ، فقال له بعض الأنصار : اعذره يا رسول الله ، فإنه كان مؤملا أن نتوجّه الرياسة قبل أن تقدم علينا (١) ، فهؤلاء لمّا اشتدّ عليهم الغمّ وصفهم الله بذلك فقال : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) أي : زادهم غمّا على غمّهم.

وثانيها : المراد من زيادة المرض زيادة منع الألطاف فيكون بسبب ذلك المنع خاذلا لهم.

الثالث : أنّ العرب تصف فتور النّظر بالمرض يقولون : جارية مريضة الطرف.

قال جرير : [البسيط]

١٩٢ ـ إنّ العيون الّتي في طرفها مرض

قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا (٢)

فكذا المرض هاهنا إنما هو الفتور في النّية ؛ لأن قلوبهم كانت قوية على المحاربة ، والمنازعة ، والمخاصمة ، ثم انكسرت شوكتهم ، فأخذوا في النّفاق بسبب ذلك الخوف ، والانكسار ، فقال تعالى : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) أي : زادهم الانكسار والجبن والضعف ،

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «تفسيره» (٢ / ٥٨).

(٢) ينظر ديوانه : ص ١٦٣ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٧١٢ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٤٦٤ ، والمقتضب : ٢ / ١٧٣ ، وبلا نسبة في شرح المفصل : ٥ / ٩.

٣٤٥

وحقق الله ذلك بقوله : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) [الأحزاب : ٢٦].

الرابع : أن يحمل المرض على ألم القلب ؛ لأنّ المبتلى بالحسد والنّفاق ، ومشاهدة ما يكره ربما صار ذلك سببا لتغيير مزاجه ، وتألّم قلبه ، وحمل اللّفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته ، فكان أولى.

وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) صريح أن كذبهم علّة للعذاب الأليم ، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراما.

فأما ما يروى عن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه كذب ثلاث كذبات (١) ، فالمراد التعريض ، ولكن لما كانت صورته الكذب سمي به.

والمراد بكذبهم قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم غير مؤمنين.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(١٢)

«إذا» ظرف زمان مستقبل ، ويلزمها معنى الشرط غالبا ، ولا تكون إلّا في الأمر المحقق ، أو المرجح وقوعه ، فلذلك لم تجزم إلا في شعر ؛ لمخالفتها أدوات الشرط ؛ فإنها للأمر المحتمل ، فمن الجزم قوله : [البسيط]

١٩٣ ـ ترفع لي خندف والله يرفع لي

نارا إذا خمدت نيرانهم تقد (٢)

وقال آخر : [الكامل]

١٩٤ ـ واستغن ما أغناك ربّك بالغنى

وإذا تصبك خصاصة فتجمّل (٣)

وقال الآخر : [الطويل]

١٩٥ ـ إذا قصرت أسيافنا كان وصلها

خطانا إلى أعدائنا فنضارب (٤)

__________________

(١) ينظر تفسير زاد المسير لابن الجوزي : ٤ / ٢٥٨ ، ٥ / ٣٦٠.

(٢) البيت للفرزدق. ينظر ديوانه : (٢١٦) ، الكتاب : (١ / ٤٣٤) ، شرح المفصل : (٧ / ٤٧) ، والمقتضب : (٢ / ٥٥) ، والأمالي الشجرية : (١ / ٢٣٣) ، وشرح الأشموني : (٤ / ١٣) ، والدر المصون : (١ / ١١٧) ، والأزمنة والأمكنة : ١ / ٢٤١ ، وخزانة الأدب : ٧ / ٢٢.

(٣) البيت لعبد قيس بن خفاف. ينظر الدرر : ٣ / ١٠٢ ، وشرح اختيارات المفضل : ١٥٥٨ ، شرح شواهد المغني : ١ / ٢٧١ ، ولسان العرب : [كرب] ، والمقاصد البحرية : ٢ / ٢٠٣ ، ولحارثة بن بدر الغداني في أمالي المرتضى : ١ / ٣٨٣ ، الأشباه والنظائر : ١ / ٣٣٥ ، وشرح الأشموني : ٣ / ٥٨٣ ، مغني اللبيب : ١ / ٩٣ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٨٣ ، مغني اللبيب : ١ / ٩٣ ، همع الهوامع : ١ / ٢٠٦.

(٤) البيت لشهم بن مرة. ينظر الكتاب : ١ / ٤٣٤ ، المفضليات : ٢٠٧ ، الأمالي الشجرية : ١ / ١٣٣ ، ابن يعيش : ٤ / ٩٧ ، ٧ / ٧٤ ، ولقيس بن الخطيم في ديوانه : ٨٨ ، المقتضب : ٢ / ٥٥ ، حروف المعاني : ٦٣ ، شرح جمل الزجاجي لابن عصفور : ٢ / ٢٠٤ ، خزانة الأدب : ٧ / ٢٥ ، ٢٧.

٣٤٦

فقوله : «فنضارب» مجزوم لعطفه على محل قوله «كان وصلها».

وقال الفرزدق : [الطويل]

١٩٦ ـ فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم

وكان إذا ما يسلل السّيف يضرب (١)

وقد تكون للزمن الماضي ك : «إذ» كما قد تكون «إذ» للمستقبل ك «إذا».

فمن مجيء «إذا» ظرفا لما مضى من الزمان واقعة موقع «إذ» قوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ) [التوبة : ٩٢] ، وقوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] ، قال به ابن مالك ، وبعض النحويين.

ومن مجيء «إذ» ظرفا لما يستقبل من الزمان قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) [غافر : ٧٠].

وتكون للمفاجأة أيضا ، وهل هي حينئذ باقية على زمانيتها ، أو صارت ظرف مكان أو حرفا؟

ثلاثة أقوال : أصحّها الأول استصحابا للحال ، وهل تتصرف أم لا؟

الظاهر عدم تصرفها ، واستدلّ من زعم تصرفها بقوله تعالى في قراءة (٢) من قرأ : «إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجّت الأرض رجّا» [الواقعة : ١ ـ ٤] بنصب «خافضة رافعة» ، فجعل «إذا» الأولى مبتدأ ، والثانية خبرها.

والتقدير : وقت وقوع الواقعة وقت رجّ الأرض ، وبقوله : (حَتَّى إِذا جاؤُها) [الزمر : ٧١] ، و (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ) [يونس : ٢٢] فجعل «حتى» حرف جر ، و «إذا» مجرورة بها ، وسيأتي تحقيق ذلك في مواضعه. ولا تضاف إلّا إلى الجمل الفعلية خلافا للأخفش.

وقوله : «قيل» فعل ماض مبني للمفعول ، وأصله : «قول» ك : «ضرب» ، فاستثقلت الكسرة على «الواو» ، فنقلت إلى «القاف» بعد سلب حركتها ، فسكنت «الواو» بعد كسرة ، فقلبت «ياء» ، وهذه أفصح اللغات ، وفيه لغة ثانية ، وهي الإشمام ، والإشمام عبارة عن جعل الضّمة بين الضم والكسر.

ولغة ثالثة وهي : إخلاص الضم ، نحو : «قول وبوع» ، قال الشاعر : [الرجز]

١٩٧ ـ ليت وهل ينفع شيئا ليت

ليت شبابا بوع فاشتريت (٣)

__________________

(١) ينظر ديوانه : ١ / ٤١ ، ابن يعيش : ٨ / ٢٣٤ ، خزانة الأدب : ٣ / ١٨٥ ، الدر : ١ / ١١٨.

(٢) ستأتي في سورة الواقعة (٣).

(٣) البيت لرؤبة. ينظر ملحقات ديوانه : (١ / ٢٠٦) ، شرح المفصل : (٧ / ٧٠) ، الهمع : (١ / ٢٤٨) ، الدرر : (١ / ٢٠٦) ، مغني اللبيب : (٢ / ٣٩٣) ، والتصريح : (١ / ٢٩٤) ، شرح الكافية الشافية : (٢ / ٨١٩) ، وشرح ابن عقيل : (٢ / ١١٥) ، وشرح الألفية لابن الناظم : (٢٣٣) ، وشرح الأشموني : (٢ / ٦٣) ، وشرح شواهد المغني : (٢ / ٨١٩) ، والدر المصون : (١ / ١١٨).

٣٤٧

وقال الآخر : [الرجز]

١٩٨ ـ حوكت على نولين إذ تحاك

تختبط الشّوك ولا تشاك (١)

وقال الأخفش : «ويجوز «قيل» بضم القاء والياء» ، يعني مع الياء ؛ لأن الياء تضم أيضا. وتجيء هذه اللغات الثلاث في «اختار» و «انقاد» ، و «ردّ» ، و «حبّ» ونحوها ، فتقول : «اختير» بالكسر ، والإشمام ، و «اختور» ، وكذلك : «انقيد» ، و «انقود» ، و «ردّ» ، و «ردّ» ، وأنشدوا : [الطويل]

١٩٩ ـ وما حلّ من جهل حبا حلمائنا

ولا قائل المعروف فينا يعنّف (٢)

بكسر حاء «حل».

وقرىء : «ولو ردّوا» [الأنعام : ٢٨] بكسر الراء.

والقاعدة فيما لم يسم فاعله أن يضمّ أول الفعل مطلقا ؛ فإن كان ماضيا كسر ما قبل آخره لفظا نحو : «ضرب» ، أو تقديرا نحو : «قيل» ، و «اختير».

وقد يضم ثاني الماضي أيضا إذا افتتح بتاء مطاوعة نحو : «تدحرج الحجر» ، وثالثه إن افتتح بهمزة وصل نحو : «انطلق بزيد» واعلم أن شرط جواز اللّغات الثلاث في «قيل» ، و «غيض» ، ونحوهما ألا يلتبس ، فإن التبس عمل بمقتضى عدم اللّبس ، هكذا قال بعضهم ، وإن كان سيبويه قد أطلق جواز ذلك ، وأشمّ الكسائي (٣) : (قِيلَ) [البقرة : ١١] ، (غِيضَ) [هود : ٤٤] ، (وَجِيءَ) [الزمر : ٦٩](وَحِيلَ) [سبأ : ٥٤](وَسِيقَ الَّذِينَ) [الزمر : ٧١] و (سِيءَ بِهِمْ) [هود : ٧٧] ، و (سِيئَتْ وُجُوهُ) [الملك : ٢٧] ، وافقه هشام في الجميع ، وابن ذكوان في «حيل» وما بعدها ، ونافع في «سيء» و «سيئت» ، والباقون بإخلاص الكسر في الجميع.

والإشمام له معان أربعة في اصطلاح القراء سيأتي ذلك في قوله : (لا تَأْمَنَّا) [يوسف : ١١] إن شاء الله تعالى.

و «لهم» جار ومجرور متعلّق ب «قيل» ، و «اللّام» للتبليغ ، و «لا» حرف نهي يجزم

__________________

(١) البيت لرؤبة وليس في ديوانه. ينظر أوضح المسالك : ١ / ٣٨٧ ، الأشموني : ٢ / ٦٣ ، الهمع : ١ / ١٢٥ ، شرح الكافية الشافية : ٢ / ٦٥ ، شرح ابن عقيل : ٢ / ١١٤.

(٢) البيت للفرزدق ينظر ديوانه : ٢ / ٢٩ ، والكتاب : ٤ / ١١٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٣٨١ ، ولسان العرب [حلل] ، والمحتسب : ١ / ٣٤٦ ، المنصف : ١ / ٢٥٠ ، وجمهرة أشعار العرب : ص ٨٨٧ ، معاني الأخفش : ١ / ١٩٨ ، الدر المصون : ١ / ١١٨.

(٣) انظر شرح طيبة النشر : ٤ / ٤ ، وحجة القراءات : ٨٩ ، والحجة : ١ / ٣٤٠ ، وإتحاف : ١ / ٣٧٩ ، وإعراب القراءات : ١ / ٦٧ ، والعنوان : ٦٨ ، وشرح الطيبة : ٢٥٩ ، وشرح شعلة : ٢٥٩.

وقد قرأ بالإشمام أيضا هشام ، وهو لغة قيس وعقيل ومن وافقهم.

٣٤٨

فعلا واحدا ، و «تفسدوا» مجزوم بها ، وعلامة جزمه حذف النون ؛ لأنه من الأمثلة الخمسة.

و «في الأرض» متعلّق به ، والقائم مقام الفاعل هو الجملة من قوله : «لا تفسدوا» لأنه هو القول في المعنى ، واختاره الزمخشري.

والتقدير : وإذا قيل لهم هذا الكلام ، أو هذا اللّفظ ، فهو من باب الإسناد اللّفظي.

وقيل : القائم مقام الفاعل مضمر ، تقديره : وإذا قيل لهم هو ، ويفسّر هذا المضمر سياق الكلام كما فسّره في قوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢].

والمعنى : «وإذا قيل لهم قول سديد» فأضمر هذا القول الموصوف ، وجاءت الجملة بعده مفسّرة ، فلا موضع لها من الإعراب ، فإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى اللّفظيّ ، وقد أمكن ذلك بما تقدّم. وهذا القول سبقه إليه أبو البقاء ، فإنه قال : «والمفعول القائم مقام الفاعل مصدر ، وهو القول ، وأضمر ؛ لأن الجملة بعده تفسّره ، ولا يجزز أن يكون «لا تفسدوا» قائما مقام الفاعل ؛ لأن الجملة لا تكون فاعلا ، فلا تقوم مقام الفاعل».

وقد تقدم جواب ذلك من أن المعنى : وإذا قيل لهم هذا اللفظ ، ولا يجوز أن يكون «لهم» قائم مقام الفاعل إلّا في رأي الكوفيين والأخفش ، إذ يجوز عندهم إقامة غير المفعول به مع وجوده.

وتلخصّ من هذا :

أنّ جملة قوله : «لا تفسدوا» في محلّ رفع على قول الزّمخشري ، ولا محلّ لها على قول أبي البقاء ومن تبعه ، والجملة من قوله : «قيل» وما في حيّزه في محل خفض بإضافة الظرف إليه.

والعامل في «إذا» جوابها ، وهو «قالوا» ، والتقدير : قالوا : إنما نحن مصلحون ، وقت قول القائم لهم : لا تفسدوا.

وقال بعضهم : الذي نختاره أن الجملة الّتي بعدها وتليها ناصبة لها ، وأنّ ما بعده ليس في محلّ خفض بالإضافة ؛ لأنها أداة شرط ، فحكمها حكم الظروف التي يجازى بها ، فكما أنك إذا قلت : «متى تقم أقم» كان «متى» منصوبا بفعل الشرط ، فكذلك إذا قال هذا القائل.

والذي يفسد مذهب الجمهور جواز قولك : «إذا قمت فعمرو قائم» ووقوع «إذا» الفجائية جوابا لها ، وما بعد «الفاء».

و «إذا» الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وهو اعتراض ظاهر.

وقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) «إنّ» حرف مكفوف ب «ما» الزائدة عن العمل ،

٣٤٩

ولذلك تليها الجملة مطلقا ، وهي تفيد الحصر عند بعضهم.

وأبعد من زعم أنّ «إنما» مركبة من «إنّ» التي للإثبات ، و «ما» التي للنفي ، وأنّ بالتركيب حدث معنى يفيد الحصر.

واعلم أن «إن» وأخواتها إذا وليتها «ما» الزائدة بطل عملها ، وذهب اختصاصها بالأسماء كما مرّ ، إلا «ليت» فإنه يجوز فيها الوجهان سماعا ، وأنشدوا قول النابعة : [البسيط]

٢٠٠ ـ قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا ونصفه ، فقد (١)

برفع «الحمام» ونصبه ، فأما إعمالها فلبقاء اختصاصها ، وأمّا إهمالها فلحملها على أخواتها ، على أنه قد روي عن سيبويه في البيت أنها معملة على رواية الرفع أيضا ، بأن تجعل «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، كالتي في قوله تعالى : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) [طه : ٦٩] و «هذا» خبر مبتدأ محذوف هو العائد ، و «الحمام» نعت لهذا ، و «لنا» خبر ل «ليت» ، وحذف العائد وإن لم تطل الصلة.

والتقدير : ألا ليت الذي هو [هذا](٢) الحمام كائن لنا ، وهذا أولى من أن يدعي إهمالها ، لأن المقتضى للإعمال ـ وهو الاختصاص ـ باق.

وزعم بعضهم أنّ «ما» الزائدة إذا اتّصلت ب «إنّ» وأخواتها جاز الإعمال في الجميع.

و «نحن» مبتدأ ، وهو ضمير مرفوع منفصل للمتكلم ، ومن معه أو المعظّم نفسه ، و «مصلحون» خبره ، والجملة في محل نصب ، لأنها محكية ب «قالوا».

والجملة الشرطية وهي قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) عطف على صلة «من» ، وهي «يقول» ، أي : ومن النّاس من يقول ، ومن النّاس من إذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض قالوا. وقيل : يجوز أن تكون مستأنفة ، وعلى هذين القولين ، فلا محلّ لها من الإعراب

__________________

(١) ينظر ديوانه : ١٦ ، المقرب : ١ / ١١٠ ، الخصائص : ١٢ / ٤٦٠ ، الخزانة : ٤ / ٢٩٧ ، المغني : ٧٥ ، الدرر : ١ / ٢٢١ ، الكتاب : ٢ / ١٣٧ ، الأمالي الشجرية : ٢ / ١٤٢ ، ٢٤١ ، الإنصاف : ١ / ٤٧٩ ، ابن يعيش : ٨ / ٥٤ ، الأزهية : ١١٤ ، شذور الذهب : ٣٤٣ ، قطر الندى : ٢١٠ ، شرح الألفية لابن الناظم : ١٧٤ ، شرح الكافية الشافية : ١ / ٤٨٠ ، شرح جمل الزجاجي لابن عصفور : ١ / ٢٥١ ، ٦٢٢ ، ٢ / ١٣ ، التصريح : ١ / ٢٢٥ ، الهمع : ١ / ٦٥ ، ١٤٣ ، شرح الأشموني : ١ / ٢٨٤ ، مجاز القرآن : ١ / ٣٥ ، ٢ / ٥٨ ، الدر : ١ / ١٢٠ ، والأغاني : ١١ / ٣١ ، والإنصاف : ٢ / ٤٧٩ ، وتخليص الشواهد : ص ٣٦٢ ، وتذكرة النحاة : ص ٣٥٣ ، ورصف المباني : ص ٢٩٩ ، ٣١٦ ، ٣١٨ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٧٥ ، ٢٠٠ ، ٢ / ٦٩٠ ، واللمع : ص ٣٢٠ ، ومغني اللبيب : ١ / ٦٣ ، ٢٨٦ ، ٣٠٨ ، والمقاصد النحوية : ٢ / ٢٤٥ ، وأوضح المسالك : ١ / ٣٤٩ ، وشرح قطر الندى : ص ١٥١ ولسان العرب (قدد).

(٢) سقط في أ.

٣٥٠

لما تقدم ، ولكنها جزء كلام على القول الأول ، وكلام مستقل على القول الثاني ، وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفة على «يكذبون» الواقع خبرا ل «كانوا» ، فيكون محلّها النصب.

وردّ بعضهم عليهما بأن هذا الذي أجازاه على أحد وجهي «ما» من قوله : (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) خطأ ، وهو : أن تكون موصولة بمعنى «الذي» ، إذ لا عائد فيها يعود على «ما» الموصولة ، وكذلك إذا جعلت مصدرية ، فإنها تفتقر إلى العائد عند الأخفش ، وابن السراج. والجواب عن هذا أنهما لا يجيزان ذلك ألا وهما يعتقدان «ما» موصولة حرفية.

وأما مذهب الأخفش وابن السراج فلا يلزمهما القول به ، ولكنه يشكل على أبي البقاء وحده ، فإنه يستضعف كون «ما» مصدرية كما تقدم.

فصل في أوجه ورود لفظ الفساد

ورد لفظ «الفساد» على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى العصيان كهذه الآية.

الثاني : بمعنى الهلاك قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] أي : أهلكتا.

الثالث : بمعنى السحر قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس : ٨١].

فصل في بيان من القائل

منهم من قال : إن ذلك القائل هو الله تعالى ، ومنهم من قال : هو الرسول ، ومنهم من قال : بعض المؤمنين ، وكل ذلك محتمل.

والأقرب أن ذلك القائل كان مشافها لهم بذلك الكلام ، فإما أن يكون الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بلغه عنهم النفاق ، ولم يقطع بذلك ، فنصحهم فأجابوا بما يحقّ إيمانهم ، وأنهم في الصّلاح بمنزلة سائر المؤمنين ، وإما أن يكون بعض من يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم ، وكان ينقلب واعظا لهم قائلا لهم : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ٧٤] فإن قيل : إنما كانوا يخبرون الرّسول بذلك؟

قلنا : نعم ، كانوا إذا عوقبوا عادوا إلى إظهار الإسلام ، وكذبوا النّاقلين عنهم ، وحلفوا بالله عليه كما قال ـ تعالى ـ عنهم : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) [التوبة : ٧٤]. وقيل هذا الكلام لليهود.

و «الفساد» خروج الشيء عن كونه منتفعا به ، ونقيضه الصلاح.

واختلفوا في ذلك الفساد فقال ابن عباس والحسن وقتادة والسّدي : الفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى.

قال القفّال ـ رحمه‌الله ـ : وتقريره أن الشرائع سنن موضوعة بين العباد ، فإذا

٣٥١

تمسكوا بها زال العدوان ، ولزم كل أحد شأنه ، وحقنت الدّماء ، وسكنت الفتن ، فكان فيه صلاح الأرض ، وصلاح أهلها ، وإذا تركوا التمسّك بالشرائع ، وأقدم كلّ واحد على ما يهواه ، وقع الهرج والمرج والاضطراب ، ووقع الفساد في الأرض.

وقيل : الفساد هو مداراة المنافقين للكافرين ، ومخالطتهم معهم ؛ لأنهم إذا مالوا إلى الكفر مع أنهم في الظاهر مؤمنون أوهم ذلك ضعف الرسول وضعف أنصاره ، فكان ذلك يجري للكفار على إظهار عداوة الرسول ، ونصب الحروب له.

وقال الأصمّ : كانوا يدعون في السّر إلى تكذيبه ، وجحد الإسلام ، وإلقاء الشّبهات ، وتفريق النّاس عن الإيمان.

فصل في مراد المنافقين بالإصلاح

قوله : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) هم المنافقون ، لأن مرادهم بهذا الكلام نقيض ما نهوا عنه ، وهو الإفساد في الأرض ؛ فقولهم : إنما نحن مصلحون كالمقابل له ، وفي هذا احتمالان.

أحدهما : أنهم اعتقدوا أن دينهم صواب ، فكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدّين ، لا جرم قالوا : إنما نحن مصلحون ، يعني : أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار ، كما حكى الله ـ تعالى ـ عنهم قولهم : (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) [النساء : ٦٢] فقولهم : «إنما نحن مصلحون» أي : نحن نصلح أمر الفساد.

وقال ابن الخطيب : العلماء استدلّوا بهذه الآية على أنّ من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه ، وتجويز خلافه لا يطعن فيه ، وتوبة الزّنديق مقبولة ، والله أعلم.

وقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) «ألا» حرف تنبيه ، واستفتاح ، وليست مركّبة من همزة الاستفهام و «لا» النافية ، بل هي بسيطة ، ولكنها لفظ مشترك بين التّنبيه والاستفتاح ، فتدخل على الجملة اسمية كانت أو فعلية ، وبين العرض والتخصيص ، فتختصّ بالأفعال لفظا أو تقديرا ، وتكون النافية للجنس دخلت عليها همزة الاستفهام ، ولها أحكام تقدّم بعضها عند قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] ، وتكون للتّمنّي ، فتجرى مجرى «ليت» في بعض أحكامها.

وأجاز بعضهم أن تكون جوابا بمعنى «بلى» يقول القائل : ألم يقم زيد؟ فتقول : «ألا» بمعنى : «بلى قد قام» وهو غريب.

و «إنّهم» إنّ واسمها ، و «هم» تحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون تأكيدا لاسم «إنّ» ؛ لأن الضّمير المنفصل المرفوع يجوز أن يؤكد به جميع ضروب الضّمير المتصل.

وأن تكون فصلا ، وأن تكون مبتدأ.

٣٥٢

و «المفسدون» خبره ، والجملة خبر ل «إن».

وعلى القولين الأوّلين يكون «المفسدون» وحده خبرا ل «إن» ، وجيء في هذه الجملة بضروب من التأكيد منها : الاستفتاح والتنبيه ، والتّأكيد ب «إن» ، والإتيان بالتأكيد ، والفصل بالضّمير ، وبالتعريف في الخبر مبالغة في الرد عليهم فيما ادّعوه من قولهم : «إنما نحن مصلحون» ؛ لأنهم أخرجوا الجواب جملة اسمية مؤكدة ب «إنما» ليدلّوا بذلك على ثبوت الوصف لهم ، فرد الله عليهم بأبلغ وآكد مما ادعوه.

وقوله : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها.

و «لكن» معناها الاستدراك (١) ، وهو معنى لا يفارقها ، وتكون عاطفة في المفردات (٢) ، ولا تكون إلّا بين ضدّين ، أو نقيضين ، وفي الخلافين خلاف ، نحو : «ما قام زيد لكن خرج بكر» ، واستدلّ بعضهم على ذلك بقول طرفة : [الطويل]

٢٠١ ـ ولست بحلّال التّلاع لبيته

ولكن متى يسترفد القوم أرفد (٣)

فقوله : «متى يسترفد القوم أرفد» ليس ضدّا ولا نقيضا لما قبله ، ولكنه خلافه.

قال بعضهم : وهذا لا دليل فيه على المدّعى ، لأن قوله : «لست بحلّال التّلاع لبيته» كناية عن نفي البخل أي : لا أحلّ التّلاع لأجل البخل.

__________________

(١) الاستدراك : هو تعقيب الكلام بنفي ما يتوهم منه ثبوته ، أو إثبات ما يتوهم منه نفيه ، وعرّفه الروداني : بأنه مخالفة حكم ما بعد «لكن» لحكم ما قبلها مع التوهم أولا ، وهذا المعنى في «لكن» أغلبي فيها ، وليس لازما ؛ فقد لا تأتي لرفع التوهم.

معجم المصطلحات النحوية (١٨) ، حاشية الصبان (١ / ٢٧٠).

(٢) لا خلاف بين النحويين في أن «لكن» للعطف ، ومعناها : الاستدراك ، أورد ابن الطراوة ، هذا القول ، وقال : إن «لكن» ليست للاستدراك ، وإنما هي ضد «لا» توجب للثاني ما نفي عن الأول.

ولكن إن وليها جملة ، فغير عاطفة ، بل حرف ابتداء ، سواء كانت بالواو أو بدونها. وقال ابن أبي الربيع : هي عاطفة جملة على جملة ، ما لم تقترن بالواو ، أو وليها مفرد ، فشرطها تقدم نفي أو نهي ؛ قال الكوفيون : أو إيجاب ، والبصريون منعوه ؛ لأنه لم يسمع فيتعين كونها حرف ابتداء بعده الجملة ومن أحكامها : ألّا تقترن بالواو ، فإن اقترنت به فحرف ابتداء ؛ لأن العاطف لا يدخل على العاطف ، وقيل : لا تكون عاطفة مع المفرد إلا بها ، قاله ابن خروف. وزعم يونس العطف بالواو دونها ، فلا تكون عاطفة عنده أصلا ؛ لأنها لم تستعمل غير مسبوقة بواو ، وهو عند عطف مفرد على مفرد ؛ كما أشار المصنف ـ رحمه‌الله ـ وزعم ابن مالك أن العطف بالواو دونها ، لكن عطف جملة حذف بعضها ، على جملة صرح بجميعها. وزعم ابن عصفور أن الواو زائدة لازمة ، والعطف ب «لكن». وزعم ابن كيسان أنها زائدة غير لازمة ، والعطف ب «لكن». انظر البسيط شرح الجمل (١ / ٣٤٠) ، همع الهوامع (٢ / ١٣٧ ـ ١٣٨).

(٣) البيت من معلقته المشهورة. ينظر ديوانه : (٢٩) ، الكتاب : (١ / ٤٤٢) ، الخزانة : (٣ / ٦٥٠) ، وشرح جمل الزجاجي : (٢ / ٢٠٢) ومغني اللبيب : (٢ / ٦٠٦) ، وشذور الذهب : (٤٠٥) ، وشرح المعلقات السبع : (٤٥) ، والدر المصون : (١ / ١٢١).

٣٥٣

وقوله : «متى يسترفد القوم أرفد» كناية عن الكرم ، فكأنه قال : لست بخيلا ولكن كريما ، فهي ـ ها هنا ـ واقعة بين ضدّين.

ولا تعمل مخففة خلافا ل «يونس» (١) ، ولها أحكام كثيرة.

ومعنى الاستدراك في هذه الآية يحتاج إلى تأمل ونظر ، وذلك أنهم لما نهوا عن اتخاذ مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد ، فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك ، وأخبر ـ تعالى ـ بأنهم هم المفسدون كانوا حقيقين بأن يعلموا أن ذلك كما أخبر ـ تعالى ـ وأنهم لا يدعون بأنهم مصلحون ، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بذلك.

ومثله قولك : «زيد جاهل ، ولكن لا يعلم» ، وذلك لأنه من حيث اتّصف بالجهل ، وصار الجهل وصفا قائما به كان ينبغي أن يعلم بهذا الوصف من نفسه ؛ لأن الإنسان له أن يعلم ما اشتملت عليه نفسه من الصفات ، فاستدركت عليه أنّ هذا الوصف القائم به لا يعلمه مبالغة في جهله.

ومفعول «يشعرون» محذوف : إمّا حذف اختصار ، أي : لا يشعرون بأنهم مفسدون ، وإما حذف اقتصار ، وهو الأحسن ، أي : ليس لهم شعور ألبتة.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ)(١٣)

الكلام عليها كالكلام على التي قبلها.

و «آمنوا» فعل وفاعل ، والجملة في محل رفع لقيامها مقام الفاعل على ما تقدم في (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا) [البقرة : ١١] والأقوال هناك تعود هنا.

والكاف في قوله «كما آمن» في محلّ نصب.

وأكثر المعربين يجعلون ذلك نعتا لمصدر محذوف ، والتقدير : آمنوا إيمانا كإيمان النّاس ، وكذلك يقولون في : «سير عليه حثيثا» : أي سيرا حثيثا وهذا ليس مذهب سيبويه ، إنما مذهبه في هذا ونحوه أن يكون منصوبا على الحال من المصدر والمضمر المفهوم من الفعل المتقدم.

__________________

(١) يونس بن حبيب الضبي بالولاء ، أبو عبد الرحمن ، ويعرف بالنحوي : علامة بالأدب ، كان إمام نحاة البصرة في عصره. وهو من قرية «جبّل» على دجلة يبن بغداد وواسط ، أعجمي الأصل ، أخذ عن سيبويه والكسائي والفرّاء وغيرهم من الأئمة ، وكانت حلقته بالبصرة ينتابها طلاب العلم وأهل الأدب وفصحاء الأعراب ووفود البادية. وله كتب منها «معاني القرآن» وغيرها. ولد سنة ٩٤ ه‍ ، وتوفي سنة ١٨٢ ه‍.

انظر مرآة الجنان : ١ / ٣٨٨ ، نزهة الألبا : ٥٩ ، وفيات الأعيان : ٢ / ٤١٦ ، الأعلام : ٨ / ٢٦١.

٣٥٤

وإنما أحوج سيبويه إلى ذلك أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلّا في مواضع محصورة ، ليس هذا منها ، فتلك المواضع : أن تكون الصفة خاصة بالموصوف ، نحو : «مررت بكاتب».

أو واقعة خبرا نحو : «زيد قائم».

أو حالا نحو : «جاء زيد راكبا».

أو صفة لظرف نحو : «جلست قريبا منك».

أو مستعملة استعمال الأسماء ، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه ، نحو : «الأبطح والأبرق» وما عدا هذه المواضع لا يجوز فيها حذف الموصوف ؛ ألا ترى أنّ سيبويه منع لا ماء ولو باردا ، وإن تقدّم ما يدلّ على الموصوف ، وأجاز : «إلا ماء ولو باردا» ؛ لأنه نصب على الحال.

و «ما» مصدرية في محل جرّ بالكاف ، و «آمن النّاس» صلتها.

واعلم أنّ «ما» المصدرية توصل بالماضي أو المضارع المتصرّف ، وقد شذّ وصلها بغير المتصرف في قوله : [الطويل]

٢٠ ـ ...........

بما لستما أهل الخيانة ، والغدر (١)

وهل توصل بالجمل الاسمية؟ خلاف ، واستدل على جوازه بقوله : [الكامل]

٢٠٣ ـ واصل خليلك ما التّواصل ممكن

فلأنت أو هو عن قليل ذاهب (٢)

وقال الآخر : [البسيط]

٢٠٤ ـ أحلامكم لسقام الجهل شافية

كما دماؤكم تشفي من الكلب (٣)

وقول الآخر : [الوافر]

٢٠٥ ـ فإنّ الحمر من شرّ المطايا

كما الحبطات شرّ بني تميم (٤)

__________________

(١) عجز بيت ، وصدره :

أليس أميري ، في الأمور ، بأنتما

ينظر الجنى الداني : ص ٣٣٢ ، والمغني : ٣٣٩ ، وشرح شواهده : ٧١٧ ، والعيني : ١ / ٤٢٢ ـ ٤٢٣ ، والدر المصون : ١ / ١٢٢.

(٢) ينظر الدر المصون : (١ / ١٢٢).

(٣) البيت للكميت بن زيد ينظر الدرر : ١ / ٢٥٢ ، ومعاهد التنصيص : ٣ / ٨٨ ، تذكرة النحاة : ص ٥١ ، وهمع الهوامع : ١ / ٨١ ، الدر المصون : ١ / ١٢٢.

(٤) البيت لزياد الأعجم. ينظر ديوانه : ص ٩٧ ، وخزانة الأدب : ١٠ / ٢٠٤ ، ٢٠٦ ، ٢٠٨ ، ٢١١ ، ٢١٣ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٣٤٦ ، والأزهية : ص ٧٧ ، الحيوان : ١ / ٣٦٣ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٢٩٨ ، وشرح ابن عقيل : ص ٣٧٠ ، والأمالي الشجرية : (٢ / ٢٣٥) ، والكافية الشافية : (٢ / ٨١٩) ، الدر المصون : (١ / ١٢٢).

٣٥٥

إلّا أن ذلك يكثر فيها إذا أفهمت الزمان ؛ كقوله : [الكامل]

٢٠٦ ـ واصل خليلك ...

 ........... (١)

البيت.

وأجاز الزّمخشري وأبو البقاء أن تكون «ما» كافّة ل «الكاف» عن العمل.

مثلها في قولك : ربما قدم زيد ، ولا ضرورة تدعو إلى هذا ؛ لأن جعلها مصدرية مبق ل «الكاف» على ما عهد لها من العمل ، بخلاف جعلها كافة.

والألف واللام في «النّاس» تحتمل أن تكون للجنس ، وفيها وجهان.

أحدهما : المراد «الأوس» و «الخزرج» ؛ لأن أكثرهم كانوا مسلمين ، وهؤلاء المنافقون كانوا منهم ، وكانوا قليلين ، ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر.

والثاني : المراد جميع المؤمنين ؛ لأنهم هم النّاس ؛ لكونهم أعطوا الإنسانية حقّها ؛ لأن فضل الإنسان على سائر الحيوان بالعقل المرشد.

وتحتمل أن تكون «الألف» و «اللام» للعهد ، فيكون المراد : كما آمن الرسول ومن معه ، وهم ناس معهودون ، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.

فصل في أوجه ورود لفظ الناس

ورد لفظ «النّاس» على سبعة أوجه :

الأول : المراد به عبد الله بن سلام ، وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب.

الثاني : المراد به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٥٤].

أي : يحسدون النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ على النّساء.

الثّالث : الناس : المؤمنون خاصّة قال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] ، ومثله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) [البقرة : ٢١].

الرابع والخامس : كفّار قريش ، وزيد بن مسعود ، قال تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) يعني نعيم المكّي : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران : ١٧٣].

السادس : آدم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) [البقرة : ١٩٩] يعني : آدم عليه الصلاة والسلام.

السابع : الرّجال ؛ قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] يعني : الرجال.

__________________

(١) تقدم قريبا.

٣٥٦

فصل في إعراب الآية

الهمزة في «أنؤمن» للإنكار ، والاستهزاء ، ومحلّ «أنؤمن» النصب ب «قالوا» وقوله: (كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) القول في «الكاف» و «ما» كالقول فيهما فيما تقدّم ، و «الألف» و «اللام» في «السفهاء» تحتمل أن تكون للجنس أو للعهد ، وأبعد من جعلها للغلبة كالعيّوق ؛ لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم ، بحيث إذا قيل : السفهاء فيهم منهم ناس مخصوصون ، كما يفهم من العيوق كوكب مخصوص.

والسّفه : الخفّة ، يقال : ثوب سفيه أي : خفيف النّسج ، ويقال : سفهت الرّيح الشيء: إذا حرّكته ؛ قال ذو الرمّة : [الطويل]

٢٠٧ ـ جرين كما اهتزّت رياح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم (١)

وقال أبو تمام : [الوافر]

٢٠٨ ـ سفيه الرّمح جاهله إذا ما

بدا فضل السّفيه على الحليم (٢)

أراد سريع الطّعن بالرّمح خفيفه ، وإنما قيل لبذيء اللسان : سفيه ؛ لأنه خفيف الهداية.

وقال عليه الصلاة والسلام : «شارب الخمر سفيه» (٣) لقلة عقله.

وقيل : السفيه : الكذّاب الذي يعمل بخلاف ما يعلم ، وإنما سمّى المنافقون المسلمين بالسّفهاء ، لأن المنافقين كانوا من أهل الرياسة ، وأكثر المسلمين كانوا فقراء ، وكان

عند المنافقين أن دين محمد باطل ، والباطل لا يقبله إلا السّفيه ، فلهذا نسبوهم إلى السّفاهة ، ثم إنّ الله ـ تعالى ـ قلب عليهم هذا القول فقال : «ألا إنّهم هم السّفهاء» لوجوه :

أحدها : أنّ من أعرض عن الدّليل ، ثم نسب المتمسّك به إلى السّفاهة ، فهو السّفيه.

وثانيها : أنّ من باع آخرته بدنياه فهو السّفيه.

وثالثها : أنّ من عادى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد عادى الله ، وذلك هو السّفيه.

__________________

(١) ينظر ديوانه : ص ٧٥٤ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٢٢٥ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٥٨ ، والكتاب : ١ / ٥٢ ، ٦٥ ، والمحتسب : ١ / ٢٣٧ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٣٦٧ ، لسان العرب : (صدر) ، (سفه) ، الخصائص : ٢ / ٤١٧ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣١٠ ، شرح ابن عقيل : ص ٣٨٠ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٨٣٨ ، والأشباه والنظائر : ٥ / ٢٣٩.

(٢) ينظر البيت في ديوانه : ٣ / ١٦١ ، الفخر الرازي : ٢ / ٦٢.

(٣) لم أجده في المصادر الحديثية بهذا اللفظ وقد ذكره الفخر الرازي في تفسيره (٢ / ٦٢).

٣٥٧

والكلام على قوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) كالكلام على قوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة : ١٢].

وقرأ أهل «الشام» و «الكوفة» (١) «السّفهاء ألا» بتحقيق الهمزتين ، وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا ، والآخرون يحققون الأولى ، ويليّنون الثانية في المختلفتين طلبا للخفّة فإن كانتا متّفقتين مثل : (هؤُلاءِ إِنْ) [البقرة : ٣١] ، و (أَوْلِياءُ أُولئِكَ) [الأحقاف : ٣٢] ، و (جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) [هود : ١٠١] قرأها أبو عمرو والبزي (٢) عن ابن كثير بهمزة واحدة.

وقرأ أبو جعفر ، وورش ، ويعقوب (٣) : بتحقيق الأولى وتليين الثانية.

وقرأ قالون (٤) : بتليين الأولى ، وتحقيق الثانية ، لأن ما يستأنف أولى بالهمزة ممّا يسكت عليه.

فصل في نظم الآية

إنما قال هناك : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) ، وقال ها هنا : (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) لوجهين:

أحدهما : أن المثبت لهم ـ هناك ـ الإفساد ، وهو مما يدرك بأدنى تأمّل ، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير ، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر ، وهي الحواسّ مبالغة في تجهيلهم ، وهو أنّ الشعور الذي قد ثبت للبهائم منفيّ عنهم ، والمثبت ـ هنا ـ هو السّفه والمصدر به هو الأمر بالإيمان ، وذلك مما يحتاج إلى إمعان فكر ونظر ، فإنه مفض إلى الإيمان والتصديق ، ولم يقع منهم المأمور به وهو الإيمان ، فناسب ذلك نفي العلم عنهم.

الوجه الثاني : أن السّفه خفّة العقل والجهل بالأمور ؛ قال : [السريع]

٢٠٩ ـ نخاف أن تسفه أحلامنا

فنجهل الجهل مع الجاهل (٥)

والعلم نقيض الجهل فقابله بقوله : (لا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٣] ؛ لأن عدم العلم بالشيء جهل به.

__________________

(١) انظر حجة القراءات : ٩١ ، وإعراب القراءات : ١ / ٦٩ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٩ ، وإتحاف : ٣٧٩.

وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر.

(٢) انظر تفصيل ذلك في حجة القراءات : ٩٠ ، وما بعدها ، والبحر المحيط : ١ / ٢٠٠ ، والحجة للقراء السبعة : ١ / ٣٥٨ ، وما بعدها.

(٣) وقرأ بها ابن كثير. انظر إعراب القراءات : ١ / ٦٩ ، وحجة القراءات : ٩٢.

(٤) ينظر الحاشية قبل السابقة.

(٥) ينظر البحر المحيط : ١ / ٢٠١ ، والدر المصون : ١ / ١٢٣.

٣٥٨

فصل في تعلق الآية بما قبلها

قال ابن الخطيب (١) : لما نهاهم في الآية الأولى عن الفساد في الأرض ، ثم أمرهم في هذه الآية بالإيمان دلّ على أن كمال حال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين ، وهو تركه ما لا ينبغي ، وفعل ما ينبغي.

وقوله : (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) أي : إيمانا مقرونا بالإخلاص بعيدا عن النفاق.

ولقائل أن يستدلّ بهذه الآية على أنّ مجرد الإقرار إيمان ، فإنه لو لم يكن إيمانا لما تحقّق مسمّى الإيمان إلّا إذا حصل بالإخلاص ، فكان قوله : «آمنوا» كافيا في تحصل المطلوب ، وكان ذكر قوله : (كَما آمَنَ النَّاسُ) لغوا.

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١٥)

«إذا» منصوب ب «قالوا» الذي هو جواب لها ، وقد تقدّم الخلاف في ذلك ، و «لقوا» فعل وفاعل ، والجملة في محلّ خفض بإضافة الظّرف إليها.

وأصل «لقوا» : لقيوا بوزن «شربوا» فاستثقلت الضمة على «الياء» التي هي «لام» الكلمة ، فحذفت الضمة فالتقى ساكنان : لام الكلمة وواو الجمع ، ولا يمكن تحريك أحدهما ، فحذف الأول وهو «الياء» ، وقلبت الكسرة التي على القاف ضمّة ؛ لتجانس واو الضمير ، فوزن «لقوا» : «فعوا» ، وهذه قاعدة مطّردة نحو : «خشوا» ، و «حيوا». وقد سمع في مصدر «لقي» أربعة عشر وزنا : «لقيا ولقية» بكسر الفاء وسكون العين ، و «لقاء ولقاءة» بفتحها أيضا مع المدّ في الثلاثة ، و «لقى» و «لقى» بفتح الفاء وضمّها ، و «لقيا» بضم الفاء ، وسكون العين و «لقيّا» بكسرها والتشديد و «لقيّا» بضم الفاء ، وكسر العين مع التشديد ، و «لقيانا ولقيانا» بضم الفاء وكسرها ، و «لقيانة» بكسر الفاء خاصّة ، و «تلقاء».

وقرأ أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ : «وإذا لاقوا».

و «الّذين آمنوا» مفعول به ، و «قالوا» جواب «إذا» ، و «آمنّا» في محل نصب بالقول.

قال ابن الخطيب : «والمراد بقولهم : «آمنا» : أخلصنا بالقلب ؛ لأن الإقرار باللسان كان معلوما منهم مما كانوا يحتاجون إلى بيانه ، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب ، وأيضا فيجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم ، وإنما كانوا يظهرون لهم التّكذيب بالقلب».

__________________

(١) ينظر الرازي : ٢ / ٦١.

٣٥٩

وقوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا) تقدّم نظيره ، والأكثر في «خلا» أن يتعدّى بالباء ، وقد يتعدّى ب «إلى» ، وإنما تعدّى في هذه الآية ب «إلى» لمعنى بديع ، وهو أنه إذا تعدّى بالباء احتمل معنيين :

أحدهما : الانفراد.

والثاني : السّخرية والاستهزاء ، تقول : «خلوت به» أي : سخرت منه ، وهو من قولك : خلا فلان بعرض فلان أي : يعبث به.

وإذا تعدّى ب «إلى» كان نصّا في الانفراد فقط ، أو تقول : ضمن «خلا» معنى «صرف» فتعدّى «إلى» ، والمعنى : صرفوا خلاهم إلى شياطينهم ، أو تضمّن معنى «ذهبوا وانصرفوا» ومنه : «القرون الخالية».

وقيل : «إلى» ـ هنا ـ بمعنى «مع» ، كقوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢].

وقيل : هي هنا بمعنى «الباء» ، وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين ، وأما البصريون فلا يجيزون التجوّز في الحروف ؛ لضعفها.

وقيل المعنى : وإذا خلوا رجعوا إلى شياطينهم. ف «إلى» على بابها.

والأصل في خلوا : خلووا ، فقلبت «الواو» الأولى التي هي «لام» الكلمة «ألفا» لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، فبقيت ساكنة وبعدها «واو» الضمير ساكنة ، فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما ، وهو «الألف» ، وبقيت الفتحة دالة عليها.

و «شياطينهم» : جمع شيطان ، جمع تكسير ، وقد تقدّم القول في اشتقاقه ، فوزن شياطين : إما «فعاليل» أو «فعالين» على حسب القولين المتقدّمين في الاستعاذة ، والفصيح في شياطين وبابه أن يعرب بالحركات ؛ لأنه جمع تكسير ، وفي لغة رديئة ، وهي إجراؤه إجراء الجمع المذكر السالم ، سمع منهم : «لفلان البستان حوله البستانون».

وقرىء شاذّا : «وما تنزّلت به الشّياطون» [الشعراء : ٢١٠].

وشياطينهم : رؤساؤهم وكهنتهم.

قال ابن عباس : وهم خمسة نفر من اليهود : كعب بن الأشرف ب «المدينة» ، وأبو بردة ب «الشام» في بني أسلم ، وعبد الدار في «جهينة» ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وعبد الله بن السوداء ب «الشام» ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له (١).

وقال مجاهد : شياطينهم : أصحابهم من المنافقين والمشركين (٢).

__________________

(١) أخرجه الواحدي في «الوسيط» (١ / ٩٠).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٧٠) وعزاه لابن جرير وعبد بن حميد عن مجاهد.

وهو عند الطبري في «تفسيره» (١ / ٢٩٨).

٣٦٠