اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

و «غشاوة» مبتدأ ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خبرها ظرفا ، أو حرف جر تاما ، وقدم عليها جاز الابتداء بها ، [ويكون تقديم الخبر حينئذ واجبا ؛ لتصحيحه الابتداء بالنكرة](١) ، والآية من هذا القبيل ، وهذا بخلاف قوله تعالى : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام : ٢] ؛ ويبتدأ بما بعده ، وهو (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) ف (عَلى أَبْصارِهِمْ) خبر مقدم ، و «غشاوة» مبتدأ مؤخر.

وعلى الاحتمال الثاني يوقف على «قلوبهم» ، وإنما كرر حرف الجر ؛ ليفيد التأكيد ويشعر ذلك بتغاير الختمين ، وهو : أن ختم القلوب غير ختم الأسماع.

وقد فرق النحويون بين «مررت بزيد وعمرو» وبين «مررت بزيد وبعمرو» فقالوا في الأول هو ممرور واحد ، وفي الثاني هما ممروران ، وهو يؤيد ما قلته ، إلا أن التعليل بالتأكيد يشمل الإعرابين ، أعني : جعل (وَعَلى سَمْعِهِمْ) معطوفا على قوله : «على قلوبهم» ، وجعله خبرا مقدما.

وأما التعليل بتغاير الختمين فلا يجيء إلا على الاحتمال الأول ، وقد يقال على الاحتمال الثاني أن تكرير الحرف يشعر بتغاير الغشاوتين ، وهو أنّ الغشاوة على السّمع غير الغشاوة على البصر ، كما تقدم ذلك في الختمين.

وقرىء (٢) : غشاوة بالكسر والنصب ، وبالفتح والنصب وبالضمّ والرفع ، وبالكسر والرفع ـ و «غشاوة» بالفتح والرفع والنصب ـ و «عشاوة» بالعين المهملة ، والرفع من العشا.

فأما النصب ففيه ثلاثة أوجه :

الأول : على إضمار فعل لائق ، أي : وجعل على أبصارهم غشاوة ، وقد صرح بهذا العامل في قوله تعالى : (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) [الجاثية : ٢٣].

والثاني : الانتصاب على إسقاط حرف الجر ، ويكون (عَلى أَبْصارِهِمْ) معطوفا على ما قبله ، والتقدير : ختم الله على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم بغشاوة ، ثم حذف حرف الجر ، فانتصب ما بعده ؛ كقوله : [الوافر]

١٥٩ ـ تمرّون الدّيار فلم تعوجوا

كلامكم عليّ إذن حرام (٣)

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) رواه المفضل الضبي عن عاصم يعني ـ غشاوة ـ ، وبالضم والرفع قرأ الحسن وزيد بن علي ، وقرأ أبو جعفر بفتح الغين.

انظر الشواذ : ٢ ، والحجة للقراء السبعة : ١ / ٢٩١ ، وإعراب القراءات : ١ / ٦١ ، البحر المحيط : ١ / ١٧٧ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٧٧ ، والقرطبي : ١ / ١٣٤.

(٣) البيت لجرير ينظر ديوانه : ص ٢٧٨ ، والأغاني : ٢ / ١٧٩ ، وتخليص الشواهد : ص ٥٠٣ ، وخزانة الأدب : ٩ / ١١٨ ، ١١٩ ، ١٢١ ، والدرر : ٥ / ١٨٩ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٣١١ ، ولسان العرب ـ

٣٢١

أي : تمرون بالدّيار ، ولكنه غير مقيس.

والثالث : أن يكون «غشاوة» اسما وضع موضع المصدر الملاقي ل «ختم» في المعنى ؛ لأن الختم والتغشية يشتركان في معنى السّتر ، فكأنه قيل : «وختم تغشية» على سبيل التأكيد ، فهو من باب «قعدت جلوسا» ، وتكون «قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مغشاة».

وقال الفارسيّ : قراءة الرفع الأولى ، لأن النّصب إما أن تحمله على ختم الظاهر ، فيعرض من ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به ، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر ، وإما أن تحمله على فعل يدلّ عليه «ختم» ، تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ، فهذا الكلام من باب : [الكامل]

١٦٠ ـ يا ليت زوجك قد غدا

متقلّدا سيفا ورمحا (١)

وقوله : [الرجز]

١٦١ ـ علفتها تبنا وماء باردا

حتّى شتت همّالة عيناها (٢)

ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة ، ولا اختيار.

واستشكل بعضهم هذه العبارة ، وقال : لا أدري ما معنى قوله ؛ لأن النصب إما أن تحمله على «ختم» الظاهر ، وكيف تحمل «غشاوة» المنصوب على «ختم» الذي هو فعل هذا ما لا حمل فيه؟

قال : اللهم إلا أن يكون أراد أن قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) دعاء عليهم لا خبر ، ويكون «غشاوة» في معنى المصدر المدعو به عليهم القائم مقام الفعل ، فكأنه قيل :

__________________

ـ (مرر) ، والمقاصد النحوية : ٢ / ٥٦٠ ، وشرح ابن عقيل : ص ٢٧٢ ، وشرح المفصل : ٨ / ٨ ، ٩ / ١٠٣ ، ومغني اللبيب : ١ / ١٠٠ ، ٢ / ٤٧٣ ، والمقرب : ١ / ١١٥ ، الأشباه والنظائر : ٦ / ١٤٥ ، ٨ / ٥٢ ، همع الهوامع : ٢ / ٨٣ ، الدر المصون : (١ / ١٠٦).

(١) البيت لعبد الله بن الزبعرى. ينظر الخصائص : (٢ / ٤٣١) ، أمالي ابن الشجري : (٢ / ٢٣١) ، الإنصاف : (٢ / ٦١٢) ، شرح المفصل : (٢ / ٥٠) ، الكامل : (١ / ٣٣٤) ، مجاز القرآن : (٢ / ٦٨) ، تأويل المشكل : (٢١٤) ، شرح القصائد العشر : (٢٤٧) ، المقتضب : (٢ / ٥٠) ، معاني القرآن : (١ / ٤٨) ، ومجمع البيان : (١ / ٩٤) ، والحجة : (١ / ٢٣٣) ، والمقتصد في شرح الإيضاح : (١ / ٦٦٢) ، وشرح ديوان الحماسة : (٣ / ١١٤٧) ، المخصص : (١٤ / ٢٣٢) ، ودرة الغواص : (٨٩) ، واللسان (مسح ، قلد ، جمع) وخزانة الأدب : (٢ / ٣١) ، (٣ / ١٤٢) ، (٩ / ١٤٢) ، البحر المحيط : (١ / ١٧٧) ، الدر : (١ / ١٠٧).

(٢) البيت لذي الرمة وليس في ديوانه. ينظر الخصائص : ٢ / ٣٢١ ، شرح المفصل لابن يعيش : ٢ / ٨ ، الهمع : ٢ / ١٣٠ ، الإنصاف : ٢ / ٦١٣ ، معاني الفراء : ١ / ١٤ ، ٣ / ١٢٤ ، الدرر : ٢ / ١٦٩ ، العيني : ٣ / ١٠١ ، تأويل مشكل القرآن : (٢١٣) ، شرح المفضليات : ١ / ١٢٦ ، ابن الشجري : ٢ / ٣٢١ ، أوضح المسالك : ١ / ٢٩٨ ، المغني : ٢ / ٦٣٢ ، اللسان (قد) ، والدر المصون : ١ / ١٠٧.

٣٢٢

وغشّى الله على أبصارهم ، فيكون إذ ذاك معطوفا على «ختم» عطف المصدر النائب مناب فعله في الدّعاء ، نحو : «رحم الله زيدا وسقيا له» فتكون إذ ذاك قد حلت بين «غشاوة» المعطوف وبين «ختم» المعطوف عليه بالجار والمجرور. وهو تأويل حسن ، إلّا أن فيه مناقشة لفظية ؛ لأن الفارسي ما ادّعى الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه إنما ادعى الفصل بين حرف العطف والمعطوف به أي بالحرف ، فتحرير التأويل أن يقال : فيكون قد حلت بين غشاوة وبين حرف العطف بالجار والمجرور.

والقراءة المشهورة بالكسر ؛ لأن الأشياء التي تدلّ على الاشتمال تجيء أبدا على هذه الزّنة كالعصابة والعمامة.

والغشاوة فعالة : الغطاء من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء ، ومنه غشي عليه ، والغشيان كناية عن الجماع.

و «القلب» أصله المصدر ، فسمي به هذا العضو الصّنوبري ؛ لسرعة الخواطر إليه وتردّدها عليه ، ولهذا قال : [البسيط]

١٦٢ ـ ما سمّي القلب إلّا من تقلّبه

فاحذر على القلب من قلب وتحويل (١)

ولما سمي به هذا العضو التزموا تفخيمه فرقا بينه وبين أصله ، وكثيرا ما يراد به العقل ويطلق أيضا على لبّ كل شيء وخالصه.

و «السمع» و «السماع» مصدران ل «سمع» ، وقد يستعمل بمعنى الاستماع ؛ قال: [البسيط]

١٦٣ ـ وقد توجّس ركزا مقفر ندس

بنبأة الصّوت ما في سمعه كذب (٢)

أي : ما في استماعه. و «السّمع» ـ بالكسر ـ الذّكر بالجميل ، وهو ـ أيضا ـ ولد الذئب من الضّبع ، ووحد وإن كان المراد به الجمع كالذي قبله وبعده ؛ لأنه مصدر حقيقة ، يقال: رجلان صوم ، ورجال صوم ، ولأنه على حذف مضاف ، أي : مواضع سمعهم ، أو حواس سمعهم ، أو يكون كني به عن الأذن ، وإنما وحّده لفهم المعنى ؛ كقوله [الوافر]

١٦٤ ـ كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

فإنّ زمانكم زمن خميص (٣)

أي : بطونكم.

__________________

(١) ينظر الدر المصون : ١ / ١٠٨ ، واللسان (قلب) ورواية العجز :

والرأي يصرف بالإنسان أطوارا

(٢) البيت لذي الرمة ينظر ديوانه : (٨٩) ، واللسان (نبا) ، والدر المصون : ١ / ١٠٨.

(٣) البيت من شواهد الكتاب : ١ / ٢١٠ ، أمالي ابن الشجري : ١ / ١٠٨ ، والمحتسب : ٢ / ٨٧ ، شرح المفصل : ٥ / ٨ ، والهمع : ١ / ٥٠ ، والدر المصون : ١ / ١٠٨.

٣٢٣

ومثله قال سيبويه : «إنه وإن وحّد لفظ السمع إلّا أن ذكر ما قبله وما بعده بلفظ الجمع دليل على إرادة الجمع».

ومنه أيضا قال تعالى : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] ، (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) [ق : ١٧] ؛ قال الراعي.

١٦٥ ـ بها جيف الحسرى فأمّا عظامها

فبيض وأمّا جلدها فصليب (١)

أي : جلودها.

وقرأ ابن أبي عبلة (٢) : «أسماعهم».

قال الزمخشري : واللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم ، وفي حكم التّغشية ، إلّا أن الأولى دخولها في حكم الختم ؛ لقوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً).

و «الأبصار» : جمع بصر ، وهو نور العين الذي يدرك به المرئيات.

قالوا : وليس بمصدر لجمعه ، ولقائل أن يقول : جمعه لا يمنع كونه مصدرا في الأصل ، وإنما سهل جمعه كونه سمي به نور العين ، فهجرت فيه معنى المصدرية ، كما تقدم في قلوب جمع قلب.

وقد قلتم : إنه في الأصل مصدر ثم سمي به ، ويجوز أن يكنى به عن العين ، كما كني بالسمع عن الأذن ، وإن كان السّمع في الأصل مصدرا كما تقدم.

وقرأ أبو عمرو والكسائي (٣) : «أبصارهم» بالإمالة ، وكذلك كلّ ألف بعدها مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها.

ويميل حمزة منها ما تكرر فيه الراء «كالقرار» ونحوه ، وزاد الكسائي إمالة (جَبَّارِينَ) [المائدة : ٢٢] ، و (الْجَوارِ) [الشورى : ٥٢] ، و (بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤] ، و (مَنْ أَنْصارِي) [آل عمران : ٥٢] و (نُسارِعُ) [المؤمنون : ٥٦] وبابه ، وكذلك يميل كل ألف هي بمنزلة لام الفعل ، أو كانت علما للتأنيث مثل : (الْكُبْرى) [طه : ٢٣] ، و (الْأُخْرى) [الزمر : ٤٢] ، ولام الفعل مثل : (يَرَى) [البقرة : ١٦٥] ، و (افْتَرى) [آل عمران : ٩٤] يكسرون الراء منها.

__________________

(١) البيت لعلقمة بن عبدة. ينظر ديوانه : (٤٠) ، والكتاب : ١ / ٢٠٩ ، المفضليات : (٣٩٤) ، والدر المصون : ١ / ١٠٨.

(٢) قرأ بها ابن أبي عبلة. انظر الكشاف : ١ / ٥٣ ، والدر المصون : ١ / ١٠٨ ، والقرطبي : ١ / ١٣٣.

(٣) وقرأ بالإمالة أيضا ورش انظر حجة القراءات : ٨٧ ، وإعراب القراءات السبع وعللها لابن خالويه : ١ / ٦٠ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٧٦.

٣٢٤

و «الغشاوة» : الغطاء. قال : [الطويل]

١٦٦ ـ تبعتك إذ عيني عليها غشاوة

فلمّا انجلت قطّعت نفسي ألومها (١)

وقال : [البسيط]

١٦٧ ـ هلّا سألت بني ذبيان ما حسبي

إذا الدّخان تغشّى الأشمط البرما (٢)

وجمعها «غشاء» ، لما حذفت الهاء قلبت الواو همزة.

وقيل : «غشاوي» مثل «أداوي».

قال الفارسي : لم أسمع من «الغشاوة» فعلا متصرفا ب «الواو» ، وإذا لم يوجد ذلك ، وكان معناها معنى ما «اللام» منه «الياء» ، وهو غشي بدليل قولهم : «الغشيان» ، و «الغشاوة» من غشي ك «الجباوة» من جبيت في أن «الواو» كأنها بدل من «الياء» ، إذ لم يصرّف منه فعل كما لم يصرّف من الجباوة. وظاهر عبارته أن «الواو» بدل من «الياء» ، و «الياء» أصل بدليل تصرف الفعل منها دون مادة «الواو».

والذي يظهر أن لهذا المعنى مادتين «غ ش و» ، و «غ ش ي» ، ثم تصرفوا في إحدى المادتين ، واستغنوا بذلك عن التصرف في المادة الأخرى ، وهذا أقرب من ادعاء قلب «الواو» «ياء» من غير سبب ، وأيضا «الياء» أخف من «الواو» ، فكيف يقلبون الأخف للأثقل؟

و «لهم» خبر مقدم فيتعلّق بمحذوف ، و «عذاب» مبتدأ مؤخر ، و «عظيم» صفة.

والخبر ـ هنا ـ جائز التقديم ؛ لأن للمبتدأ مسوغا وهو وصفه ونظيره : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام : ٢] من حيث الجواز.

والعذاب في الأصل : الاستمرار ، ثم سمي به كلّ استمرار ألم.

وقيل أصله : المنع ، وهذا هو الظّاهر ، ومنه قيل للماء : عذب ؛ لأنه يمنع العطش ، والعذاب يمنع من الجريمة.

«عظيم» اسم فاعل من «عظم» ، نحو : كريم من «كرم» غير مذهوب به مذهب الزمان ، وأصله أن توصف به الأجرام ، ثم قد توصف به المعاني.

وهل هو و «الكبير» بمعنى واحد أو هو فوق «الكبير» ؛ لأن العظيم يقابل الحقير ، والكبير يقابل الصغير ، والحقير دون الصغير؟ قولان.

__________________

(١) البيت للحارث بن خالد المخزومي. ينظر مجاز القرآن : ١ / ٣١ ، القرطبي : ١ / ١٣٤ ، الطبري : ١ / ٢٦٥ ، واللسان (غشا) ، والدر المصون : ١ / ١٠٨.

(٢) البيت للنابغة. ينظر ديوانه : ١١٢ ، الطبري : ١ / ١٤٨ ، المحرر : ١ / ١٨ ، القرطبي : ١ / ١٣٤ ، الدر : ١ / ١٠٩.

٣٢٥

و «فعيل» له معان كثيرة ، يكون اسما وصفة ، والاسم مفرد وجمع ، والمفرد اسم معنى ، واسم عين ، نحو : «قميص وظريف وصهيل وكليب جمع كلب».

والصفة مفرد «فعلة» ك «غزي» يجمع على «غزاة» ومفرد «فعلة» ك «سري» يجمع على «سراة».

ويكون اسم فاعل من «فعل» نحو : عظيم من عظم كما تقدم.

ومبالغة في «فاعل» ، نحو «عليم من عالم».

وبمعنى «أفعل» ك «شميط» بمعنى : «أشمط» ، و «مفعول» ك «جريح» بمعنى : مجروح ، و «مفعل» ك «سميع» بمعنى : «مسمع» ، و «مفعل» ، ك «وليد» بمعنى : مولد ، و «مفاعل» ، ك «جليس» بمعنى : مجالس ، و «مفعل» ، ك «بديع» بمعنى : مبتدع ، و «متفعّل» ك : «سعير» بمعنى : «متسعّر» ، و «مستفعل» ك «مكين» بمعنى : «مستمكن».

و «فعل» ك «رطيب» بمعنى : «رطب» ، و «فعل» ك «عجيب» بمعنى : «عجب» و «فعال» ك «صحيح» بمعنى : صحاح ، وبمعنى : «الفاعل والمفعول» ك «صريخ» بمعنى : «صارخ ومصروخ».

وبمعنى الواحد والجمع نحو : «خليط» ، وجمع فاعل ك «غريب» جمع غارب.

فصل في أيهما أفضل : السمع أو البصر؟

من الناس من قال : السّمع أفضل من البصر ؛ لأن الله ـ تعالى ـ حيث ذكرهما قدم السّمع على البصر ، والتقديم دليل على التفضيل ، ولأنّ السمع شرط النّبوة بخلاف البصر ، ولذلك ما بعث الله رسولا أصمّ ، وقد كان فيهم الأعمى ، ولأنّ بالسّمع تصل نتائج عقول البعض إلى البعض ، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف ، والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات ، ولأن السمع متصرف في الجهات السّت بخلاف البصر ، ولأنّ السمع متى بطل فقد بطل النّطق ، والبصر إذا بطل لم يبطل النّطق.

ومنهم من قدم البصر ؛ لأنّ آلة القوة الباصرة أشرف ، ولأن متعلّق القوة الباصرة هو النور ، ومتعلّق القوة السّامعة هو الريح.

فصل في ألفاظ وردت بمعنى الختم

الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم هي «الطّبع» و «الكنان» و «الرين» على القلب ، و «الوقر» في الأذن ، و «الغشاوة» في البصر.

واختلف الناس في هذا الختم : فالقائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله ـ تعالى ـ فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر ، ثم لهم قولان :

منهم من قال : الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار.

٣٢٦

ومنهم من قال : هو خلق الدّاعية التي إذا انضمّت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سببا موجبا لوقوع الكفر.

وأما المعتزلة فأوّلوا هذه الآية ، ولم يجروها على ظاهرها.

أما قوله تعالى : (لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي : في الآخرة.

وقيل : الأسر والقتل في الدنيا ، والعذاب الدائم في العقبى.

و «العذاب» مشتق من «العذب» وهو القطع ، ومنه سمي الماء الفرات عذبا ؛ لأنه يقطع العطش.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(٨)

«من الناس» خبر مقدم ، و «من يقول» مبتدأ مؤخر ، و «من» تحتمل أن تكون موصولة ، أو نكرة موصوفة أي : الذي يقول ، أو فريق يقول ، فالجملة على الأول لا محل لها ؛ لكونها صلة ، وعلى الثاني محلها الرفع ؛ لكونها صفة للمبتدأ.

واستضعف أبو البقاء أن تكون موصولة ، قال : لأن «الذي» يتناول قوما بأعيانهم ، والمعنى هنا على الإبهام.

وهذا منه غير مسلم ؛ لأنّ المنقول أنّ الآية نزلت في قوم بأعيانهم كعبد الله بن أبي ورهطه.

وقال الزمخشري : إن كانت أل للجنس كانت «من» نكرة موصوفة كقوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ) [الأحزاب : ٢٣].

وإن كانت للعهد كانت موصولة ، وكأنه قصد مناسبة الجنس للجنس ، والعهد للعهد ، إلا أن هذا الذي قاله غير لازم ، بل يجوز أن تكون «أل» للجنس ، وتكون «من» موصولة ، وللعهد و «من» نكرة موصوفة.

وزعم الكسائيّ أنها لا تكون نكرة إلّا في موضع تختص به النكرة ؛ كقوله : [الرمل]

١٦٨ ـ ربّ من أنضجت غيظا صدره

لو تمنّى لي موتا لم يطع (١)

وهذا الذي قاله هو الأكثر ، إلا أنها قد جاءت في موضع لا تختصّ به النكرة ؛ قال : [الكامل]

__________________

(١) البيت لسويد بن أبي كاهل. ينظر خزانة الأدب : ٦ / ٢٣ ، ٢٥٢ ، والدرر : ١ / ٣٠٢ ، والأغاني : ١٣ / ٩٨ ، وشرح اختيارات المفضل : ص ٩٠١ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٧٤٠ ، والشعر والشعراء : ١ / ٤٢٨ ، الأشموني : ٢ / ٧٠ ، وشرح شذور الذهب : ص ١٧٠ ، وشرح المفصل : ٤ / ١١ ، ومغني اللبيب : ١ / ٣٢٨ ، الأمالي الشجرية : ٢ / ١٦٩ ، معاني القرآن : ١٩٨ ، الهمع : ١ / ٩٢ ، ٢ / ٢٦ ، الدر : ١ / ١١٠.

٣٢٧

١٦٩ ـ فكفى بنا فضلا على من غيرنا

 ........... (١)

و «من» تكون موصولة ، ونكرة موصوفة كما تقدّم ، وشرطية واستفهامية.

وهل تقع نكرة غير موصوفة ، أو زائدة؟ فيه خلاف. واستدل الكسائي على زيادتها بقول عنترة : [الكامل]

١٧٠ ـ يا شاة من قنص لمن حلّت له

حرمت عليّ وليتها لم تحرم (٢)

ولا دليل فيه ، لجواز أن تكون موصوفة ب «قنص» إما على المبالغة ، أو على حذف مضاف ، وتصلح للتثنية والجمع والواحد.

فالواحد كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام : ٢٥] والجمع كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢] ، والسبب فيه أنه موحّد اللفظ مجموع المعنى. و «من» في «من الناس» للتبعيض ، وقد زعم قوم أنها للبيان وهو غلط ؛ لعدم تقدم ما يتبين بها. و «النّاس» اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ويرادفه «أناسيّ» جمع إنسان أو إنسي ، وهو حقيقة في الآدميين ، ويطلق على الجنّ مجازا.

واختلف النحويون في اشتقاقه : فمذهب سيبويه والفراء أن أصله همزة ونون وسين ، والأصل : أناس اشتقاقا من الأنس ، قال : [الطويل]

١٧١ ـ وما سمّي الإنسان إلّا لأنسه

ولا القلب إلّا أنّه يتقلّب (٣)

لأنه أنس ب «حواء».

وقيل : بل أنس بربه ثم حذفت الهمزة تخفيفا ؛ يدلّ على ذلك قوله : [الكامل]

١٧٢ ـ إنّ المنايا يطّلع

ن على الأناس الآمنينا (٤)

وقال آخر : [الطويل]

١٧٣ ـ وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم

ونحن خلعنا قيده فهو سارب (٥)

__________________

(١) تقدم برقم (١٢).

(٢) ينظر ديوانه : ص ٢١٣ ، والأزهية : ص ٧٩ ، ١٠٣ ، ولسان العرب (شوه) ، وخزانة الأدب : ٦ / ١٣٠ ، ١٣٢ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٤٨١ ، وشرح المفصل : ٤ / ١٢ ، والأشباه والنظائر : ٤ / ٣٠٠ ، خزانة الأدب : ١ / ٣٢٩ ، المغني : ١ / ٣٢٩ ، شرح جمل الزجاجي لابن عصفور : ٢ / ٤٥٨ ، الضرائر لابن عصفور : ٨١ ، ارتشاف الضرب : ١ / ٥٤٦ ، الدر : ١ / ١١٠.

(٣) ينظر القرطبي : ١ / ١٣٥ ، الدر : ١ / ١١٠.

(٤) تقدم برقم (٢٩).

(٥) البيت للأخنس بن شهاب التغلبي. ينظر المفضليات : ٢٠٨ ، ابن يعيش : ٨ / ٥٨ ، شرح ديوان الحماسة : ٢ / ٧٢٨ ، اللسان والتهذيب (سرب) ، شرح المفضليات : ٢ / ٧٦٥ ، إصلاح المنطق : ٢٠١ ، شرح جمل الزجاجي لابن عصفور : ١ / ٦٢٢ ، ٢ / ١٣ ، الدر : ١ / ١١١.

٣٢٨

وقال آخر : [الطويل]

١٧٤ ـ وكلّ أناس سوف تدخل بينهم

دويهية تصفر منها الأنامل (١)

وذهب الكسائي إلى أنه من «نون وواو وسين» والأصل : «نوس» فقلبت «الواو» «ألفا» لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، والنّوس : الحركة.

وذهب بعضهم إلى أنه من «نون وسين وياء» ، والأصل : «نسي» ، ثم قلبت «اللام» إلى موضع العين ، فصار : «نيس» ثم قلبت «الياء» «ألفا» لما تقدم في «نوس» ، قال: سموا بذلك لنسيانهم ؛ ومنه الإنسان لنسيانه ؛ قال : [البسيط]

١٧٥ ـ فإن نسيت عهودا منك سالفة

فاغفر فأوّل ناس أوّل النّاس (٢)

ومثله : [الكامل]

١٧٦ ـ لا تنسين تلك العهود فإنّما

سمّيت إنسانا لإنّك ناسي (٣)

فوزنه على القول الأول : «عال» ، وعلى الثاني : «فعل» ، وعلى الثالث : «فلع» بالقلب». و «يقول» : فعل مضارع ، وفاعله ضمير عائد على : «من».

والقول حقيقة : اللفظ الموضوع لمعنى ، ويطلق على اللّفظ الدّال على النسبة الإسنادية ، وعلى الكلام النّفساني أيضا ، قال تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) [المجادلة : ٨]. وتراكيبه السّتة وهي : «القول» ، و «اللوق» ، و «الوقل» ، و «القلو» ، و «اللّقو» ، و «الولق» تدل على الخفّة والسرعة ، وإن اختصت بعض هذه المواد بمعان أخر.

و «القول» أصل تعديته لواحد نحو : «قلت خطبة» ، وتحكى بعده الجمل ، وتكون في محل نصب مفعولا بها ، إلا أن يضمّن معنى الظن ، فيعمل عمله بشروط عند غير «بني سليم» ؛ كقوله : [الرجز]

١٧٧ ـ متى تقول القلص الرّواسما

يدنين أمّ قاسم وقاسما (٤)

__________________

(١) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه : ٢٥٦ ، وجمهرة اللغة : ٢٣٢ ، وخزانة الأدب : ٦ / ١٥٩ ، و ١٦ ، والدرر : ٦ / ٢٨٣ ، وسمط اللآلي : ١٩٩ ، وشرح شواهد الشافية : ٨٥ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ١٥٠ ، ولسان العرب [خوخ] ، والمعاني الكبير : ٨٥٩ و ١٢٠٦ ، مغني اللبيب : ١ / ١٣٦ و ١٩٧ ، الإنصاف : ١ / ١٣٩ ، وخزانة الأدب : ١ / ٩٤ ، وديوان المعاني : ١ / ١٨٨ ، وشرح الأشموني : ٣ / ٧٠٦ ، وشرح شافية ابن الحاجب : ١ / ١٩١ ، شرح شواهد المغني : ١ / ٤٠٢ و ٢ / ٥٣٧ ، شرح المفصل : ٥ / ١١٤ ، مغني اللبيب : ١ / ٤٨ و ٢ / ٦٢٦ ، همع الهوامع : ٢ / ١٨٥. شرح جمل الزجاجي لابن عصفور : ٢ / ٢٨٩ ، الدر : ١ / ١١١ ، روح المعاني : ١ / ٢٧١.

(٢) ينظر تفسير القرطبي : ١ / ١٣٥ ، الدر : ١ / ١١١.

(٣) البيت لأبي تمام. ينظر ديوانه : ٢ / ٢٤٥ ، القرطبي : ١ / ١٣٥ ، الدر : ١ / ١١١.

(٤) هذا البيت لهدبة بن خشرم. ينظر الهمع : (١ / ١٥٧) ، شرح ابن عقيل : (٤٤٧) (١٣٤) ، شذور الذهب ـ

٣٢٩

وبغير شرط عندهم ، كقوله : [الرجز]

١٧٨ ـ قالت وكنت رجلا فطينا

هذا لعمر الله إسرائينا (١)

و «آمنا» فعل وفاعل ، و «بالله» متعلّق به ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وكررت «الباء» في قوله : «وباليوم» ، للمعنى المتقدّم في قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ) [البقرة : ٧].

فإن قيل : الخبر لا بدّ وأن يفيد غير ما أفاد المبتدأ ، ومعلوم أنّ الذي يقول كذا هو من الناس لا من غيرهم؟

فالجواب : أنّ هذا تفصيل معنوي ، لأنه تقدّم ذكر المؤمنين ، ثم ذكر الكافرين ، ثم عقب بذكر المنافقين ، فصار نظير التّفصيل اللّفظي ، نحو قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ) [البقرة : ٢٠٤] ، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي) [لقمان : ٦] ، فهو في قوّة تفصيل النّاس إلى مؤمن ، وكافر ، ومنافق.

وأحسن من هذا أن يقال : إنّ الخبر أفاد التّبعيض المقصود ؛ لأنّ النّاس كلهم لم يقولوا ذلك ، وهم غير مؤمنين ، فصار التقدير : وبعض الناس يقول كيت وكيت.

واعلم أن «من» وأخواتها لها لفظ ومعنى ، فلفظها مفرد مذكر ، فإن أريد بها غير ذلك ، فلك أن تراعي لفظها مرّة ، ومعناها أخرى ، فتقول : جاء من قام وقعدوا ، والآية الكريمة كذلك روعي اللفظ أولا فقيل : «من يقول» ، والمعنى ثانيا في «آمنا».

وقال ابن عطية (٢) : حسن ذلك ؛ لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة ، ولا يجوز أن يرجع متكلّم من لفظ جمع إلى توحيد.

فلو قلت : «ومن الناس من يقومون» وتتكلّم لم يجز.

وفي عبارة ابن عطية نظر ، وذلك لأنّه منع من مراعاة اللّفظ بعد مراعاة المعنى ، وذلك جائز ، إلا أنّ مراعاة اللّفظ أولا أولى ، يرد عليه قول الشّاعر : [الخفيف]

١٧٩ ـ لست ممّن يكعّ أو يستكينو

ن إذا كافحته خيل الأعادي (٣)

وقال تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ) [الطلاق : ١١] إلى أن قال : «خالدين» ، فراعى المعنى ، ثم قال : «فقد أحسن الله له رزقا» ، فراعى اللفظ بعد مراعاة المعنى ، وكذا راعى

__________________

ـ (٤٥٤) ، (١٩٧) ، الدرر : (١ / ١٣٩) ، الشعر والشعراء : (٢ / ٦٩١) ، والمقرب : (١ / ٣٢٣) ، وشرح الألفية : (٢١٢) ، وشرح الأشموني : (٢ / ٣٦).

(١) ينظر الدرر : ١ / ١٣٩ ، المخصص : ١٣ / ٢٨٢ ، اللسان (يمن) ، الدر : ١ / ١١١.

(٢) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٩٠.

(٣) ينظر البحر المحيط : ١ / ١٨٣ ، الدر : ١ / ١١٢.

٣٣٠

المعنى في قوله : «أو يستكينون» ، ثم راعى اللفظ في : «إذا كافحته» ، وهذا الحمل جاز فيها في جميع أحوالها ، أعني من كونها موصولة وشرطية ، واستفهامية.

أما إذا كانت موصوفة فقال الشيخ أثير الدين أبو حيّان : «ليس في محفوظي (١) من كلام العرب مراعاة المعنى يعني فتقول : مررت بمن محسنون لك.

و «الآخر» صفة ل «اليوم» ، وهذا مقابل الأوّل ، ومعنى اليوم الآخر : أي عن الأوقات المحدودة.

ويجوز أن يراد به الوقت الّذي لا حدّ له ، وهو الأبد القائم الذي لا انقطاع له ، والمراد بالآخر : يوم القيامة.

«وما هم بمؤمنين» «ما» : نافية ، ويحتمل أن تكون هي الحجازية ، فترفع الاسم وتنصب الخبر ، فيكون «هم» اسمها ، و «بمؤمنين» خبرها ، و «الباء» زائدة تأكيدا.

وأن تكون التّميميّة ، فلا تعمل شيئا ، فيكون «هم» مبتدأ ، و «بمؤمنين» الخبر ، و «الباء» زائدة أيضا.

وزعم أبو علي الفارسيّ ، وتبعه الزمخشري أن «الباء» لا تزاد في خبرها إلّا إذا كانت عاملة ، وهذا مردود بقول الفرزدق (٢) ، وهو تميمي : [الطويل]

١٨٠ ـ لعمرك ما معن بتارك حقّه

ولا منسىء معن ولا متيسّر (٣)

إلا أنّ المختار في «ما» أن تكون حجازية ؛ لأنه لما سقطت «الباء» صرح بالنصب قال الله تعالى : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة : ٢](ما هذا بَشَراً) [يوسف :

__________________

(١) في أ : مخطوطي.

(٢) همّام بن غالب بن صعصعة التميمية الدارمي ، أبو فراس ، الشهير بالفرزدق : شاعر ، من النبلاء ، من أهل البصرة ، عظيم الأثر في اللغة ، كما يقال : لو لا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب ، ولو لا شعره لذهب نصف أخبار الناس ، يشبه بزهير بن أبي سلمى وكلاهما من شعراء الطبقة الأولى ، زهير في الجاهليين والفرزدق في الإسلاميين ، لقب بالفرزدق لجهامة وجهه وغلظه. توفي سنة ١١٠ ه‍.

انظر ابن خلكان : ٢ / ١٩٦ ، الأعلام : ٨ / ٩٣.

(٣) ينظر البيت في ديوانه : (٢٧٠) ، الكتاب : (١ / ٦٣) ، أمالي القالي : (٣ / ٨٢) ، الخزانة : (١ / ١٨١) ، الهمع : (١ / ١٢٨) ، الدر : (١ / ١٠٢) ، شرح أبيات مغني اللبيب : ٤ / ٢٧١ ، وشرح الكافية الشافية: (١ / ٤٣٦) ، والدر المصون : ١ / ١١٢. ووضع الظاهر مقام المضمر إن كان في معرض التفخيم ، جاز قياسا ؛ كقوله تعالى : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) أي : ما هي ، وإن لم يكن في معرض التفخيم ، فعند «سيبويه» يجوز في الشعر ؛ بشرط أن يكون بلفظ الأول ، أي : في خبر المبتدأ وغيره ؛ كالشاهد الذي معنا بجر «منسىء» ، فإذا رفعته فهو غير مقدّم على المبتدأ ، وإن لم يكن بلفظ الأول ، لم يجز عنده ، وقال الأخفش : يجوز ، وإن لم يكن بلفظ الأول ، في الشعر كان أو في غيره.

كما استشهد بهذا البيت على زيادة الباء في خبر ما التميمية ؛ وكذلك العطف إن شئت على الموضع ؛ كقول الفرزدق السابق ، وهو تميمي.

٣٣١

٣١] ، وأكثر لغة «الحجاز» زيادة الباء في خبرها ، حتى زعم بعضهم أنه لم يحفظ النصب في غير القرآن ، إلّا قول الشاعر : [الكامل]

١٨١ ـ وأنا النّذير بحرّة مسودّة

تصل الجيوش إليكم أقوادها

أبناؤها متكنّفون أباهم

حنقو الصّدور وما هم أولادها (١)

وأتى بالضمير في قوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) جمعا اعتبارا للمعنى كما تقدّم في قوله : «آمنا». فإن قيل : لم أتي بخبر «ما» اسم فاعل غير مقيّد بزمان ، ولم يؤت بعدها بجملة فعلية حتى يطابق قولهم : «آمنّا» : فيقال : وما آمنوا؟

فالجواب : أنه عدل عن ذلك ليفيد أن الإيمان منتف عنهم في جميع الأوقات ، فلو أتى به مطابقا لقولهم : «آمنا» فقال : وما آمنوا لكان يكون نفيا للإيمان في الزمن الماضي فقط ، والمراد النّفي مطلقا أي : أنهم ليسوا ملتبسين بشيء من الإيمان في وقت من الأوقات.

فصل في سبب نزول الآية

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ إنما نزلت في منافقي أهل الكتاب ، كعبد الله بن أبي ابن سلول ومعتب بن قشير ، وجدّ بن قيس وأصحابهم ، كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ، ويقولون : إنا لنجد نعته وصفته في كتابنا ، ولم يكونوا كذلك إذا خلا بعضهم إلى بعض.

فصل في حقيقة النفاق

قال ابن الخطيب (٢) : الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلّص إلا بتقسيم ، وهو أنّ أحوال القلب أربعة :

وهي أن تعتقد مستندا لدليل وهو العلم ، أو تعتقد لا عن دليل لكن تقليد ، أو تعتقد لا عن دليل ولا تقليد وهو الجهل ، أو يكون حال القلب عن هذه الأحوال كلها.

وأما أحوال اللسان فثلاثة : الإقرار ، والإنكار ، والسكوت.

فأما الأول : وهو أن يحصل العرفان القلبي ، فإما أن ينضم إليه الإقرار باللسان ، فإن كان الإقرار اختياريا ، فصاحبه مؤمن حقّا بالاتفاق.

وإن كان اضطراريّا فهذا يجب أن يعد منافقا ؛ لأنه بقلبه منكر مكذب لموجب الإقرار.

__________________

(١) البيتان لعديّ بن الرقاع. ينظر شرح ابن عقيل : ١ / ٣٠٢ ، البحر المحيط : ١ / ١٨٣ ، الدر : ١ / ١١٣.

(٢) ينظر الرازي : ٢ / ٥٣.

٣٣٢

فإن كان منكرا بلسانه عارفا بقلبه ، فهذا الإنكار إن كان اضطراريا كان مسلما ؛ لقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] ، وإن كان اختياريا كان كافرا معاندا.

وإن كان عارفا بقلبه ، وكان ساكتا ، فهذا السكوت إن كان اضطراريا كما إذا خاف ذكره باللسان ، فهو مسلم حقّا ، أو كما إذا عرف الله بالدليل ، ثم لما تمّم بالنظر مات فهو مؤمن قطعا ؛ لأنه أتى بما كلف به ، ولم يجد زمان الإقرار ، فكان معذورا فيه ، وإن كان السّكوت اختياريا ، فهذا محل البحث ، فميل الغزالي إلى أنه يكون مؤمنا لقوله عليه الصّلاة والسلام : «يخرج من النّار من كان في قلبه ذرّة من الإيمان» (١) وهذا قلبه مملوء من نور الإيمان ، فكيف لا يخرج من النار؟

النوع الثاني : أن يحصل في القلب الاعتقاد التقليدي ، فإما أن يوجد معه الإقرار باللسان ، أو الإنكار أو السكوت.

فإن وجد مع التّقليد الإقرار باللسان ، فإن كان اختياريا فهي المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا؟

وإن كان اضطراريا فهذا يفرع على الصورة الأولى ، فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر ، فهاهنا لا كلام ، وإن حكمنا هناك بالإيمان وجب أن يحكم هاهنا بالنّفاق؟ لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفا لكان هذا الشخص منافقا ، فمات يكون منافقا عند التقليد.

فإن حصل الاعتقاد والتقليد مع الإنكار اللساني ، فهذا الإنكار إن كان اختياريا فلا شكّ في الكفر ، وإن كان اضطراريا ، وحكمنا بإيمان المقلّد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصّورة.

فإن حصل الاعتقاد التقليدي مع السّكوت اضطراريا كان أو اختياريا فحكمه حكم القسم الثّالث مع النّوع الأوّل إذا حكمنا بإيمان المقلّد.

النوع الثّالث : اعتقاد الجاهل ، فإما أن يوجد معه الإقرار اللّساني ، فذلك الإقرار إن كان اضطراريا فهو المنافق ، وإن كان اختياريا مثل أن يعتقد بناء على شبهة أن العالم قديم ، ثم بالاختيار أقرّ باللسان أن العالم محدث ، وهذا غير مستبعد ، فهذا أيضا من النفاق.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في السنن (٤ / ٦١٥) كتاب صفة جهنم (٤٠) باب (١٠) حديث رقم (٢٥٩٨) وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وأحمد في المسند ٣ / ١٧ عن أبي سعيد الخدري. وذكره السيوطي في الدر المنثور ٢ / ١٦٣ ـ والزبيدي في الإتحاف (٢ / ٢٤١ ، ٢٤٥ ، ٢٥٠) ، (٧ / ٢٥٦) ـ وابن حجر في فتح الباري (١٣ / ١٢٣).

٣٣٣

النوع الرابع : القلب الخالي عن جميع الاعتقادات ، وهذا إما أن يوجد معه الإقرار ، أو الإنكار ، أو السكوت. فإن وجد الإقرار ، فإن كان الإقرار اختياريا ، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر ، لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري هل هو صادق فيه أم لا؟

وإن كان لا في مهلة النظر ، ففيه نظر.

وإن كان الإقرار اضطراريا لم يكفر صاحبه ؛ لأن توقّفه إذا كان في مهلة النظر ، وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحا.

فإن كان مع القلب الخالي الإنكار باللّسان ، فحكمه على العكس من حكم القسم العاشر.

فإن حصل مع القلب الخالي السّكوت ، فهذا إن كان في مهلة النظر ، فذلك هو الواجب ، وإن كان خارجا عن مهلة النظر وجب تكفيره ، ولا يحكم عليه بالنّفاق ألبتة.

فصل في بيان أقبح الكفر

اختلفوا في أنّ كفر الكافر الأصلى أقبح أم كفر المنافق؟

قال قوم : كفر الأصلي أقبح ؛ لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان.

وقال آخرون : بل المنافق أيضا كاذب باللسان ، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه ، ولذلك قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤] ، وقال تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة :

أحدها : أنه قصد التّلبيس ، والكافر الأصلي ما قصد ذلك.

وثانيها : أنّ الكافر على طبع الرجال ، والمنافق على طبع الخنوثة.

وثالثها : أنّ الكافر ما رضي لنفسه بالكذب ، ولم يرض إلّا بالصدق ، والمنافق رضي بذلك.

ورابعها : أنّ المنافق ضمّ إلى كفره الاستهزاء ، بخلاف الكافر الأصلي ، ولأجل غلظ كفره قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥].

وخامسها : قال مجاهد : إنه ـ تعالى ـ ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات ، ثم ثنّى بذكر الكفار في آيتين ، ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية ، وذلك يدلّ على أنّ المنافق أعظم جرما ، وفي هذا نظر [لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم](١) لأنه قد يكون عظم جرمهم لضمهم إلى الكفر وجوها من المعاصي ، كالمخادعة

__________________

(١) سقط في ب.

٣٣٤

والاستهزاء ، وطلب الغوائل وغير ذلك ، ويمكن أن يجاب عنه بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدلّ على أنّ الاهتمام بدفع شرهم أشدّ من الاهتمام بدفع شرّ الكفار ، وذلك يدلّ على أنهم أعظم جرما من الكفار ، والله أعلم.

فصل في ادعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر

ذكر ابن الخطيب هنا سؤالا وهو : أنّ المنافقين كانوا مؤمنين بالله ، واليوم الآخر ، ولكنهم كانوا منكرين نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلم كذبوا في ادّعائهم الإيمان بالله ، واليوم الآخر؟

وأجاب فقال : إن حملنا الآية على منافقي المشركين فلا إشكال ؛ لأن أكثرهم كانوا جاهلين بالله ، ومنكرين البعث والنشور.

وإن حملناها على منافقي أهل الكتاب ـ وهم اليهود ـ فإنما كذبهم الله ـ تعالى ـ لأن إيمان اليهود بالله ليس بإيمان ؛ لأنهم يعتقدونه جسما ، وقالوا : عزيز ابن الله ، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان ، فلما قالوا : آمنّا بالله كان خبثهم فيه مضاعفا ؛ لأنهم كانوا بقلوبهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل ، وباللّسان يوهمون المسلمين بقولهم : إنا آمنا بالله مثل إيمانكم ، فلهذا كذبهم الله ـ تعالى ـ فيه.

قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١٠)

قوله : «يخادعون» هذه الجملة الفعلية يحتمل أن تكون مستأنفة جوابا لسؤال مقدّر هو : ما بالهم قالوا : آمنا وما هم بمؤمنين؟

فقيل : يخادعون الله ، ويحتمل أن تكون بدلا من الجملة الواقعة صلة ل «من» وهي «يقول» ، ويكون هذا من بدل الاشتمال ؛ لأن قولهم كذا مشتمل على الخداع ، فهو نظير قوله : [الرجز]

١٨٢ ـ إنّ عليّ الله أن تبايعا

تؤخذ كرها أو تجيء طائعا (١)

وقول الآخر : [الطويل]

١٨٣ ـ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (٢)

__________________

(١) ينظر البيت في الكتاب : (١ / ١٥٦). والأصول : (٢ / ٤٨) وشرح الألفية لابن عقيل : (٣ / ٢٥٣) وشرح الألفية لابن الناظم : (٥٦٣) وشرح الأشموني : (٣ / ١٣١) ، والتصريح : (٢ / ١٦١) والخزانة : (٥ / ٢٠٣ ، ٢٠٤) ، والدر المصون : (١ / ١١٣).

(٢) البيت لعبيد الله بن الحر الجعفي. ينظر الكتاب : (٣ / ٨٦) ، شرح المفصل : (٧ / ٥٣) ، الدرر : (٢ / ١٦٦) ، الخزانة : (٣ / ٦٦٠) ، والإنصاف : (٢ / ٥٨٣) ، والهمع : (٢ / ١٢٨) ، وشرح الأشموني : (٣ / ١٣١) ، القرطبي : (١ / ٢٦١) ، والدر المصون : (١ / ١١٣).

٣٣٥

ف «تؤخذ» بدل اشتمال من «تبايع» ، وكذا «تلمم» بدل من «تأتنا». وعلى هذين القولين ، فلا محلّ لهذه الجملة من الإعراب.

والجمل التي لا محلّ لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك ـ وإن توهّم بعضهم ذلك ـ وهي : المبتدأ والصّلة والمعترضة والمفسّرة ، وسيأتي تفسيرها في مواضعها (١).

ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالا من الضّمير المستكن في [«يقول» تقديره : ومن الناس من يقول حال كونهم مخادعين.

وأجاز أبو البقاء أن يكون حالا من الضمير المستكن](٢) في «بمؤمنين» ، والعامل فيها اسم الفاعل.

وقد ردّ عليه بعضهم بما معناه : أن هذه الآية الكريمة نظير : «ما زيد أقبل ضاحكا» ، قال : وللعرب في مثل هذا التركيب طريقان :

أحدهما : نفي القيد وحده ، وإثبات أصل الفعل ، وهذا هو الأكثر ، والمعنى : أن الإقبال ثابت ، والضحك منتف ، وهذا المعنى لا يتصوّر إرادته في الآية ، أعني : نفي الخداع ، وثبوت الإيمان.

__________________

(١) الأولى : الابتدائية ، وتسمى أيضا : المستأنفة ؛ كالجمل المفتتح بها السورد والجملة المنقطعة عما قبلها ، نحو : مات فلان ـ رحمه‌الله ـ.

الثانية : المعترضة بين شيئين ؛ لإفادة الكلام تقوية وتحسينا ؛ كقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ)[البقرة : ٢٤] ، وقال : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَ)[ص : ٨٤] ، (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)[الواقعة : ٧٥] ، (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ)[النحل : ١٠١].

الثالثة : التفسيرية ؛ وهي الفضلة الكاشفة لحقيقة ما تليه ، نحو : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)[الأنبياء : ٢١] ، فجملة الاستفهام مفسرة للنجوى ، (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[آل عمران : ٥٩] ، فخلقه وما بعده تفسير لمثل آدم ، (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ)[الصف : ١٠] ، فجملة «تؤمنون» تفسير ل «تجارة».

الرابعة : المجاب بها القسم ، نحو : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)[يس : ١ ـ ٣].

الخامسة : الواقعة جوابا لشرط غير جازم مطلقا ، نحو : جواب لو ولو لا ولما وكيف ، أو جازم ولم يقترن بالفاء ولا بإذا الفجائية ، نحو : إن تقم أقم ، وإن قمت قمت ، أما الأول : فلظهور الجزم في لفظ الفعل ، وأما الثاني : فلأن المحكوم لموضعه بالجزم الفعل لا الجملة بأسرها.

السادسة : الواقعة صلة لاسم أو حرف ، نحو : جاء الذي قام أبوه ، وأعجبني أن قمت ، فالذي في موضع رفع والصلة لا محل لها ، ومجموع «أن قمت» في موضع رفع ، لا «أن» وحدها ؛ لأن الحرف لا إعراب له لفظا ولا محلّا ، ولا «قمت» وحدها.

السابعة : التابعة لما لا محل له ، نحو : قام زيد ولم يقم عمرو ، إذا قدرت الواو عاطفة.

ينظر الأشباه والنظائر : ٢ / ٢١ ـ ٢٣.

(٢) سقط في أ.

٣٣٦

الطريق الثاني : أن ينتفي القيد ، فينتفي العامل فيه ، فكأنه قيل في المثال السابق : لم يقبل ، ولم يضحك ، وهذا المعنى ـ أيضا ـ غير مراد بالآية الكريمة قطعا ، أعني : نفي الإيمان والخداع معا ، بل المعنى على نفي الإيمان ، وثبوت الخداع ، ففسد جعلها حالا من الضمير في «بمؤمنين».

والعجب من أبي البقاء كيف استشعر هذا الإشكال ، فمنع من جعل هذه الجملة في محل جر صفة ل «مؤمنين»؟ قال : لأن ذلك يوجب نفي خداعهم ، والمعنى على إثبات الخداع ، ثم جعلها حالا من ضمير «بمؤمنين» ، ولا فرق بين الحال والصفة في هذا.

و «الخداع» أصله : الإخفاء ، ومنه الأخدعان : عرقان مستبطنان في العنق ، ومنه مخدع البيت ، وخدع الضّبّ خدعا : إذا توارى في جحره ، وطريق خادع وخديع : إذا كان مخالفا للمقصد ، بحيث لا يفطن له ؛ فمعنى يخادع (١) : أي يوهم صاحبه خلاف ما يريد به المكروه.

وقيل : هو الفساد أي يفسدون ما أظهروا من الإيمان بما أضمروا من الكفر قال الشاعر : [الرمل]

١٨٤ ـ أبيض اللّون لذيذ طعمه

طيّب الرّيق إذا الرّيق خدع (٢)

أي : فسد.

ومعنى (يُخادِعُونَ اللهَ) أي : من حيث الصورة لا من حيث المعنى.

وقيل : لعدم عرفانهم بالله ـ تعالى ـ وصفاته ظنّوه ممن يخادع.

وقال الزّمخشري : إن اسم الله ـ تعالى ـ مقحم ، والمعنى : يخادعون الذين آمنوا ، ويكون من باب : أعجبني زيد وكرمه. والمعنى : أعجبني كرم زيد ، وإنّما ذكر «زيد» توطئة لذكر كرمه.

وجعل ذلك نظير قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] ، (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧] ، وهذا منه غير مرض ؛ لأنه إذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله ـ تعالى ـ بالأوجه المتقدّمة ، فلا ضرورة تدعو إلى ادعاء زيادة اسم الله تعالى.

وأما «أعجبني زيد وكرمه» ، فإن الإعجاب أسند إلى «زيد» بجملته ، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزا لهذه الصفة من بين سائر الصفات للشرف ، فصار من حيث المعنى نظيرا لقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].

__________________

(١) في أ : مخادع.

(٢) البيت لسويد بن أبي كاهل. ينظر المفضليات : ١٩١ ، اللسان : خدع ، الحجة : ١ / ٢٣٤ ، زاد المسير لابن الجوزي : ١ / ٣٠ ، الدر : ١ / ١١٤.

٣٣٧

والمصدر «الخدع» بكسر الخاء ، ومثله : الخديعة.

و «فاعل» له معان خمسة :

المشاركة المعنوية نحو : ضارب زيد عمرا.

وموافقة المجرد نحو : «جاوزت زيدا» أي : جزته.

وموافقة «أفعل» متعديا نحو : «باعدت زيدا وأبعدته».

والإغناء عن «أفعل» نحو : «واريت الشيء».

وعن المجرد نحو : سافرت وقاسيت وعاقبت ، والآية «فاعل» فيها يحتمل المعنيين الأوّلين.

أما المشاركة فالمخادعة منهم لله ـ تعالى ـ تقدم معناها ، ومخادعة الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أحكام المسلمين في الدنيا ، ومخادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أمر الله ـ تعالى ـ فيهم ، وأما كونه بمعنى المجرّد ، فيبينه قراءة ابن مسعود وأبي حيوة (١) «يخادعون». وقرأ أبو عمرو والحرميان (٢) «وما يخادعون» كالأولى ، والباقون «وما يخادعون» ، فيحتمل أن تكون القراءتان بمعنى واحد ، أي : يكون «فاعل» بمعنى «فعل» ، ويحتمل أن تكون المفاعلة على بابها ، أعني صدورها من اثنين ، فهم يخادعون أنفسهم ، حيث يمنّونها الأباطيل ، وأنفسهم تخادعهم تمنّيهم ذلك ، فكأنها محاورة بين اثنين ، ويكون هذا قريبا من قول الآخر : [المنسرح]

١٨٥ ـ لم تدر ما لا؟ ولست قائلها

عمرك ما عشت آخر الأبد

ولم تؤامر نفسيك ممتريا

فيها وفي أختها ولم تلد (٣)

وقال آخر : [الطويل]

١٨٦ ـ يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة

أيستوقع الذّوبان أم لا يطورها (٤)

قال الزمخشري (٥) : الاقتصار ب «خادعت» على وجهه أن يقال : عنى به «فعلت» ، إلا أنه على وزن «فاعلت» ؛ لأن الزّنة في أصلها للمغالبة ، والفعل متى غولب فيه جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب لزيادة قوة الداعي إليه ، ويعضده قراءة أبي حيوة المتقدمة.

__________________

(١) انظر الدر المصون : ١ / ١١٤.

(٢) انظر شرح طيبة النشر للنويري : ٤ / ٣ ، والعنوان في القراءات : ٦٨ ، والحجة للقراء السبعة : ١ / ٣١٢ ، وإعراب القراءات : ١ / ٦٣ ، وحجة القراءات : ٨٧ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٧٧ ، وشرح شعلة على الشاطبية : ٢٥٧.

(٣) ينظر الحجة لأبي علي الفارسي : ١ / ٢٣٨ ، المحرر الوجيز : ١ / ٩١٠ ، الدر : ١ / ١١٤.

(٤) البيت لرجل من فزارة. ينظر الحجة : ١ / ٢٣٨ ، البحر : ١ / ١٨٦ ، المحرر الوجيز : ١ / ٩١ ، الدر : ١ / ١١٤.

(٥) ينظر الكشاف : ١ / ٥٨.

٣٣٨

وقرىء (١) : «وما يخدّعون» ، ويخدّعون من خدّع مشددا.

و «يخدّعون» بفتح الياء والتشديد ؛ الأصل يختدعون ، فأدغم.

وقرىء (٢) : «وما يخادعون» ، «ويخادعون» على لفظ ما لم يسم فاعله ، وتخريجها على أن الأص ل «وما يخادعون إلّا عن أنفسهم» فلما حذف الجرّ انتصب على حدّ : [الوافر]

١٨٧ ـ تمرّون الدّيار فلم تعوجوا

 ........... (٣)

«إلا أنفسهم» «إلا» في الأصل حرف استثناء و «أنفسهم» مفعول به ، وهذا استثناء مفرغ ، وهو : عبارة عما افتقر فيه ما قبل «إلا» لما بعدها ، ألا ترى أن «يخادعون» يفتقر إلى مفعول؟ ومثله : «ما قام إلا زيد» ، ف «قام» يفتقر إلى فاعل ، والتّام بخلافه ، أي : ما لم يفتقر فيه ما قيل «إلا» لما بعدها ، نحو : قام القوم إلّا زيدا ، وضربت القوم إلا بكرا ، فقام قد أخذ فاعله ، وضربت أخذ مفعوله ، وشرط الاستثناء المفرّغ أن يكون بعد نفي ، أو شبهه كالاستفهام والنهي.

وأن قولهم : قرأت إلّا يوم كذا ، فالمعنى على نفي مؤول تقديره : ما تركت القراءة إلّا يوما ، هذا ومثله : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] و (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥].

وللاستثناء أحكام كثيرة تأتي مفصّلة في مواضعها إن شاء الله تعالى.

والنّفس : هنا ذات الشيء وحقيقته ، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦](وَما يَشْعُرُونَ) هذه الجملة الفعلية يحتمل ألا يكون لها محلّ من الإعراب ؛ لأنها استئناف ، وأن يكون لها محلّ ، وهو النصب على الحال من فاعل «يخادعون» والمعنى : وما يرجع وبال خداعهم إلّا على أنفسهم غير شاعرين بذلك ، ومفعول «يشعرون» محذوف للعلم به ، تقديره : وما يشعرون أن وبال خداعهم راجع على أنفسهم ، واطّلاع الله عليهم.

والأحسن ألا يقدّر مفعول ؛ لأن الغرض نفي الشعور عنه ألبتة من غير نظر إلى متعلّقه ، والأوّل يسمى حذف الاختصار ، ومعناه : حذف الشيء بدليل.

والثاني يسمى حذف الاقتصار ، وهو حذف الشيء لا لدليل.

__________________

(١) وهي قراءة قتادة ومورق العجلي. انظر : البحر المحيط : ١ / ١٨٥ ، والقرطبي : ١ / ١٣٨ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٩٠.

(٢) قرأ بها الجارود بن أبي سبرة وأبو طالوت عبد السلام بن شداد. انظر البحر المحيط : ١ / ١٨٥ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٩٠ ، والدر المصون : ١ / ١١٥.

(٣) تقدم برقم (١٥٩).

٣٣٩

والشّعور : إدراك الشيء من وجه يدقّ ، وهو مشتقّ من الشّعر لدقّته.

وقيل : هو الإدراك بالحاسّة مشتقّ من الشّعار ، وهو ثوب يلي الجسد ، ومنه مشاعر الإنسان أي : حواسّه الخمسة التي يشعر بها.

فصل في حد الخديعة

اعلم أن الخديعة مذمومة.

قال ابن الخطيب : «وحدّها هي إظهار ما يوهم السّلامة والسّداد ، وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير ، أو التخلّص منه ، فهو بمنزلة النّفاق في الكفر والرّياء في الأفعال الحسنة ، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين ؛ لأن الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغرور والإساءة ، كما يوجب المخالصة في العبادة».

فصل في امتناع مخادعة الله تعالى

مخادعة الله ـ تعالى ـ ممتنعة من وجهين :

أحدهما : أنه يعلم الضّمائر والسرائر ، فلا يصح أن يخادع.

والثاني : أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم ، فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله ، فثبت أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره ، فلا بدّ من التأويل ، وهو من وجهين :

الأول : أنه ـ تعالى ـ ذكر نفسه ، وأراد به الرسول على عادته في تفخيم أمره ، وتعظيم شأنه.

قال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠].

والمنافقون لما خادعوا [الله ورسوله](١) قيل : إنهم خادعوا الله.

الثاني : أن يقال : صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يخادع ، وصورة صنع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده من الكفرة صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم ، فأجروا أحكامه عليهم.

فصل في بيان الغرض من الخداع في الآية

الغرض من ذلك الخداع وجوه :

الأول : أنهم ظنوا أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأصحابه يجرونهم في التّعظيم

__________________

(١) في أ : الرسول.

٣٤٠