اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

ولا يجوز ثبوت همزة «أفعل» في شيء من ذلك إلا في ضرورة ؛ كقوله : [الرجز]

١١٩ ـ فإنّه أهل لأن يؤكرما (١) وهمزة «يؤمنون» ـ وكذلك كل همزة ساكنة ـ يجوز أن تبدل بحركة ما قبلها ، فتبدل حرفا مجانسا نحو : «راس» و «بير» و «يومن» ، فإن اتفق أن يكون قبلها همزة أخرى وجب البدل نحو : «إيمان» و «آمن».

فصل

قال بعضهم : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين ، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلا للحسنات وتاركا للسيئات ، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب وهو قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ).

وإما أن يكون فعل الجوارح ، أساسه الصّلاة والصدقة ؛ لأن العبادة إما أن تكون بدنية ، وأصلها الصّلاة ، أو مالية وأصلها الزكاة ، ولهذا سمى الرسول عليه الصلاة والسلام : «الصّلاة عماد الدّين ، والزّكاة قنطرة الإسلام» (٢). أما التّرك فهو داخل في الصّلاة ، لقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] واختلف الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع على أربع فرق :

الفرقة الأولى : قالوا : الإيمان اسم لأفعال القلوب ، والجوارح ، والإقرار باللسان ، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية ، وأهل الحديث.

أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله ، وبكل ما وضع عليه دليلا عقليا ، أو نقليا من الكتاب والسّنة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيرا كان أو كبيرا.

فقالوا : مجموع هذه الأشياء هو الإيمان ، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر ،

__________________

(١) هذا شطر بيت من الرجز لأبي حيان الفقعسي. ينظر المقتضب : (٢ / ٩٨) ، الخصائص : (١ / ١٤٥) ، الخزانة : (٢ / ٣١٦) ، المخصص : (١٦ / ١٠٨) ، الهمع : (٢ / ٢١٨) ، الدرر : (٢ / ٢٣٩) ، المنصف : (١ / ٢٣٧ ، ١٩٢) ، التبصرة : (٢ / ٧٥١) ، والإنصاف : (١ / ١١) ، وارتشاف الضرب : (١ / ١١٨) ، والأصول : (٢ / ٣١٦) ، واللسان (كرم) ، الصحاح (كرم) ، الدر : (١ / ٩٦).

(٢) الحديث ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١ / ٢٧٨) رقم (١٣٧٢) وعزاه لأبي نعيم في عواليه عن علي بن أبي طالب.

وأورده برقم (١٨٨٨٩) بلفظ الصلاة عماد الدين وعزاه للبيهقي في «الشعب» عن عمر بن الخطاب.

وأورده بلفظ : الصلاة عمود الدين رقم (١٨٨٩٠) وعزاه لأبي نعيم الفضل بن دكين في «الصلاة» عن عمر.

وأورده بلفظ «الصلاة عماد الدين والجهاد سنام العمل والزكاة تثبت ذلك». رقم (١٨٨٩١) وعزاه للديلمي في «مسند الفردوس» عن علي بن أبي طالب.

٢٨١

أما المعتزلة فقد اتفقوا على أنّ الإيمان إذا عدي بالباء ، فالمراد به التصديق ؛ إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية ، فلا يقال : فلان آمن بكذا إذا صلّى وصام ، بل يقال : فلان آمن بالله كما يقال : صام وصلّى لله ، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة.

أما إذا ذكر مطلقا غير معدى ، فقد اتفقوا على أنه منقول من المسمّى اللغوي ـ الذي هو التصديق ـ إلى معنى آخر ، ثم اختلفوا فيه على وجوه :

أحدها : أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطّاعات ، سواء كانت واجبة أم مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الأفعال ، أو الاعتقادات ، وهو قول واصل بن عطاء (١) ، وأبي الهذيل (٢) ، والقاضي عبد الجبار بن أحمد (٣).

وثانيها : أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل ، وهو قول أبي علي (٤) وأبي هاشم(٥).

__________________

(١) واصل بن عطاء الغزال ، أبو حنيفة ، من موالي بني ضبّة أو بني مخزوم رأس المعتزلة ومن أئمة البلغاء والمتكلمين ولد في ٨٠ ه‍.

له تصانيف منها أصناف المرجئة ، المنزلة بين المنزلتين ، معاني القرآن ، الجهل. توفي في ١٣١ ه‍.

ينظر المقريزي : ٢ / ٣٤٥ ، وفيات الأعيان : ٢ / ١٧٠ ، مروج الذهب : ٢ / ٢٩٨ ، أمالي المرتضى : ١ / ١١٣ ، تاريخ الإسلام للذهبي : ٥ / ٣١١ ، مرآة الجنان : ١ / ٢٧٤ ، النجوم الزاهرة : ١ / ٣١٣ ـ ٣١٤ ، لسان الميزان : ٦ / ٢١٤ ، شذرات الذهب : ١ / ١٨٢ ، مقاتل الطالبيين : ٢٩٣ ، رغبة الآمل : ٧ / ٨٨ ، الأعلام : ٨ / ١٠٨.

(٢) محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي مولى عبد القيس أبو الهذيل العلاف. من أئمة المعتزلة ولد في البصرة سنة ١٣٥ ه‍ واشتهر بعلم الكلام. قال المأمون : أطل أبو الهذيل على الكلام كإطلال الغمام على الأنام. له مقالات في الاعتزال ومجالس ومناظرات ، وكان حسن الجدل قوي الحجة سريع الخاطر كف بصره في آخر عمره وتوفي ب «سامرا» سنة ٢٣٥ ه‍ ـ ينظر الأعلام : ٧ / ١٣١ (٦١٥) ، تاريخ بغداد : ٣ / ٣٦٦ ، لسان الميزان : ٥ / ٤١٣ ، وفيات الأعيان : ١ / ٤٨٠.

(٣) عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل ، القاضي أبو الحسن الهمداني. قاضي الري وأعمالها ، وكان شافعي المذهب ، وهو مع ذلك شيخ الاعتزال ، وله المصنفات الكثيرة في طريقتهم وفي أصول الفقه ، قال ابن كثير : ومن أجل مصنفاته وأعظمها كتاب «دلائل النبوة» في مجلدين ، أبان فيه عن علم وبصيرة جيدة. مات سنة ٤١٥.

انظر ط. ابن قاضي شهبة : ١ / ١٨٣ ، تاريخ بغداد : ١١ / ١١٣ ، شذرات الذهب : ٣ / ٢٢ ، ولسان الميزان : ٣ / ٣٨٦ ، الأعلام : ٤ / ٤٧.

(٤) محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي ، من أئمة المعتزلة ، رئيس علماء الكلام في عصره ولد ٢٣٥ ه‍ إليه نسبة الطائفة الجبائية ، له تفسير حافل رد عليه الأشعري. وله مقالات انفرد بها في المذهب. توفي سنة ٣٠٣.

ينظر المقريزي : ٢ / ٣٤٨ ، وفيات : ١ / ٤٨٠ ، البداية والنهاية : ١١ / ١٢٥ ، اللباب : ١ / ٢٠٨ ، مفتاح السعادة : ٢ / ٣٥ ، الأعلام : ٦ / ٢٥٦.

(٥) عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي ، من أبناء أبان مولى عثمان : عالم بالكلام ، من كبار المعتزلة ، له آراء انفرد بها ، وتبعته فرقة سميت «البهشمية» نسبة إلى كنيته «أبي هاشم» ، وله مصنفات ـ

٢٨٢

وثالثها : أن الإيمان عبارة عن [اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد. ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد.

فالمؤمن عند الله كل من اجتنب](١) كل الكبائر ، والمؤمن عندنا كل من اجتنب ما ورد فيه الوعيد ، وهو قول النّظام (٢) ، ومن أصحابه من قال : شرط كونه مؤمنا عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها.

وأما أهل الحديث فذكروا وجهين :

الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيمانا إلّا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة.

وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ، ثم كل معصية بعده كفر على حدة ، ولم يجعلوا شيئا من الطاعات إيمانا ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود والإنكار ؛ لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله ، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب (٣).

والثاني : زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها ، وهو إيمان واحد ، وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان ، ومن ترك شيئا من الفرائض فقد انتقص إيمانه ، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه.

ومنهم من قال : الإيمان اسم للفرائض دون النوافل.

الفرقة الثانية الذين قالوا : الإيمان باللّسان والقلب معا ، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب :

الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ، ومعرفة بالقلب ، وهو قول أبي حنيفة وعامّة الفقهاء ، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين :

__________________

ـ منها «الشامل» في الفقه ، و «تذكرة العالم» ، و «العدة» في أصول الفقه.

انظر المقريزي : ٢ / ٣٤٨ ، وفيات الأعيان : ١ / ٢٩٢ ، البداية والنهاية : ١١ / ١٧٦ ، الأعلام : ٤ / ٧.

(١) سقط في أ.

(٢) إبراهيم بن سيار بن هانىء البصري ، أبو إسحاق النظامي من أئمة المعتزلة في لسان الميزان أنه متهم بالزندقة ، وكان شاعرا أديبا بليغا وذكروا أن له كتبا كثيرا في الفلسفة والاعتزال ولمحمد عبد الهادي أبي ريدة كتاب «إبراهيم بن سيار النظام» توفي ٢٣١ ه‍.

ينظر تاريخ بغداد : ٦ / ٩٧ ، أمالي المرتضى : ١ / ١٣٢ ، اللباب : ٣ / ٢٣٠ ، خطط المقريزي : ١ / ٣٤٦ ، سفينة البحار : ٢ / ٥٩٧ ، الأعلام : ١ / ٤٣.

(٣) عبد الله بن سعيد بن كلّاب ، أبو محمد القطان : متكلم من العلماء يقال له «ابن كلاب». قال السبكي : وكلاب بضم الكاف وتشديد اللام ، قيل : لقب بها لأنّه كان يجتذب الناس إلى معتقدة إذا ناظر عليه كما يجتذب الكلاب الشيء. له كتب ، منها «الصفات» و «خلق الأفعال» و «الرد على المعتزلة» توفي سنة ٢٤٥ ه‍.

٢٨٣

أحدهما : اختلفوا في حقيقة هذه (١) المعرفة ، فمنهم من فسّرها بالاعتقاد الجازم ـ سواء كان اعتقادا تقليديا ، أو كان علما صادرا عن الدليل ـ وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلّد مسلم.

ومنهم من فسرها بالعلم الصادر من الاستدلال.

وثانيهما : اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقيق الإيمان علم بماذا؟ قال بعض المتكلّمين : هو العلم بالله ، وبصفاته على سبيل الكمال والتمام ، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كلّ طائفة على تكفير من عداها من الطوائف.

وقال أهل الإنصاف : المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد عليه الصّلاة والسلام ، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالما بالعلم ، أو عالما بذاته ، وبكونه مرئيا أو غير مرئي ، لا يكون داخلا في مسمى الإيمان.

القول الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا ، وهو قول بشر بن غياث المريسي (٢) ، وأبي الحسن الأشعري (٣) ، والمراد من التصديق بالقلب الكلام القائم بالنفس.

القول الثالث : قول جماعة من الصّوفية : الإيمان إقرار باللسان ، وإخلاص بالقلب.

الفرقة الثالثة الذين قالوا : الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ، وهؤلاء اختلفوا على قولين:

أحدهما : أن الإيمان معرفة الله بالقلب ، حتى إن من عرف الله بقلبه ، ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقرّ به فهو مؤمن كامل الإيمان ، وهو قول جهم بن صفوان (٤)

__________________

(١) في أ : تلك.

(٢) بشر بن غياث بن أبي كريمة عبد الرحمن المريسي العدوي بالولاء أبو عبد الرحمن فقيه معتزلي عارف بالفلسفة يرمى بالزندقة ، وقال برأي الجهمية وللدارمي كتاب «النقض على بشر المريسي» في الرد على مذهبه. توفي ٢١٨ ه‍.

ينظر وفيات الأعيان : ١ / ٩١ ، النجوم الزاهرة : ٢٢٨ ، تاريخ بغداد : ٧ / ٥٦ ، ميزان الاعتدال : ١ / ١٥ ، الجواهر المضية : ١ / ١٦٤ ، اللباب : ٣ / ١٢٨ ، الأعلام : ٢ / ٥٥.

(٣) علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى ، الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري ، إمام المتكلمين ، وناصر سنة سيد المرسلين ، والذاب عن الدين ، والمصحح لعقائد المسلمين ، مولده سنة ستين ومائتين ، وقيل سنة سبعين. كانت المعتزلة قدر رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم. قال الخطيب البغدادي : أبو الحسن الأشعري ، المتكلم ، صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة ، والرافضة ، والجهمية ، والخوارج وسائر أصناف المبتدعة. توفي سنة ٣٢٤ ه‍ وقيل ٣٢٠ ه‍ وقيل ٣٣٠ ه‍.

ينظر الأعلام : ٥ / ٦٩ ، تاريخ بغداد : ١١ / ٣٤٦ ، وفيات الأعيان : ٢ / ٤٤٦ ، ابن قاضي شهبة : ١ / ١١٣.

(٤) جهم بن صفوان السمرقندي ، أبو محرز ، من موالي بني راسب : رأس «الجهمية» قال الذهبي : الضالّ المبتدع ، هلك في زمان صغار التابعين وقد زرع شرّا عظيما. كان يقضي في عسكر الحارث بن سريج ، الخارج على أمراء خراسان ، فقبض عليه نصر بن سيار ، فطلب جهم استبقاءه ، فقال نصر : «لا تقوم ـ

٢٨٤

وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حدّ الإيمان.

وحكى الكعبي (١) عنه : أنّ الإيمان معرفة الله مع معرفة كلّ ما علم بالضّرورة كونه من دين محمد.

ثانيهما : أنّ الإيمان مجرّد التصديق بالقلب ، وهو قول الحسين بن الفضل البجلي.

الفرقة الرابعة الذين قالوا : الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، وهم فريقان :

الأول : أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط ، لكن شرط كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب ، فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيمانا ، لا أنها داخلة في مسمى الإيمان ، وهو قول غيلان بن مسلم الدّمشقي (٢) ، والفضل الرقاشي ، وإن كان الكعبي قد أنكر كونه ل «غيلان».

الثاني : أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان ، وهو قول الكرامية ، وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة ، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا ، وحكم الكافرين في الآخرة ، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع.

و «بالغيب» متعلّق ب «يؤمنون» ، ويكون مصدرا واقعا موقع اسم الفاعل ، أو اسم المفعول ، وفي هذا الثاني نظر ؛ لأنه من «غاب» وهو لازم ، فكيف يبنى منه اسم مفعول حتى يقع المصدر موقعه؟ إلا أن يقال : إنه واقع موقع اسم مفعول من «فعّل» مضعفا متعديا ، أي : المغيّب ، وفيه بعد. وقال الزمخشري (٣) : يجوز أن يكون مخففا من «فيعل» نحو : «هيّن» من «هين» ، و «ميّت» من «ميت». وفيه نظر ؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلا كنظائره ، فإنها سمعت مخففة ومثقلة ، ويبعد أن يقال : التزم التخفيف في هذا خاصّة. ويجوز أن تكون «الباء» للحال فيتعلّق بمحذوف أي : يؤمنون

__________________

ـ علينا مع اليمانية أكثر مما قمت» وأمر بقتله ، فقتل سنة ١٢٨ ه‍.

ينظر ميزان الاعتدال : ١ / ١٩٧ ، الأعلام : ٢ / ١٤١.

(١) عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي ، من بني كعب ، البلخي الخراساني ، أبو القاسم : أحد أئمة المعتزلة. كان رأس طائفة منهم تسمى «الكعبية» وله آراء ومقالات في الكلام انفرد بها ، وهو من أهل «بلخ» ، أقام ب «بغداد» مدّة طويلة ، له كتب ، منها : «التفسير» و «تأييد مقالة أبي الهذيل» ، وصنّف في «الكلام» كتبا كثيرة وانتشرت كتبه ببغداد. ولد سنة ٢٧٣ ه‍ وتوفي سنة ٣١٩ ه‍.

انظر تاريخ بغداد : ٩ / ٣٨٤ ، المقريزي : ٢ / ٣٤٨ ، الأعلام : ٤ / ٦٥.

(٢) غيلان بن مسلم الدمشقي ، أبو مروان : كاتب ، من البلغاء ، تنسب إليه فرقة «الغيلانية» من القدرية ، وهو ثاني من تكلّم في القدر ودعا إليه ، لم يسبقه سوى معبد الجهني ، قال الشهرستاني : كان غيلان يقول بالقدر خيره وشرّه من العبد ، وفي الإمامة أنها تصلح في غير قريش ، ناظره الأوزاعي فأفتى الأوزاعي بقتله ، فصلب على باب كيسان ب «دمشق».

انظر الملل والنحل : ١ / ٢٢٧ ، مفتاح السعادة : ٢ / ٣٥ ، الأعلام : ١ / ١٢٤.

(٣) ينظر الكشاف : ١ / ٣٩.

٢٨٥

متلبسين بالغيب عن المؤمن به ، و «الغيب» حينئذ مصدر على بابه.

فصل في معنى «يؤمنون بالغيب»

في قوله (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قولان :

الأول : قول أبي مسلم الأصفهاني (١) أن قوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) صفة المؤمنين معناه : أنهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون به حال الحضور ، لا كالمنافقين الذين (إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا : آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ).

نظيره قوله : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [يوسف : ٥٢] ، وذلك مدح للمؤمنين بأن ظاهرهم موافق لباطنهم ومباين لحال المنافقين.

الثاني : وهو قول جمهور المفسّرين أن الغيب هو الّذي يكون غائبا عن الحاسّة ، ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل ، وإلى ما ليس عليه دليل.

فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب الذي دل عليه بأن يتفكروا ، ويستدلوا فيؤمنوا به ، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله ـ تعالى ـ وبصفاته والعلم بالآخرة ، والعلم بالنبوة ، والعلم بالأحكام بالشرائع ، فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة يصلح أن يكون سببا لاستحقاق الثّناء العظيم.

واحتج أبو مسلم بأمور :

الأول : أن قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٣] إيمان بالأشياء الغائبة ، فلو كان المراد من قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه ، وهو غير جائز.

الثاني : لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب ، وهو خلاف قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩] وكذا سائر الآيات الباقية تدلّ على كون الإنسان عالما بالغيب. أما على قولنا فلا يلزم هذا المحذور.

الثالث : لفظ «الغيب» إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحضور ، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله ـ تعالى ـ وصفاته ، فقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذت الله وصفاته ، ولا ينبغي فيه الإيمان بالآخرة ، وذلك غير جائز ؛ لأن الركن الأعظم هو الإيمان بذات الله وصفاته ، فكيف يجوز حمل اللّفظ على معنى يقتضي خروج الأصل؟

__________________

(١) محمد بن بحر الأصفهاني ، أبو مسلم : والده من أهل أصفهان. معتزلي من كبار الكتّاب ، كان عالما بالتفسير ، وبغيره من صنوف العلم ، وله شعر ، ولي أصفهان وبلاد فارس للمقتدر العباسي ، من كتبه «جامع التأويل» في التفسير ، و «الناسخ والمنسوخ» وغيرهما. ولد سنة ٢٥٤ ه‍ ، وتوفي سنة ٣٢٢ ه‍.

انظر إرشاد الأريب : ٦ / ٤٢٠ ، الأعلام : ٦ / ٥٠.

٢٨٦

أما على قولنا فلا يلزم هذا المحذور.

والجواب عن الأول : أن قوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال ، ثم إن قوله بعد ذلك : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يتناول الإيمان ببعض الغائبات ، فكان هذا من باب عطف التّفصيل على الجملة ، وهو جائز كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٨].

وعن الثاني : لا نزاع في أننا نؤمن بالأشياء الغائبة عنّا ، فكان ذلك التخصيص لازما على الوجهين جميعا.

فإن قيل : أفتقولون : العبد يعلم الغيب أم لا؟

قلنا : قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل ، وإلى ما لا دليل عليه.

أما الذي لا دليل عليه ، فهو سبحانه العالم به لا غيره.

وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن نقول : نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل ، وعلى هذا الوجه قال العلماء : الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة.

وعن الثالث : لا نسلّم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلّا فيما يجوز عليه الحضور ، والدّليل على ذلك أنّ المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشّاهد ، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته ، والله أعلم.

واختلفوا في المراد ب «الغيب».

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : «الغيب ـ هاهنا ـ كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك (١) مثل : الملائكة والبعث والجنّة والنّار والصّراط والميزان».

وقيل : الغيب هاهنا هو الله تعالى.

وقيل : القرآن (٢).

وقال الحسن : الآخرة.

وقال زرّ بن حبيش (٣) ، وابن جريج : بالوحي (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره (١ / ٢٣٦ ـ شاكر).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ٢٣٦ شاكر) عن زر بن حبيش وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ٧٣ ـ ٧٤).

(٣) زر بن حبيش بضم المهملة وفتح الموحدة وآخره معجمة ابن خباشة بمعجمتين بينهما موحدة بعدها ألف الأسدي أبو مريم الكوفي مخضرم ، عن عمر وعثمان وعلي والعباس وعنه إبراهيم النخعي والمنهال بن عمرو ، وعاصم بن بهدلة ، وثقه ابن معين ، قال خليفة : مات سنة اثنتين وثمانين.

ينظر الخلاصة : ١ / ٣٥٨ (٢٣٠٤) ، تهذيب الكمال : ١ / ٤٢٧ ، تهذيب التهذيب : ٣ / ٣٢٠ ، تقريب التهذيب : ١ / ٥٩.

(٤) سقط في أ.

٢٨٧

ونظيره : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) [النجم : ٣٥] قال ابن كيسان : بالقدر.

وقال عبد الرحمن بن يزيد : كنا عند عبد الله بن مسعود ، فذكرنا أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وما سبقوا به ، فقال عبد الله : إن أمر محمد كان بينا (١) لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قطّ أفضل من إيمان الكتب ، ثم قرأ : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) إلى قوله (الْمُفْلِحُونَ).

وقال بعض الشيعة : المراد بالغيب المهدي المنتظر.

قال ابن الخطيب : «وتخصيص المطلق من غير دليل باطل».

قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو ، وورش (٢) : «يومنون» ، بترك الهمزة.

ولذلك يترك أبو جعفر كل همزة ساكنة إلّا في (أَنْبِئْهُمْ) [البقرة : ٣٣] ، و (يُنَبِّئُهُمُ) [المائدة : ١٤] ، و (نَبِّئْنا) [يوسف : ٣٦].

ويترك أبو عمرو كلها ، إلا أن يكون علامة للجزم نحو : (وَنَبِّئْهُمْ) [الحجر : ٥١] ، و «أنبئهم» ، و (تَسُؤْهُمْ) [آل عمران : ١٢٠] ، و (إِنْ نَشَأْ) [الشعراء : ٤] ونحوها ، أو يكون خروجا من لغة إلى أخرى نحو : (مُؤْصَدَةٌ) [البلد : ٢٠] ، و (وَرِءْياً) [مريم : ٧٤].

ويترك ورش كلّ همزة ساكنة كانت «فاء» الفعل ، إلا (وَتُؤْوِي) [الأحزاب : ٥١] و (تُؤْوِيهِ) [المعارج : ١٣] ، ولا يترك من عين الفعل إلا (الرُّؤْيَا) [الإسراء : ٦٠] وبابه ، أو ما كان على وزن «فعل».

و «يقيمون» عطف على «يؤمنون» فهو صلة وعائد.

وأصله : يؤقومون حذفت همزة «أفعل» ؛ لوقوعها بعد حرف المضارعة كما تقدم فصار : يقومون ، فاستثقلت الكسرة على الواو ، ففعل فيه ما فعل في «مستقيم» ، وقد تقدم في الفاتحة. ومعنى «يقيمون» : يديمون ، أو يظهرون ، قال تعالى : (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) [المعارج : ٢٣] وقال الشاعر : [الوافر]

١٢٠ ـ أقمنا لأهل العراقين سوق الط

طعان فخاموا وولّوا جميعا (٣)

وقال آخر : [الكامل]

__________________

(١) في أ : نبيا.

(٢) ورويت هذه القراءة عن عاصم من طريق الشموني محمد بن حبيب ، عن الأعمش ، عن أبي بكر ، وكذلك رويت عن حمزة في الوقف والصلاة. وهي قراءة ورش عن نافع.

انظر الحجة ١ / ٢١٤ ، وما بعدها ، وحجة القراءات ٨٤ ، وإعراب القراءات ١ / ٥٦ وإتحاف فضلاء البشر ١ / ٣٧٤.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٨٥ ، الطبري : ١ / ١٣٦ ، الدر : ١ / ١ / ٩٦.

٢٨٨

١٢١ ـ وإذا يقال : أتيتم لم يبرحوا

حتّى تقيم الخيل سوق طعان (١)

من قامت السّوق : إذا أنفقت ؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات ، وإذا أضيفت كانت كالشّيء الكاسد الذي لا يرغب فيه. أو يكون عبارة عن تعديل أركانها ، وحفظها من أن يقع خلل في فرائضها وسننها ، أو يكون من قام بالأمر ، وقامت الحرب على ساق.

وفي ضده : قعد عن الأمر ، وتقاعد عنه : إذا تقاعس وتثبط ، فعلى هذا يكون عبارة عن التجرّد لأدائها ، وألّا يكون في تأديتها فتور ، أو يكون عبارة عن أدائها ، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة ؛ لأن القيام ببعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت. وذكر الصّلاة بلفظ الواحد ، وأن المراد بها الخمس كقوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٢١٣] يعني : الكتب.

و «الصّلاة» مفعول به ، ووزنها : «فعلة» ، ولامها واو ، لقولهم : صلوات ، وإنما تحركت الواو وانفنح ما قبلها فقلبت ألفا ، واشتقاقها من : «الصّلوين» وهما عرقان في الوركين مفترقان من «الصّلا» ، وهو عرق مستبطن في الظهر منه يتفرق الصّلوان عند عجب الذّنب ، وذلك أن المصلّي يحرك صلويه ، ومنه «المصلّي» في حلبة السّباق لمجيئه ثانيا عند «صلوي» السابق. ذكره الزّمخشري.

قال ابن الخطيب : وهذا يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجّة ؛ وذلك لأن لفظ «الصلاة» من أشدّ الألفاظ شهرة ، وأكثرها دورانا على ألسنة المسلمين ، واشتقاقه من تحريك الصّلوين من أبعد الأشياء اشتهارا فيما بين أهل النقل ، ولو جوزنا أن [يقال](٢) : مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره ، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلّا الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزا ، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله ـ تعالى ـ من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المعاني في زماننا هذا ، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعان أخر ، وكان مراد الله ـ تعالى ـ تلك المعاني ، إلّا أن تلك المعاني خفيت في زماننا ، واندرست كما وقع مثله في هذه اللّفظة ، فلما كان ذلك باطلا بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل.

وأجيب عن هذا الإشكال بأن بعثة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالإسلام ، وتجديد الشريعة أمر طبق الآفاق ، ولا شكّ أنه وضع عبارات ، فاحتاج إلى وضع ألفاظ ، ونقل ألفاظ عمّا كانت عليه ، والتعبير مشهور.

وأما ما ذكره من احتمال التعبير فلا دليل عليه ، ولا ضرورة إلى تقديره فافترقا.

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٨٥) ، القرطبي : (١ / ١١٥) ، الدر : (١ / ٩٦).

(٢) سقط في أ.

٢٨٩

و «الصّلاة» لغة : الدّعاء : [ومنه قول الشاعر] [البسيط]

١٢٢ ـ تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلا

يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا

فعليك مثل الّذي صلّيت فاغتمضي

يوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا (١)

أي : مثل الّذي دعوت ، ومثله : [الطويل]

١٢٣ ـ لها حارس لا يبرح الدّهر بيتها

وإن ذبحت صلّى عليها وزمزما (٢)

وفي الشرع : هذه العبادة المعروفة.

وقيل : هي مأخوذة من اللزوم ، ومنه : «صلي بالنّار» أي : لزمها ، ومنه قوله تعالى : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) [الغاشية : ٤] قال : [الخفيف]

١٢٤ ـ لم أكن من جناتها علم اللّ

ه وإنّي بحرّها اليوم صال (٣)

وقيل : من صليت العود بالنّار ، أي : قوّمته بالصّلاء ـ وهو حرّ النار ، إذا فتحت قصرت ، وإن كسرت مددت ، كأن المصلّي يقوّم نفسه ؛ قال : [الوافر]

١٢٥ ـ فلا تعجل بأمرك واستدمه

فما صلّى عصاك كمستديم (٤)

ذكر ذلك الخارزنجيّ (٥) ، وجماعة أجلّة ، وهو مشكل ، فإن «الصلاة» من ذوات الواو ، وهذا من الياء. وقيل في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦] الآية : إنّ الصّلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن المؤمنين الدعاء.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) مما : جاء ومجرور متعلّق ب «ينفقون» و «ينفقون» معطوف على الصّلة قبله ، و «ما» المجرورة تحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون اسما بمعنى «الذي» ، و «رزقناهم» صلتها ، والعائد محذوف.

قال أبو البقاء : «تقديره رزقناهموه ، أو رزقناهم إياه».

__________________

(١) البيتان للأعشى. ينظر ديوانه : ١٠٤ ، مجاز القرآن : ١ / ٦٢ ، اللسان (صلا) البحر المحيط : ١ / ١٦٢ ، المحرر الوجيز : ١ / ٨٥ ، القرطبي : ١ / ١١٨ ، الدر : ١ / ٩٧.

(٢) البيت للأعشى. انظر ديوانه : (١٦٤) ، المحرر الوجيز : (١ / ٨٥) ، الطبري : (١ / ١٣٧) ، البحر : (١ / ١٦٢) ، ابن كثير : (١ / ٤٣) ، الدر : (١ / ٩٧).

(٣) البيت للحارث بن عباد. ينظر الخزانة : ١ / ٢٢٦ ، مجمع البيان : ١ / ٢١٤ ، القرطبي : ١ / ١١٨ ، الدر : ١ / ٩٧.

(٤) البيت لقيس بن زهير. ينظر اللسان (دوم) ، الدر : (١ / ٩٧).

(٥) أحمد بن محمد الخارزنجي البشتي أبو حامد : أديب خراسان في عصره من كتبه تكملة كتاب العين ، وشرح أبيات أدب الكاتب نسبته إلى بشت من نواحي نيسابور ومثلها خارزنج بسكون الراء وفتح الزاي.

ينظر الأعلام : ١ / ٢٠٨ (١٠٩٩) ، إنباه الرواة : ١ / ١٠٧ ، بغية الوعاة : ١٦٩.

٢٩٠

وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشكال ؛ لأن تقديره متصلا يلزم منه اتصال الضّمير مع اتحاد الرّتبة ، وهو واجب الانفصال ، وتقديره منفصلا يمنع حذفه ؛ لأنّ العائد متى كان منفصلا امتنع حذفه ، نصّوا عليه ، وعللوا بأنه لم يفصل إلا لغرض ، وإذا حذف فاتت الدّلالة على ذلك الغرض.

ويمكن أن يجاب عن الأوّل بأنه لما اختلف الضّميران جمعا وإفرادا ـ وإن اتحدا رتبة ـ جاز اتصاله ؛ ويكون كقوله : [الطويل]

١٢٦ ـ فقد جعلت نفسي تطيب لضغمة

لضغمهماها يقرع العظم نابها (١)

وأيضا فإنه لا يلزم من منع ذلك ملفوظا به منعه مقدّرا لزوال القبح اللفظي.

وعن الثّاني : بأنه إنما يمنع لأجل اللّبس الحاصل ، ولا لبس هنا.

الثّاني : يجوز أن تكون نكرة موصوفة ، والكلام في عائدها كالكلام في عائدها موصولة تقديرا واعتراضا وجوابا.

الثّالث : أن تكون مصدرية ، ويكون المصدر واقعا موقع المفعول أي : مرزوقا.

وقد منع أبو البقاء هذا الوجه قال : «لأنّ الفعل لا يتفق» ، وجوابه ما تقدّم من أنّ المصدر يراد به المفعول. والرزق لغة : العطاء ، وهو مصدر ؛ قال تعالى : (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) [النحل : ٧٥] وقال الشّاعر : [البسيط]

١٢٧ ـ رزقت مالا ولم ترزق منافعه

إنّ الشّقيّ هو المحروم ما رزقا (٢)

وقيل : يجوز أن يكون «فعلا» بمعنى «مفعول» نحو : «ذبح» ، و «رعي» بمعنى : «مذبوح» ، و «مرعيّ».

وقيل : «الرّزق» ـ بالفتح ـ مصدر ، وبالكسر اسم ، وهو في لغة أزد شنوءة : الشّكر ، ومنه : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢].

وقال بعضهم : ويدخل فيه كل ما ينتفع به حتى الولد والعبد.

وقيل : هو نصيب الرجل ، وما هو خاص له دون غيره.

ثم قال بعضهم : الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل ، وهو باطل ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما) [المنافقون : ١٠] ، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه.

__________________

(١) البيت لمغلس بن لقيط ينظر خزانة الأدب : ٥ / ٣٠١ ، ٣٠٣ ، ٣٠٥ ، وتخليص الشواهد : ص ٩٤ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٧٥ ، والمقاصد النحوية : ١ / ٣٣٣ ، وأمالي ابن الحاجب : ص ٣٨١ ، والكتاب : ٢ / ٣٦٥ ، ولسان العرب (ضغم) ، شرح المفصل : ٣ / ١٠٥ ، القرطبي : ١ / ١٥٩ ، الدر المصون : ١ / ٩٧.

(٢) ينظر البيت في البحر : ١ / ١٦٣ ، الدر : ١ / ٩٨.

٢٩١

وقال آخرون : الرزق هو ما يملك وهو باطل أيضا ؛ لأن الإنسان قد يقول : اللهم ارزقني ولدا صالحا ، أو زوجة صالحة ، وهو لا يملك الولد ولا الزّوجة ، ويقول : اللهم أرزقني عقلا أعيش به ، والعقل ليس بمملوك ، وأيضا البهيمة يحصل لها رزق ولا يكون لها ملك. وأما في عرف الشّرع فقد اختلفوا فيه ، فقال أبو الحسن البصري : الرزق تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء ، والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به.

فإذا قلنا : قد رزقنا الله الأموال ، فمعنى ذلك أنه مكّننا بها من الانتفاع بها ، وإذا سألنا ـ تعالى ـ أن يرزقنا مالا فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخصّ.

واعلم أن المعتزلة لما فسّروا الرزق بذلك لا جرم قالوا : الحرام لا يكون رزقا.

وقال أصحابنا : الحرام قد يكون رزقا.

قال ابن الخطيب (١) : حجّة الأصحاب من وجهين :

الأول : أنّ الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه ، فمن انتفع بالحرام ، فذلك الحرام صار حظّا ونصيبا ، فوجب أن يكون رزقا له.

الثّاني : أنه تعالى قال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] ، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السّرقة ، فوجب أن يقال : إنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا.

أما المعتزلة : فقد احتجّوا بالكتاب ، والسّنة ، والمعنى :

أما الكتاب فوجوه :

أحدها : قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقا لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام ، وذلك باطل بالاتفاق.

ثانيا : لو كان الحرام رزقا لجاز أن ينفق الغاصب منه ، لقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما) [المنافقون : ١٠] ، وأجمع المسلمون على أنّه لا يجوز للغاصب أن ينفق [مما أخذه](٢) ، بل يجب عليه ردّه ، فدلّ على أنّ الحرام لا يكون رزقا.

ثالثها : قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس : ٥٩] فبين أن من حرم رزق الله ، فهو مفتر على الله ، فثبت أن الحرام لا يكون رزقا.

وأما السّنة فما رواه أبو الحسين في كتاب «الفرائض» بإسناده عن صفوان بن أمية (٣)

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ٢٨.

(٢) سقط في أ.

(٣) صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة الجمحي القرشي أبو وهب من مسلمة الفتح. وكان من المؤلفة قلوبهم ، روى عنه ابنه أمية وطاوس وعطاء وأعار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين سلاحا كثيرا. قال الهيثم : ـ

٢٩٢

قال : «كنا عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ جاءه عمرو بن مرّة (١) فقال له : يا رسول الله إنّ الله كتب عليّ الشّقوة ، فلا أراني أرزق إلّا من دفّي بكفّي ، فائذن لي في الغناء من غير فاحشة. فقال عليه الصّلاة والسلام : «لا آذن لك ولا كراهة ولا نعمة كذبت أي عدوّ الله لقد رزقك الله [رزقا](٢) طيبا فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه على ما أحلّ الله لك من حلاله ، أما وإنك لو قلت بعد هذه المقدّمة شيئا ضربتك ضربا وجيعا» (٣).

وأما المعنى فإنّ الله ـ تعالى ـ منع المكلّف من الانتفاع به ، وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به ، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال : إنه رزقه إياه ، ألا ترى أنه لا يقال : إن السلطان قد رزق جنده مالا قد منعهم من أخذه ، وإنما يقال : إنه رزقهم ما مكّنهم من أخذه ، ولا يمنعهم منه ، ولا أمر بمنعهم منه.

وأجاب أصحابنا عن التمسّك بالآيات بأنه وإن كان الكلّ من الله ، فإنه لا يضاف إليه ذلك ؛ لما فيه من سوء الأدب ، كما يقال : يا خالق المحدثات والعرش والكرسي ، ولا يقال : يا خالق الكلاب والخنازير ، وقال : (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٩] فخصّ اسم العباد بالمتّقين ، وإن كان الكفّار أيضا من العباد ، وكذلك هاهنا خصّ اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف ، وإن كان الحرام رزقا أيضا.

وأجابوا عن التمسّك بالخبر بأنه حجّة لنا ؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام : «فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه» صريح في أن الرزق قد يكون حراما.

وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض اللغة ، وهو أن الحرام هل يسمى رزقا أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ ، والله أعلم.

و «نفق» الشيء : نفد ، وكلّ ما جاء مما فاؤه نون ، وعينه فاء ، فدالّ على معنى ونحو ذلك إذا تأملت ، قاله الزمخشري ، وذلك نحو : نفد نفق نفر «نفذ» «نفش» «نفح» «نفخ» «نفض» «نفل».

__________________

ـ مات سنة إحدى وأربعين ينظر الخلاصة : ١ / ٤٦٩ ، طبقات ابن سعد ٥ / ٤٤٩ ، تاريخ البخاري الكبير : ت (٢٩٢٠) ، والكاشف : ت (٢٤١٦).

(١) عمرو بن مرّة الجهني ، أبو طلحة أو أبو مريم ، صحابي له حديث روى عنه أبو الحسن الجزري. مات في خلافة عبد الملك. ينظر الخلاصة : ٢ / ٢٩٦ (٥٣٨٣). أسد الغابة : ٤ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ، وتهذيب التهذيب : ٨ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه ابن ماجه في سننه (٢ / ٨٧٢) رقم (٢٦١٣) عن صفوان بن أمية.

قال البوصيري في «الزوائد» (٢ / ٣٢٩) : هذا إسناد ضعيف بشر بن نمير البصري قال فيه يحيى بن سعيد القطان : كان ركنا من أركان الكذب وقال أحمد : ترك الناس حديثه وقال البخاري : ترك الناس حديثه وقال أبو حاتم : متروك وقال النسائي : غير ثقة. ويحيى بن العلاء قال فيه أحمد : كان يضع الحديث وقال ابن عدي : أحاديثه لا يتابع عليها وكلها غير محفوظة.

٢٩٣

و «نفق» الشيء بالبيع نفاقا ونفقت الدابة : ماتت نفوقا ، والنفقة : اسم المنفق.

فصل في معاني «من»

و «من» هنا لابتداء الغاية.

وقيل : للتبعيض ، ولها معان أخر :

بيان الجنس : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠].

والتعليل : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) [البقرة : ١٩].

والبدل : (بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨].

والمجاوزة : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) [آل عمران : ١٢١].

وانتهاء الغاية : «قربت منه».

والاستعلاء (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) [الأنبياء : ٧٧].

والفصل : (يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة : ٢٢٠].

وموافقة «الباء» (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) [الشورى : ٤٥] ، (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [فاطر : ٤٠].

والزيادة باطّراد ، وذلك بشرطين كون المجرور نكرة والكلام غير موجب. واشترط الكوفيون التنكير فقط ، ولم يشترط الأخفش شيئا. و «الهمزة» في «أنفق» للتّعدية ، وحذفت من «ينفقون» لما تقدم في «يؤمنون».

فصل في قوله تعالى (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)

قال ابن الخطيب : في قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فوائد :

إحداها : أدخل «من» للتبعيض نهيا لهم عن الإسراف والتّبذير المنهي عنه.

وثانيها : قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهمّ ، كأنه قال : يخصّون بعض المال بالتصدق به.

وثالثها : يدخل في الإنفاق المذكور في الآية ، الإنفاق الواجب ، والإنفاق المندوب ، والإنفاق الواجب أقسام :

أحدها : الزكاة وهي قوله تعالى : (يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) [التوبة : ٣٤].

وثانيها : الإنفاق على النفس ، وعلى من تجب عليه نفقته.

وثالثها : الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضا إنفاق لقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ) ، وأراد به الصدقة ؛ لقوله بعد : (فَأَصَّدَّقَ

٢٩٤

وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون : ١٠] فكل هذه داخلة تحت الآية ، لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(٤)

«والّذين» عطف على «الذين» قبلها ، ثم لك اعتباران :

أحدهما : أن يكون من باب عطف بعض الصفات على بعض كقوله : [المتقارب]

١٢٨ ـ إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم (١)

وقوله : [السريع]

١٢٩ ـ يا ويح زيّابة للحارث الص

صابح فالغانم فالآيب (٢)

يعني : أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن قيل : إن المراد بها واحد.

الثاني : أن يكونوا غيرهم.

وعلى كلا القولين ، فيحكم على موضعه بما حكم على موضع «الّذين» المتقدمة من الإعراب رفعا ونصبا وجرّا قطعا وإتباعا كما مر تفصيله.

ويجوز أن يكون عطفا على «المتّقين» ، وأن يكون مبتدأ خبره «أولئك» ، وما بعدها إن قيل : إنهم غير «الذين» الأولى. و «يؤمنون» صلة وعائد.

و «بما أنزل» متعلّق به و «ما» موصولة اسمية ، و «أنزل» صلتها ، وهو فعل مبني للمفعول ، لعائد هو الضّمير القائم مقام الفاعل ، ويضعف أن يكون نكرة موصوفة وقد منع أبو البقاء (٣) ذلك قال : لأن النكرة الموصوفة لا عموم فيها ، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل.

__________________

(١) ينظر الإنصاف : (٢٧٦) ، الخزانة : (١ / ٤٥١) ، الكشاف : (١ / ٤١) ، القطر : (٢٩٥) ، وقطر الندى : (٤١٧) ، القرطبي : (١ ، ٢٧٢) ، البحر : (٥ / ٢١٣) ، الدر : (١ / ٩٨). واستشهد به على جواز عطف أحد الخبرين على الآخر بالواو ، مع اتصاف مجموع المبتدأ بكل واحد من الخبرين ؛ تقول : زيد كريم شجاع ، وزيد كريم وشجاع ؛ كما يعطف بعض الأوصاف على بعض ؛ كما في الشاهد ؛ حيث عطف ابن الهمام «وليث الكتيبة» على الصفة الأولى وهي «القرم».

وكذا ما هو بمنزلته ؛ في رجوع الضمير من كل واحد من الخبرين إلى مجموع المبتدأ ، نحو : هذا أبيض وأسود وهذا حلو حامض ، وأما إذا لم يرجع ضمير كل واحد إلى مجموع المبتدأ ، نحو : هما عالم وجاهل ، فلا بد من الواو ؛ لأن المبتدأ مفكوك تقديرا ، أي : أحدهما عالم والآخر جاهل.

(٢) البيت لامرىء القيس. ينظر الحماسة : (١ / ٩٢) ، الخزانة : (٢ / ٣٣١) ، وأمالي الشجري : (٢ / ٢١٠) ، الهمع : (٢ / ١١٩) ، الدرر : (٢ / ١٥٠) ، المغني (١ / ١٦٣) ، الخزانة : (٥ / ١٠٧) ، الكشاف : (١ / ١٣٣) ، الدر : (١ / ٩٩) ، سمط اللآلي : ٥٠٤ ، معجم الشعراء : ٢٠٨ ، الجنى الداني : ٦٥.

(٣) ينظر الإملاء : ١ / ١٣.

٢٩٥

و «إليك» متعلّق ب «أنزل» ، ومعنى «إلى» انتهاء الغاية ، ولها معان أخر :

المصاحبة : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢].

والتبيين : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) [يوسف : ٣٣].

وموافقة اللام و «في» و «من» : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) [النمل : ٣٣] أي : لك.

وقال النابغة : [الطويل]

١٣٠ ـ فلا تتركنّي بالوعيد كأنّني

إلى النّاس مطليّ به القار أجرب (١)

وقال الآخر : [الطويل]

١٣١ ـ ...........

أيسقى فلا يروى إليّ ابن أحمرا (٢)

أي : لا يروى منّي ، وقد تزاد ؛ قرىء : «تهوى إليهم» [إبراهيم : ٣٧] بفتح الواو.

و «الكاف» في محل جر ، وهي ضمير المخاطب ، ويتّصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيرا وتأنيثا ك «تاء» المخاطب.

ويترك أبو جعفر ، وابن كثير ، وقالون (٣) ، وأبو عمرو ، ويعقوب كل مدّة تقع بين كلمتين ، والآخرون يمدونها.

و «النزول» الوصول والحلول من غير اشتراط علوّ ، قال تعالى : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) [الصافات : ١٧٧] أي حلّ ووصل.

قال ابن الخطيب : والمراد من إنزال الوحي (٤) ، وكون القرآن منزلا ، ومنزولا به ـ

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٢٨) ، الخزانة : ٤ / ١٣٧ ، أمالي ابن الشجري : ٢ / ٢٦٨ ، الهمع : ٢ / ٢٠ ، الدرر : ٢ / ١٣ ، الدر : ١ / ٩٩ ، وأدب الكتاب : ص ٥٠٦ ، وخزانة الأدب : ٩ / ٤٦٥ ، والجنى الداني : ص ٣٨٧ ، وشرح شواهد المغني : ص ٢٢٣ ، جمهرة اللغة : ص ٧٩٨ ، ورصف المباني ص : ٨٣ ، وجواهر الأدب : ص ٣٤٣ وشرح الأشموني : ٢ / ٢٨٩ ، ومغني اللبيب : ص ٧٥.

(٢) عجز بيت لعمرو بن أحمر الباهلي وصدره :

تقول وقد عاليت بالكور فوقها

ينظر المغني : ٧٩ ، والأشموني : ٢ / ٢١٤ ، والدرر : ٢ / ١٣ ، والهمع : ٢ / ٢٠ ، والجنى الداني : ٣٨٨ ، والدر المصون : ١ / ١٠٠.

(٣) عيسى بن ميناء بن وردان بن عيسى المدني مولى الأنصار أبو موسى أحد القراء المشهورين من أهل المدينة مولدا ووفاة ، انتهت إليه الرياسة في علوم العربية والقراءة في زمانه بالحجاز ، وكان أصم يقرأ عليه القرآن وهو ينظر إلى شفتي القارىء فيرد عليه اللحن والخطأ ، و «قالون» لقب دعاه به نافع القارىء لجودة قراءته ، ومعناه بلغة الروم جيد.

ينظر الأعلام : ٥ / ١١٠ (٨٤٤) ، النجوم الزاهرة : ٢ / ٢٣٥ ، غاية النهاية : ١ / ٦١٥.

(٤) قال في «الأساس» : «أوحى إليه : وأومى إليه بمعنى ، ووحيت إليه ؛ وأوحيت : إذا كلمته بما تخفيه عن غيره ، وأوحى الله إلى أنبيائه ؛ وأوحى ربك إلى النحل». ـ

٢٩٦

أن جبريل سمع في السماء كلام الله ـ تعالى ـ فنزل على الرسول به ، كما يقال : نزلت

__________________

وفي القاموس المحيط : «الوحي : الإشارة والكتابة ؛ والمكتوب والرسالة ؛ والإلهام والكلام الخفي ؛ وكل ما ألقيته لغيرك».

وقال الراغب : «أصل الوحي : الإشارة السريعة ؛ ولتضمن السرعة قيل : أمر وحي ، يعني : سريع ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعويض ؛ وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب ؛ وبإشارة بعض الجوارح وبالكتابة ، وقد حمل على ذلك قوله ـ تعالى ـ عن زكريا ـ عليه‌السلام ـ : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ ؛ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ : أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي : أشار إليهم ولم يتكلم.

ومنه : الإلهام الغريزي ؛ كالوحي إلى النحل ، قال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ؛ وإلهام الخواطر بما يلقيه الله في روع الإنسان السليم الفطرة ، الطاهر الروح ؛ كالوحي إلى «أمّ موسى» ؛ ومنه ضده ؛ وهو وسوسة الشيطان ، قال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) ، وقال : «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً. فالخلاصة في معنى الوحي اللغوي : أنه الإعلام الخفي السريع ؛ وهو أعمّ من أن يكون بإشارة أو كتابة أو رسالة ؛ أو إلهام غريزي ؛ أو غير غريزي ، وهو بهذا المعنى لا يختصّ بالأنبياء ؛ ولا بكونه من عند الله سبحانه.

وأما في الشرع : فيطلق ويراد به : المعنى المصدري ، ويطلق ويراد به : المعنى الحاصل بالمصدر ، ويطلق ويراد به : الموحى به.

ويعرف من الجهة الأولى : بأنه «إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغه إليهم ، من شرع أو كتاب ، بواسطة أو غير واسطة» فهو أخصّ من المعنى اللغوي ؛ لخصوص مصدره ومورده ؛ فقد خص المصدر بالله سبحانه ؛ وخص المورد بالأنبياء.

ويعرف من الجهة الثانية : بأنه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من عند الله ؛ سواء أكان الوحي بواسطة أم بغير واسطة.

ويعرف من الجهة الثالثة : بأنه ما أنزله الله على أنبيائه ؛ وعرفهم به من أنباء الغيب ، والشرائع ، والحكم ، ومنهم من أعطاه كتابا ، ومنهم من لم يعطه».

ينقسم الوحي باعتبار معناه المصدري إلى ما يأتي :

١ ـ تكليم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب ؛ إما في اليقظة : وذلك مثل ما حدث لموسى عليه‌السلام ؛ قال تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) ؛ ومثل ما حدث لنبينا «محمد» ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ليلة الإسراء والمعراج.

ولأهل السنة قولان في الكلام المسموع : فقيل : هو الكلام النفسي القديم المجرد عن الحروف والأصوات ، وقيل : هو كلام لفظي يخلقه الله ، بحيث يعلم سامعه أنه موجه إليه من قبل الله ، والقائلون بهذا لا ينكرون صفة «الكلام».

أما الثاني فواضح ، وأما الأول فلا استحالة فيه ؛ لأن الثابت أن النبي قد خصّ بمزايا وخصائص لم توجد في غيره من أفراد نوعه ، وأن نفسه بأصل فطرتها ـ مستعدة لما لم تستعد له نفوس غيره ، فلا مانع إذا أن يسمع الكلام النفسي بطريقة غير مألوفة ، ولا معروفة لنا ، ويكون ذلك من خوارق النواميس العادية المعروفة لنا.

وأما في المنام : كما في حديث «معاذ» مرفوعا : «أتاني ربي ، فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟ ...» الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده ، والترمذي في سننه وقال : حسن صحيح.

٢ ـ الإلهام أو القذف في القلب : بأن يلقي الله ، أو الملك الموكل بالوحي في قلب نبيه ما يريد ، مع ـ

٢٩٧

رسالة الأمير من القصر ، والرسالة لا تنزل ولكن المستمع يسمع الرسالة من علوّ ، فينزل ويؤدي في سفل ، وقول الأمير لا يفارق ذاته ، ولكن السامع يسمع فينزل ، ويؤدي بلفظ نفسه ، ويقال : فلان ينقل الكلام إذا سمع وحدث به في موضع آخر.

فإن قيل : كيف سمع جبريل كلام الله تعالى ؛ وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم؟

قلنا : يحتمل أن يخلق الله ـ تعالى ـ له سمعا لكلامه ، ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم ، ويجوز أن يكون الله ـ تعالى ـ خلق في اللّوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص ، فقرأه جبريل ـ عليه‌السلام ـ فحفظه ، ويجوز أن يخلق الله

__________________

ـ تيقنه : أن ما ألقي إليه من قبل الله تعالى ؛ وذلك مثل ما ورد في حديث : «إن روح القدس نفث في روعي : لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» رواه الحاكم وصححه ، عن ابن مسعود.

٣ ـ الرؤيا في المنام : ورؤيا الأنبياء وحي ؛ وذلك مثل رؤية إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يذبح ابنه ، ورؤية نبينا محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في منامه : أنهم سيدخلون البلد الحرام وقد كان. وفي الحديث الصحيح ، الذي رواه «البخاري» : «أول ما بدىء به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ..».

٤ ـ تعليم الله أنبياءه بوساطة ملك ، والمختص بذلك من ملائكة الله هو أمين الوحي «جبريل» عليه‌السلام ، وهذا القسم يعرف ب «الوحي الجلي».

وقد بين الله ـ سبحانه ـ هذه الأقسام بقوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ ـ بِإِذْنِهِ ـ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) ؛ إذ المراد بالوحي في الآية : الإلهام أو المنام ؛ لمقابلته للقسمين الآخرين : التكليم من وراء حجاب أو بواسطة رسول.

والوحي الذي بوساطة جبريل .. له حالات ثلاث :

أ ـ أن يأتي جبريل في صورته التي خلقه الله عليها ، وهذه الحالة نادرة وقليلة ، وقد ورد عن السيدة «عائشة» : «أن النبي لم ير «جبريل» على هذه الحالة إلا مرتين : مرة في الأرض ، وهو نازل من غار «حراء» ، ومرة أخرى في السماء ، عند «سدرة المنتهى» ليلة المعراج» رواه أحمد.

ب ـ أن يأتي جبريل في صورة رجل كدحية الكلبي ، أو أعرابي مثلا ، ويراه الحاضرون ويسمعون من قوله ، ولا يعرفون هويته ، ولكن النبي يعلم علم اليقين أنه جبريل ؛ وذلك كما في حديث جبريل الطويل في الصحيحين ، وحديث أم سلمة ، ورؤيتها رجلا على صورة دحية الكلبي ، فظنته هو ، حتى بيّن النبي لها أنه جبريل.

ج ـ أن يأتي على صورته الملكية ، وفي هذه الحالة لا يرى ، ولكن يصحب مجيئه صوت كصلصلة الجرس ، أو دوي كدوي النحل ؛ وقد دلّ على هاتين الحالتين حديث سؤال «الحارث بن هشام» النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عن كيفية مجيء الوحي إليه؟ وهو في صحيح البخاري كما تقدم.

والوحي بجميع أنواعه يصحبه علم يقيني ضروري من الموحى إليه ؛ بأنّ ما ألقي إليه حق من عند الله ليس من خطرات النفس ولا نزعات الشيطان ، وهذا العلم اليقيني لا يحتاج إلى مقدّمات ، وإنما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانية ، كالجوع ، والعطش والحب ، والبغض.

ينظر المدخل في علوم القرآن : ص ٨٣ ـ ٨٧.

٢٩٨

أصواتا مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص ، فيتلقّفه جبريل ـ عليه‌السلام ـ ويخلق له علما ضروريا بأنه هو العبارة المؤدّية لمعنى ذلك الكلام القديم.

فصل في معنى فلان آمن بكذا

قال ابن الخطيب (١) : لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدّي ب «الباء» ، فالمراد منه التصديق.

فإذا قلنا : فلان آمن بكذا ، فالمراد أنه صدق به ، فلا يكون المراد منه أنه صام وصلى ، فالمراد بالإيمان ـ هاهنا ـ التصديق ، لكن لا بدّ معه من المعرفة ؛ لأن الإيمان ـ ها هنا ـ خرج مخرج المدح ، والمصدق مع الشّك لا يأمن أن يكون كاذبا ، فهو إلى الذّم أقرب.

و «ما» الثانية وصلتها عطف على «ما» الأولى قبلها ، والكلام عليها وعلى صلتها كالكلام على «ما» التي قبلها ، فتأمله.

واعلم أن قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) عام يتناول كل من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام ، سواء كان قبل ذلك مؤمنا بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، أو لم يكن مؤمنا بهما ، ثم ذكر بعد ذلك هذه الآية وهي قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة : ٣] يعني : التوراة والإنجيل ؛ لأن في هذا التخصيص مزيد تشريف لهم كما في قوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] ، ثم في تخصيص عبد الله بن سلام (٢) ، وأمثاله بهذا التشريف ترغيب لأمثاله في الدّين ، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذكر العام.

و «من قبلك» متعلّق ب «أنزل» ، و «من» لابتداء الغاية ، و «قبل» ظرف زمان يقتضي التقدم ، وهو نقيض «بعد» ، وكلاهما متى نكّر ، أو أضيف أعرب ، ومتى قطع عن الإضافة لفظا ، وأريدت معنى بني على الضم ، فمن الإعراب قوله : [الوافر]

١٣٢ ـ فساغ لي الشّراب وكنت قبلا

أكاد أغصّ بالماء القراح (٣)

__________________

(١) ينظر الرازي : ٢ / ٣٠.

(٢) عبد الله بن سلام مخفف ابن الحارث الإسرائيلي اليوسفي أبو يوسف حليف القواقل الخزرجي. أسلم مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وشهد فتح بيت المقدس مع عمر وروى خمسة وعشرين حديثا اتفقا على حديث وانفرد بآخر شهد له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة ونزل فيه (وشهد شاهد من بني إسرائيل) وقوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) وعنه ابنه يوسف وأبو هريرة وأنس. اتفقوا على أنه مات سنة ثلاث وأربعين بالمدينة. رضي الله عنه.

ينظر الخلاصة : ٢ / ٦٤ (٣٥٥٧) ، تهذيب الكمال : ٢ / ٦٤ ، تهذيب التهذيب : ٥ / ٢٣٩ (٤٣٧) ، تقريب التهذيب : ١ / ٤٢٢ (٣٧٠).

(٣) هو لعبد الله بن يعرب بن معاوية ونسبه أبو عبيدة ليزيد بن الصعق. ـ

٢٩٩

وقال الآخر : [الطويل]

١٣٣ ـ ونحن قتلنا الأسد أسد خفيّة

فما شربوا بعدا على لذّة خمرا (١)

ومن البناء قوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم : ٤] وزعم بعضهم أن «قبل» في الأصل وصف ناب عن موصوفه لزوما.

فإذا قلت : «قمت قبل زيد» فالتقدير : قمت [زمانا قبل زمان قيام زيد ، فحذف هذا كله ، وناب عنه قبل زيد](٢) ، وفيه نظر لا يخفى على متأمله.

واعلم أن حكم «فوق وتحت وعل وأول» حكم «قبل وبعد» فيما تقدّم.

وقرىء (٣) : «بما أنزل إليك» مبنيا للفاعل ، وهو الله ـ تعالى ـ أو جبريل ، وقرىء أيضا (٤) : «بما أنزلّ ليك» بتشديد اللام ، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما سكنه الآخر في قوله : [الرمل]

١٣٤ ـ إنّما شعري ملح

قد خلط بجلجلان (٥)

بتسكين «خلط» ثم حذف همزة «إليك» ، فالتقى مثلان ، فأدغم لامه.

و «بالآخرة» متعلّق ب «يوقنون» ، و «يوقنون» خبر عن «هم» ، وقدّم المجرور ؛ للاهتمام به كما قدم المنفق في قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) لذلك ، وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلة أيضا ، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ؛ لأن وصفهم بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق ، فناسب التأكيد بمجيء الجملة الاسمية ، أو لئلا يتكرّر اللفظ لو قيل : «ومما رزقناكم هم ينفقون».

والمراد من الآخرة : الدّار الآخرة ، وسميت الآخرة آخرة ، لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا.

__________________

ـ ينظر همع الهوامع : (١ / ٢١٠) ، المفصل : (٤ / ٨٨) ، الأشموني : (١ / ٢٦٩) ، الدرر : (١ / ١٧٦) ، ابن يعيش : (٤ / ٨٨) ، شرح الأشموني : (٢ / ٢٦٩) ، شرح ابن عقيل : (٣ / ٧٣) ، شرح الألفية للمرادي : (٢ / ٢٧٨) ، وشرح الألفية لابن الناظم : (٤٠١) ، وشرح الكافية الشافية : (٢ / ٩٦٥) ، وارتشاف الضرب : (٢ / ٥١٤) ، ومعاني القرآن : (٢ / ٣٢٠) ، الدر : (١ / ١٠٠).

(١) البيت نسب إلى رجل من بني عقيل. ينظر الهمع : (١ / ٢٠٩) ، الأشموني : (٢ / ١٦٩) ، الدرر : (١ / ١٧٦) ، شرح الكافية الشافية : (٢ / ٩٦٥) ، وشرح الألفية : (٤٠١) ، والتصريح : (٢ / ٥٠٢) ، والهمع : (١ / ٢٠٩ ، ٢١٠) ، وخزانة الأدب : (٦ / ٥٠١ ، ٥٠٦ ، ٥٠٩) ، والدر : (١ / ١٠٠) ، وإصلاح المنطق : ١٤٦ ، أوضح المسالك : ٣ / ١٥٨ ، لسان العرب (بعد ، خفا) ، المقاصد النحوية : ٣ / ٤٣٦.

(٢) سقط في أ.

(٣) انظر البحر المحيط : ١ / ١٦٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٨٦. وقرأ بها النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب.

(٤) انظر البحر المحيط : ١ / ١٦٦.

(٥) البيت لوضاح اليماني. ينظر اللسان : (جلل) ، التهذيب : ١ / ٤٩١ ، البحر : ١ / ١٦٧ ، الدر : ١ / ١٠٠.

٣٠٠