آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ٢

د. عمر بن إبراهيم رضوان

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ٢

المؤلف:

د. عمر بن إبراهيم رضوان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

٣ ـ ما يتكرر معنى لا لفظا.

أما ما يتكرر لفظه ومعناه متحد ، فمنه قوله تعالى : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)(١).

وشاهده من اللغة قول الشاعر :

ألا يا أسلمي ثم أسلمي ثمت أسلمي.

والغرض من هذا المبالغة في الدعاء لها بالسلامة (٢).

أما أمثال تكرار المعنى دون اللفظ منه قوله تعالى :

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)(٣).

ذكر في الآية الخاص كذكر العام للتنبيه عليه لفضله.

ومثاله من الشعر (٤) وهو فيه كثير :

إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وإن ضيعوا عهدي حفظت عهودهم

وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا

والغرض من هذا تأكيد الخاص.

وهذا النوع من التكرار وعر المسلك ، دقيق المغزى وبه تحل مسائل ومشكلات من التكرار.

وهناك تكرار يقع في الأسماء أو الأفعال أو الحروف وهو يكون في اللغة على قسمين : منه الحسن ومنه القبيح وليس من القبيح في القرآن شيء. فالقبيح الذي يكسب الكلام عجرفة وقلقا حتى يصعب النطق به ، ويذهب رونق الكلام

__________________

(١) سورة المدثر : (١٩ ـ ٢٠).

(٢) الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ـ ابن القيم ص ١١٢.

(٣) سورة البقرة : (٢٣٨).

(٤) الشاعر هو المقنع الكندي.

٢٠١

بسببه. وهذا تكرار يخلو من الفائدة ، وهو إما أن يكون في المعنى وحده أو في المعنى واللفظ معا.

أما الأول فقد عابه بعضهم مطلقا ، وبعضهم فصل فأعابه على الناثر وعلى الناظم إذا فعله في صدر البيت. وأما إذا فعله في عجزه فليس ذلك بعيب إذ قد يضطر لأجل القافية والوزن. والأمثلة في اللغة على هذا كثيرة.

أما القرآن الكريم فليس في كتابه حرف وضع بلا ضرورة ولا فائدة أو أقلق المعنى أو غير ذلك من الأسباب المضعفة للأسلوب العربي ولفصاحته (١).

فالتكرار في القرآن الكريم له صبغة خاصة اقتضت تفرده على غيره فدواعي التكرار في القرآن دواعي كلية موضوعية أي أنها أشبه ما تكون بالقواعد والقضايا العامة ، ومن هنا اتبع القرآن في التكرار نمطا متميزا لا يمكن لأحد أن ينسج على منواله ، أو يقرب من مجاله.

وقد أضاف هذا النمط المتميز لونا فذا إلى ألوان الإعجاز التي تبث في آيات القرآن الكريم مما طأطأ له رءوس أعلام البلاغة وأمراء البيان. أما دواعي التكرار في القرآن فكثيرة منها :

١ ـ أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ كان إذا كرر القصة زاد فيها شيئا ؛ ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا موسى ـ عليه‌السلام ـ وذكرها في موضع آخر ثعبانا ، وفائدة ذلك أن ليس كل حية ثعبانا ، وهذه عادة البلغاء أن يكرر أحدهم في آخر خطبته أو قصيدته كلمة لصفة زائدة.

٢ ـ أن الرجل كان يسمع من القرآن ثم يعود إلى أهله ، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأولين ، وكان أكثر من آمن به مهاجريا فلو لا تكرر القصة لوقعت قصة لقوم ، وقصة إلى آخرين وكذلك سائر القصص ، فكرر سبحانه ليشترك بذلك الجميع فيكون فيها إفادة القوم وزيادة تأكيد وتبصرة

__________________

(١) الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ـ ابن القيم ص ١١٤ ـ ١١٥ (بتصرف).

٢٠٢

لآخرين وهم الحاضرون.

٣ ـ تسليته لقلب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مما اتفق عليه للأنبياء مثله مع أممهم قال تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ)(١).

٤ ـ أن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة ، وأساليب مختلفة لا يخفي ما فيه من الفصاحة.

٥ ـ أن الدواعي لا تتوفر على نقلها كتوفرها على نقل الأحكام ، فلذا كررت القصة دون الأحكام.

٦ ـ أن الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية لصحة نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم ، بأن كرر ذكر القصة في مواضع ، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاء وبأي عبارة عبروا.

٧ ـ أنه لما سخر العرب بالقرآن ، قال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(٢) وقال في موضع آخر : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ)(٣) فلو ذكر قصة آدم مثلا في موضع واحد واكتفى بها لقال العربي بما قال الله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) «ايتونا أنتم بسورة من مثله» فأنزلها الله سبحانه في تعداد السور دفعا لحججهم من كل وجه.

٨ ـ أن القصة الواحدة من هذه القصص ، كقصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون وإن ظن أنها لا تغاير الأخرى فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان وتقديم وتأخير ، وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ ، فإن كل واحدة لا بد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد منه لا يوقف عليه إلا

__________________

(١) سورة هود : ١٢٠.

(٢) سورة البقرة : ٢٣.

(٣) سورة هود : ١٣.

٢٠٣

منها دون غيرها ، فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء ، ثم قسم تلك الأجزاء على تارات التكرار لوجوه متكررة فيها ، ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة من انفراد كل قصة منها بموضع (١).

٩ ـ درج القرآن على مخاطبة العرب بما ألفوه من أساليب الكلام وما اعتادوه من طرائق البيان قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٢).

١٠ ـ أن هذا القرآن الكريم أنزله الله للناس كافة ، أي أنه كتاب جماهيري بالتعبير العصري الحديث ، وذلك يقتضي تكرار قضاياه ومضامينه ليكون الناس على ذكر بها والتزام لتشريعاتها.

١١ ـ أن القرآن قد ختمت به وبدينه وبنبيه رسالات السماء وأديانه وكتبه فيلزم تكرار الكثير من موضوعاته ليستوعبها الناس على اختلاف أذواقهم وأفهامهم على اختلاف أزمانهم وأجناسهم.

١٢ ـ نزل القرآن ليكون كتاب هداية وهذا يستلزم تكرار ما يحتويه من أسرار وحكم وتشريع ليتخذه الناس مثابة لعقولهم وموئلا لألبابهم وهذا الأسلوب من أساليب الدعوة المتبعة من جميع أصحاب الدعوات والأفكار والمبادئ الخيرة والمقصود به التأثير في نفوس المدعوين وبلوغ الغاية من الدعوة بطريقة أو بأخرى وقد قال الشاعر :

أما ترى الحبل بتكراره

في الصخرة الصماء قد أثرا(٣)

١٣ ـ جاءت ظاهرة التكرار لمراعاة ما كان عليه العرب من أمية.

__________________

(١) القصص القرآني ـ إيحاؤه ونفحاته ص ١٧ ـ ١٩.

(٢) سورة يوسف : ٢.

(٣) هل يمكن الاعتقاد بالقرآن ـ رحماتوف ص ١٢٥ ورد الأستاذ كنون عليه.

٢٠٤

١٤ ـ تكرر الجملة أو الحرف في القرآن بسبب ما يتعلق بها أو يبني عليها أو يتجدد منها من استنباطات أو دلالات تستخرج من تحري الحكمة في تكرار المكرر (١).

فالتكرار إذن لون من الأسلوب العربي ، وأحد أنماط الإعجاز اللغوي وأسلوب تربوي بديع امتاز به هذا القرآن العظيم.

ومن الأمثلة التي علق عليها «سال» آماله لتحقيق مطاعنه من هذا الجانب تكرار المثال الأول «إذ» و «إذني» في آية واحدة في سورة المائدة عدة مرات وهي قوله تعالى :

(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ)(٢).

أما تكرار «إذ» و «إذني» في هذه الآية فلا تخلو من فائدة ف «إذ» بمعنى الحين أو الوقت.

وبما أن هذه النعم قد امتنها الله سبحانه على عيسى ـ عليه‌السلام ـ عبده ورسوله في أوقات متباينة متطاولة لذا ناسب تكرار «إذ» الحينية حتى لا يتسبب التطاول بين الوقت إلى الوقت لإهمال ونسيان هذه النعم. فتكرارها إذن يشعر باستمرار هذه النعم وشكر المنعم والمتفضل فيها.

أما تكرار كلمة «بإذني» فهي في غاية البيان والدقة وكذلك لا تخلو من فائدة فعند ما اعتقد بنو إسرائيل في عيسى أنه «إله» أو «ثالث ثلاثة» لذا كان

__________________

(١) انظر كتاب ظاهرة التكرار في القرآن الكريم ـ د / عبد المنعم السيد حسن ط ١ ، ١٤٠٠ ه‍ / ١٩٨٠ م ص ٢٢ ـ ٣١.

(٢) سورة المائدة : (١١٠).

٢٠٥

يتبادر إلى أذهان بعضهم أن هذا كله يأتي من عند نفسه وبخاصة أنها من النوع الذي لا تماثله أفعال الناس ولا تقدر عليه طاقاتهم فكان تكرار هذه الكلمة «بإذني» إزالة الوهم.

لأن عيسى ـ عليه‌السلام ـ لم يأت بشيء من خوارقه إلا بإذن الله سبحانه وبتمكينه من ذلك.

إلا أن هذه النكات البلاغية والدقائق اللغوية والأساليب البيانية بعيدة عن حسن الملاحدة لا يستشفها إلا المعايشون لهذه الأساليب القرآنية المعتقدون بالهدايات الربانية منها.

أما الحاقدون المحجوبون عن نور الهداية فلا يفقهون إلا ظاهرا من القول.

والمثال الثاني :

استشهد «سال» بقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا. ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا. وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١).

وزعم أنه كرر قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مرتين «و (اتَّقَوْا») ثلاث مرات بلا ضرورة (٢).

الجواب :

وقف العلماء عند تكرار هذه العبارات وقفات ، مبينين فيها النكتة البلاغية في هذا التكرار.

أما تكرار (العمل الصالح) وذلك لإبراز أهميته. حيث قرر في الآية أن المؤمنين لا جناح عليهم في أي شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم وثبتوا

__________________

(١) سورة المائدة : (٩٣).

(٢) أسرار عن القرآن ص ٧٩.

٢٠٦

على الإيمان والعمل الصالح.

وفي ذلك إشارة إلى أن العمل من مستلزمات الإيمان المطلوب المحافظة عليه لأنه أساس العمل المقبول عند الله سبحانه (١). أما تكرار (الاتقاء) فقد ذكر المفسرون في ذلك عدة أقوال منها :

١ ـ قول الأكثرين : أن الأول عمل الاتقاء ، والثاني دوامه والثبات عليه ، والثالث اتقاء ظلم العباد مع ضم الإحسان.

٢ ـ أن الاتقاء الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول هذه الآية ، والاتقاء الثاني اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية ، والاتقاء الثالث اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية.

٣ ـ اتقاء الكفر ، ثم الكبائر ، ثم الصغائر.

وقيل غير ذلك (٢).

وهكذا نرى أن التكرار أمر لطيف يعرفه أصحاب العربية والمتقنون لأساليبها ويغيب عن أفهام هؤلاء الملاحدة المتعبين أنفسهم في محاولة إيجاد الخلل في هذا الكتاب ولن يستطيعوا إن شاء الله لحفظ الله سبحانه له.

القضية الثالثة عشرة :

زعم «سال» أن مما يبطل إعجاز القرآن المعاياة وفساد المعنى فيه وضرب على ذلك أمثلة منها :

المثال الأول :

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ..)(٣) الآية.

__________________

(١) الكشاف ١ / ٦٤٣.

(٢) التفسير الكبير للرازي ١٢ / ٨٩.

(٣) سورة البقرة : ٢٦.

٢٠٧

ثم قال مبينا فساد المعنى في الآية بقوله :

الأمر الأول :

الكلام يوهم أنه ضرب لهم مثلا بالبعوضة لكننا لا نجد ذلك ، لذا فهو كلام لا معنى له.

الأمر الثاني :

كان الأوجه أن يقول بعوضة فما دونها (١).

الجواب :

الأمثال ضرب رفيع من فصيح الكلام ، ولون من ألوان الكلام العربي الذي جرى عليه القرآن الكريم لتأكيد معنى ، أو بيان غاية ، أو الإقناع بفكرة ، أو تزيين أمر وتقبيح آخر للترغيب بالأول والترهيب من الثاني (٢) إلى غير ذلك من الأغراض التي هي من ضمن الأهداف التربوية القرآنية. قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ)(٣).

وقد اشتمل القرآن الكريم على ثلاثة وأربعين مثلا (٤).

ولأهمية المثل اعتنت به أكثر من أمة : عربية كانت أو عجمية ، قبل الإسلام وبعده ، بالفصيح من لغاتها وبعامية. أو بالعامية منها. وقد ذكرته كتب سماوية أخرى كالإنجيل.

فقد جاء في الإنجيل عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ قوله : «مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة ..» إلى آخر المثل.

__________________

(١) أسرار عن القرآن ص ٨١.

(٢) الأمثال القرآنية عبد الرحمن حبنكة ـ دار القلم ـ دمشق ـ بيروت ص ٣٩ ـ ٤٠.

(٣) سورة العنكبوت : ٤٣.

(٤) الأمثال في القرآن الكريم ـ لابن القيم ص ٥٧ ، دار المعرفة ـ بيروت.

٢٠٨

وقال في مثل آخر : «قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ، ولا يلينها الماء ، ولا تنسفها الرياح ..» إلخ (١).

والآن سأبين فساد فهم «سال» للمقصود بالآية الكريمة وأوضح أنه لا فساد فيها.

قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ..) فبالنسبة للأمر الأول الذي أثاره «سال» ليس بالضرورة أن يكون هناك مثل مضروب في البعوضة لأن المقصود بضرب المثل أن يبين الله سبحانه ما في المضروب من أسرار وحكم. فكما هي موجودة في المخلوق العظيم هي موجودة كذلك في المخلوق الصغير. وفيها دلالة على عظم قدرة الله سبحانه فسبب نزول الآية أن الله سبحانه أراد أن يبين أنه لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يتمثل لها لحقارتها.

أو يجوز أن تكون هذه العبارة وقعت في كلام الكفرة حيث قالوا : أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت؟ فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال (٢).

أما الأمر الثاني :

أنه كان الأوجه أن يقول (فما دونها).

فالجواب من وجهين :

أحدهما :

أن يكون المراد فما هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب ولكن هذا القول رده العلماء وضعفوه.

__________________

(١) التفسير الكبير ١ / ١٤٦.

(٢) الكشاف ١ / ٢٦٣.

٢٠٩

الثاني :

أراد بما فوقها في الصغر أي بما هو أصغر منها وهذا هو القول الراجح لوجوه :

١ ـ أن المقصود من هذا التمثيل تحقير الأوثان ، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود في هذا الباب أكمل حصولا.

٢ ـ أن الغرض هاهنا بيان أن الله تعالى لا يمتنع عن التمثيل بالشيء الحقير ، وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون المذكور ثانيا أشد حقارة من الأول ، يقال : إن فلانا يتحمل الذل في اكتساب الدينار ، وفي اكتساب ما فوقه يعني من القلة ، لأن تحمل الذل في اكتساب أقل من الدينار أشد من تحمله في اكتساب الدينار.

٣ ـ أن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب ، فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله تعالى فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير (١). فعلى هذا فلا فساد في المعنى ولا معاياة كما زعموا ولكنه الجهل بالأسلوب العربي.

المثال الثاني الذي استدل به :

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا)(٢) زعم أن الأوجه أن يقول إنما الربا مثل البيع لأنهم مثلوا الربا بالبيع الحلال ليموهوا أنه حلال (٣).

الجواب :

أجاب الزمخشري عن هذه الشبهة بقوله :

إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه ، وكانت شبهتهم أنهم قالوا لو اشترى

__________________

(١) التفسير الكبير ٢ / ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٢) سورة البقرة : (٢٧٥).

(٣) أسرار عن القرآن ص ٨٨.

٢١٠

الرجل ما لا يساوي إلا درهما بدرهمين جاز ، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين. قلت : جيء به على طريق المبالغة وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع (١).

فعلى هذا تكون جاءت مصورة لما بلغه اعتقادهم من استحلال الربا تصويرا دقيقا. يعني عن أي تصوير فالمعنى تام وليس فيه أي خلل أو معاياة كما زعم «سال» فشبهته مردودة عليه ويظهر بطلان دعواه وفساد قوله.

القضية الرابعة عشرة :

قال «سال» : إن مما ينافي الفصاحة أن يأتي الكاتب أو الخطيب في أثناء كلامه بجملة تكون أجنبية عما سبقها وهذا مما يعده العلماء تكلفا.

وضرب على ذلك مثالا واحدا وهو آية الكرسي حيث اعتبرها كلاما أجنبيا ، لا ارتباط له بما قبله وما بعده ، فهو كقطعة ديباج رقع بها ثوب كرباس (٢).

الجواب :

لم يك «سال» الوحيد الذي ادعى أن آيات القرآن الكريم لا ارتباط بينها. بل سبقه بذلك «بل» في مقدمته حيث زعم أن سبب عدم هذا الترابط أن جمعة القرآن كانوا يجدون على الورقة التي كتب عليها قرآن شيئا على وجهها وآخر على ظهرها فكان الكاتب يجمع ما كتب على الوجهين مع عدم ارتباطهما وسمى نظريته هذه «التكملات البديلة» وقد انساق وراء «بل» و «سال» أصحاب الموسوعة البريطانية فزعموا أن السور الطويلة ذوات موضوعات متعددة وهي مشتتة ليس بينها صلة .. فالقرآن مجرد إنشاء جاء بطريقة عشوائية.

وهذه الافتراءات من أخطر ما أقدم عليه هؤلاء المستشرقون وذلك لأن

__________________

(١) الكشاف ١ / ٣٩٩.

(٢) أسرار عن القرآن ص ٨٨ ـ ٨٩ ، وقضايا قرآنية ص ٧٥ ، ومقدمة بل ص ٨٤ ، وما بعدها.

٢١١

الأصل أن لا يصدر على أمثالهم لما نتوسم بهم أن يكونوا عليه من منزلة علمية.

وقد بينت خلال معالجتي لبعض القضايا السابقة بطلان هذه الافتراءات وأثبت مقدار التناسب والترابط بين الآيات القرآنية.

والمعروف أن هذا القرآن نزل في أمة فصيحة بضاعتها المفضلة وتجارتها الرابحة الكلام ، حتى عقدوا لها أسواقا لم تسبقهم لذلك أمة من الأمم وكانوا يدركون مثل هذه القضايا ترابط الكلام وانسجامه بأذواقهم وفطرهم السليمة قبل فطنتهم. وقد اعترفوا أنه جاء قمة لا يصل لشأوه كتاب لا في ألفاظه ولا في أسلوبه يجمع بين حسن الإيجاز والتطويل دون خلل ولا ملل ، ولا ترقيع كما زعم «سال» ، ولم يكن مشتتا عشوائيا كما زعم أصحاب الموسوعة البريطانية. ولا بالرديء كما زعم «دوزي» حتى أطلقوا على جماله «سحرا» لسموه وجلاله ، وهيبته على نفوسهم ، وأدركوا إعجازه الذي لاحظوه في أسلوبه وبيانه وبلاغته وانسجام ترابطه ولو وجد العرب في نظم سوره أي مأخذ أو ضعف لكان لهم معه شأن آخر.

أما موضوعات السورة القرآنية فالترابط بينها أمر متميز مما دعاهم للاعتراف بإعجازه. فالقرآن الكريم ليس معجزة فقط بحقائقه العلمية والتاريخية التي ما زال العلم يكتشفها يوما بعد يوم. بل كذلك هو معجز في ترابطه وحسن سبكه.

ومن أحكام ترابط هذا الكتاب أنك لو أردت إسقاط كلمة أو إبدالها لاختل النظم وظهر الضعف. وقد تنبه العلماء لهذا السبك وحسن النظم ودقة الربط فكتبوا فيه كتبا ومن هؤلاء الإمام الجرجاني ، والإمام الزملكاني ، في كتابيهما اللذين يبحثان فيهما أمر إعجاز القرآن الكريم. والدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) الذي درس فيه سورة البقرة وأظهر وحدتها الموضوعية وكذلك أستاذي الدكتور فضل حسن عباس في كتابه (إعجاز القرآن) درس فيه مجموعة من السور.

فقد أظهر هؤلاء العلماء الأجلاء مقدار الربط بين السورة الواحدة وبين

٢١٢

السور بعضها مع بعض فكان ترتيب القرآن حسب الوقائع تنزيلا ، وعلى حسب الحكمة ترتيبا (١).

وقد خطئ من العلماء من قال : الآيات القرآنية لا رابط بينها. كالإمام عز الدين بن عبد السلام ـ رحمه‌الله ـ والأستاذ محمد فريد وجدي ، وغيرهما ، ومن انساق خلفهم من المستشرقين والمبشرين. حتى قال أبو بكر بن العربي في كتابه (سراج المريدين) عن فضل هذا العلم :

[ارتباط الآي بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة ، متسقة المعاني ، منتظمة المباني ، علم عظيم](٢).

أما بالنسبة للمثال الذي ذكره «سال» ومنه حكم على أن القرآن آياته غير مترابطة وهذا المثال ضربه «سال» في آية الكرسي وعلاقتها بما قبلها وما بعدها. اعلم أن من الأساليب المطردة في القرآن الكريم الجمع في السياق بين علم التوحيد ، وعلم القصص ، وعلم الأحكام. وذكر القصص كان لحكم عظيمة. إما تقرير دلائل التوحيد ، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف. وهذا الطريق هو الطريق الأحسن لإبقاء الإنسان في النوع الواحد لأنه يوجب الملال ، فأما إذا انتقل من نوع من العلوم إلى نوع آخر فكأنه يشرح به الصدر ، ويفرح به القلب ، فكأنه سافر من بلد إلى آخر ، وانتقل من بستان إلى بستان آخر ، وانتقل من تناول طعام لذيذ إلى تناول نوع آخر.

لما ذكر الله سبحانه أخبار المتقدمين من الرسل مع أقوامهم ، كسؤال قوم موسى ـ عليه‌السلام ـ (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً)(٣) وكقوم عيسى عليه‌السلام بعد أن شاهدوا منه إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص فكذبوه وراموا قتله ،

__________________

(١) انظر كتاب الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم ـ محمد حجازي ـ دار الكتب الحديثة ص ١٥ ـ ١٦.

(٢) انظر البرهان في علوم القرآن ١ / ٢٧ ـ طبعة دار المعرفة بيروت.

(٣) سورة النساء : ١٥٣.

٢١٣

وكذبه بعضهم وبقوا على الكفر ، وما وقع منهم كتكذيب بعضهم طالوت بعد أن طلبوا من الله أن يجعل لهم ملكا فجعله فعزى الله رسوله عما رأى من قومه من التكذيب والحسد فقال : هؤلاء الرسل الذي كلم الله بعضهم ، ورفع درجات بعضهم ، وأيد عيسى ـ عليه‌السلام ـ بروح القدس ، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه بعد مشاهدة المعجزات ، وأنت رسول مثلهم فلا تحزن على ما ترى من قومك ، فكان المقصود من هذا كله تسكين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على إيذاء قومه له (١).

ولما كان المال شقيق الروح ، وهو نوع من الجهاد. كما أنه سبق قبل هذه الآيات ذكر آية البر التي جمعت خصال البر كلها ؛ لذا نرى بعدها التنويه بفضيلتي الإنفاق والجهاد يردد في أكثر من آية في مطالع الآيات ومقاطعها ، في إجمالها وفي تفصيلها ترديدا ينادي بأنه هو المقصود الأعظم ، (٢) لأنه به تصان العقيدة ويسهل الطريق أمام الدعاة وهو يحفظ ميراث النبوة الأعظم.

فجاءت الآيات مؤكدة هذا المقصود وهذا التشريع الرباني الحكيم. ولما ذكر الاختلاف والاقتتال والبذل في سبيل الله بعد مجيء البينات والإيمان ناسب بعد هذا كله أن يذكر آية تتضمن قواعد التصور الإيماني وتذكر من صفات الله ـ سبحانه ـ ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته ، وأوضح سماته وهي آية الكرسي (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)(٣).

ثم انتقل لبيان طريق المؤمنين وواجبهم تجاه هذه العقيدة ورسم أفضل السبل في إيصالها للخلق بالحكمة والموعظة الحسنة وبعدم إكراههم عليها (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)(٤) لأن الأصل في قضية العقيدة أن تكون اقتناعا بعد البيان

__________________

(١) التفسير الكبير ٣ / ٢١٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٢) النبأ العظيم ـ دراز ص ٢٠٤ وما بعدها.

(٣) سورة البقرة : ٢٥٥.

(٤) سورة البقرة : ٢٥٦.

٢١٤

والإدراك ، وليست قضية إكراه وغصب وإجبار (١).

وهكذا نرى أن الآيات مترابطة وكأنها آية واحدة ، بل كلمة واحدة على غير دعوى وافتراءات المستشرقين.

لذا يبطل كل دعوى ذكرها «سال» و «بل» وأصحاب الموسوعة البريطانية من عدم ترابط آيات القرآن الكريم.

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ / ٢٨٦ وما بعدها.

٢١٥
٢١٦

الباب الثالث

قضايا تتعلق بتفسير القرآن الكريم

الفصل الأول

التفسير بالمأثور وموقف المستشرقين منه

الفصل الثانى

التفسير بالرأي ورد شبهات المستشرقين حوله

الفصل الثالث

التفسير في ضوء التصوف الإسلامي كما عرضه «جولد تسيهر»

الفصل الرابع

التفسير في ضوء الفرق الدينية وموقف المستشرقين منه.

الفصل الخامس

التفسير في ضوء التمدن الإسلامي

٢١٧
٢١٨

الفصل الأول

التفسير بالمأثور وموقف المستشرقين منه

المبحث الأول :

تمنع بعض الصحابة والتابعين عن تفسير القرآن الكريم.

المبحث الثاني

الوضع والإسرائيليات في التفسير أفقده قيمته والثقة به.

المبحث الثالث

قالوا : التضاد والاختلاف في روايات التفسير بالمأثور يقلل قيمتها ويردها.

المبحث الرابع

الطعن في رجال هذا التفسير.

٢١٩

المستشرقون والتفسير :

التفسير يوصل إلى الحقيقة التي في كتاب الله تعالى.

وتفسير أي نص يأخذ أهميته من النص نفسه ، ولما كان النص القرآني رباني المصدر ، ومشتملا على أبرز ملامح المعارف الإنسانية ، وأغلب معالم الحضارة البشرية ، لذا كان تفسيره ذا أهمية بالغة ولكنه يحتاج لإخلاص خاص ، وتجرد عن كل ما يحرف التفسير عن خطه الصحيح.

والمستشرقون كما اهتموا في دراساتهم بالقرآن الكريم نفسه اهتموا كذلك بتفسيره وبكثير من أنواع علومه.

ولكن هذه الدراسات جاءت متفاوتة على حسب العنصر النفسي الأغلب في شخصية كل منهم ، فمن اتجه اتجاها موضوعيا كان ما قدمه موضوعيا ، ومن كان ذا هوى أو تعصب كان انعكاس ذلك واضحا على كتاباته.

وينبغي التنبيه على أن دراسات المستشرقين للقرآن الكريم وتفسيره غالبا ما تمليها ظروف نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو نزعات عدائية وقد يكون الدافع لها اهتمامات علمية وأكاديمية.

وقد تعددت دراساتهم للقرآن في أكثر من جانب من جوانبه. فقد كان ممن اهتم بتفسير القرآن الكريم المستشرق المجري «جولد تسيهر» في كتابه (مذاهب التفسير الإسلامي) والمستشرق الفرنسي «ج. جومييه» الذي نشر دراسة له عن تفسير المنار في باريس سنة ١٩٤٥ م. كما كتب بحثا عن طنطاوي جوهري وتفسيره «الجواهر». والمستشرق الإنجليزي «ج. بالجون» الذي ألف كتابا حول (تفسير القرآن الكريم في العصر الحديث).

وكان أوفى هذه الكتب هو كتاب المستشرق المجري «جولد تسيهر» الذي سيكون الأساس لدراستي هذه. كما أني سأتناول ما كتبه الأخيران في الفصل الأخير من هذا الباب (باختصار).

٢٢٠