آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

د. عمر بن إبراهيم رضوان

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

المؤلف:

د. عمر بن إبراهيم رضوان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

الشبهة الثالثة :

وضع الصحف عند حفصة عمل غير رسمي :

حاول بعض المستشرقين التشكيك في الصحف التي كانت في حيازة أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ بحجة أن هذه الصحف لم تكن في الحيازة الرسمية ولا أماكن الحفظ الخاصة بالدولة (١).

الجواب :

بعد جمع القرآن الكريم في الصحف ، وضعت هذه الصحف عند أبي بكر الصديق ، ثم عند عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ ولما توفي عمر ـ رضي الله عنه ـ وضعت الصحف عند ابنته حفصة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ كما بينت ذلك رواية البخاري في صحيحه والآنفة الذكر واستصحب الحال على ما كان عليه عند ما تولى الخلافة.

فليس هناك مهمة أو عمل رسمي أو كل إلى حفصة ـ رضي الله عنها ـ كل ما في الأمر أنها أمانة مباركة وتراث مقدس كان يشرف عليه أولئك الذين يحفظونه في بيوتهم ، وهذه جزئية ليست جوهرية ، ولكن كان لا بد من التنبيه عليها (٢).

وحفصة من أجدر الناس لهذه المهمة العظيمة كيف لا؟! وهي زوج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ والحافظة لكتاب الله تعالى ، وهي من أوصى عمر أن تكون الصحف عندها ، وهي متمكنة بالقراءة والكتابة. ففيها ـ رضي الله عنها ـ كل المقومات التي يصان عندها تراث مقدس كهذه الصحف خاصة إذا أضفنا لذلك حرصها الشديد عليها حتى أنها لم تعطها

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ واط ص ٤٢ ـ ٤٣ ، وانظر قضايا قرآنية ص ١٧١ ، دائرة المعارف الإسلامية ١١ / ١١٣٠.

(٢) قضايا قرآنية ص ١٧١.

٤٦١

للخليفة الثالث عثمان بن عفان ـ رضي الله عنهما ـ عند ما أراد اعتمادها كأصل لكتابة مصحفه العثماني إلا بعد اشتراطها عليه أن يرجعها لها بعد نسخه للصحف وبقيت عندها ـ رضي الله عنها ـ إلى أن توفيت. ثم طلبها مروان بن الحكم من عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ فسلمها له فغسلها وأحرقها ، خوفا أن تسبب شكا في نفوس بعض المسلمين إن شيئا منها لم يكتب (١).

وقد حاول «بلاشير» أن يثير زوبعة من الشكوك حول هذه الصحف وأنها لا تصلح أن تكون أساسا لجمع عثمان على اعتبار أنه لا فرق بينها وبين أي صحف خاصة بالصحابة ـ رضوان الله عليهم (٢).

هذا الكلام يخلو من الدقة العلمية ، والوثائق التوثيقية. لأن هذه الصحف التي هي مصحف أبي بكر تعتبر مصحفا رسميا ؛ لأنها تضافرت عليها الجهود وتوفرت لها العوامل لتكون في أعلى مراتب التوثيق والدقة مما لا يتطرق إليها الشك ولا الارتياب. حيث اعتمدوا على الأمور التالية عند تدوين هذه الصحف :

١ ـ حفظ اللجنة المكلفة للجمع لكتاب الله سبحانه وتعالى ـ وعلى رأسها زيد بن ثابت ، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ.

٢ ـ سلامة الأدوات التي كتب عليها النص كاللخاف ، والعسب ، والرقاع ، والعظام ، وغيرها من الأدوات المستعملة في ذلك العصر للكتابة.

٣ ـ حفظ الصحابي لما عنده من قرآن في صدره.

٤ ـ كتابة نفس القطعة المكتوبة بين يدي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبأمره من قبل كتبة الوحي.

٥ ـ شهادة شاهدين على أن المكتوب كتب بين يدي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهذا على قول أن الشاهدين رجلان.

هذه الأمور التوثيقية التي نالتها هذه الصحف لم تنلها أي صحف خاصة

__________________

(١) انظر فتح الباري ٩ / ١٦ ، ومباحث في علوم القرآن ـ صبحى الصالح ص ٧٧.

(٢) نفس المرجع ٩ / ٢٠ كتاب فضائل القرآن ، وكتاب المصاحف ص ٣٣.

٤٦٢

بأي صحابي. لذا كانت تستحق أن تكون أصلا للمصحف العثماني.

الشبهة الرابعة :

الآيتان اللتان في آخر سورة براءة :

طعن المستشرقون في تواتر القرآن الكريم لذكر أبي خزيمة الوحيد لآيتي سورة التوبة (١).

الجواب :

جاء ذكر هاتين الآيتين في رواية زيد بن ثابت في صحيح البخاري حيث قال : (.... فتتبعت القرآن أجمعه .... فوجدت آخر سورة «براءة» مع خزيمة بن ثابت (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ..)(٢) الآيتان (٣).

وزاد في رواية (لم أجدهما مع أحد غيره) قال ابن حجر «أي مكتوبة كما ذكرت أن أصل كان توافق الكتابة للمحفوظ ولا يكتفي بأحدهما دون الآخر. وهذا ما فسره ابن حجر «للشاهدين» في قول أبي بكر لعمر وزيد (فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه) حيث فسر الشاهدين : بالحفظ والكتابة. وعدم وجودها مكتوبة عنده لا ينفي تواترها شفاها وحفظا في الصدور عند كثير من الصحابة ، لأنه جاء عن زيد بن ثابت : (كنت أسمع قراءة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لها كثيرا) فتلاوة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقتضي حفظ جمع من الصحابة لها. فهذا يؤكد تفسير ابن حجر أن عدم وجودهما عند أحد غيره أي مكتوبة.

__________________

(١) مقدمة بلاشير ص ٥٧ ـ ٥٨ ، ومقدمة القرآن واط ص ٤١ ـ ٤٢.

(٢) سورة براءة ١٢٨ ، ١٢٩.

(٣) انظر فتح الباري ٩ / ١٥ كتاب فضائل القرآن ، وكتاب المصاحف ص ١٣ ـ ١٤.

٤٦٣

والذي يؤكد أن هاتين الآيتين كانتا محفوظتين عند كثير من الصحابة أن عهدة التبليغ التي هي مطلوبة من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تقتضي أن يكون التبليغ عاما ، وليس خاصا بصحابي واحد كأبي خزيمة لأن الواحد يجوز عليه النسيان والغفلة والإهمال في التبليغ.

وهذا ممتنع في حق الجمهرة من الناس. ولا يمكن الخروج من عهدة التبليغ إلا بتحقيق الغاية والمراد منه.

وكتابتهما دليل على وجودهما عند جمهرة من الصحابي (١).

الخلاصة :

مما تقدم يتضح لنا أن الجمع الذي تم على يد زيد بن ثابت في خلافة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ إنما هو جمع ماكت ، وكان مفرقا في حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على الألواح ، والأقتاب ، والعسب وغيرهم ، فنسخه في مصحف واحد ، وهو أشبه ما يكون بكتاب مفرق الأوراق في بيت فجمعت الأوراق بعضها إلى بعض وربطت بخيط.

مميزات هذا الجمع :

١ ـ أنه اقتصر على ما اثبتت قرآنيته تواترا ، ولم تنسخ تلاوته.

٢ ـ أنه جمع بين دفتي مصحف واحد.

٣ ـ أنه جمع رتبت فيه الآيات والسور على ما كانت عليه التلاوة في عهده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

٤ ـ أنه كان مكتوبا بشكل يحتمل القراءة بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن (٢).

__________________

(١) انظر فتح الباري ١٩ ـ ١٤ ـ ١٦ كتاب فضائل القرآن (بتصرف) ومباحث في علوم القرآن ـ صبحي الصالح ص ٧٦.

(٢) انظر الوحي والقرآن الكريم ـ الذهبي ص ١٣٢ ، والمدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شبهة ص ٢٧٣.

٤٦٤

المسألة الثالثة :

المرحلة الثالثة من الجمع :

الجمع في عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ ورد الشبهات التي أثيرت عليه.

الشبهة الأولى :

زعم «بلاشير» أن دافع عثمان لجمع القرآن الكريم كان دافعا ارستقراطيا ، ولمصلحة الطبقة المكية الارستقراطية التي كان يمثلها (١).

الجواب :

هذه الشبهة المزعومة من جملة أباطيلهم وتهمهم التي لا تقوم على دليل علمي. لأن الروايات الصحيحة أكدت سلامة نوايا عثمان في جمعه ، فقد روى البخاري في صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك : «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها من المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة ، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق» (٢) رضي الله عنهم أجمعين.

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ٩ / ١١ كتاب فضائل القرآن.

٤٦٥

فالدافع لعثمان إذن لم يكن حاجة شخصية في نفسه ولم يكن لنزعته الارستقراطية كما زعم «بلاشير» وإنما كان بسبب اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في قراءة القرآن حسب تعليم معلميهم حسب الحرف الذي تلقوه من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى بلغ بعضهم أن يفضل قراءته على قراءته غيره ، وأن يكفر من لا يقرأ بقراءته (١).

أما وصف المجتمع الإسلامي بأنه فيه طبقات منها الطبقة الارستقراطية التي كان يمثلها عثمان ـ رضي الله عنه ـ على حد تعبير بلاشير المزعوم فهذا غير صحيح ؛ لأنه فهم ينطبق على المجتمع الغربي لا على المجتمع الإسلامي لأن المجتمع الإسلامي لا يعرف الطبقية فالناس فيه سواء لا فرق فيه بين الحاكم والمحكوم ، ولا بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى. فالناس فيه سواسية كأسنان المشط.

الشبهة الثانية :

لجان الجمع القرآني :

١ ـ القضية الأولى : نزاهة أفراد اللجنة المكلفة بالجمع :

شكك «بلاشير» في اللجان التي أنيط بها مهمة جمع القرآن الكريم وأن تكليفها كان لاعتبارات خاصة لا لكفاءة اللجنة ، كما زعم أن بعض اللجان كانت خيالية ، كما زعم أن بعض اللجان الفرعية بلغت اثني عشر رجلا (٢).

الجواب :

إن الاعتبارات الخاصة التي نسبها «بلاشير» للجنة الرئيسية التي كونها عثمان وهي من القرشيين الثلاثة الذين اتهمهم «بلاشير» بأنهم طبقة ارستقراطية : عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، والمتزلف المتملق زيد بن ثابت ـ على حد تعبيره ـ (٣).

__________________

(١) نفس المرجع ٩ / ١٨ كتاب فضائل القرآن.

(٢) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٥٦ ـ ٥٨.

(٣) نفس المرجع والصفحة.

٤٦٦

فما زال «بلاشير» يزعم أن المجتمع المسلم مجتمع ارستقراطي قياسا على المفهوم الغربي مع أنه مجتمع فريد ، لا يفرق فيه بين غني وفقير ، ولا بين حاكم ومحكوم ، وتعاليم الإسلام ما زالت فيه غضة طرية جعلت الناس فيه طبقة واحدة ، طبقة لا يخضعون إلا لله الواحد في كل عباداتهم ، وأحكامهم ، ومعاملاتهم ، فهم في صلاتهم على بساط واحد يصومون في وقت واحد ، ويحجون في وقت واحد ، وأماكن واحدة ، وعلى هيئة واحدة ، فمن هنا يظهر سوء فهم المستشرقين للمجتمع المسلم وروحه.

أما الدافع لعثمان لتكليف هؤلاء بهذا العمل العظيم فلم يكن لما ذكره «بلاشير» من الاعتبارات ، وإنما لدافع كفاءة أفرادها دون مكانتهم الاجتماعية أو صلاتهم الخاصة.

والذي يؤكد ذلك أن ناقدي عثمان الكثر في عهده لم ينتقدوه بمثل هذه الأقوال المكذوبة بأن استعمال لجنة جمع القرآن كان لدافع نفعي ، أو غرض شخصي ، أو مصاهرة مختلفة. فهؤلاء الصحابة كانوا يتمتعون بصفات تؤهلهم لهذا العمل الجليل ، فهم من صحابة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ومن ثقات الصحابة وأفاضلهم ، وممن شهد لهم بالإيمان والخيرية والورع والإخلاص والأمانة التامة والنزاهة المطلقة.

فسعيد بن العاص ـ الذي زعم بلاشير أن مشاركته كانت مشاركة فخرية فقط لا فعلية ، لأنه كان آنذاك أميرا على الكوفة سنة ثلاثين من الهجرة (٣٠ ه‍) (١) مع أن الصواب أن سعيدا لم يكن بعد قد عين أميرا على الكوفة ، بل كان أحد أعضاء اللجنة الرباعية الرئيسيين وسعيد هذا فقد كان أفصح الناس ، وأشبههم لهجة برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد أدرك تسع سنين من حياة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يعلم عنه إلا كل خير. وقد استعمله عثمان ـ رضي الله عنه ـ على الكوفة واستعمله من بعده معاوية على المدينة. وما عرف عنه إلا الخير

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٥٦ ـ ٥٨.

٤٦٧

والاستقامة. وكان من أجواد قريش وحلمائها ، حتى قال فيه معاوية : لكل قوم كريم ، وكريمنا سعيد. كانت وفاته بالمدينة سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين للهجرة.

أما زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ فاختياره كان لأنه أكتب الناس وصاحب خبرة في الأمر ، حيث كان كاتبا لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لذا كان توجيه عثمان ـ رضي الله عنه ـ «فليمل سعيد ، وليكتب زيد» (١) وكان جامعا للصحف لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ الذي زكّاه بقوله له : «إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتتبع القرآن فاجمعه» (٢) فحدد أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ الصفات التي امتاز بها «زيد» على غيره ومن أجلها اختاره للقيام بمهمة جمع القرآن الكريم.

١ ـ كونه شابا قويا ليكون أنشط لما يطلب منه.

٢ ـ كونه عاقلا فطنا ليكون أوعى له ، والعقل جماع الفضائل لأنه يحفظ العمل من النقص أو الخلل.

٣ ـ وكونه أمينا ، تقيا ، لتركن النفس إليه وتطمئن لعمله ، وتثق به.

٤ ـ وكونه كان يكتب الوحي لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليكون صاحب خبرة في الأمر مما يدعوه للإتقان (٣).

والذي يرد زعم «بلاشير» أنه كان [متكلفا ، متملقا] أن زيدا لم يطلب هذا الأمر بنفسه ، ولم يسع إليه ، بل كان تكليفا له من خليفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند ما قال له : (فتتبع القرآن فاجمعه) وقد أظهر ثقل هذه المسئولية على نفسه مما دعاه للتمنع والتردد يقصد [أي أبا بكر] فقد قال زيد ـ رضي الله

__________________

(١) انظر فتح الباري ٩ / ١٩ كتاب فضائل القرآن.

(٢) نفس المرجع ٩ / ١٠ كتاب فضائل القرآن.

(٣) نفس المرجع ٩ / ١٣ كتاب فضائل القرآن.

٤٦٨

عنه ـ : (فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ؟ قال : هو والله خير؟ فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهم) (١).

فأين هذا التملق والتكلف المزعوم من قبل هؤلاء المستشرقين؟؟.

أما عبد الله بن الزبير فهو الصحابي الجليل ، أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة من قريش ، وقد حضر وقعة اليرموك ، وشهد خطبة عمر بالجابية ، وبويع له بالخلافة عقيب موت يزيد بن معاوية سنة (٦٤ ه‍) وقيل سنة خمس وكانت ولايته تسع سنين ، وقد سمع ـ رضي الله عنه ـ من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحفظ عنه ، وهو الذي حمى البيت الحرام من فعل الحجاج واعتداءاته عليه ، قتل على يد الحجاج صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر بعد أن خذله عامة أصحابه ـ رحمة الله تعالى عليه ـ ومناقبه كثيرة تحتاج لسفر خاص به (٢) فرجل هذه صفاته ألا يكون فوق شبهات هؤلاء المستشرقين.

أما عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن مخزوم اختلف في صحبته : فقد عده الحاكم من الصحابة ، والبقية رجحوا ولادته في زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعدم سماعه منه ، فيكون من التابعين ، وممن عده ابن حبان الذي قال عنه هو : من ثقات التابعين ، وأثنى عليه ابن سعد : «كان عبد الرحمن من أشراف قريش» (٣).

هذه هي صفات هؤلاء الأربعة ـ رضوان الله عليهم ـ الذين زعم «بلاشير» أن اختيارهم لعملية الجمع إما بسبب أنهم من طبقة ارستقراطية أو لأن بعضهم كان متملقا «كزيد» ـ رضي الله عنه ـ ولكن الصواب أن الاختيار

__________________

(١) فتح الباري ٩ / ١٠ ـ ١١ فضائل القرآن.

(٢) تهذيب التهذيب ٥ / ٢١٤.

(٣) تهذيب التهذيب ٦ / ١٥٦ ـ ١٥٨.

٤٦٩

كان لمحض كفاءاتهم لاعتبارات العمل ، لا لاعتبارات خاصة كما زعم هؤلاء المستشرقون.

٢ ـ القضية الثانية :

ما ذكره «بلاشير» من تعداد اللجان وعدد أفرادها مما يدعو لعدم الدقة في الأمر ، والاضطراب الذي يدعو لعدم الثقة فيها ، على حد تعبير بعض المستشرقين (١).

الجواب :

هذه الروايات ليس بينها تعارض لأنه يمكن التوفيق بينها ، فيمكن أن تكون قد عينت ثنائية زيد بن ثابت كاتبا ، وسعيد بن العاص ممليا حسب رواية مصعب (٢).

ثم لما وجدوا أن العمل كثير ، ويحتاج لزمن طويل ، ضموا لهم من يعينهم ويساعدهم. فضم إليهما عبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وهنا أصبحت رباعية وهي التي ذكرها البخاري في صحيحه وهي الرواية المشهورة عند أهل العلم (٣).

ثم لما أرادوا تعداد النسخ عن المصحف العثماني الذي جمعته اللجنة الرباعية لتكون مصاحف رسمية للآفاق ضموا إليهم لجانا فرعية تساعدهم وتنسخ معهم. وقد بلغ عدد أفراد هذه اللجان اثني عشر رجلا (٤) وهي التي اعتبرها «بلاشير» خيالية ـ على حد زعمه ـ (٥) مع أن هذه اللجنة حقيقية. وقد أحصيت مع أفراد الرباعية أحد عشر رجلا منهم وهم : زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاص ،

__________________

(١) مقدمة على القرآن بلاشير ص ٥٦ ـ ٥٨ ، والقرآن والمستشرقون ص ١٠٩.

(٢) انظر فتح الباري ٩ / ١٩ وكتاب المصاحف لابن أبي داود ص ٣٢.

(٣) انظر فتح الباري ٩ / ١١ كتاب فضائل القرآن.

(٤) انظر فتح الباري ٩ / ١٩ ، كتاب فضائل القرآن ، وكتاب المصاحف لابن أبي داود ص ٣٣ ـ ٣٤.

(٥) مقدمة على القرآن ـ بلاشير ص ٥٦.

٤٧٠

وعبد الرحمن بن الحارث ، وعبد الله بن الزبير ، ومالك بن أبي عامر جد مالك ابن أنس الذي كان كاتبا ، وكثير بن أفلح ، وأبي بن كعب ممليا ، وأنس بن مالك ، وعبد الله بن عباس ، وهذيل وكان يملي ، وثقيف الذي كان كاتبا ، فهؤلاء أحد عشر رجلا ، ولعل عثمان بن عفان الذي كان المشرف على جميع العاملين بهذه المهمة والمتعاهد لهذا العمل الجليل فيكون تكملة الاثني عشر رجلا.

هذه الأسماء حسب روايات ابن حجر وابن أبي داود (١).

أما حكم «بلاشير» على اللجنة التي ذكر فيها أبيا أنها خيالية لزعمه هذا الاعتبار أن أبيا لم يشارك في هذا العمل الشريف وذلك لظنه بموته قبل بداية العمل سنة خمس وعشرين هجرية بينما كان العمل سنة ثلاثين للهجرة (٢).

فهذا الفهم والحكم خطأ وذلك لأن تاريخ وفاة أبي مختلف فيه كثيرا ، وقد رجح الإمام الواقدي وفاته في خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ سنة اثنتين وثلاثين للهجرة. وقد ذكر ابن سعد في طبقاته بإسناد رجاله ثقات لكن فيه إرسال أن عثمان أمره أن يجمع القرآن الكريم. وهذا يؤكد روايات ابن حجر وابن أبي داود التي ذكرته من بين المكلفين بهذا العمل الجليل (٣). كما أن «بلاشير» قد ناقض نفسه وأثبته ممليا في إحدى اللجان بعد إنكاره عمله مع اللجان (٤).

الشبهة الثالثة :

موقف بعض الصحابة من الجمع العثماني لاستثنائهم من العمل :

زعم «بلاشير» أنه قد حصل انفجار واعتراض من بعض الصحابة الذين

__________________

(١) انظر فتح الباري ٩ / ١٩ ، وكتاب المصاحف ص ٣٣ ـ ٣٤ ، وكتاب القرآن والمستشرقون ص ١٠٩ ، وكتاب مباحث في علوم القرآن ـ صبحي الصالح ٧٩.

(٢) مقدمة على القرآن ـ بلاشير ص ٥٦.

(٣) انظر تهذيب التهذيب ١ / ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٤) مقدمة على القرآن ـ بلاشير ص ٦٢.

٤٧١

استثنوا من العمل «كعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وآخرين» (١) ليؤكد ما زعمه على أن العمل كان لاعتبارات خاصة وينقصه التجرد والأهلية.

الجواب :

هذا الانفجار المزعوم من قبل «بلاشير» مرفوض لتحميله النصوص والمواقف أكثر مما تحتمل.

فبالنسبة لأبي بن كعب قد بينت سابقا أنه قد شارك فعليا في اللجنة ، ولم ينقل عنه أي اعتراض.

أما موقف علي فهو على غير ما صوره «بلاشير» فلم يكن قد سجل عليه أي اعتراض على اللجنة ، بل كان من المباركين لعملها ، المترحمين على عثمان ـ رضي الله عنه ـ لقيامه بهذا العمل العظيم حيث قال : «رحم الله عثمان لو وليته لفعلت ما فعل في المصاحف» وفي رواية «لو لم يصنعه عثمان لصنعته» (٢). وقد بين الإمام علي أن عثمان ـ رضي الله عنهما ـ لم يجمع القرآن إلا بموافقة ومرأى من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ حيث قال : «لا تقولوا في عثمان إلا خيرا ، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا» (٣).

فمن هنا يظهر دفاع الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ ، عن عمل أمير المؤمنين عثمان ـ رضي الله عنه ـ ومباركته له والترحم على صاحبه وعدم اعتراضه عليه ويؤكد هذا أن الخلافة قد آلت إلى علي ـ رضي الله عنه ـ ولم يظهر أي نقض ولا أي اعتراض لهذا العمل الجليل ، ولم يغير شيئا من القرآن الكريم. مما يدل على فساد غرض المستشرقين من هذا الكلام ، ووضوح افتراءاتهم.

أما بالنسبة «لعبد الله بن مسعود» ـ رضي الله عنه ـ فهو الوحيد من

__________________

(١) مقدمة على القرآن ـ بلاشير ص ٥٨ ـ ٦٣.

(٢) كتاب المصاحف ص ١٩ ـ ٣٠.

(٣) فتح الباري ٩ / ١٨ فضائل القرآن.

٤٧٢

بين الصحابة الذي نقل عنه اعتراض على تولية زيد بن ثابت وإبعاده عن هذا العمل فقد نقل اعتراضه ابن حجر حين قال : [يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل ، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر؟].

وقوله : [.. لقد أخذت من في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سبعين سورة ، وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان ، أفأنا أدع ما أخذت من في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ].

وعبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لم يكن معترضا على عمل زيد وهو جمع القرآن الكريم وكل ما يدل عليه أقواله أنه كان يرى أحقيته من زيد بهذا العمل العظيم لسابقته في الإسلام ، وتلقيه سبعين سورة من في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان كلامه هذا في ساعة غضب لأنه عند ما زال عنه الغضب ندم على ما قال واستحيا من موقفه ، وأدرك حسن اختيار عثمان ومن معه من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لزيد لهذه المهمة. وقد أشار (أبو وائل) «لندم عبد الله بعد ذكره لموقفه حيث قال : [.. إن عبد الله استحيا مما قال فقال : ما أنا بخيرهم ثم نزل عن المنبر](١).

هذا شأن المستشرقين المغرضين أن يقطعوا النصوص ولا يبينوها بتمامها تحقيقا لما في نفوسهم.

أما أهلية زيد وكفاءته فقد بينته من قبل والموقف ليس موقف تفضيل وإنما هو تبيين كفاءة وأهلية. وتعيين عثمان لزيد ـ رضي الله عنهما ـ لرئاسة هذه اللجنة لأن زيدا كان في المدينة حين الشروع في هذا العمل بينما كان عبد الله ابن مسعود في الكوفة ، ولم يكن لعثمان أن يؤخر ما عزم عليه حتى يحضر عبد الله من الكوفة.

__________________

(١) انظر كتاب مقدمتان في علوم القرآن ص ٩٥.

٤٧٣

كما أن زيدا كان هو الجامع لصحف أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في خلافته والكاتب بين يدي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكان صاحب أولوية على غيره للقيام بهذه المهمة.

والحق أن عبد الله كان الأصل أن يوجه غضبه على أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ لا على زيد ، لأنهما أول من وليا زيدا بهذا العمل ، فزيد كان مأمورا لا آمرا. لذا قال زيد لما سمع قول عبد الله بن مسعود فيه (من يعذرني من ابن مسعود ، يغضب علي ، أن لم أوله نسخ القرآن فهلا غضب علي أبي بكر وعمر وهما وليا زيد بن ثابت؟).

وقد كره أصحاب رسول الله من موقف عبد الله ولم يقبلوه من حين بلغهم قوله : (أأعزل عن المصاحف؟ ..) (١).

لذا كان الواجب على أي باحث علمي كما يصور المستشرقون أنفسهم أن لا يثيروا مثل هذه القضايا ولا يكبروها وذلك لتراجع أصحابها ، ووضوح مواقفهم. إلا إذا كانوا أصحاب نوايا غير سليمة من الإسلام.

هذا هو الانفجار الذي صوره المستشرقون من موقف عبد الله السابق وقد وضحته وبه يكون قد بان بطلان دعواهم وظهر سوء نواياهم.

الشبهة الرابعة.

منهج اللجنة في العمل :

زعم «بلاشير» أن منهج اللجنة لم يكن دقيقا ولا محكما. بل كان عشوائيا. مما سبب دخول روايات غير إرادية في النص القرآني فيما بعد (٢).

الجواب :

هذه التهمة من جملة الافتراءات التي لم يقدموا عليها أي دليل علمي أما

__________________

(١) انظر كتاب مقدمتان في علوم القرآن ص ٩٥.

(٢) مقدمة على القرآن ص ٧٩.

٤٧٤

الواقع والروايات التاريخية فتثبت عكس هذه الافتراءات والآن سأعرض منهج الإمام عثمان ـ رضي الله عنه ـ الذي وضعه للجنة للالتزام به.

١ ـ اختار عثمان ـ رضي الله عنه ـ أعضاء اللجنة من الحفظة لكتاب الله ـ عزوجل ـ لضمان النظام والترتيب والضبط والحصر للآيات.

٢ ـ جعل أصل الجمع النسخة الموثقة الرسمية التي جمعها أبو بكر وكانت محفوظة عند حفصة ، وأشبههم لهجة برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهما عمدة العمل. وكذلك من وضعوا مساعدين لهم كانوا أصحاب كفاءة عالية.

٣ ـ كانت اللجنة لا تكتب شيئا من القرآن إلا بحضرة حافظه ، ويؤخرون ما كان صاحبه غير حاضر حتى ساعة حضوره.

فكان الأمر فيه التروي البالغ لذا امتاز بالدقة ليسلم من الخطأ.

٤ ـ طلب عثمان أن يكتبوا ما يتفقون عليه ، فإذا اختلفوا في شيء منه عليهم أن يكتبوه بلسان قريش لنزول أغلب القرآن به.

ومثال ذلك : اختلافهم في كلمة «التابوت».

فقال القرشيون تكتب «التابوت» بتاء مفتوحة. وقال زيد : بل تكتب «التابوة» فرفع اختلافهم لعثمان فرجح كتابتها بلهجة قريش «التابوت» وهكذا فجعل القرآن بلسانهم ؛ لأنه سيد الألسنة ؛ ولأنهم أفصح الناس فكتب القرآن على حرفهم وتركت بقية الأحرف لليونة ألسنتهم بالقرآن. هذا هو سبب اختيار لغتهم ولسانهم على غيرهم لا كما زعم «بلاشير» أن سبب ذلك لأنهم كانوا الطبقة الحاكمة (١).

٥ ـ لم يكتبوا شيئا إلا بعد عرضه أكثر من عرضة ، وبعد التأكد أنه مما أقر في العرضة الأخيرة فجردوا القرآن مما ليس متواترا (٢).

__________________

(١) انظر القرآن والمستشرقون ص ١٠٩ ـ ١١٢.

(٢) انظر فتح الباري ٩ / ٢٠ كتاب فضائل القرآن.

٤٧٥

إن هذه الطريقة التي وضعها عثمان ـ رضي الله عنه ـ تعتبر من أدق طرق البحث العلمي ، ومن مناهجه وهي قريبة من منهج التحقيق عند العلماء حيث اعتبروا العمل نسخة كأصل ، وقابلوا معها النسخ الأخرى ، وأرجعوا كل جزء من القرآن لصاحبه ، وأقر المتفق عليه وأبعد المختلف فيه ليبقى المتواتر من القرآن فقط ، ويحذف الآحاد من شروح وتفسير ، فأي دقة مثل هذه الدقة مع أنها قبل ألف وأربعمائة عام تدل على نضج العقل المسلم مبكرا قبل أن ترى الحضارة الغربية النور ، ليحقق الله الحق ويبطل باطل المستشرقين وترهاتهم ، وأكاذيب الشيعة الذين كانوا أصل هذه الأكاذيب والافتراءات جميعا.

الشبهة الخامسة :

كازانوفا وجمع القرآن :

زعم «كازانوفا» في كتابه (محمد ونهاية العالم) أن جمع عثمان للمصحف قصة وهمية أحكم نسجها في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان توطئة للمبالغة في شأن التحسينات التي أدخلت على رسم المصاحف في عهد الخليفة المذكور (١).

الجواب :

إن هذا الرأي الذي أقدم عليه «كازانوفا» من أغرب الآراء في علم الدراسات القرآنية حيث يتناقض مع بدهيات الروايات التاريخية والواقع ، وقد عرضت خلال ردي على الشبهات الماضية في الجمع القرآني بمراحله الثلاث من الأدلة الكافية على فساد هذا الرأي ، (٢) وتبدد هذا السراب الخادع.

وكما قيل : الحق ما شهدت به الأعداء. فقد نقض «بلاشير» هذا

__________________

(١) مقدمة على القرآن ـ بلاشير ص ٦٨ ، والقرآن والمستشرقون ص ١١٩ ـ ١٢٠ ، ومباحث في علوم القرآن ـ صبحي ص ٨٧.

(٢) انظر باب جمع القرآن ـ مراحل الجمع.

٤٧٦

الرأي (١) قائلا : [إننا لا نستطيع أن نتبع كازانوفا في هذا الافتراض الجسور الذي يتناقض مع المسلمات الإيجابية](٢).

ففي هذا كفاية في الرد على هذا القول المتهافت الذي لا تسنده أدلة.

الشبهة السادسة :

الصحف الخاصة وموقف المستشرقين منها :

اعتبر «بلاشير» المصاحف الخاصة بالصحابة أداة من أدوات المعارضة للمصحف العثماني مع محاولة إثبات صور من الخلاف بينها وبين هذا المصحف سواء في ترتيب السور أو أسمائها ، ليظهر تناقضا بين النصوص القرآنية وهو ما دفع عثمان ـ رضي الله عنه ـ لحرق هذه المصاحف (٣) حتى لا يظهر اضطراب مصحفه.

الجواب :

لإثبات هذه الدعاوي حاول المستشرقون أن يجدوا أيا من هذه المصاحف ليثبتوا أن القرآن فيه تناقض وتباين ليصلوا بالتالي أنه ليس الكتاب الرباني الذي حفظ مع التغيير والتبديل ، فصوروا النسخ الخاصة مصاحف جمعت لروح المعارضة التي كانت بين الصحابة ، لذا جاءت مباينة لهذا المصحف الإمام. حتى ادعوا أن «لويس» و «فنجانا» قد تمكنا من الوصول لبعضها في السويس عام (١٨٩٥ م) كما ذكر ذلك «بلاشير» (٤).

كما حاولوا بكل جهدهم أن يثبتوا أن هذه المصاحف كانت موجودة فعلا بعد ما ذكر عن حرقها. فقد نقل «بلاشير» أن ابن كثير قد شاهد مصحف

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٦٨.

(٢) نفس المرجع ص ٦٨.

(٣) مقدمة على القرآن «بلاشير» ص ٣٦ ـ ٤٨.

(٤) نفس المرجع ٣٦ ـ ٣٧.

٤٧٧

أهل الشام في جامع دمشق عند الركن الشرقي من المعمورة بذكر الله حيث نقل لها من طبرية وبقي فيها لسنة ٣١٠ ه‍.

كما أشار «بلاشير» لوجود مصحف عثمان الذي عليه دمه في القاهرة في بداية القرن الرابع الهجري (١).

كما أشار «بلاشير» أن ابن بطوطة رأى أثناء رحلته المشهورة بعض أوراق قديمة من هذه المصاحف في طرسوس ، وقرطبة ومراكش والبصرة (٢).

كما زعموا إيجادهم مصحف أبي في البصرة.

فمن المستشرقين الذين اهتموا بهذا الجانب المستشرق «كواترمير» وقد بنى على ما وصلت إليه دراسته كل من «كازانوفا» و «بلاشير» أخطر الاستنتاجات كما استدركا على دراسته ما وصلت إليه بحوثهما.

وقد بذل هؤلاء المستشرقون جهدهم لإيجاد أي اختلاف بين المصحف الإمام وهذه المصاحف وبين المصحف الإمام والمصحف الحالي. سواء كان هذا الاختلاف في القراءة أو الرسم أو ترتيب السور.

والآن سأرد على هذه الشبهة :

فبالنسبة لنسخة الشام الآنفة الذكر فقد ذكر «بلاشير» أنه مصحف أهل الشام مما يدل أنه المصحف الذي نسخ عن المصحف العثماني الأم ، إذن فلا يكون بينهما أي اختلاف ، وما زعم من اختلاف فهو غير صحيح.

كما أن ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ ذكر أن هذا المصحف قد احترق سنة (٣١٠ ه‍) في الحريق الذي أصاب المسجد الأموي في دمشق. ولكن المستشرقين يأبون إلا إثبات وجوده ويحاولون إثبات أن بينهما فروقا.

__________________

(١) انظر مباحث في علوم القرآن صبحي الصالح ص ٨٩.

(٢) مقدمة على القرآن ـ بلاشير ص ٦٧ ـ ٦٨.

٤٧٨

وكذلك المصحف الذي وجد في مصر وعليه دم عثمان فقد ذكر «بلاشير» نفسه أنه مصحف عثمان نفسه بإشارة وجود دمه عليه. إذا فلن يكون هناك بينهما أي خلاف لأنه مصحف الإمام نفسه. هذا على فرض صحة ما ذكر. ولكن هذا المصحف كان مزينا بزركشات ونقوش ، ومبينا عليه الأعشار مما يدل على فساد قولهم لأن هذه الأمور لم توضع على المصاحف إلا في وقت متأخر ، ولم توضع على مصاحف العهد الراشد الأول.

أما إيجاد مصحف أبي في البصرة في نهاية القرن الرابع الهجري مع وجود خلاف بينه وبين المصحف الإمام في ترتيب أسماء السور. فلا دليل عليه ولم تثبته الوثائق التاريخية. فلو صح الأمر لكان مصحفا خاصا بهذا الصحابي الجليل كتب قبل كتابة المصحف الإمام.

وهذه المصاحف فيها المتواتر من القرآن والآحادي الذي لا يقطع بقرآنيته وفيه مخالفة للمصحف العثماني. وقد أحرقت جميعها بأمر من الخليفة الراشد الثالث عثمان. وأطولها عمرا النسخة الأصل صحف أبي بكر التي أودعت عند حفصة وقد أتلفها مروان بن الحكم والي المدينة في عهد معاوية بعد موتها ـ رضي الله عنها ـ.

أما ما ذكروه عن مصحف طرسوس السويس أو القاهرة الذي وجده «لفنجانا ولويس» سنة ١٨٩٥ م واشترياه من هناك ، وذكرا أن فيه بعض الاختلاف مع المصحف العثماني. فقد أنكر أقدميتها «بلاشير» لسوء خطها ، وصعوبة قراءته ، ولأنه يضم كتابات مسيحية باللغة العربية تبدو على ما يبدو للقرن العاشر الميلادي الرابع الهجري (١).

فمن هنا يظهر بطلان هذه الشبه لأنها مجرد فروض وخيال لا حقيقة لها من الواقع وكل أدلتها واهية. فبهذا تسقط كل استنتاجاتهم.

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٣٦ ـ ٣٧ ـ ٤١.

٤٧٩

وعدم وجود نسخ قديمة للمصحف الحالي لا يضره بشيء لأن هذا المصحف وجد له من دواعي السلامة والدقة مما هو فوق الشبهات ، ورافقه حفظ الصدر في كل مراحله قبل تدوينه وبعدها. وفوق هذا الحفظ البشري فقد تكفله الله سبحانه بعنايته فحفظه حتى قيام الساعة قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١).

أما بالنسبة لحرق عثمان للمصاحف الخاصة فقد ذكرت سابقا أن حرقها لم يكن لغرض شخصي لتبقى الساحة خالية أمام مصحفه كما زعم بعضهم. بل إن حرقها كان بموافقة الصحابة رضوان الله عليهم بعد استشارة عثمان لهم وهذا ما بينه الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ حيث قال مبينا غرض عثمان من الجمع ومدافعا عنه :

[ألا يا معشر الناس ، اتقوا الله ، وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حراق المصاحف ، فو الله ما حرقها إلا عن ملأ منّا أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ](٢).

وكان الداعي لذلك اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في قراءة القرآن فأبقى حرفا واحدا في المصحف العثماني دفعا لدابر الخلاف. والقاعدة الشرعية تقول : «درء المفاسد أولى من جلب المصالح».

فمن هنا يظهر تهافت كل دعاوي هؤلاء المستشرقين ، ويتكشف عوار بحوثهم ، ويظهر زيف وصفها بالأمانة والنزاهة العلمية ليعرف الناس هذا الصنف من الناس فتسقط لافتاتهم البراقة ويقف الناس على حقيقتهم وعن الانخداع بهم.

__________________

(١) سورة الحجر آية : ٩.

(٢) انظر فتح الباري ٩ / ١٨ كتاب فضائل القرآن.

٤٨٠