اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

النعماني (١) بالضم : إلى النّعمانية بلد بين بغداد وواسط.

قلت ولعل المصنف رحمه‌الله تعالى قد رحل إليها واستوطن فنسب إليها هكذا نسبه إليها إسماعيل باشا البغدادي في هدية العارفين (٢) وكحالة تبعا لإسماعيل باشا.

مولده :

بعد استقراء (٣) كتب السير والأعلام لم أتمكن من تحديد يوم مولده بالضبط ولكن كل من ترجم لهذا الإمام العلامة ابن عادل الحنبلي يذكر أنه كان حيا في سنة ٨٨٠ كما نص على ذلك الزركلي في الأعلام (٤) بينما يرى الأستاذ المؤرخ عمر رضا كحالة أنه فرغ من تأليفه هذا في رمضان سنة ٨٧٩ ه‍.

ومن ثم تعطينا هذه النصوص أن الإمام ابن عادل الحنبلي كان موجودا قبل ذلك بكثير لكن لم تحفظ لنا كتب السير والتراجم شيئا يذكر عن تاريخ مولده إلا الكلمات القليلة التي أوردنا عن نص الزركلي وكحالة.

شيوخه وتلامذته :

فمن سنن الكون تلقي العلوم على أيدي معلميها فلقد تلقى خير البشر سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن الكريم بواسطة جبريل وتلقى الصحابة رضوان الله عليهم من سيد البشر وتلقى التابعون العلم من الصحابة الأجلاء حتى صارت كل طبقة تعلم التي تليها حتى يومنا هذا.

ولقد صدق القائل : [الوافر]

إذا رمت العلوم بغير شيخ

ضللت عن الصّراط المستقيم

وتلتبس الأمور عليك حتّى

تصير أضلّ من «توما الحكيم»

ولكن بالرجوع إلى ما كتب عن الإمام الثقة لم أجد من يحدثنا عمن أخذ عنهم وبالضرورة أن مثل هذا المؤلف لا يخرج من نتاج نفسه فحسب بل لا بد من أنه تأثر بمن حوله فكتابه زاخر بالعلوم والمعارف والنكت العلمية الدقيقة التي تعطينا فكرة أنه لازم المشايخ والأعلام زمانا طويلا حتى أخرج لنا مثل هذا الصرح العظيم.

والحال هذا أيضا في تلامذته أنه لا بد للآخذ أن يعطي فنقطع بأنه كان مصباحا لأهل عصره عقيدة وشريعة ولغة وأدبا ؛ والناظر في تفسيره هذا يجد ما أقول بل لا يقف إلى حد القطع فقط بل يعتقد اعتقادا جازما عن أدلة بأن له روادا ينهلون في معارفه وعلومه.

__________________

(١) ينظر : تهذيب الأسماء واللغات ١ / ١١٠ ، شذرات الذهب ٢ / ٦٩ ، الأنساب ٥ / ٩ ، معجم البلدان ٥ / ٢٩٤ ، اللباب ٣ / ٣١٧ ، لب اللباب ١ / ٢٩٩.

(٢) ٥ / ٧٩٤.

(٣) والاستقراء هنا استقراء جزئي.

(٤) ٥ / ٥٨.

٢١

ثناء العلماء عليه :

المطلع على تفسيره القيم يعتقد أنه كان يحظى بمكانة علمية مرموقة بين علماء عصره.

فقد صرح العلامة الخطيب الشربيني (١) في مقدمة تفسيره المسمى ب «السراج المنير» بأنه اعتمد في جمع مادته العلمية على مؤلفات لعلماء أجلاء لهم باع طويل في علم التفسير ومن بين هؤلاء الإمام ابن عادل ...

كما أن بعض النساخ وصفه ب «العالم العلامة والبحر الفهامة».

كما أن ناسخا آخر يصفه ب «خاتمة وعمدة المدققين».

وقال العلامة الزركلي بعد ذكر نسبه ... صاحب التفسير الكبير ...

وقال العلامة عمر رضا كحالة : «مفسر» (٢).

ووصفه آخر من النّسّاخ ب «أنه خاتمة العلماء» وأنشد : [الكامل]

هذا كتاب لو يباع بوزنه

ذهبا لكان البائع المغبونا

أوما من الخسران أنّك آخذ

ذهبا وتعطي جوهرا مكنونا

تصانيفه :

نظرا لأن الإمام ابن عادل الحنبلي كان ـ بيقين ـ أحد علماء عصره الذين وهبوا أرواحهم وأفئدتهم للعلم فأفنى عمره في التحصيل والبحث والتحقيق والتنميق حتى تفجرت عيون معارفه وتدفقت محصلته العلمية بصنوف من التصنيفات وبدائع من المؤلفات في أكثر من ميدان فسارت مؤلفاته وانتشرت وما انتثرت وقرئت ودريت ونسخت وما مسخت وأجملت كتب الأقدمين فأكبّ الناس عليها بيد أن الله تعالى خصه بميدان التفسير فبرز وتفرد على أهل عصره. وإليك ما وصل إلينا من مؤلفات هذا الإمام :

أولا : اللباب في علوم الكتاب وهو الذي نحن بصدد تحقيقه.

ثانيا : حاشية على المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. والمحرر كتاب في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل تأليف الشيخ الإمام العلامة الهمام حجة الله بين الأنام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن علي بن تيمية الحراني المتوفى سنة ٦٥٢ عليه هواطل الرحمة.

__________________

(١) ينظر ترجمته في تحقيقنا على كتابي مغني المحتاج والاقناع في حل ألفاظ أبي شجاع.

(٢) كونه موصوفا ب «المفسر» هذا يرجح قولنا أنه عالم باللغة والأصول والحديث والبلاغة بعلومها الثلاثة لأن كل هذه العلوم يحتاج إليها المفسر.

٢٢

قال في مقدمة كتابه «فهذا كتاب في الفقه على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه هذّبته مختصرا ورتبته «محررا» لأكثر أصول المسائل خاليا من العلل والدلائل واجتهدت في إيجاز لفظه تيسيرا على طلاب حفظه ونسأل الله النفع به في الأولى والآخرة وأن يوفقنا لصواب القول والعمل ويحرسنا من أسباب الخطأ والزلل إنه سميع مجيب» (١).

وفاته :

القول في وفاته كالقول في مولده فلم تحفظ لنا كتب السير والأعلام تحديد زمن وفاته إلا أنها ذكرت أنه كان حيا سنة ٨٧٩ وجرى على هذا العلامة المؤرخ عمر رضا كحالة بينما يرى العلامة الزركلي أنه توفي بعد سنة ٨٨٠ ه‍ (٢).

__________________

(١) المحرر ١ / ١.

(٢) ينظر ترجمته في الأعلام للعلامة الزركلي ٥ / ٥٨ ، معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة ٧ / ٣٠٠ ، كشف الظنون ل «حاجي خليفة» ٢ / ١٥٤٣ ، وهدية العارفين ٥ / ٧٩٤ ، والفهارس العامة لدار الكتب المصرية ولمعهد المخطوطات وللأزهر ولظاهرية دمشق وغيرها من المكاتب.

٢٣

التّفسير والتّأويل

التفسير : لغة

التفسير في اللغة : الإيضاح والتبيين ، ومنه قوله تعالى (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)(١) أي بيانا وتفصيلا. وهو مأخوذ من الفسر ، وهو : الإبانة والكشف.

قال الفيروزابادي (٢) :

«الفسر : الإبانة وكشف المغطى كالتفسير ، والفعل كضرب ونصر».

وقال ابن منظور (٣) :

«الفسر : البيان ، فسر الشيء يفسره ـ بالكسر ـ ويفسره ـ بالضم ـ فسرا ، وفسّره : أبانه. والتفسير : مثله ... والفسر : كشف المغطّى. والتفسير : كشف المراد عن اللفظ المشكل».

وقال «أبو حيان» (٤) :

«... ويطلق التفسير أيضا على التعرية للانطلاق ، قال ثعلب : تقول : فسرت الفرس : عريته لينطلق في حضره ، وهو راجع لمعنى الكشف ، فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري».

وعلى ذلك : فالمادة تدور حول معنيين (٥) :

الكشف المادي المحسوس ، والكشف المعنوي المعقول.

وقيل : إن أصل الكلمة من التّفسرة ، وهي الدليل من الماء الذي ينظر فيه الطبيب فيكشف عن علة المريض ، كما يكشف المفسّر عن شأن الآية وقصتها (٦).

__________________

(١) سورة الفرقان : الآية ٣٣.

(٢) القاموس المحيط «فسر».

(٣) اللسان : مادة «فسر».

(٤) البحر المحيط ١ / ١٣.

(٥) التفسير : معالم حياته ـ منهجه اليوم ـ أمين الخولي ص ٥ ، والتفسير والمفسرون / للذهبي ج ١ / ١٥.

(٦) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ٢ / ٢٩٤ ، وتفسير البغوي ١ / ١٨ ط ، المنار ، واللسان : فسر.

٢٤

التفسير : اصطلاحا

عرفه السيوطي قائلا (١) :

«هو علم نزول الآيات وشؤونها وأقاصيصها ، والأسباب النازلة فيها ، ثم ترتيب مكيها ومدنيها ، وبيان محكمها ومتشابهها ، وناسخها ومنسوخها ، وخاصها وعامها ، ومطلقها ومقيدها ، ومجملها ومفسرها ، وحلالها وحرامها ، ووعدها ووعيدها ، وأمرها ونهيها ، وعبرها وأمثالها ، ونحو ذلك».

وعرّفه «أبو حيان» فقال :

هو «علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ، ومدلولاتها ، وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات ذلك ...» وفيه قصور وغموض (٢).

وتعريف «الزركشي» أوضح من التعريفين السابقين إذ يقول (٣) :

«التفسير : علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحكمه ، واستمداد ذلك من علم اللغة ، والنحو والتصريف ، وعلم البيان ، وأصول الفقه ، والقراءات ، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ».

وهناك تعريفات أخرى ـ غير ما ذكرنا (٤) ـ وكلها تتفق «على أن علم التفسير علم يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية ، فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى ، وبيان المراد» (٥).

التأويل : لغة

أصله : «من الأول ، وهو الرجوع».

قال الفيروزابادي (٦) :

«آل إليه أولا ومآلا ـ : رجع. وعنه ارتد ... وأوّل الكلام تأويلا ، وتأويله : دبره وقدره وفسره ، والتأويل عبارة الرؤيا».

__________________

(١) الإتقان ٢ / ١٧٤.

(٢) راجع : الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير أبو شهبة ص ٤١.

(٣) البرهان ج ١ / ٣٣.

(٤) راجع مثلا : مناهل العرفان في علوم القرآن ١ / ٤٠٦ ط أولى ، ومنهج الفرقان في علوم القرآن ج ٢ / ٦ ، التفسير في قواعد التفسير / الكافياجي ص ٣ ، ١١ وغيرها.

(٥) التفسير والمفسرون ١ / ١٧.

(٦) القاموس المحيط ٣ / ٣٣١.

٢٥

وقال ابن «منظور» (١) :

«الأول : الرجوع ، آل الشيء يؤول أولا ومآلا : رجع ، وأوّل الشيء : رجعه ، وألت عن الشيء : ارتددت ، وفي الحديث : «من صام الدهر فلا صام ولا آل» أي لا رجع إلى خير ... وأوّل الكلام وتأوله : دبره وقدره ، وأوله وتأوله : فسره».

وعليه :

فالتأويل : إرجاع الكلام إلى ما يحتمله من المعاني.

وقيل : التأويل مأخوذ من الإيالة ، وهي السياسة ، فكأن المؤول ساس الكلام ووضعه في موضعه .. قال الزمخشري (٢) :

«آل الرعيّة يؤولها إيالة حسنة ، وهو حسن الإيالة ، وائتالها ، وهو مؤتال لقومه مقتال عليهم : أي سائس محتكم ، قال زياد في خطبته : قد ألنا وإيل علينا ، أي سسنا وسسنا ...».

وقد ورد لفظ التأويل في القرآن الكريم على معان مختلفة.

من ذلك قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ...)(٣) بمعنى التفسير والتعيين.

وقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(٤) بمعنى العاقبة والمصير.

وقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ..)(٥) وقوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ..)(٦) بمعنى وقوع المخبر به.

ومن آيات سورة يوسف (٧) أريد بها : نفس مدلول الرؤيا.

ومن آيتي سورة الكهف (٨) بمعنى بيان حقيقة الأعمال التي عملها العبد الصالح ، وليس تأويل الأقوال (٩).

التأويل اصطلاحا :

التأويل عند السلف له معنيان :

ـ أحدهما : تفسير الكلام وبيان معناه ، وبذلك يكون التأويل والتفسير مترادفين ، وهذا ما يعنيه «ابن جرير الطبري» في تفسيره حين يقول : «القول في تأويل قوله تعالى ...»

__________________

(١) اللسان / مادة «أول» ١١ / ١٧١ وما بعدها.

(٢) أساس البلاغة ص ٢٥ ط الشعب.

(٣) سورة آل عمران : الآية ٧.

(٤) سورة النساء : الآية ٥٩.

(٥) سورة الأعراف : الآية ٥٣.

(٦) سورة يونس : الآية ٣٩.

(٧) الآيات : ٦ ، ٣٧ ، ٤٤ ، ٤٥ ، ١٠٠.

(٨) الآيتان : ٧٨ ، ٨٢.

(٩) راجع : التفسير والمفسرون : ١ / ١٨ ، ١٩.

٢٦

وكذا قوله «اختلف أهل التأويل في هذه الآية». فالتفسير والتأويل كلاهما بمعنى.

ـ ثانيهما : هو نفس المراد بالكلام ، فإن كان الكلام طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب ، وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به ...

وعليه :

فالتأويل هنا نفس الأمور الموجودة في الخارج سواء كانت ماضية أم مستقبلة ، فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا هو نفس طلوعها ، وهذا في نظر «ابن تيمية» هو لغة القرآن التي نزل بها ، وعلى هذا فيمكن إرجاع كل ما جاء في القرآن من لفظ التأويل إلى هذا المعنى الثاني(١).

أما التأويل عند المتأخرين من الأصوليين والكلاميين وغيرهم :

فهو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به ، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف (٢).

قال في جمع الجوامع (٣) :

«التأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح ، فإن حمل عليه دليل فصحيح ، أو لما يظن دليلا من الواقع ففاسد ، أو لا لشيء فلعب لا تأويل».

«الفرق بين التّفسير والتّأويل»

اختلف علماء «التفسير» في بيان الفرق بين التفسير والتأويل. ولعل منشأ هذا الخلاف «هو استعمال القرآن لكلمة التأويل ، ثم ذهاب الأصوليين إلى اصطلاح خاص فيها ، مع شيوع الكلمة على ألسنة المتكلمين من أصحاب المقالات والمذاهب» (٤).

ـ ومن العلماء من ذهب إلى أنهما بمعنى واحد .. ومن هؤلاء : «أبو عبيد القاسم بن سلام» وطائفة معه (٥).

ـ ومنهم من فرق بينهما.

يقول الراغب الأصفهاني (٦) :

__________________

(١) التفسير والمفسرون ١ / ١٩ (بتصرف وإيجاز).

(٢) راجع : التفسير والمفسرون ١ / ١٩.

(٣) ج ٢ / ٥٦ ، والتفسير والمفسرون ١ / ٢٠.

(٤) التفسير. معالم حياة ـ ص ٦.

(٥) الإتقان ٢ / ١٧٣ ، التفسير والمفسرون ١ / ٢١ ، والإسرائيليات والموضوعات ٤٣.

(٦) التفسير والمفسرون ١ / ٢١ ، نشأة التفسير في الكتب المقدسة والقرآن / السيد خليل ص ٢٩ ، نقلا عن : مقدمة التفسير للراغب ص ٤٠٢ ـ ٤٠٣. آخر كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار.

٢٧

«التفسير أعم من التأويل. وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ ، والتأويل في المعاني ، كتأويل الرؤيا.

والتأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهية ، والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها.

والتفسير أكثره يستعمل في مفردات الألفاظ ، والتأويل أكثره يستعمل في الجمل. فالتفسير إمّا أن يستعمل في غريب الألفاظ «كالبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة» ، أو في تبيين المراد وشرحه ، كقوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ، وإما في كلام مضمن بقصة لا يمكن تصوره إلا بمعرفتها نحو قوله تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) وقوله تعالى (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها).

وأما التأويل : فإنه يستعمل مرة عاما ، ومرة خاصا ، نحو «الكفر» المستعمل تارة في الجحود المطلق ، وتارة في جحود الباري خاصة ، و «الإيمان» المستعمل في التصديق المطلق تارة ، وفي تصديق دين الحق تارة ، وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة ، نحو لفظ «وجد» المستعمل في الجد والوجد والوجود».

وقال «أبو طالب الثعلبي» (١) :

«التفسير : بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازا ، كتفسير الصراط بالطريق ، والصيّب بالمطر. والتأويل : تفسير باطن اللفظ ، مأخوذ من الأول ، وهو الرجوع لعاقبة الأمر. فالتأويل : إخبار عن حقيقة المراد ، والتفسير : إخبار عن دليل المراد ، لأن اللفظ يكشف عن المراد ، والكاشف دليل ، مثاله قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) تفسيره : أنه من الرصد ، يقال : رصدته إذا رقبته ، والمرصاد : مفعال منه. وتأويله : التحذير من التهاون بأمر الله ، والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه».

وقال «البغوي» (٢) :

«التأويل : هو صرف الآية إلى معنى محتمل يوافق ما قبلها وما بعدها ، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط.

والتفسير : هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها».

وقيل : «التفسير : ما يتعلق بالرواية ، والتأويل : ما يتعلق بالدراية» (٣) يقول الكافياجي(٤) :

«... إن علم التفسير علم يبحث فيه عن أحوال كلام الله المجيد من حيث أنه يدل على المراد بحسب الطاقة البشرية ، وينقسم إلى قسمين :

__________________

(١) الاتقان ٢ / ١٧٣.

(٢) تفسير البغوي ١ / ١٨.

(٣) الاتقان ٢ / ١٧٣.

(٤) التيسير في قواعد التفسير ص ٣ ، ١١.

٢٨

تفسير : وهو ما لا يدرك إلا بالنقل أو السماع ، أو بمشاهدة النزول وأسبابه ، فهو ما يتعلق بالرواية ، ولهذا قيل : إن التفسير للصحابة.

وتأويل : وهو ما يمكن إدراكه بقواعد العربية ، فهو ما يتعلق بالدراية ، ولهذا قيل : إن التأويل للفقهاء ، فالقول في الأول بلا نقل أو سماع خطأ ، وكذا القول في الثاني بمجرد التشهي ، وأما استنباط المعاني على قانون اللغة فمما يعد فضلا وكمالا».

وقد رجح المرحوم الدكتور الذهبي هذا الرأي ، وعلل ذلك بقوله (١) :

«وذلك لأن التفسير معناه : الكشف والبيان. والكشف عن مراد الله تعالى لا نجزم به إلا إذا ورد عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، أو عن بعض أصحابه ، الذين شهدوا نزول الوحي ، وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع ، وخالطوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم.

وأما التأويل : فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل ، والترجيح يعتمد على الاجتهاد ، ويتوصل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب ، واستعمالها بحسب السياق ، ومعرفة الأساليب العربية ، واستنباط المعاني من كل ذلك».

وهذا هو ما نميل إليه ...

«حاجة النّاس إلى التّفسير»

نزل القرآن الكريم لغرضين أساسيين :

أولهما : ليكون معجزة ، فلا يقدر البشر على أن يأتوا بمثله (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(٢). ولا بسورة من مثله (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣).

ثانيهما : ليكون منهج حياة ، ودستورا للمسلمين ، فيه صلاحهم وفلاحهم ، إذ تكفل بكل حاجاتهم من أمور الدين والدنيا ، عقائد ، وأخلاق ، وعبادات ، ومعاملات .. إلخ.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٤).

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً)(٥). ففي اتباعه الهداية ، وفي الإعراض عنه الشقاء والضنك (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ

__________________

(١) التفسير والمفسرون ١ / ٢٣.

(٢) سورة الإسراء : الآية ٨٨.

(٣) سورة يونس : الآية ٣٨.

(٤) سورة يونس : الآية ٥٧.

(٥) سورة الإسراء : الآية ٨٢.

٢٩

هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى ..)(١).

وبه مخرج الأمة من أزماتها ، ونجاتها من الفتن .. يقول علي ـ كرم الله وجهه ـ : قلت يا رسول الله ستكون فتن ، فما المخرج منها؟

قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، هو حبل الله المتين ، والذكر الحكيم ، والصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه. من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن خاصم به أفلح ، ومن دعى إليه هدي إلى صراط مستقيم».

ـ ولكي يكون معجزا ويتأتى تحديه للبشر ..

ـ ولكي يتأتى اتخاذه دستورا ومنهج حياة ..

ـ ولكي يتدبر المؤمنون آياته (٢) ..

ـ ولكي يستطيع المسلمون العرب الانطلاق بالدعوة (٣) .. لكل هذا جاء القرآن عربيا.

وكان القوم ـ «عند نزوله ـ سواء من هو حجة له : من المؤمنين الصادقين ، ومن هو حجة عليه : من الكافرين الجاحدين ، يفهمونه ويحيطون بمعانيه إفرادا وتركيبا فيتلقون دعوته ، ويدركون مواعظه ، ويعون تحديه بالإعجاز بين مذعنين ، يقولون : آمنا به ، ومعاندين يلحدون في آياته ، ويمعنون في معارضته كيدا وليا بألسنتهم وطعنا في الدين.

فما كان منهم من تعذر عليه فهمه ، ولا من خفيت عليه مقاصده ومعانيه ، بل كان وضوح معانيه ، ويسر فهمه ، هو الأصل فيما قام حوله من صراع بين مؤمن يجد فيه شفاء نفسه ، وانشراح صدره ، وكافر ينقبض لقوارع آياته فلا يزال يدفعها بالإعراض والمعارضة ، والدفاع والمقارعة ، وكان ذلك هو الأصل أيضا في تكون الأمة المحمدية ، وتولد التاريخ الإسلامي» (٤).

يقول «ابن خلدون» (٥) :

«إن القرآن نزل بلغة العرب ، وعلى أساليب بلاغتهم ، فكانوا كلهم يفهمونه ، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه».

__________________

(١) سورة طه : ١٢٣ ـ ١٢٦.

(٢) قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) ...

(٣) قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) ....

(٤) التفسير ورجاله / محمد الفاضل بن عاشور ص ٧ ـ ٨.

(٥) المقدمة ص ٣٦٧ ط الأزهرية سنة ١٩٣٠.

٣٠

وقد سبقه أبو عبيدة معمر بن المثنى حين قال (١) :

«إنما نزل القرآن بلسان عربي مبين .. فلم يحتج السلف ، ولا الذين أدركوا وحيه ، إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يسألوا عن معانيه ، لأنهم كانوا عرب الألسن ، فاستغنوا بعلمهم عن المسألة عن معانيه ، وعما فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص».

إلا أن هذا الإطلاق يعارضه قول عمر بن الخطاب للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (٢)

يا رسول الله ، إنك تأتينا بكلام من كلام العرب وما نعرفه ولنحن العرب حقا؟ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن ربي علمني فتعلمت ، وأدبني فتأدبت».

كما يعارضه صريح القرآن إذ يقول تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(٣).

نعم. إن هناك ألفاظا لم تستطع بعض القبائل العربية معرفتها ، ربما لعدم استعمالهم لها ، أو لاحتمال اللفظ عدة معان ، وكذا بعض آيات أشكل عليهم فهم معناها وذلك كسؤالهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما نزل قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فقالوا : وأينا لم يظلم؟ وفزعوا إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فبيّن لهم أن المراد بالظلم الشرك ، واستدل عليه بقوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(٤).

ولو صح ما ذهب إليه ابن خلدون وأبو عبيدة لما كانت حاجة الصحابة إلى تفسير الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لكن تفسير الرسول للقرآن وقد ورد في الأحاديث الصحيحة ، بيانا لمعنى لفظ ، أو توضيحا لمشكل ، أو تأكيدا لحكم ، أو تفصيلا لمجمل ، أو تخصيصا لعام ، أو تقييدا لمطلق ... إلخ.

وكان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ حراصا على حفظ القرآن ، وفهم معانيه ، وفقه أحكامه ..

قال أبو عبد الرحمن السّلمي :

«حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان ، وعبد الله بن مسعود ، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عشر آيات ، لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن ، والعلم ، والعمل جميعا».

وإذا كان العرب الخلّص الذين لم تعكر عربيتهم عجمة ـ يحتاجون إلى التفسير ،

__________________

(١) مجاز القرآن ـ ط ثانية ـ دار الفكر.

(٢) البرهان في علوم القرآن للزركشي ١ / ٢٨٤ ط الحلبي تحقيق أبو الفضل وقال الصيرفي : ولست أعرف إسناد هذا الحديث ، وإن صح فقد دل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عرف ألسنة العرب.

(٣) سورة النحل : الآية ٤٤.

(٤) الإتقان للسيوطي ٢ / ٣٣٠ ، والبرهان للزركشي ١ / ١٤.

٣١

فنحن أولى وأحوج بل وأشد حاجة إلى تفسير القرآن الكريم ، إذ صار البون بعيدا بين العرب والفصحى ..

يقول السيوطي (١) :

«ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه ، وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر ، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم ، فنحن أشد احتياجا إلى التفسير».

والحاجة إلى التفسير إنما هي حاجة عارضة نشأت من سببين :

السبب الأول : هو أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة ، وإنما كان نزوله وتبليغه في ظرف زمني متسع جدا : قدره أكثر من عشرين عاما ، فكان ينزل منجما على أجزاء مع فواصل زمنية متراخية بين تلك الأجزاء ، وكان نزوله في تقدم بعض أجزائه وتأخر البعض الآخر ، على ترتيب يختلف عن ترتيبه التعبدي ، لأن ترتيب تاريخ النزول كان منظورا فيه إلى مناسبة الظروف والوقائع ، مناسبة ترجع إلى ركن من أركان مطابقة الكلام لمقتضى الحال. وترتيب التلاوة أو الترتيب التعبدي ، كان منظورا فيه إلى تسلسل المعاني وتناسب أجزاء الكلام بعضها مع بعض ، ... والترتيب الأول مؤقت زائل بزوال ملابساته من الوقائع والأزمنة والأمكنة.

أما ترتيب التلاوة التعبدي فباق لأنه في ذات الكلام ، يدركه كل واقف عليه وتال له من الأجيال المتعاقبة ، بينما الترتيب التاريخي لا يدركه إلا شاهد العيان لتلك الملابسات من الجيل الذي كان معاصرا لنزول القرآن ... وكان انقراض تلك الملابسات الوقتية محوجا إلى معرفتها معرفة نقلية تصورية ، ليتمكن الآتون من استعمال القرائن والأحوال ، التي اهتدى بها إلى معاني التراكيب القرآنية سابقوهم.

وأما السبب الثاني : فهو أن دلالات القرآن الأصلية ، التي هي واضحة بوضوح ما يقتضيه من الألفاظ والتراكيب ـ تتبعها معان تكون دلالة التراكيب عليها محل إجمال أو محل إبهام ، إذ يكون الترتيب صالحا على الترديد لمعان متباينة ، يتصور فيها معناه الأصلي ولا يتبين المراد منها ، كأن يقع التعبير عن ذات بإحدى صفاتها ، أو يكنى عن حقيقة بإحدى خواصها ، أو أحد لوازمها .. فينشأ عن ذلك إجمال يتطلب بيانا ، أو إبهام يتطلب تعيينا .. ولما كان الذين اتصلوا أولا بتلك المجملات أو المبهمات أو المطلقات قد رجعوا إلى المبلغ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في طلب بيانها أو تعيينها أو تقييدها فتلقوا عندما أفادهم ، فاطلعوا بأن الذين أتوا بعدهم احتاجوا إلى معرفة تلك الأمور المأثورة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لتتضح لهم تلك المعاني كما اتضحت لمن قبلهم ...» (٢).

__________________

(١) الإتقان ٢ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

(٢) التفسير ورجاله ١٠ ـ ١٣.

٣٢

وبذا تبين أن التفسير نشأ منذ بدء الوحي ، إذ احتاج إليه الصحابة ، ثم زادت حاجة التابعين إلى التفسير ولا سيما ما رآه الصحابة وسمعوه من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يتمكنوا هم من رؤيته ولا سماعه .. ثم اشتدت حاجة تابعي التابعين.

وهكذا كلما بعد الناس عن عصر نزوله زادت الحاجة إلى التفسير بمقدار ما زاد من غموض(١) ..

فهم الصّحابة للقرآن الكريم

نزل القرآن عربيا على رسول عربي ، وقوم عرب ، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ..) فكانوا أخبر بلغتهم ، وفهموا القرآن حق فهمه ، وقد يشكل عليهم فهم آية منه فيرجعون إلى القرآن نفسه ، فقد يجدون فيه توضيحا أو تفصيلا. وإلا رجعوا إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليفسر لهم ما أشكل عليهم ...

وكان الصحابة يجتهدون في فهم القرآن الكريم مستعينين على ذلك ب (٢) :

١ ـ معرفة أوضاع اللغة وأسرارها.

٢ ـ معرفة عادات العرب.

٣ ـ معرفة أحوال اليهود والنصارى في الجزيرة وقت نزول القرآن.

٤ ـ قوة الفهم وسعة الإدراك.

وبدهي أن يتفاوت الصحابة في توافر هذه الأدوات عندهم ، وبالتالي في فهم القرآن الكريم ، فلم يكونوا جميعا في مرتبة واحدة ، ومن هنا كان الاختلاف اليسر بينهم في تفسير القرآن الكريم.

ومن ذلك :

ـ ما روي من أن الصحابة فرحوا حين نزل قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) لظنهم أنها مجرد إخبار وبشرى بكمال الدين ، ولكن عمر بكى وقال : «ما بعد الكمال إلا النقص ، مستشعرا نعي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وقد كان مصيبا في ذلك ، إذ لم يعش النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعدها إلا واحدا وثمانين يوما كما روي» (٣).

ـ وفيه ما رواه البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال (٤) :

«كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه وقال : لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله؟

__________________

(١) راجع التفسير والمفسرون / للذهبي ١ / ١٠١ ـ ١٠٢.

(٢) راجع التفسير والمفسرون ١ / ٥٩ وما بعدها.

(٣) الموافقات للشاطبي ج ٣ / ٣٨٤ ، التفسير والمفسرون ١ / ٦١ ، ٦٢.

(٤) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٨ / ٥١٩ ، / باب التفسير ، وكذا أسد الغابة.

٣٣

فقال عمر : إنه من أعلمكم ، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم ، فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم ، فقال ما تقولون في قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)؟

فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذ نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم ولم يقل شيئا ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس؟

فقلت : لا. فقال : ما تقول؟

قلت : هو أجل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، أعلمه الله ، قال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فذلك علامة أجلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول».

ـ وقال ابن عباس (١) :

«وكنت لا أدري «ما فاطر السموات والأرض» ، حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها. يقول : أنا ابتدأتها».

أشهر مفسّري القرآن من الصّحابة

عد السيوطي عددا من مفسري القرآن من الصحابة ذكر منهم :

الخلفاء الأربعة ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبا موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.

أما الخلفاء الثلاثة الأول فالرواية عنهم في التفسير قليلة جدا ، وذلك بسبب تقدم وفاتهم ، ولا نشغالهم بمهامّ الخلافة (٢).

١ ـ علي بن أبي طالب :

وأما علي ـ كرم الله وجهه ـ فهو أكثرهم تفسيرا للقرآن ، وذلك لأنه لم يشغل بالخلافة ، وإنما كان متفرغا للعلم حتى نهاية عصر عثمان ...

وكثرة مرافقته للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وسكناه معه ، وزواجه من ابنته فاطمة إلى جانب ما حباه الله من الفطرة السليمة ... كل ذلك أورثه العلم الغزير. حتى قالت عائشة رضي الله عنها(٣) :

«أما إنه لأعلم الناس بالسنة» في زمن كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ متوافرين.

وروى معمر عن وهب بن عبد الله عن أبي الطفيل قال :

«شهدت عليا يخطب وهو يقول : سلوني ، فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم

__________________

(١) الإتقان ٢ / ١١٣.

(٢) الإسرائيليات والموضوعات في التفسير ٨٤ ، والتفسير والمفسرون للذهبي ١ / ٦٤ ، ٦٥.

(٣) الاستيعاب ٣ / ١١٠٤ ، أسد الغابة ٤ / ٢٩.

٣٤

به ، وسلوني عن كتاب الله ، فو الله ما من آية إلّا أنا أعلم : أبليل نزلت أم بنهار ، أم في سهل أم في جبل».

وقيل لعطاء : أكان في أصحاب محمد أعلم من علي؟

قال : لا ، والله لا أعلمه.

وقال ابن مسعود : «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن ، وإن علي بن أبي طالب عنده من الظاهر والباطن» (١).

نموذج من تفسير علي ـ رضي الله عنه ـ للقرآن :

قال في تفسير قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) : إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب ، فكلما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض ، حتى يبيض القلب كله ، وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب ، فكلما ازداد النفاق ازداد بذلك السواد ، حتى يسود القلب كله ، وأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود» (٢).

٢ ـ عبد الله بن مسعود :

هو : عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن سمح ، وقيل «شمخ» ... ينتهي نسبه إلى مضر. يكنى بأبي عبد الرحمن ، وأمه : أم عبد بنت عبد ود من هذيل ، وكان يقال له : ابن أم عبد.

أسلم قديما قبل عمر بن الخطاب ، وكان سبب إسلامه : حين مر به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وهو يرعى غنما ، فسألاه لبنا فقال : إني مؤتمن ، قال فأخذ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عناقا لم ينز عليها الفحل ، فاعتقلها ، ثم حلب وشرب وسقى أبا بكر ، ثم قال للضرع : أقلص ، فقلص ، فقلت : علمني من هذا الدعاء ، فقال : إنك غلام معلم ... الحديث(٣).

كان عبد الله من أحفظ الصحابة لكتاب الله وأقرئهم له ، وكان ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يطلب منه أن يقرأه عليه ، فقال له يوما : اقرأ عليّ سورة النساء. قال ابن مسعود : أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، يقول : فقرأت عليه حتى بلغت : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فاضت عيناه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٤).

وكان ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول :

«من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» (٥) وكان ابن

__________________

(١) راجع الاتقان ٢ / ٣١٩.

(٢) تفسير البغوي ـ ط المنار ٤ / ٢٧٣.

(٣) البداية والنهاية ٧ / ١٦٩ ، أسد الغابة ٣ / ٢٥٦ ـ ٢٦٠.

(٤) البداية والنهاية ٧ / ١٦٩.

(٥) مسند الإمام أحمد ١ / ٧.

٣٥

مسعود حريصا على فهم القرآن الكريم ، يروي الطبري وغيره عن ابن مسعود أنه قال :

«كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن» وعن مسروق قال (١) : قال عبد الله بن مسعود :

«والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت ، وأين نزلت ، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه».

وطرق الرواية عن ابن مسعود متعددة ، وأصح هذه الطرق ما جاء من (٢) :

١ ـ طريق الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود.

٢ ـ طريق مجاهد ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود.

٣ ـ طريق الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود .. وهذه الطرق الثلاثة أخرج منها البخاري في صحيحه.

وهناك طرق أخرى ك :

ـ طريق السدي الكبير عن مرة الهمذاني عن ابن مسعود. أخرج منها الحاكم في مستدركه وابن جرير في تفسيره ـ كثيرا.

ـ طريق أبي روق عن الضحاك عن ابن مسعود. وهي طريق غير مرضية ، أخرج منها ابن جرير في تفسيره أيضا ، وهي منقطعة ، لأن الضحاك لم يلق ابن مسعود.

وكان لابن مسعود تلاميذ كثير في الكوفة ، وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ لما ولى عمار ابن ياسر على الكوفة سير معه عبد الله بن مسعود معلما ووزيرا ، فجلس الكوفيون إليه وتعلموا منه.

ويقول العلماء :

إن ابن مسعود هو الذي وضع الأساس لطريقة الاستدلال ، وقد أثرت هذه الطريقة في مدرسة التفسير ، فكثر التفسير بالرأي والاجتهاد (٣). وسوف يأتي ذكر تلاميذه عند حديثنا عن تفسير التابعين.

٣ ـ أبي بن كعب :

هو : أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار ، سيد القراء (٤). كنيته : أبو المنذر أو أبو الطفيل.

شهد بيعة العقبة مع السبعين من الأنصار ، وشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

__________________

(١) صحيح البخاري ـ كتاب الفضائل / باب مناقب عبد الله بن مسعود.

(٢) التفسير والمفسرون للذهبي ١ / ٨٧ ، ٨٨.

(٣) المصدر السابق ١ / ١٢٠.

(٤) تهذيب التهذيب ١ / ١٨٧ ، غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٣١ ، أسد الغابة ١ / ٤٩ ـ ٥١.

٣٦

وهو أحد المشهورين بحفظ القرآن من الصحابة ، وبإقرائه. قال فيه عمر بن الخطاب : «أبيّ أقرؤنا» (١).

وهو أحد الذين تتلمذ عليهم «ابن عباس». يقول ابن عباس (٢) :

«ما حدثني أحد قط حديثا فاستفهمته ، فلقد كنت آتي باب أبي بن كعب وهو نائم فأقيل على بابه ، ولو علم بمكاني لأحب أن يوقظني لمكاني من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولكني أكره أن أمله».

كان أبي يكتب في مصحفه أشياء ليست من القرآن الكريم مما يعد شرحا ، أو تفسيرا ، أو سببا لنزول ، أو مما نسخ ، وكان يقول : لا أدع شيئا سمعته من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٣) فمن ذلك مثلا : دعاء القنوت (٤).

وكان من أعلم الصحابة بكتاب الله وذلك لعدة عوامل :

* أنه كان من كتاب الوحي للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

* أنه كان حبرا من أحبار اليهود العارفين بأسرار الكتب القديمة وما ورد فيها.

وقد تعددت طرق الرواية عنه وأشهر هذه الطرق :

١ ـ طريق أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي وهي طريق صحيحة ، أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرا ، وأخرج الحاكم منها في مستدركه ، والإمام أحمد في مسنده.

٢ ـ طريق وكيع عن سفيان ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، وهذه يخرج منها الإمام أحمد في مسنده ، وهي على شرط الحسن (٥).

وتلاميذ أبيّ كثير منهم : أبو العالية ، زيد بن أسلم ، محمد بن كعب القرظي وغيرهم.

ويعد أبي بن كعب أستاذ مدرسة التفسير في المدينة.

٤ ـ عبد الله بن عباس (٦) :

هو : عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم ... يلتقي مع الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الجد الأول (عبد المطلب) ، فهو ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) رواه البخاري ، وانظر طبقات القراء للذهبي ٦ / ٦٢٩. وكذا شهد له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) طبقات ابن سعد ٢ / ٣٧١.

(٣) تاريخ الإسلام للذهبي ٢ / ٢٨.

(٤) راجع الاتقان ١ / ٦٦.

(٥) راجع التفسير والمفسرون ١ / ٩٢ ، ٩٣.

(٦) بعض الكتب التي تترجم للمفسرين من الصحابة تقدم ابن عباس على سائر الصحابة لتفوقه في هذا العلم ، وبعضها ترجئه بعد الثلاثة السابقين لتقدمهم في السن عليه وحداثته بينهم.

٣٧

ولد إبان المقاطعة الاقتصادية التي فرضتها قريش على بني المطلب ، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات.

لازم ابن عباس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، لكن الرسول توفي ولابن عباس من العمر ثلاث عشرة سنة ، وقيل خمس عشرة سنة.

وقد حظي ابن عباس بدعوة رسول الله له حين قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «اللهم علمه الكتاب والحكمة».

وفي رواية : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل».

واستجيبت دعوت الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، فكان عبد الله بن عباس «ترجمان القرآن» يقول ابن مسعود :

«نعم ترجمان القرآن ابن عباس» وذلك لبراعته في التفسير ، كما لقب بالحبر ، لغزارة علمه. وبالبحر كذلك.

وإذا كان ابن عباس قد فاته طول الصحبة للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد استعاض عن ذلك بملازمة كبار الصحابة ، يسألهم ، ويتعرف أسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ ، وغير ذلك.

يقول ابن عباس (١) :

«لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اللتين قال الله فيهما : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) ولم أزل أتلطف له حتى عرفت أنهما حفصة وعائشة».

ويقول :

«وجدت عامة حديث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند الأنصار ، فإني كنت لآتي لرجل فأجده نائما ، لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ ، فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ ، وأسأله عما أريد ثم أنصرف».

لقد تتلمذ ابن عباس على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أولا ، فكان الرسول يعلمه ويربيه قال له يوما :

«يا غلام. إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضرّوك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف».

وفي خلافة عمر كان لابن عباس تقدير خاص عنده ، فكان يدنيه من مجلسه رغم حداثة سنه ـ كما ذكرنا.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن / للقرطبي ١ / ٢٢.

٣٨

وقد أفاد ابن عباس من هؤلاء الذين يعدون بمثابة شيوخه :

عمر بن الخطاب ، أبي بن كعب ، علي بن أبي طالب ، زيد بن ثابت. روى عبد الرزاق عن معمر قال (١) :

«عامة علم ابن عباس من ثلاثة : عمر وعلي وأبي بن كعب».

وذكر ابن الأثير الجزري في ترجمة ابن عباس أنه (٢) «حفظ المحكم في زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم عرض القرآن على أبي بن كعب وزيد بن ثابت. وقيل إنّه قرأ على علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه».

لقد أوتي ابن عباس علما غزيرا جعله أبرز المفسرين وأتمهم اضطلاعا بالتفسير حتى إنه «لم يبق عند منتصف القرن الأول من الهجرة من بين الصحابة وغيرهم إلا مذعن لابن عباس ، مسلم له مقدرته الموفقة ، وموهبته العجيبة ، وعلمه الواسع في تفسير القرآن» (٣).

لقد امتلك ابن عباس أدوات المفسر فكان عالما بأسرار العربية يحفظ الكثير من الشعر القديم ويحث الناس على النظر فيه قائلا (٤) :

«إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر فإن الشعر عربي».

وهو القائل (٥) :

«الشعر ديوان العرب ، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزل الله بلغة العرب ، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه».

وقد ذكر السيوطي بسنده حوارا دار بين نافع بن الأزرق وابن عباس فقال (٦) :

بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة ، قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر :

قم بنا إلى هذا الذي يجترىء على تفسير القرآن بما لا علم له به ، فقاما إليه ، فقالا : إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا ، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب ، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين ، فقال ابن عباس : سلاني عما بدا لكما ، فقال نافع :

أخبرني عن قول الله تعالى (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ).

قال : العزون : حلق الرفاق.

قال : وهل تعرف العرب ذلك؟

__________________

(١) تذكرة الحفاظ للذهبي ١ / ٤١.

(٢) طبقات القراء ٤٢٥.

(٣) التفسير ورجاله / ابن عاشور ص ١٦.

(٤) التفسير ورجاله / ابن عاشور ص ١٧.

(٥) الإتقان ١ / ١١٩ ، غاية النهاية في طبقات القراء ٤٢٦.

(٦) الإتقان ١ / ١٢٠.

٣٩

قال : نعم. أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول : [الوافر]

فجاءوا يهرعون إليه حتّى

يكونوا حول منبره عزينا

قال : أخبرني عن قوله : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ).

قال : الوسيلة : الحاجة.

قال : وهل تعرف العرب ذلك؟

قال : نعم. أما سمعت عنترة وهو يقول : [الكامل]

إنّ الرّجال لهم إليك وسيلة

إن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي

إلى آخر المسائل وأجوبتها (١).

وهي إن دلت فإنما تدل على سعة علمه بلغة العرب ، وقوة ذاكرته ، مما جعله إمام التفسير في عهد الصحابة ، ومرجع المفسرين في الأعصر التالية لعصره ، وهو إمام مدرسة التفسير في مكة ، وأول من ابتدع الطريقة اللغوية في تفسير القرآن.

طرق الرواية عن ابن عباس :

تعددت طرق الرواية عن ابن عباس ، واختلفت تلك الطرق .. وأشهر هذه الطرق وأصحها(٢) :

١ ـ طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، وتعد هذه الطريق من السلاسل الذهبية ، وقد أخرج منها ابن جرير الطبري ، وعبد الرزاق في تفسيرهما.

٢ ـ طريق سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ـ وعن عكرمة أحيانا ـ عن ابن عباس ، وقد أخرج منها عبد الرزاق في تفسيره.

٣ ـ طريق معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس .. وقالوا :

إن هذه أجود الطرق عنه ، وفيها قال الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ «إن بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة ، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا».

وقال الحافظ ابن حجر :

«وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث ، رواها عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وهي عند البخاري عن أبي صالح ، وقد اعتمد عليها في صحيحه فيما يعلقه عن ابن عباس».

٤ ـ طريق عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس.

__________________

(١) راجعها في الإتقان ١ / ١٢٠ وما بعدها.

(٢) راجع : الإتقان ٢ / ١٨٨ ، التفسير والمفسرون ١ / ٧٧ ، ٨٨ ، حبر الأمة عبد الله بن عباس ص ١٨٢.

٤٠