اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة

إضاءة على عصر ابن عادل

مدخل :

بادىء ذي بدء أقول : من رام الاطلاع على ملامح تكوين شخصية رجل ما ـ وخاصة أهل العلم ـ فلا بد أن يلم بطبيعة بيئته وحالة عصره ؛ إذ إن للبيئة تأثيرا في أفرادها.

وقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس وجعلهم أمما وقبائل ، ليتعارفوا وتكون بينهم علاقات شتى ، وهذه فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فلا مفر إذن من التأثير والتأثر بين أفراد المجتمع الواحد والمجتمعات المتعددة إذا وجدت الصلة والعلاقات المتبادلة.

وإذا أردنا أن نتحدث عن وصف عصر شيخنا ابن عادل الحنبلي ، فينبغي قبل الخوض في ذلك تحديد الزمن الذي عاش فيه ، وليس بين يدينا تاريخ مولد هذا الإمام إلا أننا نعلم أنه توفي بعد سنة ٨٨٠ ه‍ ، وهذا يعني ـ على أية حال ـ أن إمامنا قد ولد وعاش ومات في العصر المماليكي ، وبالتحديد في فترة حكم المماليك الشراكسة أو ما يعرفون ب «المماليك البرجية».

وقبل الدخول في وصف عصر ابن عادل نذكر مقدمة في بيان «أصل المماليك البرجية وتكوينهم» :

وقد نشأ هؤلاء المماليك في عهد السلطان المنصور قلاوون ، فإنه أعلن أنه كون فرقة المماليك البرجية لتكون حصنا مانعا له ولأولاده ، ولكي يضمن بهم بقاء السلطة في يده ، ويد أبنائه من بعده ، فاجتلب عددا كبيرا منهم ، وأسكنهم في أبراج القلعة ، فسموا «البرجية» تمييزا لهم عن المماليك «البحرية» الذين أقاموا في جزيرة الروضة.

وأما تسميتهم بالشراكسة أو الجراكسة فنسبة إلى بلاد الشركس ، وهي بعض بلاد الكرج ، على الساحل الشرقي للبحر الأسود ، والكرج بين بحر قزوين والبحر الأسود.

والمماليك البرجية يختلفون في الجنس عن المماليك البحرية ، حيث إنهم من الشراكسة ، وأما الآخرون فكان معظهم من الخوارزمية والأتراك (١).

وسنتكلم في الصفحات التالية عن وصف عصر المماليك البرجية من حيث :

__________________

(١) ينظر : د. أحمد شلبي : «موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية» ٥ / ٢٠٠ ، ود. سعيد عبد الفتاح عاشور : العصر المماليكي ص ١٤٠ ، ١٤١.

٣

أولا : الحالة السياسية : بمختلف أحداثها واضطراباتها.

ثانيا : الحالة الاجتماعية : بشتى نواحيها.

ثالثا : الحالة الاقتصادية : واضطراباتها.

رابعا : الحالة الثقافية : وتعدد مظاهرها.

أولا : الحالة السياسية في عصر المماليك البرجية

توفي المنصور قلاوون (١) ليخلفه ابنه الأشرف خليل ، فأتم هذا بناء القوة المملوكية التي أقام دعائمها ، وأسس أساسها المنصور ، حتى إنه اشترى في حكمه القصير ما يقرب من ألفي مملوك جركسي (٢).

ومن هنا أصبح المماليك البرجية على درجة عالية من وفرة العدد وحسن التدريب وشدة التماسك ، مما جعلهم ينظرون إلى كرسي السلطة.

ولقد كان من المتعذر على السلاطين المماليك أن يحتفظوا بالمماليك البرجية بعيدين عن الأحداث ، لذا فقد سمح لهم السلطان خليل بن قلاوون (٣) ـ ولأول مرة ـ بمغادرة أبراجهم وطباقهم العالية ، والنزول إلى القاهرة ومصر ، ولكن بشرط أن يعودوا قبل الليل ليبيتوا بالقلعة.

ولقد ترتب على ذلك انغماس المماليك البرجية في الحياة العامة ومشاكلها. ومن ثم فقد أثاروا على أنفسهم حقد بقية الطوائف من المماليك الأتراك ، وذلك بسبب ما أصبح فيه المماليك البرجية من نعمة ورغد ، وما حظوا به عند المنصور قلاوون.

وقد جاء نتيجة ذلك دخول المماليك البرجية في حلبة الصراع الدائر في ذلك العصر.

وهكذا فقد استأسد الحمل ، واستنسر البغاث ، فرأينا المماليك البرجية ـ الذين جيء بهم في مبدأ الأمر لحماية وتوطيد حكم المنصور قلاوون وأبنائه ـ يقومون بعدد كبير من الثورات حتى ينتهي بهم الأمر إلى التربع على عرش السلطة ، وأنا أورد هذه الثورات مرتبة حسب قيامهم بها :

١ ـ ثورتهم بالقلعة لمقتل أستاذهم وابن أستاذهم الأشرف خليل ، ولم تهدأ ثورتهم إلا بعد أن أعلن الناصر محمد بن قلاوون سلطانا ، وذلك في سنة ٦٩٣ ه‍ (٤).

__________________

(١) انظر ترجمته في : ابن دقماق : الجوهر الثمين ٢ / ٩٢ ، والمقريزي : الخطط ٢ / ٢٣٨ ، والسلوك ١ / ٦٦٣. وعبد الباسط الحنفي : نزهة الأساطين ص ٧٩.

(٢) ينظر : د. سعيد عاشور : العصر المماليكي في مصر والشام ص ١٤٣.

(٣) انظر ترجمته في : ابن الفرات : التاريخ ٨ / ٩٨ ، وابن إياس : بدائع الزهور ١ / ٣٦٥ ، وابن دقماق : الجوهر الثمين ٢ / ١٠٥ ، والمقريزي : الخطط ٢ / ٢٣٨ ، وابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ٨ / ٣.

(٤) ينظر : ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ٨ / ١٩ ـ ٢٠ ، والذهبي : العبر ٥ / ٣٨٠ ، وابن إياس : بدائع الزهور ١ / ٣٧٨ ، وابن الفرات في التاريخ ٨ / ١٧٢ ، وعبد الباسط الحنفي : نزهة الأساطين ص ٨٥.

٤

٢ ـ ثورتهم بقيادة سنجر الشجاعي ضد كتبغا ، وهزيمتهم له في بادىء الأمر ، ثم انقلابهم على سنجر لما علموا أنه لا يعمل لابن أميرهم السلطان الناصر ، بل يدبر لنفسه.

٣ ـ ثوراتهم المتكررة ضد كتبغا بسبب تشريده لهم في نواح متفرقة من القاهرة.

٤ ـ ولما خلع السلطان الناصر ، وحلّ كتبغا مكانه ، ثم لاجين من بعده ، قاومهم المماليك البرجية ، حتى أعادوا الناصر محمد بن قلاوون.

ومن ثم فقد حظي المماليك البرجية بعناية الناصر قلاوون ، حتى رأيناه يعين في سلطنته الثانية ـ هذه ـ أحد أمراء المماليك البرجية ، وهو الأمير عز الدين أيبك المنصوري ـ في الوزارة(١).

وفي حوادث سنة ٦٩٨ ه‍ قال المقريزي : «وقويت شوكة البرجية بدار مصر ، وصارت لهم الحمايات الكبيرة ، وتردد الناس إليهم في الأشغال ، وقام بأمرهم الأمير بيبرس الجاشنكير (٢) وأمر منهم عدة .. وصار في قبالته الأمير سيف الدين سلار ومعه الصالحية والمنصورية ، إلا أن البرجية أكثر وأقوى ، ووقع الحسد بين الطائفتين ، وصار بيبرس إذا أمر أحدا من البرجية وقفت أصحاب سلار ، وطلبت منه أن يؤمر منهم واحدا ..» (٣).

إلا أن المماليك البرجية ساءت أحوالهم في السلطنة الثالثة للناصر قلاوون ، بعد أن أحس بخطرهم ، وكان قد بلغ من العمر ما مكنه من التصدي لكبار أمراء الترك والجراكسة معا ، فقبض على بيبرس الجاشنكير وقتله. وكان هذا الأخير قد خلع الناصر وتسلطن مكانه ، فكرهه الناس ، وثاروا عليه ، حتى أقاموا الناصر قلاوون مكانه.

ولكن ما زالت الأيام تخفض في سلطة المماليك البرجية وترفع فيها ، حتى برز من بينهم أحد الأمراء ، وهو «برقوق» بن أنص العثماني الجركسي ، الذي استطاع بعلو همته ، وطموحه البالغ أن يصل إلى منصب أتابك العسكر ، وذلك سنة ٧٨٠ ه‍ حيث كان السلطان علاء الدين علي (٤) حاكما وقتئذ ، وسنه لم تتجاوز ست سنوات.

وقد احتال برقوق على السلطان علاء الدين ليخلعه بسبب صغر سنه ، فاستدعى الخليفة والقضاة ، وكبار الأمراء بقلعة الجبل (٥) ، حتى تم خلع علاء الدين ، وإقامة أمير

__________________

(١) ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ٨ / ١٤٠ ، نقلا عن العصر المماليكي ص ١٤٧.

(٢) انظر ترجمته وأخباره في : ابن دقماق : الجوهر الثمين ٢ / ١٣٩ ، والمقريزي : الخطط ٢ / ٤١٧ ، وابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ٨ / ٢٧٥ ، وابن إياس : بدائع الزهور ٢ / ٨٠. وعبد الباسط الحنفي : نزهة الأساطين ص ٩٣ ، وما بعدها.

(٣) المقريزي : السلوك ١ / ٨٧٥ ـ ٨٧٦.

(٤) ينظر أخباره في : المقريزي : الخطط ٢ / ٢٤٠ ، والسلوك ٣ / ٢٨٣ ، وابن حجر : إنباء الغمر ١ / ٢٣٢ ، وابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ١١ / ١٨٨.

(٥) بناها السلطان صلاح الدين الأيوبي ، وانظر ذلك عند : المقريزي : الخطط ٢ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٥

حاجي حفيد الناصر محمد ، وسنه وقتئذ إحدى عشرة سنة ، وذلك سنة ٧٨٣ ه‍ (١).

وسرعان ما يكمل الأمير برقوق حيلته ، لينال السلطة ، بعد تدبير وتحايل ، ولما رأى أن الوقت حان يقفز على كرسي السلطنة بهذه الطريقة التي لا تخلو من طرافة : «.. وأخيرا صعد اثنان من أعوان برقوق ، وأخذا السلطان الصالح أمير حاج من قاعة الملك ، وحملاه إلى أهله بالدور السلطانية بعد أن جرداه من شارات السلطنة ، وفي الحال استحضر الخليفة العباسي المتوكل على الله ، وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وغيرهما من العلماء والأمراء والقضاة ، فبايعوا برقوق الذي تلقب بالسلطان الظاهر» (٢).

وكان ذلك في يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة ، وبذلك قامت دولة المماليك الجراكسة (٣).

وسنحاول في السطور التالية التعرض بالحديث عن سلاطين الفترة التي عاصرها شيخنا ابن عادل الحنبلي ، وهي تقريبا من بداية القرن التاسع الهجري ، وحتى سنة ٨٨٠ ه‍ ، ونحن ما جزمنا بهذه الفترة جزما أكيدا ، لأنا لا ندري سنة ميلاد الإمام بالتحديد.

وقد احتوت هذه الفترة على سبعة عشر سلطانا من سلاطين المماليك البرجية ؛ وأشهرهم :

١ ـ الناصر فرج :

وهو فرج بن برقوق بن أنص ، زين الدين ، تسلطن كأبيه مرتين ، أولاها في سنة ٨٠١ ه‍ ، وخلع بعد سبع سنين ، ثم تولى سنة ٨٠٨ ه‍ ، ومات مقتولا في سنة ٨١٥ ه‍.

وأهم أعماله : صلحه مع تيمور لنك بعد فشله في صد هجماته عن بلاد الشام ، وقد عرف هذا السلطان ـ فرج ـ بالقسوة والوحشية حتى أنه من أجل توطيد دعائم سلطنته يقتل أخويه ، وقد كثرت الفتن في فترة حكمه ، وبخاصة في الشام ، فأعلن نائب الشام ونائب طرابلس الثورة عليه ، وزحفا إلى مصر ، فألحقا به الهزيمة ، وقبض عليه ليقتل شر قتلة(٤)

٢ ـ السلطان المؤيد شيخ المحمودي :

أقام الخليفة العباسي المستعين سلطانا سنة ٨١٥ ه‍ ، وهو نائب طرابلس الأمير شيخ،

__________________

(١) ينظر في ذلك : المقريزي : الخطط ٢ / ٢٤٠ ، والسلوك ٣ / ٤٣٩ ، وابن تغري بردي : النجوم الزاهرة : ١١ / ٢٠٦.

(٢) د. سعيد عاشور : العصر المماليكي في مصر والشام ص ١٥٨.

(٣) ينظر : ابن دقماق : الجوهر الثمين ٢ / ٢٦١ ، والمقريزي : الخطط ٢ / ٢٤١ ، والسلوك ٣ / ٤٧٧ ، وابن حجر : إنباء الغمر بأبناء العمر ٢ / ٦٦ ، وابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ١١ / ٢٢١ ، والسخاوي الضوء اللامع ٣ / ١١ ، وعبد الباسط الحنفي : نزهة الأساطين ص ١١٧.

(٤) ينظر : ابن حجر : إنباء الغمر ٢ / ٥٠٩ ـ ٥١١ ، وابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ١٣ / ١٢٧ والمقريزي : السلوك ٤ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤ ، وعبد الباسط الحنفي : نزهة الأساطين ص ١٢١.

٦

الذي احتل كرسي السلطنة ، وتلقب بلقب «المؤيد». وأهم أعماله : توطيد ملكه بمحاربة نائب الشام الأمير نوروز وقتله ، ثم إخضاع الإمارات التركمانية لتبعيته.

وقد حكم مدة ثمان سنين (١) ، وقد خلفه ابنه أحمد الذي تسلطن ، وهو طفل رضيع في سنة ٨٢٤ ه‍ ، وكان تحت وصاية الأمير ططر ، الذي لم يلبث أن انتزع لنفسه السلطنة ، لكنه لم يبق فيها أكثر من ثلاثة أشهر وأيام (٢) ، حيث مات وخلفه ابنه محمد ططر تحت وصاية الأمير بر سباي الذي انتزع السلطنة من محمد بعد أربعة أشهر وأيام (٣).

٣ ـ الأشرف برسباي :

الدقماق ، الظاهري ، الجركسي ، الملك الأشرف ، سيف الدين ، أبو النصر ، تسلطن في سنة ٨٢٥ ه‍ ، وامتد حكمه إلى ما يزيد عن ستة عشر عاما ، وكان ضخما شهما ، عاقلا ، عارفا (٤) ، وقد اشتهرت فترة حكمه بالاستقرار وقلة الاضطرابات برغم المعاناة الاقتصادية.

وأعظم مناقبه : فتح قبرس ، وإدخالها في نطاق التبعية لسلطنة المماليك في مصر ، وخاصة أن هذه الجزيرة كانت مركزا للوثوب على الموانىء الإسلامية في شرق البحر المتوسط ، وتهديد تجارة المسلمين.

على أنه لا يمكن أن نتخذ الهدوء والاستقرار اللذين سادا عهد برسباي بأنهما دليل على سعادة الشعب ، إذ الواقع أن الناس قاسوا كثيرا في ذلك العهد بسبب كثرة الاحتكارات والضرائب ، الأمر الذي جعل برسباي يموت غير مأسوف عليه سنة ٨٤١ ه‍ (٥).

٤ ـ الظاهر جقمق :

العلائي ، الظاهري ـ نسبة إلى معتقه الظاهر برقوق ـ الجركسي ، الملك الظاهر سيف الدين ، أبو سعيد ، وقد تسلطن سنة ٨٤٢ ه‍ بعد عزله ليوسف بن برسباي الذي كان سنه أربعة عشر عاما ، وقد كان جقمق معتدلا في حكمه ، كما عرف بتدينه وورعه ، فحرم المعاصي وشرب الخمور (٦).

__________________

(١) ينظر : المقريزي : السلوك ٤ / ٥٠٠ ، وابن حجر : إنباء الغمر ٣ / ٢٣٧ ، وابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ١٤ / ١٠٩.

(٢) المقريزي : الخطط ٢ / ٢٤٣ ، والسلوك ٤ / ٥٨٨ ، وابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ١٤ / ٢٠٧ ، وابن إياس : بدائع الزهور ٢ / ٧٥.

(٣) ينظر : المقريزي : الخطط ٢ / ٢٤٤ ، والسلوك ٤ / ٦٠٦ ، وابن حجر العسقلاني : إنباء الغمر : ٣ / ٢٧٠ ، وعبد الباسط الحنفي : نزهة الأساطين ص ١٣٠.

(٤) عبد الباسط الحنفي : نزهة الأساطين ص ١٣٢.

(٥) د. سعيد عاشور : العصر المماليكي ص ١٧٧ ، وينظر : المقريزي : السلوك ٤ / ١٠٥١ ، وابن حجر : إنباء الغمر ٩ / ١٦ ، وابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ١٤ / ١٠٦.

(٦) د. سعيد عاشور : العصر المماليكي ص ١٧٧.

٧

وأهم أعماله : محاولاته المتكررة لغزو «رودس» والتي انتهت بالصلح مع الاسبتارية في رودس ، بعد أن تعهدوا بعدم العدوان على السفن والمتاجر الإسلامية.

وقد قضى جقمق على ثورتين قامتا في بداية حكمه : الأولى : قام بها الأمير قرقماس الشعباني الناصري ، والثانية : قام بها أنيال الحكمي نائب دمشق.

كما قضى على ثورة العبيد السود في «الجيزة» ، وفرقهم بالبيع من بلاد العثمانيين وأما السلطان جقمق فقد تنازل عند مرض موته عن السلطة لابنه عثمان الذي عزل بالسلطان رانيال. فكانت مدة حكم جقمق أربع عشرة سنة وشهور (١).

٥ ـ الأشرف أنيال :

العلائي ، الناصري ، الجركسي ، سيف الدين أبو النصر ، وقد تسلطن سنة ٨٥٧ ه‍ والذي تولى بعده ابنه أحمد سنة ٨٦٥ ه‍ ، ثم خلع بالظاهر خشقدم والذي تسلطن مدة ست سنين وشهور من سنة ٨٦٥ ه‍ إلى سنة ٨٧٢ ه‍.

ومع أن خشقدم كان محبا للخير وحسن السيرة إلا أنه كان يغض الطرف عن فساد مماليكه ، واعتدائهم على الناس (٢).

٦ ـ الأشرف قايتباي :

المحمودي ، الظاهري ، الجركسي ، الملك الأشرف ، سيف الدين ، أبو النصر ، وهو خيار طائفة السلاطين المماليك ، ومن أبرز سلاطينهم الجراكسة ، حكم مدة تسعة وعشرين عاما ، وقد تسلطن سنة ٨٧٢ ه‍.

وقد وصفه ابن إياس بأنه كان : «وافر العقل سديد الرأي ، عارفا بأحوال المملكة ، يضع الأشياء في محلها ، موصوفا بالشجاعة ، عارفا بأنواع الفروسية ..» (٣).

«وهو الذي أنشأ برج المنار الحافل الهائل بميناء الإسكندرية ، وأنشأ القبة المعظمة والمقصورة الحديد المسبك الحافلة على قبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ورخم مسجده ـ عليه‌السلام ـ وجدد عمارة الجامع الأموي ب «دمشق» بعد حريقه ... ، وجدد إيوان القلعة ، وأنشأ آثارا عظاما ، ما بين مدارس وجوامع ومساجد ..» (٤).

وقد حدث في عصره فتنة هائلة هي فتنة شاه سوار ذي الغادر (٥) ، والتي انتهت بقتل سوار وإخوته ، وشنقهم على باب زويلة.

__________________

(١) ينظر : المقريزي : السلوك ٤ / ١٨٦ ، وابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ١٥ / ٤٥٤ ، وابن إياس : بدائع الزهور : ٢ / ٢٩٩ ، والسخاوي : الضوء اللامع ٣ / ٧٤.

(٢) ينظر : المقريزي : خطط الشام ٢ / ١٩٠ ، وابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ١٦ / ٣٠٩ ، وابن إياس : بدائع الزهور ٢ / ٤٥٥.

(٣) بدائع الزهور ٣ / ٣٢٥.

(٤) ينظر : عبد الباسط الحنفي : نزهة الأساطين ص ١٤٣ وما بعدها.

(٥) ينظر في ترجمته : الضوء اللامع للسخاوي : ٣ / ٢٧٤ وما بعدها.

٨

وقد كثر في عهده الحروب بين المماليك والعثمانيين ، والتي انتهت بعقد الصلح بين الفريقين.

وأخيرا مرض قايتباي بعد فترة حكم طويلة ، ودخل سياق الوفاة ، فتنازل لابنه الناصر محمد عن السلطنة ، ثم توفي الأشرف قايتباي في اليوم التالي من تنازله ، وذلك سنة ٩٠١ ه‍ (١).

ومعنى هذا أن صاحبنا الإمام ابن عادل قد توفي في عهد السلطان قايتباي الذي قدمنا نبذة عن أعماله وأعمال سابقيه ممن نظن احتمال معاصرتهم لشيخنا المترجم له.

نبذة حول الموقف في بلاد الشام خلال عصر المماليك الجراكسة :

لم تكن الشام في عصر المماليك مجرد إقليم من الأقاليم التابعة للدولة ، بل كانت أهم من ذلك ، فقد كانت بلاد الشام الجناح الأيمن الذي بدونه يتعذر على دولة المماليك الاحتفاظ بكيانها وتوازنها ، والثبات في وجه الأخطار الآسيوية الضخمة ، التي هددت تلك الدولة جنبا من جانب الأيوبيين والتتار والصليبيين ، وأحيانا من جانب الأرمن والتركمان ثم العثمانيين (٢).

وقد حاول سلاطين المماليك السيطرة على هذا الإقليم الهام ، وربطه بوحدة مع إقليمهم الأم مصر ـ تضمن لهم مراقبة ما يحدث فيه من منازعات تؤثر في كيانهم.

ولقد استمرت بلاد الشام ـ على تتابع السلاطين الجراكسة ـ مسرحا لكثير من الثورات والحركات التي قام بها في كثير من الأحيان المماليك أنفسهم متمثلين في بعض الأمراء الطامعين في الانفصال بالسيطرة على هذا الإقليم والانفراد به.

ومهما يكن من أمر ، فإن قيام بعض الحركات في الشام لمساندة سلطان أو عزل آخر لا ينبغي أن تجعلنا ننسى إطلاقا المساعدات القيمة التي أمدت بها نيابات الشام مصر في أوقات الحرج أثناء حروبها الطويلة ضد الصليبيين والتتار (٣).

الجراكسة وتيمور لنك :

لقد مني العالم الإسلامي بكثير من الكوارث والمحن وتداعي الأمم عليه ، ومن ذلك ما حدث من زحف التتار الغاشم على بلاده وتحطيمه لكل ما يقابله ؛ يتمثل ذلك في الزلزال الذي هز العالم الإسلامي بسقوط الخلافة الإسلامية في بغداد سنة ٦٥٦ ه‍.

ولقد كان تيمور لنك من توابع ذلك الزلزال ، وأثرا من آثاره ، فقد كان تيمور ينتمي إلى بيت من أشراف التتار ، بنى له جيشا عظيما ، واتخذ سمرقند مسقط رأسه قاعدة لانتشار أعماله التخريبية ، ولم يلبث أن استولى على بلاد ما وراء النهر حتى زحف إلى بغداد في

__________________

(١) ينظر : ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ١٦ / ٣٩٥ ، وابن الغزي : الكواكب السائرة ١ / ٢٩٨ ، وابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب ٨ / ٧ ، وابن إياس : بدائع الزهور ٣ / ٣٣٤.

(٢) ينظر : د. سعيد عاشور : العصر المماليكي ص ٢٢٧.

(٣) السابق ص ٢٣٢.

٩

أثناء سلطنة الظاهر برقوق الثانية ، فأسقطها سنة ٧٩٣ ه‍ وخربها ، وقتل أهلها.

ولم يقف الظاهر برقوق مكتوف الأيدي ، فقد أعد العدة ، ولما جاءه رسل تيمور لنك بالتهديد والوعيد قتلهم ، وعقد اتفاقيات بينه وبين التركمان وبني عثمان لصد الزحف التيموري ، وعين برقوق نائبه أحمد بن أويس على بغداد في أثناء غياب تيمور وذهابه إلى الهند ، ولكن برقوقا يموت بعد فترة ، ويزحف التتار مرة أخرى ، فيهرب ابن أويس ، ويتصدى السلطان فرج بن برقوق لتيمور الذي يوقع به وبجيشه المماليكي ويهزمه ، ويستولي تبعا لذلك على أطراف الشام.

ثم يدخل تيمور دمشق فينتهبها ، ويجمع ما شاء من ثرواتها ثم يخرج منها بعد ثلاثة أشهر ، ولكن لم يلبث أن يموت تيمور لنك ، وتتعرض دولته للزوال بسبب النزاع بين ورثته ، مما يؤدي إلى أن تخف حدة الخطر التتري على دولة المماليك بمصر والشام (١).

الخلافة العباسية ودولة المماليك :

عاشت الخلافة العباسية ردحا من الزمن تتمتع بالقوة والسيطرة على بقاع العالم الإسلامي ، إلا أنها ـ كأي دولة ـ لا بد لها من شيخوخة وفترة ضعف تأتي عليها ، وذلك بسبب عقارب الفتن ، وانقسام الدويلات الصغيرة عنها ، مما أدى إلى تحطمها ـ عمليا ـ على صخرة التتار الجلمودية في حادث بغداد الشهير سنة ٦٥٦ ه‍.

ولم تقم للخلافة قائمة بعد ذلك إلا في زمن الظاهر بيبرس الذي أحيا الخلافة مرة ثانية بعد موات ، وذلك سنة ٦٥٩ ه‍ حيث أقام الأمير العباس أحمد ابن الظاهر ابن الناصر العباسي خليفة للمسلمين ، وجعل مقره القطر المصري ، ولقب الخليفة الجديد ب «المستنصر بالله».

ولكن الأمر في حقيقته لم يتجاوز الصورية فقط ، فلم يكن الخليفة العباسي إلا وسيلة لذر الرماد في عيون الطامعين ، ورد كيد الطامحين في ملك مصر ، والذين كانوا يطعنون في شرعية حكم المماليك.

وهكذا فقد ظل الخليفة العباسي منذ إحياء الخلافة العباسية بمصر سنة ٦٥٩ ه‍ وخلافته ليس فيها أمر ولا نهي وحسبه أن يقال له أمير المؤمنين (٢).

وبالجملة فقد «كان عمر دولة المماليك الجراكسة مائة وأربعة وثلاثين عاما ، تعاقب فيها على دست السلطنة خمسة وعشرون سلطانا. ومن هؤلاء السلاطين تسعة حكموا مائة وثلاث سنوات ، في حين حكم الستة عشر سلطانا الباقون نحوا من تسع سنوات فقط ، أما هؤلاء السلاطين التسعة الذين يرتبط بهم تاريخ دولة المماليك الجراكسة فهم : برقوق ، وفرج ،

__________________

(١) ينظر : العصر المماليكي في مصر والشام ص ١٦٤ ـ ١٦٧.

(٢) ينظر : د. سعيد عبد الفتاح عاشور : المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص ١٥٥.

١٠

وشيخ ، وبرسباي ، وجقمق ، وأنيال ، وخشقدم ، وقايتباي ، وقانصوه الغوري ...» (١).

ولا شك في أن البلاد قاست كثيرا في عصر دولة المماليك الجراكسة من جراء المنازعات المستمرة بين طوائف المماليك وفرقهم ، وما كان ينجم عن تلك المنازعات من حوادث وقتال في الشوارع ، مما أوجد جوا من الرعب والفزع ، وعدم الاستقرار في البلاد ..» (٢).

ثانيا : الحالة الاجتماعية في عصر السلاطين الجراكسة

لقد عاش المماليك البرجية ـ كما يتضح من وصفهم ـ في أبراج القلعة ـ بادىء الأمر ـ مما جعلهم منعزلين عن الشعب ، ثم لما نزلوا واختلطوا بالناس بقيت عزلة اللغة والجنس والمنشأ والأصل ، مما جعلهم يشعرون في كثير من الحالات بالغربة وعدم الألفة بينهم وبين الأهالي.

وقد ترتب على ذلك طبقية الشعب ، وانقسامه إلى فئات متعددة ، بعضها يعيش في رغد ، وبعضها يعيش في ضيق وقلة عيش.

ويمكن تقسيم المجتمع في ذلك العصر إلى ثلاث طبقات رئيسية :

الأولى : السلاطين ومماليكهم :

وبالطبع فقد كان السلاطين مماليكا ، لذا نراهم قد اهتموا بمماليكهم ، وعنوا بهم عناية فائقة ، فنراهم يهتمون بفحص أبدانهم للتأكد من سلامتهم ، ويعلمونهم فنون القتال والفروسية ، حتى إذا انتهت المرحلة التعليمية ، يغادر المملوك طباقه ـ وهو المكان المخصص لمعيشته ـ إلى جامكية ، ويصرف له مصروف ، ثم يظل يتقلب من مرتبة إلى أخرى حتى يصلوا في بعض الأحيان إلى أمراء ، أو حتى يصبح الأمير «سلطانا مختصرا» على قول القلقشندي (٣).

وقد كانت طبقة المماليك عموما ، والسلاطين خاصة ، منعمة كل التنعيم ، فهم يعيشون في رغد من العيش ، ويرفلون في حياة من الترف.

الثانية : العلماء أو ما يسمون ب «المعممون» :

وقد اشتملت هذه الطبقة على أرباب الوظائف الديوانية والفقهاء والعلماء.

وقد أحس المماليك بضرورة تمييز هذه الطبقة والتقرب منها ، حيث إنها الحلقة الواصلة بين السلاطين وطوائف الشعب ، لذا فقد أقر المماليك بفضلهم ، حيث عن طريقهم عرف المماليك دينهم ، وفي بركتهم يعيشون.

الثالثة : عامة طوائف الشعب : تجار ـ حرفيون ـ عوام ـ فلاحون.

__________________

(١ و ٢) د سعيد عاشور : العصر المماليكي في مصر والشام ص ١٥٩.

(٣) صبح الأعشى ٤ / ٦٥.

١١

١ ـ التجار :

لقد تمتعت مصر بنشاط تجاري كبير بين الشرق والغرب في ذلك العصر ، وكان ذلك سببا في ثراء التجار وزيادة ثرواتهم ، وترتب على ذلك أن السلاطين المماليك تقربوا إلى هذه الطائفة ، خاصة عند الشدائد والمحن ، فهم المصدر الرئيسي الذي يمدهم بما يحتاجون من مال.

وعلى هذا فقد تمتعت هذه الطبقة بامتيازات واحترام سلاطين المماليك ، إلا أن كثرة الأموال في أيديهم جعلتهم مطمعا لأولئك السلاطين ، فأكثروا من مصادرتهم بين حين وآخر ، فضلا عن إثقالهم بالرسوم الباهظة ، لذلك لم يطمئن التجار في عصر المماليك على أموالهم وتجارتهم ، بل كانوا يدعون على أنفسهم أحيانا أن يغرقهم الله حتى يستريحوا مما هم فيه من الغرامات والخسارات وتحكم الظلمة فيهم (١).

٢ ـ الحرفيون :

وقد وجد من هذه الطائفة عدد كبير في المدن الكبرى ، وكانت تشمل العمال والصناع والباعة والسوقة والسقائين والمكاريين ، وقد عاشت هذه الطبقة في ضيق من العيش وضنك من الحياة ، بخلاف الطبقة السابقة.

٣ ـ العوام :

وهؤلاء هم السواد الأعظم من الشعب ، وكانوا كسابقتهم حيث لا يجدون ما يسدون به الرمق إلا القليل من المعيشة ، وهذه الطبقة ساء حالها حتى اضطرتها المجاعة وأوقات الشدة إلى احتراف السلب والنهب ، ومن ثم كثرت الفتن والاضطرابات.

٤ ـ الفلاحون :

وهذه الطبقة هي غالب الطبقة السابقة ، ولم يكن حالهم بأفضل من حال بقية طوائف الشعب ، فقد عانوا من الفقر والحرمان ، ولم ينالوا من المماليك سوى الازدراء والاحتقار ، وقد فرضت عليهم الضرائب والمغارم. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل زاد تعقيدا بثورات العربان على الفلاحين ، التي كانت تنهب محاصل الفلاحين ومواشيهم (٢).

وقد كان هناك طوائف أخر تعيش في المجتمع المماليكي ، كبقية المماليك من جنسيات مختلفة ، وكطبقة أهل الذمة والأقليات الأجنبية ، وهؤلاء كان لهم معيشتهم الخاصة ، حيث كانوا منعزلين عن المجتمع.

نبذة عن «المجتمع الشامي في عصر المماليك» :

لم يختلف أهل الشام في عصر المماليك عن أهل مصر ، من حيث كونهم مغلوبين

__________________

(١) د سعيد عاشور : العصر المماليكي في مصر والشام ص ٣٢٤.

(٢) د. سعيد عاشور : العصر المماليكي في مصر والشام ص ٣٢٥.

١٢

على أمرهم ، يخضعون لسلطة حاكمة جعلت من المجتمع عدة طبقات مختلفة ، تكون الطبقة الحاكمة على رأسها.

وأما أهل الشام الأصليون فقد انقسموا إلى حضر وبدو :

فالحضر أهل المدن والقرى الشامية ، وقد اشتغلوا بالتجارة والنشاط الاقتصادي.

والبدو يعيشون في عشائر تنتشر في بادية الشام ، وكان على رأس تلك العشائر «آل فضل» من ربيعة ، وهؤلاء قد عاشوا على جانبي الفرات بين العراق والشام.

وهذه العشائر كانت تختلف بالنسبة لولائها للسلطنة المماليكية ، فكان بعضهم يوالي التتار، والبعض يوالي المماليك ، وبعض ثالث : يتأرجح بين المنزلتين. على أن سلاطين المماليك كانت لهم جولات عديدة مع من ناوءهم من زعماء العشائر حتى أخضعوا من شذ منهم لسلطانهم ، أو شتتوا شمله إن أبى إلا المعاندة.

ولم تكن الحرب والتأديب القسري هو الوسيلة الوحيدة لإخضاع العشائر الشاذة ، بل إن سلاطين المماليك قد حاولوا إدخال عشائر البدو ببلاد الشام في النظام الإقطاعي فأضفوا على زعماء تلك العشائر ألقاب الإمارة ، وأقطعوهم الإقطاعات ، وفرضوا عليهم التزامات معينة ، وأهمها الولاء للدولة ، وحراسة الطرق والدروب الصحراوية وتقديم الرجال وقت الحرب ، ولكن عشائر البدو أنفت الخضوع لذلك النوع من التنظيمات الحكومية ... (١).

وبالإضافة إلى هذين العنصرين ـ الحضر والبدو ـ فقد وجدت طوائف أخرى مذهبية ، أو عصبية ، وأهم تلك الطوائف :

١ ـ الكسروانيون : وهم أهل جبال كسروان ، وكانوا من النصيرية والعلويين والمتاولة (٢).

٢ ـ التنوخيون : وهم عشائر كثيرة اعتنقت الدرزية ، وانتشروا في جهات متفرقة من لبنان.

٣ ـ بنو معن أو المعنيون : وكان ظهورهم مع قتال السلاجقة للصليبيين على الساحل السوري.

٤ ـ الشهابيون الدروز : وسكنوا وادي التيم.

٥ ـ المتاولة : وهم فرقة من غلاة الشيعة ، وسكنوا الجهات الشمالية من لبنان.

٦ ـ النصيرية أو العلويون : وقد عاشوا في شبه عزلة في القسم الشمالي من جبل لبنان.

٧ ـ الإسماعيلية أو الباطنية : وانتشروا في مناطق عديدة.

__________________

(١) القلقشندي : صبح الأعشى ٤ / ٢٠٨ ـ ٢١٠.

(٢) ينظر في ذلك : العصر المماليكي ص ٢١٥ وما بعدها.

١٣

وهذه الفرق الكثيرة لم تخل ساحتها من معارك مع المماليك كما أسلفنا ، إلا أن الغلبة في النهاية كانت لسلطان المماليك.

ثالثا : الحالة الاقتصادية في عصر السلاطين الجراكسة

إن مما لا شك فيه أن الحالة الاقتصادية لأي دولة إنما هي صورة وفرع عن الحالة السياسية لنفس الدولة ، ولما كانت سياسة الدولة المماليكية قائمة على كثرة الفتن والاضطرابات ، من عزل سلطان ونصب غيره ، وثورات داخلية ، وحروب خارجية. كل هذا أدى إلى سوء الأحوال الاقتصادية لذلك العصر.

ويزيد ما تقدم ما رؤي من احتكار السلع عند بعض السلاطين المماليك ، حتى قيل إن الأشرف برسباي احتكر تجارة السكر.

واشتملت الحالة الاقتصادية في هذا العصر على ثلاثة أقسام :

١ ـ الزراعة :

وكانت الدعامة الرئيسية للاقتصاد في عصر المماليك ، فهي الحرفة الأولى لغالبية الشعب ، والورد الذي عاش عليه أكثر الأهالي.

لذلك فقد اهتم المماليك بها ، فأنشأوا الجسور ، وشقّوا الترع ووفروا المياه لري الأراضي ، مما زاد المحاصيل الزراعية بمصر في تلك العصور (١).

وقد قسمت الأرض الزراعية إلى أقسام حسب جودتها ، وما يتبع ذلك من قيمة محاصيلها ، كما عني المماليك بمرافق الزراعة ، وأقاموا عدة قناطر ، إلا أنهم فرضوا الخراج كضريبة تؤدى للدولة على الأراضي الزراعية ، فخراج الوجه البحري كان نقدا ، وخراج الوجه القبلي كان عينا من المحاصيل المعروفة آنذاك.

وقد اعتنوا ـ بالإضافة إلى ما سبق ـ بالثروة الحيوانية ، فأكثروا من نتاج الأغنام ، وجلب الأنواع الممتازة منها لتربيتها ، مما أدى إلى ارتفاع مستوى الدخل لأهل الدولة ، وأما الفلاحون فكانوا يتساقطون بسبب ما يعانونه من فقر وذل (٢).

٢ ـ الصناعة :

وقد ازدهرت في عصر المماليك نظرا لكثرة الثروة ، وقد حرص المماليك على ازدهار بعض الصناعات كصناعة السفن والصناعات الحربية ، خاصة عندما هددهم أعداؤهم بغارات كثيرة على شاطىء البحر المتوسط.

وقد ارتقت كثير من الصناعات كصناعة المنسوجات ، والمعادن ، والبرونز والنحاس والذهب والفضة ، وكذلك صناعة الزجاج.

__________________

(١) د. سعيد عاشور : العصر المماليكي ص ٢٨٣.

(٢) السابق ص ٢٨٥.

١٤

وكذلك اشتهرت بعض الصناعات كصناعة السكر والخشب والمصنوعات الجلدية.

وأما الحرفيون «فقد خضعوا في عصر المماليك لنظام النقابات ، فكان أفراد كل حرفة يكونون نقابة خاصة بهم لها نظام ثابت يحدد عددهم ومعاملاتهم فيما بينهم وبين بعض من ناحية ، وفيما بينهم وبين الجمهور من ناحية ثانية ، وفيما بينهم وبين الحكومة من ناحية ثالثة ، ولكل نقابة من هذه النقابات رئيس أو شيخ يرأسهم ، يفض مشاكل أفراد النقابة ، ويرجعون إليه في كل ما يهمهم ...» (١).

٣ ـ التجارة :

وقد ازدهرت هي الأخرى ازدهارا واسعا في عصر المماليك ، وذلك على الصعيدين الداخلي والخارجي :

أما الداخلي فقد كانت التجارة الداخلية على درجة عالية من النشاط فاشتهرت القاهرة ـ مثلا ـ بأسواقها العامرة ، والتي اختلفت فيما بينها حسب السلعة المباعة ، فهذا سوق الشماعين ، والآخر سوق النحاسين ، والثالث : الفرائين لبيع الفراء ، وهكذا.

وقد انتشر نظام الحسبة في تلك الأسواق ، وذلك لمراقبة عملية البيع والشراء وجودة السلع من رداءتها ، أو التلاعب في الأسعار وغير ذلك.

وأما الخارجي : فقد كانت التجارة الخارجية على حظ عظيم من الازدهار ، وسبب ذلك وجود طريق التجارة الدولي وهو البحر الأحمر ـ عبر دولة المماليك ، مما جعل مصر تقوم بدور الوسيط التجاري بين دول الشرق والغرب.

وهذا أدى بدوره إلى اهتمام سلاطين المماليك بدروب التجارة ، وتأمينها ، وإنشاء المؤسسات اللازمة للتجار الأجانب كالفنادق والخانات والوكالات ... الخ.

ولكن جشع سلاطين المماليك الجراكسة دفعهم إلى احتكارهم بعض السلع والغلات الهامة مما أحنق عليهم تجار دول الغرب ، ودفعهم إلى اكتشاف طريق آخر للتجارة ، هو طريق رأس الرجاء الصالح ، مما أدى إلى بداية تدهور النشاط التجاري لدولة المماليك (٢).

وبعد فقد اضطربت الحالة الاقتصادية ، وتدهورت مظاهرها في أواخر عصر المماليك حتى أدى ذلك إلى انتشار المجاعات والأوبئة وكثرة حالات النهب والسلب.

يقول المقريزي (٣) : «وأدركت أنا والناس من أهل ثغر الإسكندرية وهم يجعلون في

__________________

(١) د. سعيد عاشور : العصر المماليكي في مصر والشام ص ٢٩٦.

(٢) ينظر : العصر المماليكي ص ٣٠٨.

(٣) هو مؤرخ الديار المصرية أحمد بن علي بن عبد القادر ، أبو العباس الحسيني العبيدي ، تقي الدين المقريزي أصله من بعلبك ، ونسبته إلى حارة المقارزة (من حارات بعلبك في أيامه) ولد بالقاهرة سنة ٧٦٦ ه‍ ودخل دمشق مع ولده ، وعرض عليه قضاؤها سنة ٨١٠ ه‍ ، فأبى ، وعاد إلى مصر ، من تآليفه كتاب «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» ، وهو «خطط المقريزي» وله كتب أخرى. توفي سنة ٨٤٥ ه‍.

١٥

مقابلة الخضرة والبقول ونحو ذلك كسر الخبز لشراء ما يراد ، ولم يزل ذلك إلى نحو السبعين والسبعمائة وأدركنا ريف مصر وأهله يشترون الكثير من الحوائج والمأكولات ببيض الدجاج وبنخال الدقيق ..» (١).

رابعا : الحالة الثقافية في عصر سلاطين الجراكسة

علمنا فيما تقدم أن المماليك كانوا أغرابا عن أهل البلاد التي حكموها ، وأنهم عاشوا في معزل عن طبقات الشعوب المختلفة ، حيث كانوا في أبراج عالية ، وبقية الشعب يعيش في ضحضاح من العيش.

كما علمنا أن المماليك ـ وهم في الأصل رقيق ـ وثبوا على الحكم ، فأخذوه بقوة شوكتهم ، وشدة بأسهم ، ولما كان يشترط في حاكم المسلمين أن يكون حرا غير رقيق ، فقد عمدوا إلى أمرين ، ليخففوا عن طريقهما الانتقاد الموجه إليهم ، وهذان الأمران هما :

١ ـ إحياء الخلافة العباسية ، ونقلها إلى مقر حكمهم في مصر ، وقد تم ذلك ـ كما أسلفنا ـ في سنة ٦٥٦ ه‍ على يد الظاهر بيبرس البندقداري السلطان المملوكي البحري.

٢ ـ والأمر الثاني هو : إحياء العلم والتقرب من أهله ، ومحاولة الظهور أمام الشعوب بالتدين ، وإقامة شعائر الدين ، وسنن الأولين.

وقد «عرف كثير من سلاطين دولة المماليك الجراكسة بحبهم للأدب ومجالس العلم ـ مثل برقوق وشيخ وجقمق وقايتباي والغوري ـ كما بالغ بعضهم في العناية بإنشاء المؤسسات الخيرية من مساجد ومدارس ومستشفيات وسبل وغيرها. وربما كان الهدف من المبالغة في إنشاء هذه المؤسسات والإنفاق عليها هو محاولة بعض السلاطين ـ مثل برقوق وقايتباي ـ التكفير عن ذنوبهم ، ومحو أثر ما قاموا به من أعمال وحشية ضد خصومهم ومنافسيهم» (٢).

وقد ازدهرت الحياة الثقافية بوجه عام في كل من مصر والشام ، حتى غدتا كمنارتين من منارات العلم في ذلك العصر ، ويصور السيوطي ما حظيت به مصر من مكانة مرموقة ، جعلتها رأس الأمة ومركز إشعاعها بعد سقوط الخلافة في بغداد ، فيقول : «.. واعلم أن مصر من حين صارت دار الخلافة عظم أمرها ، وكثرت شعائر الإسلام فيها ، وعلت فيها السنة ، وعفت منها البدعة ، وصارت محل سكن العلماء ، ومحط الرجال الفضلاء. وهذا سر من أسرار الله أودعه في الخلافة النبوية ، حيثما كانت يكون معها الإيمان والكتاب» (٣).

وقد كان لاهتمام سلاطين المماليك بالعلم وأهله دلائل واضحة ، فمن ذلك :

__________________

(١) المقريزي : إغاثة الأمة بكشف الغمة ص ٦٩.

(٢) د. سعيد عاشور : العصر المماليكي ص ١٥٩.

(٣) حسن المحاضرة ٢ / ٩٤.

١٦

١ ـ تقريبهم لأهل العلم ، وإجلالهم لهم ، ثم إغداق العلماء بالهبات والعطايا ، وإرضاء بعض طالبي السلطة منهم بالوظائف العالية ، وقد بلغ من إجلال السلاطين للعلماء أن بعضهم كان يخاف من شيوخ بعينهم.

ويقرر المقريزي في خططه : «أن السلطان المؤيد شيخ المحمودي : لما أنشأ جامعه ، وقرر فيه عددا من المدرسين ، كان من بينهم شهاب الدين بن حجر العسقلاني مدرس الشافعية ، فجاء إليه السلطان ليستمع درسه ، فلما أقبل ، همّ ابن حجر بالقيام للسلطان فمنعه المؤيد من القيام فلم يقم» (١).

وقد وجدنا من سلاطين المماليك ـ كالسلطان الغوري ـ حرصا على عقد مجالس علمية ودينية بالقلعة مرة أو مرتين أو أكثر كل أسبوع (٢) ، وكذلك رأينا بعضهم يخصص حلقة سنوية لقراءة صحيح الإمام البخاري ، وكانت العادة أن تعقد هذه الحلقة سنويا في شهر رمضان ، ويحضرها السلطان وأمراؤه ، والقضاة ووجهاء الدولة (٣) بل نسمع عن بعض أمراء المماليك وأبنائهم في مصر أنهم اشتغلوا بالتاريخ والفقه والحديث واللغة العربية ، بل تصدى بعضهم لإقراء الطلبة والتدريس لهم.

٢ ـ المدارس والمكاتب :

لقد اهتم المماليك بإنشاء دور العلم متمثلة في المدارس والمكاتب ، فأما المدارس ، فيذكر المقريزي وحده في الخطط سبعين مدرسة قد أنشئت في مصر في القرن التاسع وما قبله.

وقد ذكر ابن إياس والجبرتي مدارس لم يذكرها المقريزي في خططه (٤) ونذكر هنا بعض المدارس التي أقيمت في عصر الجراكسة :

١ ـ المدرسة الظاهرية :

وقد أنشئت في عصر الملك الظاهر برقوق (٧٨٥ ـ ٨٠١ ه‍) ، وتعرف أيضا بالمدرسة البرقوقية ، وقد أسسها في ذي القعدة سنة ٧٨٦ ه‍ ، وتم بناؤها في ربيع الأول سنة ٧٨٨ ه‍ ، وقد أشار إليها ابن حجر بقوله : «.. ومن آثاره المدرسة الفائقة بين القصرين ، لم يتقدم بناء مثلها في القاهرة ، وسلك في ترتيب من قرره بها مسلك شيخون في مدرسته».

وقال عنها المقريزي : «.. وجعل بها سبعة دروس لأهل العلم ، أربعة يلقى بها الفقه

__________________

(١) الخطط : ٣ / ١٣٩.

(٢) د. سعيد عاشور : العصر المماليكي ص ٣٤٢.

(٣) التبر المسبوك للسخاوي ص ٢٢١ ، ٤١٥.

(٤) الخطط للمقريزي ٢ / ٢٦٢ ، وابن إياس : بدائع الزهور ٤ / ٥٢ ، ٦٨ ، وتاريخ الجبرتي : ١ / ١٦٢ ، ٢٢٠.

١٧

على المذاهب الأربعة ، ودرس تفسير القرآن ، ودرس للحديث النبوي ، ودرس للقراءات وأجرى على الجميع في كل يوم الخبز النقي ولحم الضأن المطبوخ ، وفي كل شهر الحلوى والزيت والصابون والدراهم ، ووقف على ذلك الأوقاف الجليلة من الأراضي والدور ونحوها» (١).

ومما قيل في وصف هذه المدرسة ، ومدح بانيها قول ابن العطار :

قد أنشأ الظاهر السلطان مدرسة

فاقت على إرم مع سرعة العمل

يكفي الخليلي أن جاءت لخدمته

صم الجبال له تسعى على عجل (٢)

٢ ـ المدرسة المحمودية :

وقد أنشأ هذه المدرسة الأمير جمال الدين محمود بن علي الاستادار في سنة ٧٩٧ ه‍ ، وقد رتب لها درسا ، وعمل فيها خزانة كتب لا يعرف بديار مصر والشام مثلها ، «... وبهذه الخزانة كتب الإسلام في كل فن ، وهذه المدرسة من أحسن مدارس مصر» (٣).

٣ ـ المدرسة المؤيدية :

وقد أنشأها السلطان المؤيد شيخ المحمودي (٨١٥ ـ ٨٢٤ ه‍) ، وتعرف مدرسته هذه بالجامع المؤيدي ، ابتدأ الحفر في أساساتها في جمادى الآخرة سنة ٨١٩ ه‍ وشرع فيها حتى اكتملت ، وقال فيها السخاوي : «... لم يعمر في الإسلام أكثر منه زخرفة ، ولا أحسن ترخيما بعد الجامع الأموي ، وأصله خزانة شمائل توفية لنذره ..» (٤).

٤ ـ المدرسة الغورية :

وهذه أنشأها السلطان قانصوه الغوري (٩٠٦ ـ ٩٢٢ ه‍) ، وقد أقامها سنة ٩٠٨ ه‍ ، «وقد أقام الغوري حفلا كبيرا بعد الانتهاء منها ، حضره الخليفة المستمسك بالله يعقوب ، والقضاة الأربعة ، وأعيان الناس من المباشرين والأمراء ، وحضر في تلك الليلة قراء البلد والوعاظ ، ومد أسمطة حافلة ...» (٥).

وأما نظام هذه المدارس فقد «جرت العادة على تعيين معيد أو أكثر لكل مدرس ، ليعيد للطلبة ما ألقاه عليهم المدرس ليفهموه ويحسنوه ، كما يشرح لهم ما يحتاج إلى الشرح ، أما الطلبة فقد تمتعوا بحرية اختيار المواد التي يدرسونها بحيث لا

__________________

(١) السلوك ٣ / ٩٤٦ ، وانظر : إنباء الغمر ١ / ٣١٣ ، وابن دقماق : الجوهر الثمين ٢ / ٢٦٥ ، وابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ١١ / ٢٤٠ ، والسخاوي : الضوء اللامع ٣ / ١٢.

(٢) السيوطي : حسن المحاضرة ٢ / ٢٧١.

(٣) المقريزي : الخطط ٢ / ٣٩٥.

(٤) الضوء اللامع ٣ / ١٠ ، والمقريزي : الخطط ٢ / ٣٢٨ ـ ٣٣٠ ، وابن حجر : إنباء الغمر ٣ / ٩٠ ، ١٠٢.

(٥) ابن إياس : بدائع الزهور ٤ / ٥٢ ، ٥٣.

١٨

يمنع فقيه أو مستفيد من الطلبة مما يختاره من أنواع العلوم الشرعية» (١).

فإذا أتم الطالب دراسته ، وتأهل للفتيا والتدريس أجاز له شيخه ذلك ، وكتب له إجازة يذكر فيها اسم الطالب وشيخه ومذهبه ، وتاريخ الإجازة وغير ذلك. ولا شك في أن قيمة هذه الإجازة كانت تتوقف على سمعة الشيخ الذي صدرت عنه ومكانته العلمية (٢).

وأما المكاتب فقد كانت خاصة بالمراحل الأولى من مراحل تعليم الناشئة ، والمدارس بمثابة التعليم الجامعي أو نهاية المرحلة التعليمية ، ويبدو أن الهدف الأساسي من إقامة هذه المكاتب هو تعليم أيتام المسلمين ، وهذا يتضح فيما رأيناه من إلحاق أيتام المسلمين بهذه المكاتب وإجراء الأرزاق والكسوة عليهم.

وأما منهج التعليم فيها فكان يقوم على أن يعلم المؤدب أو العريف الذي ينوب مكانه هؤلاء التلاميذ القراءة والكتابة ، والقرآن والحديث وآداب الدين ، فضلا عن مبادىء الحساب وقواعد اللغة وبعض الشعر.

وقد كان يحتفل بمن يحفظ القرآن في المكتب ، وهو ما يسمى ب «الإصرافة» (٣).

ولم تكن المدارس والمكاتب وحدها هي كل ساحات العلم ، فقد كان هناك مشاركة كبيرة جدا من الجوامع والمساجد ، في مقدمة ذلك «الجامع الأزهر» ، وكذلك كان هناك الزوايا والمارستانات ، وعن المارستان المنصوري ـ كمثال ـ يقول المقريزي إن المنصور أنشأه : «مكانا يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء درس طب» (٤).

٤ ـ المكتبات :

المعلوم أن المماليك أنشأوا المدارس والمكاتب ، والزوايا والخانقاوات وغير ذلك لينشروا العلم ، ولينشطوا الحركة الثقافية العلمية ، ولكن هذا الهدف لا يأتي على خير حال إلا إذا كان هناك ثروة مكتبية ضخمة تسانده ، وترفده بمصادر البحث والمطالعة من الكتب المصنفة في فروع العلم.

لذلك فقد «ألحقت بكل مدرسة خزانة كتب يرجع إليها المدرسون والطلاب في البحث والاستقصاء» (٥) ، وقد ضمت هذه المكتبات : «أنواعا عديدة من المؤلفات في مختلف العلوم والفنون من تفسير وحديث ، وفقه ، ولغة ، ومعان ، وبديع ، وبيان ، وأصول فقه ، وأصول دين ، ومنطق ، وغير ذلك من نحو وصرف وغيرهما» (٦).

__________________

(١ و ٢) د. سعيد عاشور : العصر المماليكي ص ٣٤٤.

(٣) د. سعيد عاشور : العصر المماليكي ص ٣٤٨.

(٤) الخطط ٢ / ٤٠٦.

(٥) د. سعيد عاشور : المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص ١٤٥.

(٦) السابق ص ١٤٦ ، وأيضا : العصر المماليكي : ص ٣٤٦.

١٩

وهذه المكتبات وما ألحق بها من مدارس ومكاتب وخانقاوات وغيرها ـ قد اهتم بها سلاطين المماليك ، فوقفوا لها أوقافا واسعة : «لينفق من ريعها على مرافق المدرسة أو على المكتب ، وعلى موظفيها من المدرسين والشيوخ فضلا عن طلبة المدرسة ذوي المذاهب أو تلاميذ المكتب من الأيتام ، حتى ينصرف الجميع إلى رسالتهم في جو من الاطمئنان وراحة الفكر ..»(١).

هذا الجو العلمي الذي وجد في عصر المماليك قد هيأ المناخ ليوجد عندنا عدد ضخم من المحدثين والمجتهدين والحفاظ والفقهاء ، والقضاة والشعراء والأدباء ، الذين أثروا مكتبة الإسلام بمصنفات تكاد تزيد على الآلاف المؤلفة ، ومن يستقرىء الكتب المصنفة المطبوع منها والمخطوط يرى ذلك النتاج الضخم.

وقد حفظت لنا كتب التراجم أسماء كثيرة جدا لعلماء لمعت نجومهم في ذلك العصر ، ونذكر هنا بعض من وجد منهم في القرن التاسع الهجري ، الذي هو القرن الذي عاش فيه إمامنا ابن عادل الحنبلي :

كابن الملقن المتوفى سنة ٨٠٤ ه‍ ، وسراج الدين البلقيني المتوفى سنة ٨٠٥ ه‍ ، وتاج الدين الدميري المتوفى سنة ٨٠٥ ه‍ ، وابن حبيب الحلبي ت ٨٠٨ ه‍ ، وابن جماعة ت ٨١٩ ه‍ ، وابن الهمام ت ٨٦١ ه‍ ، وابن أمير الحاج ت ٨٧٩ ه‍. ومن المؤرخين المقريزي ت ٨٤٥ ه‍ ، وابن تغري بردي ت ٨٧٤ ه‍. ومن المحدثين ابن العراقي ت ٨٢٦ ه‍ ، والحافظ ابن حجر ت ٨٥٢ ه‍. وغير هؤلاء كثير جدا مما يدل على عظم النهضة العلمية التي عاشها ذلك العصر الذي تحدثنا عن ملامحه في عجالة يسيرة.

ترجمة الإمام المفسر ابن عادل الحنبلي

نسبه وكنيته ولقبه :

أبو حفص عمر بن علي سراج الدّين الدمشقي الحنبلي النعماني (٢).

الدمشقي بالكسر وفتح الميم وسكون الشين : إلى دمشق البلدة المعروفة وهي من مدن الشام.

الحنبلي (٣) : بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الباء الموحدة وفي آخرها اللام وهذه النسبة لنخبة من العلماء اتصفوا بها لتنحّلهم مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني المروزي. إمام المحدثين وأحد دعائم الإسلام الأربعة (٤).

__________________

(١) د. سعيد عاشور : المجتمع المصري ص ١٤٧ ، ١٤٨.

(٢) ينظر : معجم البلدان ٢ / ٤٦٣ ـ ٤٧٠ ، الأنساب ٢ / ٤٩٢ ـ ٤٩٣ ، اللباب ١ / ٥٠٨.

(٣) ينظر : الأنساب ٢ / ٢٧٧ ، واللباب ١ / ٣٩٥ ، ولب اللباب ١ / ٢٦٠.

(٤) ينظر ترجمته في حلية الأولياء ٩ / ١٦١ ، وتاريخ بغداد ٤ / ٤١٢ ، ووفيات الأعيان ١ / ٤٧ ، والبداية والنهاية ١٠ / ٣٢٥ ، وتذكرة الحفاظ ١ / ٤٣١ ، والنجوم الزاهرة ٢ / ٣٠٤.

٢٠