آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

د. عمر بن إبراهيم رضوان

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

المؤلف:

د. عمر بن إبراهيم رضوان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

وإذا نزلت عليه الآية يقول : «ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ...» الحديث (١).

فمن مجموع الروايات أن الكتابة كانت منتشرة في عهده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلى رأس ذلك القرآن الكريم فكان حفظ الصدور ملازما لحفظ السطور في كل الأحوال مع أن الأصل الحفظ أما الكتابة فكانت للتوثيق ولكن لما كان بعض الصحابة يكتبون مع القرآن غيره في صحيفة واحدة نهوا عن ذلك لئلا يختلط مع القرآن سواه فلما أمن الاختلاط أذن لمن كان عنده الحرص والرغبة في الكتاب أو كان ضعيف الحفظ أن يكتب بنفسه أو يكتب له شيء من السنن والأحكام كنصوص شرعية يجب معرفتها والعمل بها.

وهذا كله يرد دعوى المستشرقين وعلى رأسهم أصحاب الموسوعة البريطانية حيث قالوا : «إن حفظ القرآن في الصدور وكتابته كانت الطريقة المعتادة لحفظه وضبطه من الضياع ، وكانت تكتب في بعض المناسبات فقط» (٢) ويؤكد سلامة القرآن من الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل ليومنا هذا حتى أنه يقرأ غضا طريا كأنه الساعة أنزل بتلقيهم إياه بطريق إجازات الحفاظ لطلبتهم.

والذي يؤكد سلامة القرآن مما وجه إليه من افتراءات وجود بعض قطع من القرآن الكريم متطابقة مع القرآن الحالي فيما عدا بعض النقاط الطفيفة جدا التي لا تغير شيئا من المعنى العام حسب شهادة الأستاذ موريس بوكاي. قال الأستاذ «موريس» في كتابه (القرآن والكتب المقدسة) :

[يقول الأستاذ حميد الله ، توجد اليوم بطشقند واستامبول نسخ تنسب إلى عثمان. وإذا نحينا جانبا ما قد يكون من أخطاء النسخ ، فإن أقدم الوثائق المعروفة في أيامنا والتي وجدت في كل العالم الإسلامي تطابق كل منها الأخرى تماما. كذلك الأمر أيضا بالنسبة للمخطوطات التي في حوزتنا في أوربا [توجد

__________________

(١) انظر سنن أبي داود ١ / ٢٠٩ كتاب الصلاة باب من جهر بالبسملة (وهو بلفظ قريبا).

(٢) قضايا قرآنية ص ٢١٦.

٤٤١

بالمكتبة الوطنية بباريس قطع يرجع تاريخها ، حسب تقدير الخبراء ، إلى القرنين الثامن والتاسع الميلاديين أي إلى القرنيين الثاني والثالث من الهجرة].

إن هذا الحشد من النصوص القديمة المعروفة متطابق كله فيما عدا بعض النقاط الطفيفة جدا التي لا تغير شيئا من المعنى العام للنص برغم أن السياق قد يقبل أحيانا أكثر من إمكانية للقراءة ، وذلك يرجع إلى أن الكتابة القديمة أبسط من الكتابة الحالية (١).

وهذا تصديق لقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٢).

وكما قال بعض المنصفين من الأوربيين : إن القرآن إذا جرد من الشكل والتنقيط ، وبعض التعليقات عند أول كل سورة من كونها مكية أو مدنية ، ومن ذكر عدد آياتها ، يكون تماما هو القرآن الذي أنزل على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٣).

فهذه الأدلة كلها من مصدرها الإسلامي تارة وأقوال المستشرقين أنفسهم تارة أخرى تؤكد سلامة القرآن الكريم من أي نقص أو زيادة ، وترد أقوال المفترين من المستشرقين ، ومن قبلهم المنحرفين المغالين من الشيعة ، والمجانبين لدقة البحث العلمي كأعضاء الموسوعة البريطانية الذين ينقصهم التوثيق ويعوز كلامهم الأدلة. وصدق الله إذ يقول : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(٤).

الشبهة الثانية :

أ ـ عدد الحفظة للقرآن الكريم.

ب ـ ونزاهة الكتبة وشبههم حولهم.

__________________

(١) الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص ١٢٣.

(٢) سورة الحجر آية : ٩.

(٣) قضايا قرآنية ص ٢١٩.

(٤) فصلت : ٤١ ـ ٤٢.

٤٤٢

أ ـ عدد الحفظة للقرآن الكريم :

أثار كثير من المستشرقين شكوكا حول عدد الحفظة ليصلوا بذلك لعدم رواية القرآن بالتواتر وأن قلتهم أدى إلى ضياع شيء من القرآن بموت بعضهم وعلى رأسهم «بلاشير» الذي زعم أنه حقق المسألة ووجد أن عددهم سبعة وفي قول آخر : إنهم تسعة أشخاص.

أما «شيفالي» فذكر أنهم اثنان فقط (١).

مستندين على روايات ذكرت بعض الحفظة كما في طبقات ابن سعد وهم :

١ ـ ابن مسعود.

٢ ـ سالم.

٣ ـ معاذ بن جبل.

٤ ـ أبي بن كعب.

٥ ـ زيد بن ثابت.

٦ ـ أبو يزيد.

٧ ـ أبو الدرداء.

الجواب :

كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ينزل عليه القرآن الكريم فيقرؤه على صحابته بتؤدة وتمهل كي يحفظوه ويفهموه «كنا نحفظ العشر فلا نتجاوزها حتى نحفظها ونعمل بها» (٢) قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا نزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوما فمكث ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال : «اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارضنا وارض عنا» ثم

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن بلاشير ص ٢٨ ، ومقدمة القرآن واط ص ٤١.

(٢) ........

٤٤٣

قال : أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم عشر آيات (١).

وقد جعل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ القرآن الكريم في المقام الأول في العناية والاهتمام فتنافسوا في حفظه وفهمه ، فكانوا يكثرون من قراءته وترداده آناء الليل وأطراف النهار.

عن أبي موسى قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

«إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن ، حين يدخلون بالليل ، وأعرف منازلهم من أصواتهم ، بالقرآن بالليل ، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار ..» (٢) الحديث.

وكان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يتفاخرون بحفظ شيء من سور القرآن الكريم من فم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده إلى عبد الله أنه قال : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٣) ثم قال : على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟ فلقد قرأت على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بضعا وسبعين ولقد علم أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أني أعلمهم بكتاب الله. ولو أعلم أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه» (٤).

وكان اعتمادهم في الحفظ على التلقي والسماع من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكان من خصائص هذه الأمة حفظهم كتاب ربهم في صدورهم فوضعوا «أناجيلهم في صدورهم» فلا عجب والحال كما سمعت أن يحفظه الجم الغفير من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فكان على رأسهم الخلفاء الأربعة وكان منهم : حذيفة بن

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن من سورة المؤمنون حديث رقم ٣١٧٢.

(٢) انظر صحيح مسلم ٤ / ١٩٤٤ كتاب فضائل الصحابة حديث رقم ٢٤٩٩.

(٣) سورة آل عمران : ١٦١.

(٤) صحيح مسلم ٤ / ١٩١٢ كتاب فضائل الصحابة حديث ٢٤٦٢.

٤٤٤

اليمان ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعبد الله بن مسعود ، وأبو هريرة ، وعبد الله ابن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وأبوه. وزاد بعضهم طلحة ، وسعدا ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعبد الله بن السائب قارئ مكة ، وغيرهم من المهاجرين.

وذكر من الأنصار : أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، ومن أزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عائشة ، وحفصة وأم سلمة ولا شك أن بعض من ذكرنا أكثر في القراءة وأعلى من بعض وإنما خصصنا بالتسمية كل من وصف بالقراءة ، وحكي عنه منها شيء(١).

وقد ذكرت هذا الجم الغفير من الصحابة لأنقض مزاعم كل من «بلاشير» و «شيفالي» و «نولديكه» حيث زعم بعضهم أن إيداع الحفظ لحافظة الصحابة أدى لاضطراب النص القرآني ضد المرتدين ، خاصة إذا علم أنه مات من القراء في معركة اليمامة «خمسمائة من الصحابة ، وسبعون من القراء في يوم «بئر معونة» كما جاء في صحيح البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : «بعث النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سبعين رجلا لحاجة يقال لهم : القراء. فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال له : «بئر معونة» فقال القوم : والله ما إياكم أردنا ، إنما نحن مجتازون في حاجة للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقتلوهم. فدعا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عليهم شهرا في صلاة الغداة ، وذلك بدء القنوت وكنا نقنت» (٢).

فالروايات التي استنتج منها «بلاشير» أن العدد محصور بسبعة أو تسعة لم يقصد منها الحصر كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

«خذوا القرآن من أربعة : من ابن أم عبد ـ فبدأ به ـ ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة» (٣).

__________________

(١) انظر المرشد الوجيز لأبي شامة ص ٤١ ـ ٤٢.

(٢) انظر صحيح البخاري ٥ / ٤١ ـ ٤٢ كتاب المغازي.

(٣) انظر صحيح مسلم ٤ / ١٩١٣ كتاب فضائل الصحابة حديث رقم (٢٤٦٤).

٤٤٥

وما كان من ألفاظها للحصر فللعلماء فيها تأويلات منها :

١ ـ أنه لم يجمع جميع القرآن عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويأخذه من فيه تلقيا ، غير تلك الجماعة ، فإن أكثرهم أخذوا بعضه عنه ، وبعض القرآن عن غيره.

٢ ـ منها أنه لم يجمعه على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ممن ظهر به وأبدى ذلك من أمره وانتصب لتلقينه ، وأصبح يقصد للتلقي عنهم بالإشارة من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأحيانا لشهرتهم بين الصحابة في تعليم القرآن الكريم.

وقيل : فيها تأويلات أخرى.

٣ ـ ومنها أنه لم يجمعه مكتوبا لنفسه غير هؤلاء ..

أما الروايات التي اعتمد عليها المستشرقون وعلى رأسهم «بلاشير» في تحديد العدد بسبعة أو تسعة هما روايتان عن أنس ـ رضي الله عنه ـ وبعض الروايات التي ذكرها ابن أبي داود في كتابه المصاحف.

فالرواية الأولى عن أنس من طريق ثمامة : «مات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ، قال : ونحن ورثناه».

والرواية الثانية رواها عن أنس من طريق قتادة حيث سئل عن من جمع القرآن على عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : أربعة كلهم من الأنصار : أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد».

فالملاحظ أن رواية ثمامة خالفت رواية قتادة من وجهين :

أ ـ التصريح بصيغة الحصر في الأربعة.

ب ـ ذكر أبي الدرداء بدلا من أبي بن كعب.

فعلى هذا فالروايتان مضطربتان.

٤٤٦

قال المازري : لا يلزم من قول أنس لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك ؛ لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه ، أو لم يكن حاضرا في ذهنه سواهم. وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد ... لذا فإنا لا نسلم حمله على ظاهره ، لكن لا يلزم من كون كل واحد من الجم الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حفظه مجموعة الجم الغفير ، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى. ويكفى أن نشير أن من قتل يوم بئر معونة في عهده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سبعون قارئا ليبين تهافت حمل هذا الحديث على ظاهره (١).

وقد علق الإسماعيلي على الحديثين بقوله : هذان الحديثان مختلفان ، ولا يجوز أن في الصحيح مع تباينهما بل الصحيح أحدهما.

وقد جزم البيهقي أن ذكر أبي الدرداء وهم والصواب أبي بن كعب.

وقال الداودي : لا أرى ذكر أبي الدرداء محفوظا.

ولا شك أن أبا الدرداء ممن حفظ برواية ذكرها ابن أبي داود برواية حسنة مرسلة.

المهم أن صيغة الحصر لم يقصد منها حصر العدد فيهم فقط ونفيه عن غيرهم لأن الواقع أثبت عكسه.

وفي هذا رد قوي على مزاعم المستشرقين الذين حاولوا تقييد العدد لإضعاف صفة التواتر عن القرآن الكريم وإثبات نقصه بموت بعضهم.

ب ـ نزاهة كتبة الوحي :

استغل المستشرقون حادثة ردة عبد الله بن أبي السرح (٢) ليشككوا في نزاهة كتبة القرآن الكريم حتى زعم بعضهم أنه زاد في القرآن بما يزيد عن خمس

__________________

(١) انظر فتح الباري ٩ / ٥٢ (بتصرف).

(٢) هو عبد الله بن سعد بن أبي السرح أخو عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ من الرضاعة كانت ـ

٤٤٧

حجم المنزل. كما زعم «كازانوفا» أن الأرض لفظت كاتبا آخر ليوحي أن عدم النزاهة لم تقتصر على واحد (١).

الجواب :

إن عمل عبد الله بن أبي السرح لم يتكرر من أحد سواه ، ولم يثبت لنا التاريخ ، ولا كتب السير أن واحدا فعل صنيعه على عكس مزاعم المستشرقين. ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يترك هذه القضية دون اهتمام بل لما كشف له إساءة عبد الله بن أبي السرح وحكم بكفره أوقفه عن كتابة الوحي وأهدر دمه لبشاعة فعله وسوء أدبه مع خالقه ، وظنه السيئ برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى فر من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة (٢) ، ولم يشفع له إلا صدق توبته وحسن ندامته التي كانت بإلحاح من أخيه في الرضاعة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يكن ليبقي أي تغيير حصل في كتاب الله سبحانه وإن أبقى شيئا فيكون لجواز إنزال القرآن بما سبقت به يد الكاتب كموافقات عمر لربه عزوجل. قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : «وافقت الله في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب ، قال : وبلغني معاتبة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعض نسائه فدخلت عليهن قلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خيرا منكن حتى أتيت إحدى نسائه قالت : يا عمر : أما في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما يعظ

__________________

ـ أمه أشعرية. استعمله عثمان رضي الله عنه على مصر ، وكان محمودا في ولايته شارك في كثير من معارك الإسلام منها : معركة ذات الصواري وقد سهل على يديه فتح إفريقية عنوة ، وغيرها من الثغور.

كان أبوه سعد من المنافقين الكفار. أسلم عبد الله ثم ارتد فأهدر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دمه ، ولما فتح رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مكة رجع إليها آويا إلى بيت أخيه عثمان ـ رضي الله عنه ـ الذي طلب له الأمان من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، فقبل فيه شفاعة عثمان ، وحسن إسلامه ، مات سنة ٥٩ ه‍ انظر الإصابة ٢ / ٢٠٩.

(١) انظر مقدمة القرآن ـ وهامشه ـ بلاشير ١٢ ـ ١٣ ، والقرآن والمستشرقون ص ٨٥ ـ ٨٦.

(٢) القرآن والمستشرقون ص ٨٥.

٤٤٨

نساءه حتى تعظهن أنت» (١).

ومع هذا لم يخرج ابن الخطاب عن دائرة الإيمان. بل اعتبر هذا مكرمة من الله سبحانه أن يوافقه في مراده فحمد الله سبحانه على ذلك.

والجدير بالذكر أن عبد الله بن أبي السرح لم يكن الكاتب الوحيد لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بل لقد بلغوا الأربعين ونيفا من الكتاب (٢). كما أن الكتابة كانت عملية توثيقية خوف النسيان لا أكثر ، أما الاعتماد فبالدرجة الأولى كان على حفظ الصحابة ـ رضوان الله عليهم له بالتلقين من فم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو من بعضهم بعضا.

بل إن الحافظ الأول لهذا الكتاب العزيز هو الله سبحانه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٣).

وقد تكفل بهذا في صدر رسوله (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)(٤) ولدوام هذا الحفظ كما أنزل منه سبحانه جعل جبريل يدارسه القرآن في رمضان من كل عام مرة وفي العام الأخير عارضه إياه مرتين.

لذا كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دائم القراءة له في الصلوات والمناسبات ، ومواطن الدرس للصحابة رضوان الله عليهم. لذا فلا يعقل بعد كل هذا أن يبقى شيء من تغيير وتبديل في القرآن الكريم خاصة بعد ردة عبد الله بن أبي السرح ، فما كان موافقا لمراد الله أبقى وما خالف نسخت تلاوته وأحكم باقيه.

والمعروف عن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ، حرصهم الشديد أن لا

__________________

(١) انظر إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ٧ / ١٤ كتاب التفسير.

(٢) كتاب الوحي ص ٦٤ وما بعدها.

(٣) سورة الحجر : ٩.

(٤) سورة القيامة : ١٧.

٤٤٩

يبدلوا ولا يغيروا شيئا من القرآن ، وكانوا يحرصون على تلقيه منه شخصيا ، وحادثة إنكار عمر بن الخطاب على هشام بن حكيم مشهورة عند ما سمع ابن الخطاب هشاما يقرأ سورة على غير الوجه الذي سمعه من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأخذ بتلابيبه وذهب به إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى سمع قراءتهما وصوبهما فإذا كان هذا الشأن بحرف فكيف بتغييرات ابن أبي السرح التي أدت لزيادة خمس القرآن ـ على حد زعم بعضهم ـ.

اللهم إن هذا إلا اختلاق وحسد من عند أنفسهم. مما يؤكد بطلان مزاعم المستشرقين ونزاهة كتبة الوحي ، وسلامتهم من أي شبهة تنسب إليهم كمزاعم «بلاشير» في مقدمته.

أما الرواية الثانية التي استدل بها «كازانوفا» للطعن في نزاهة الكتبة وهي أن الأرض لفظت كاتبا آخرا غير أمين من كتبة الوحي لتغييره في القرآن (١).

فهذه الرواية أو هى من سابقتها من حيث الاحتجاج ، لأنها رواية ضعيفة لم تثبت تاريخيا ، ولم تنسب لأحد معروف ، وذكرها في «كتاب المصاحف» لابن أبي داود ليس حجة لأن الكتاب فيه الصحيح والضعيف والموضوع ، وصاحبه كان كحاطب ليل همه جمع كل ما قيل في موضوعه ولم يميز فيه بين ما صح من الروايات وغيره.

وحتى ابن أبي داود الذي أثبت أن هناك من لفظت الأرض جثته لم يثبت أنه لعدم أمانته في كتابة الوحي بل قال : [أما الآخر الذي لفظته الأرض لوجه غير هذا](٢).

لذا فلم يشر «كازانوفا» ولا «بلاشير» الذي نقل قوله لمرجع موثق ذكر هذه الرواية ولم أجدها إلا في كتاب المصاحف لابن أبي داود باللفظ المذكور سابقا ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ بلاشير وهامشه ص ١٢ ـ ١٣ ، والقرآن والمستشرقون ص ٨٥ ـ ٨٦.

(٢) المصاحف لابن أبي داود ص ٧ ـ ٨.

٤٥٠

الشبهة الثالثة :

صحيفة أخت عمر بن الخطاب.

زعم «بلاشير» أن صحيفة أخت عمر بن الخطاب التي كانت عند ختنه غير صحيحة ؛ وذلك ليثبت أن القرآن الكريم لم تبدأ كتابته إلا في المدينة المنورة سنة (٦٢٢ م) تأثرا باليهود. بناء على ما كان يرجحه «بلاشير» (١).

الجواب :

هذه القضية من جملة أخطاء المستشرقين التاريخية التي تفضحها كتب التاريخ والسير ليحاولوا إثبات أن الكتابة لم تبدأ في مكة المكرمة وأن بدايتها كان في المدينة المنورة تأثرا باليهود الذين كان لهم كتاب فرغب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يكون له كتاب مثلهم فشرع بها.

أما مسألة تأثر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ باليهود فإن التاريخ يكذبه ، بل كان حريصا كل الحرص أن يكون الإسلام فريدا في كل شيء غير مقلد أو محاك لأي من الدينين في شيء فلما كثر ذلك منه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أثار هذا حفيظة اليهود فصرحوا بقولهم : [ما يريد محمد إلا خلافنا].

كما أني قد ذكرت سابقا أن أمر الكتابة كان معروفا في مكة لكونها بلدا تجاريا ، وإن كان على نطاق ضيق. وقد ذكرت كذلك أن الكتابة بطريق رسمي بأمر من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانت ملازمته لحفظ الكتاب العزيز من أجل التوثيق ، كما أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لحرصهم على حفظ ما ينزل كان كثير منهم ممن يجيد الكتابة ينسخ له نسخة خاصة يرجع إليها وقت حاجته ، ويكتب عليها بعض تعليقاته من حكم ، أو تفسير غريب أو غير ذلك. واشتهر

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ١٥.

٤٥١

من أصحاب المصاحف الخاصة عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأبي ابن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمرو ، ومصاحف أزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ (١).

فهذه المصاحف تشهد أن كتابة القرآن كانت منتشرة منذ العهد النبوي وأن ما زعمه «بلاشير» وغيره لم يكن صحيحا ، بل ينقصه التوثيق والتدقيق العلميان. أما بالنسبة لصحيفة أخت عمر التي شككوا في صحتها فقد أثبتها الإمام ابن سعد في طبقاته خلال سرده لقصة إسلام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال ابن سعد : [أخبرنا إسحاق بن يوسف الأزرق قال : أخبرنا القاسم بن عثمان البصري عن أنس بن مالك قال : خرج عمر متقلدا السيف ، فلقيه رجل من بني زهرة ، قال : أين تعمد يا عمر؟ فقال : أريد أن أقتل محمدا ، قال : وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدا؟ قال : فقال عمر : ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي أنت عليه ، قال : أفلا أدلك على العجب يا عمر؟ إن ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه. قال : فمشى عمر ذامرا حتى أتاهما وعندهما رجل يقال له : خباب. قال : فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت ، فدخل عليهما. فقال : ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ قال : وكانوا يقرءون «طه» فقالا : ما عدا حديثا تحدثناه بيننا. قال : فلعلكما قد صبوتما؟ قال : فقال له ختنه : أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ قال : فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدا ، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها ، فنفحها بيده نفحة فدمى وجهها فقالت وهي غضبى يا عمر : إن كان الحق في غير دينك أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فلما يئس عمر قال : أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه. قال : وكان عمر يقرأ الكتب. فقالت أخته : إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون ، فقم فاغتسل أو توضأ. قال : فقام عمر فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ «طه» حتى

__________________

(١) انظر كتاب المصاحف لابن أبي داود ص ٦٠ وما بعدها.

٤٥٢

انتهى إلى قوله (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(١) قال : فقال عمر : دلوني على محمد .. فجاءه في الدار الذي في أصل الصفا فأسلم](٢).

هذه القصة تثبت وجود شيء مكتوب من القرآن الكريم في مكة المكرمة وهي مبطلة زعم «بلاشير» أن الكتابة لم تبدأ إلا في المدينة المنورة سنة (٦٢٢ م).

أما بالنسبة للكتابة في مكة للقرآن الكريم كانت على نوعين :

الأول : الكتابة الرسمية وهي التي كانت بأمر من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لكتبة الوحي.

الثاني : الكتابة الفردية وهي كتابة بعض الصحابة لصحف خاصة بهم لحاجتهم الشخصية لها.

والنوع الأول فقط الذي يعتمد عليه ويوثق به. أما النوع الثاني فالثقة به أقل لأن كتابتهم لم تقتصر على القرآن وحده بل دخله غير القرآن من تفسير ، أو أحكام أو تفسير غريب أو غير ذلك من تعليق خاص بالصحابي صاحب المصحف أو صاحب النسخة.

والنوع الأول يبطل زعم «واط» أن الكتابة كانت فردية فقط (٣) فبهذا التوضيح نرد مزاعم المستشرقين وعلى رأسهم «بلاشير» و «واط».

خلاصة الجمع في المرحلة الأولى :

نزل القرآن الكريم على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نجوما في ثلاث وعشرين سنة ، وكان كلما نزل منه شيء تلاه على صحابته ودعا أحد كتبته فيمليه عليه ، فيكتبه

__________________

(١) سورة طه آية : ١٤.

(٢) طبقات ابن سعد ٣ / ٢٦٧ ـ ٢٦٩ (بتصرف).

(٣) مقدمة القرآن ـ واط ص ١٥.

٤٥٣

فيما تيسر من وسائل الكتابة في عصرهم كالرقاع ، واللخاف ، والعسب ، والأقتاب ، وغير ذلك. ولم يمت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا والقرآن محفوظ في الصدور والسطور.

وكان الباعث على كتابته حرص الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ على تبليغ الوحي على الوجه الأكمل ، وحرصا على عدم ضياع شيء منه ، أو نسيان بعضه ـ عكس ما زعم «بلاشير» أن الجمع كان لكثرة الموانع المادية (١) ثم تسجيله لأن الكتابة أبقى ولا يتطرق إليها ما يتطرق للمحفوظ من نسيان فيكون بهذا قد اجتمع للحفظ عاملان : الحفظ والكتابة.

مميزات جمع القرآن الكريم على عهده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

١ ـ إنه لم يكن مجموعا في مصحف واحد ، بل كان مفرقا في الرقاع واللخاف ، والعسب ، والأكتاف ، وغيرها.

٢ ـ إنه لم يكن مرتب السور والآيات كتابة ، لأنه كتب أولا بأول على حسب نزوله.

٣ ـ إنه كان مكتوبا بما يحتمل القراءة بالأحرف السبعة التي نزل عليها.

٤ ـ كتب بعض الصحابة مصاحف خاصة بهم وكانت تتضمن منسوخ التلاوة من الآيات ، لعدم بلوغه الناسخ.

أما عدم جمع القرآن مرتبا كتابة في مصحف واحد فكان لتوقع نزول المزيد من الآيات على الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولعدم اكتمال الوحي فلو أنه رتب وبدل مرة تلو المرة كلما نزل لأدى لتبديل وتغيير كثير في القرآن الكريم (٢).

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ١٥.

(٢) انظر الوحي والقرآن الكريم ـ للذهبي طبعة مكتبة وهبة ـ مصر لسنة ١٤٠٦ / ١٩٨٦ م.

ص ١٢٩ ـ ١٣٠.

٤٥٤

المسألة الثانية :

المرحلة الثانية من الجمع القرآني وشبههم حولها :

جمع القرآن الكريم في عهد خليفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ :

أثار المستشرقون مجموعة من الشبهات على الجمع في عهد أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ.

الشبهة الأولى :

ذكر «بلاشير» عدة أقوال في أول جامع للقرآن. زعم «بلاشير» : أن الجمع بدأ في عهد أبي بكر ، وتم في عهد عمر ، وقال : بل هو أول جامع للقرآن عمر نفسه. وقول آخر الجامع هو سالم. وقول آخر : إن أول من جمع هو علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وزعم «كازانوفا» أن الجمع تم في عهد الحجاج (١).

الجواب :

لما تولى الخلافة أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ بعد وفاة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان أول عمل قام به محاربة المرتدين. فلما وقعت «موقعة اليمامة» سنة اثنتي عشرة للهجرة استحر القتل في الصحابة ومات من حفاظ القرآن الكريم خلق كثير قيل : خمسمائة ، وقيل : سبعمائة. فخشي الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يكثر القتل في القراء في بقية المواطن. وربما يضيع شيء من القرآن بموتهم ، لذا أشار عمر الفاروق على أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ أن يجمع القرآن في مكان واحد فلما رأيا المصلحة وقواعد الدين تدعو لذلك ، أوكلا أمر جمعه لزيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ.

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٣٣ ـ ٣٤ ، ٦٨ والقرآن والمستشرقون ص ١١٩ ـ ١٢٠.

٤٥٥

روى البخاري في صحيحه بسنده إلى زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ وكان ممن يكتب الوحي قال : أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر. فقال أبو بكر : أن عمر أتاني فقال : أن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه ، وإني لأرى أن يجمع القرآن. قال أبو بكر : قلت لعمر : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال عمر : هو والله خير فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بن ثابت : وعمر عنده جالس لا يتكلم. فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك ، كنت تكتب الوحي لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت : كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال أبو بكر : هو والله خير فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من التوبة آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ..)(١) إلى آخر السورة وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حتى توفاه الله ، ثم عند حفصة بنت عمر (٢).

فالناظر في رواية البخاري يجد أن الذي أشار بالجمع هو عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ والمنفذ الفعلي لهذا الجمع هو أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ والدافع الفعلي لذلك خوفا من ضياع شيء من القرآن لموت كثير من القراء في المعارك ، والواضح من ظاهر الروايات أن الجمع ابتدأ وتم في عهد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ والمقصود من الجمع المنسوب لعمر ـ رضي الله عنه إشارته بذلك ، قال «بيرتون» : [إن الجمع إذا استخدم بالنسبة لعمر فهو يعني أشار بجمعه أو نصح

__________________

(١) سورة براءة : ١٢٨.

(٢) انظر صحيح البخاري ٥ / ٢١٠ كتاب تفسير القرآن ـ تفسير سورة التوبة ٩.

٤٥٦

بذلك].

وهذا يدل قول «شيفالي» الذي أنكر هذا المعنى حيث قال : [إن جمع : أشار بجمعه معنى اعتباطيا](١) وهذا يدل على جهل «شيفالي» بالعربية ، لأن من أساليب العربية عند ما نقول كتب الملك إلى فلان معناه : أشار بالكتابة إليه ولا يشترط القيام بذلك.

والذي يؤيد أن الجامع أبو بكر وأنه تم في عهده قول علي ـ رضي الله عنه ـ : «أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر ـ رحمه‌الله تعالى ـ ، وهو أول من جمع بين اللوحين» (٢).

أما عمر ـ رضي الله عنه ـ فكان أحد المكلفين بواجب الجمع بأمر من الخليفة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ.

روي أن أبا بكر قال لعمر وزيد : اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه (٣).

وقد جاء في تفسير الشاهدين أقوال :

١ ـ الحفظ والكتابة أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

٢ ـ أو المراد أنهما يشهدان على أن تلك الوجوه هي مما نزل بها القرآن. والمعروف أن عمر وزيدا كانا يحفظان القرآن ، ويجيدان القراءة والكتابة.

أما زعمهم أن سالما هو أول من جمع ، وأول من سماه مصحفا. فهذا لا يصح لأن كونه أول من جمع يخالف ما جاء في صحيح البخاري حسب الرواية سابقة الذكر.

__________________

(١) جمع القرآن ـ بيرتون ص ١٢٣.

(٢) المصاحف لابن أبي داود ص ١١.

(٣) انظر صحيح البخاري بشرح فتح الباري ٩ / ١٤ كتاب فضائل القرآن.

٤٥٧

وأما كونه أول من سماه مصحفا ، فهذا كذلك ليس صريحا في حقه ، وإن كان لا يمنع فقد روى «ابن أشتة» في كتابه (المصاحف) عن طريقه تسميته مصحفا.

قال «ابن أشتة» : عن ابن شهاب قال : «لما جمعوا القرآن فكتبوه على الورق ، قال أبو بكر : التمسوا له اسما. فقال بعضهم : «السفر» قال ذلك تسمية اليهود. فكرهوا ذلك. وقال بعضهم : فإن الحبشة يسمون مثله «المصحف» فاجتمع رأيهم على أن سموه «المصحف» (١).

فمن هنا يظهر أن التسمية كانت بعد تمام الجمع وباتفاق الجميع.

أما زعمهم أن الجامع هو الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق في عهد الخليفة الأموي. فهو مما يرده التاريخ والروايات الصحيحة لأن الجمع تم كما ذكرت في عهد أبي بكر بإشارة من عمر وبعمل من زيد بن ثابت وبمساعدة عمر وبعض الصحابة معه ـ رضوان الله عليهم ـ.

أما عمل الحجاج فكان مجرد رد بعض الأحرف إلى مكانها عند ما دخلها اللحن. وقد ذكر ابن أبي داود الأحرف التي أعادها الحجاج لما كانت عليه في كتابه «المصاحف» (٢) وقد سبق ذكرها.

وقام بإدخال تحسينات على المصحف لتلاشي الخطأ في كتاب الله سبحانه كالإعجام. فألف لذلك لجنة وأمر بعض العلماء بتولي هذا الأمر العظيم وكان ذلك بأمر من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان الذي كان الحجاج أحد ولاته وبقي هذا الحال للمصحف ليومنا هذا.

أما زعم «بلاشير» أن أول من جمع القرآن علي بن أبي طالب. استند «بلاشير» في قوله هذا على رواية ابن أبي داود في كتابه المصاحف حيث روى

__________________

(١) انظر صحيح البخاري بشرح فتح الباري ٩ / ١٤ كتاب فضائل القرآن.

(٢) انظر مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان ص ٧٨.

٤٥٨

بسنده لمحمد بن سيرين قوله : «لما توفي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أقسم على أن لا يرتدي برداء إلا لجمعه حتى يجمع القرآن في مصحف. ففعل. فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام. أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟ قال : لا ، والله. إلا أني أقسمت أن لا أرتدي برداء إلا لجمعة .. فبايعه ثم رجع» (١).

والشاهد في الرواية «أنه أقسم أن لا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف ففعل».

وهذا الحديث ضعيف لا يعتمد عليه لأن فيه أشعث ، وهو لين الحديث كما ذكر ذلك ابن أبي داود نفسه (٢).

وقد ضعف الحديث كذلك ابن حجر لانقطاع في سنده كما في فتح الباري (٣).

أما الجمع الذي جاء في الحديث لو صح لحمل على حفظ الصدور لا على كتابته في صحف.

أما ما جاء في رواية أخرى «حتى جمعته بين اللوحين» (٤) فتناقض رواية «علي» وهي قوله : «رحم الله أبا بكر ، هو أول من جمع القرآن بين لوحين» وفي رواية «.. أول من جمع كتاب الله» (٥).

فخلاصة هذا القول : أن الجمع المقصود به هو حفظ الصدر لا كتبه له.

__________________

(١) انظر المصاحف لابن أبي داود ص ٥٩.

(٢) المصاحف لابن أبي داود ص ١٦.

(٣) فتح الباري ٩ / ١٣.

(٤) المرجع السابق ٩ / ١٣.

(٥) فتح الباري ٩ / ١٣.

٤٥٩

الشبهة الثانية :

دافع أبي بكر للجمع :

زعم بعض المستشرقين أن الدافع لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في جمع القرآن كان لغرض خاص به وهو أن لا يكون أقل من بعض الصحابة الذين كانوا يملكون مصحفا خاصا بهم ولم يكن هو يملك ذلك (١).

الجواب :

لقد بينت سابقا أن الجمع لم يكن ابتداء من أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ بل كان بإشارة من عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وقد ذكرت رواية البخاري أن أبا بكر تمنع في بادئ الأمر خوفا من أن يفعل شيئا لم يفعله رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لذا قال لعمر : (.. كيف تفعل شيئا لم يفعله الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ..) قال ابن بطال مبينا سبب تمنع أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وتمنع زيد بادئ الأمر : لأنهما لم يجدا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فعله فكرها أن يحلا أنفسهما محل من يزيد احتياطه للدين على احتياط الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وزال هذا التحرج عند ما أقنعهما عمر ـ رضي الله عنه ـ بفائدة ذلك : وهو خشية أن يتغير الحال في المستقبل إذا لم يجمعا القرآن فيصير إلى الخفاء بعد الشهرة (٢).

فالدافع إذا خوفه من ضياع شيء من القرآن الكريم بموت حفظته في معارك الإسلام أو تلف شيء من القطع التي كتب عليها القرآن مع مر السنين. لا كما زعم بعض المستشرقين وعلى رأسهم «واط» و «بلاشير» أن الدافع كان مباهاة من أبي بكر ليتساوى مع من عنده نسخة خاصة به من هذا المصحف.

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ واط ص ٤١ ، ومقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٤١.

(٢) فتح الباري شرح صحيح البخاري ٩ / ١٣.

٤٦٠