آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

د. عمر بن إبراهيم رضوان

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

المؤلف:

د. عمر بن إبراهيم رضوان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

فضائل أهل البيت فيها ناسبين ذلك للصحابي الجليل أبي بن كعب. فالناظر إليه من أول وهلة يشم منه رائحة الكذب والافتراء حتى قال الإمام الباقلاني في ذلك : [هذا شيء لا يصح عن أبي ولو صح فمعناه أنها نسخت تلاوتها وأزيلت ، لأنه لم يقل فرطنا فيها ولا ضيعناها ، وكيف يصح أن يضيع أو يفرط وهو الذي أدخل في مصحفه القنوت الذي ليس هو قرآنا من شدة احتياطه وقوة اجتهاده (١) كما ذكر المستشرقون.

وقد أخذ هذه الافتراءات المستشرقون كأمور مسلمات فرحين بها وكأنها صيد سمين وهذه الأقوال وأمثالها دعت الشيعة للاعتقاد الفاسد أن القرآن لم يجمع لصحابي من الصحابة أو لمسلم من المسلمين قط ، وإنما جمع فقط لعلي ـ رضي الله عنه ـ ولأئمتهم لذا قال صاحب الكافي : (باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وأنهم يعلمون علمه) (٢) وذلك كله ليستدلوا منه على نقص القرآن الكريم لذا نقل «بيرتون في كتابه (جمع القرآن) رواية نسبها لابن عمر متأثرا بأقوال الشيعة حيث قال : [لا تجعلوا أحدكم يقول : لقد حصلت على مجمل القرآن فكيف يتسنى له أن يعرف ما ذا كان ذلك المجمل؟ إن كثيرا من القرآن قد ذهب فليقل بدلا من ذلك : لقد حصلت على ما ظل موجودا].

ونقل عن زيد : [لقد مات النبي ولم يكن قد تم جمع القرآن في أي مكان](٣).

كل ذلك ليؤكدوا أن القرآن أصابه النقص ولم يجمع بتمامه.

وهذه الفرقة التي اعتمد أقوالها المبشرون والمستشرقون على السواء طاعنين في كتاب الله سبحانه نشأت بعد موت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بخمس وعشرين سنة ، وقد انتشرت المصاحف في الأصقاع الإسلامية وحفظها الصغار قبل الكبار دون

__________________

(١) انظر نكت الأنصار ص ٩٥ ـ ٩٦.

(٢) تعريف بمذهب الشيعة الإمامية ص ٨٢.

(٣) جمع القرآن لبيرتون ص ١١٧ ـ ١١٨.

٤٢١

اختلاف. وقد كانت من الكثرة مما لو حاول بعضهم أن يحصيها لأواخر عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ لما استطاع ، وآلت الخلافة والسلطة للإمام علي ـ رضي الله عنه ـ الذي سار على طريق من سبقه من الخلفاء ، فلو كان نقص أو زيادة في القرآن وعلمه لما وسعه إلا إبرازه ولأعاده لما ينبغي أن يكون عليه من الصواب. بل قد نقل عنه أقوال تدافع عن عثمان وجمعه وأنه ما صدر إلا عن موافقة الصحابة ـ رضوان الله عليهم وعلى رأسهم علي نفسه ـ رضي الله عنه ـ.

ولما كان هذا موقفه تبين زيف الشيعة ومن ورائهم زمرة المبشرين والمستشرقين وبطلان دعواهم بوجود النقص والزيادة في كتاب الله سبحانه وأنه لم يجمع إلا للأئمة الأعلام من الشيعة وعلى رأسهم الإمام علي ـ رضوان الله عليه ـ وقد علق على موقف الشيعة من القرآن الكريم «بل ، وواط» حيث بينا أن هذه التهم لا تقوم على أسانيد منطقية ولا تنسجم مع أسس النقد الحديث وأن القرآن لا يشك في موثوقيته (١).

وقد حاول المستشرقون إيجاد بعض الأدلة ليدعموا هذه المزاعم التي تلقفوها من الشيعة للإيهام أن في القرآن نقصا وعلى رأس هؤلاء المستشرقين «جرجس صال» ومن هذه الأدلة:

١ ـ قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «رحم الله فلانا أذكرني كذا كذا آية أسقطتها من سورة كذا وكذا وفي رواية «أنسيتها» كنت نسيتها» (٢).

٢ ـ قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)(٣).

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ لمنتجمري واط ص ٥١.

(٢) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ٩ / ٨٤ ـ ٨٥ ، كتاب فضائل القرآن باب نسيان القرآن وهل يقول نسيت آية كذا وكذا؟.

(٣) سورة الأعلى : ٦.

٤٢٢

٣ ـ ضياع بعض الأدوات التي كتبت عليها القرآن.

٤ ـ سقوط بعض الآيات لفظا وبقاؤها حكما (١).

الجواب :

١ ـ بالنسبة للحديث المذكور سابقا فهو حديث صحيح رواه الإمام البخاري في صحيحه وقد جاءت كلمة «أنسيتها» في الرواية الثانية تفسيرا لما في الرواية الأولى قوله : «أسقطتها» لتدل على أن الإسقاط كان بطريق النسيان لا العمد ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بشر ينسى كما ينسى بقية بني البشر ولكنه محفوظ من الله سبحانه وتعالى بتذكيره. لذا لا يضره هذا النسيان ما دام سيحصل له التذكر إما من نفسه أو من مذكر خارجي كما في الحديث وقد وضح الإمام ابن حجر هذا النوع من النسيان بقوله : والنسيان من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لشيء من القرآن يكون على قسمين :

أحدهما : نسيانه الذي يتذكره عن قرب ، وذلك قائم بالطباع البشرية وعليه يدل قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حديث ابن مسعود في السهو : «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» (٢).

الثاني : أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته وهو المشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وهو المشار إليه في النقطة الرابعة السابقة.

وأما القسم الأول فعارض سريع الزوال لظاهر قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٣).

وأما الثاني فداخل في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها)(٤).

__________________

(١) انظر كتب أسرار القرآن جرجس صال ص ٢٣ ومقدمة القرآن لبلاشير ص ١٦ ـ ١٧.

(٢) انظر فتح الباري ٩ / ٨٦.

(٣) سورة الحجر آية : ٩.

(٤) سورة البقرة آية : ١٠٦.

٤٢٣

على قراءة من قرأ بضم أوله من غير همزة.

فالنسيان عارض بشري يجوز على الأنبياء فيما ليس طريقه البلاغ من أمور الدين والشريعة ، أما ما كان من أمور الدين والشريعة مما هو واجب البلاغ فيجوز لكن بشرطين :

أحدهما : أنه بعد ما يقع منه تبليغه.

والآخر : أنه لا يستمر على نسيانه بل يحصل له تذكرة إما بنفسه وإما بغيره (١).

وأما قبل التبليغ فلا يجوز أصلا وهذا ما قام عليه الدليل العقلي إذ لو جاز النسيان قبل التبليغ أو بعده بدون أن يتذكر أو يذكره الغير لأدى إلى الطعن في عصمة الأنبياء ولجاز ضياع بعض الشرائع والأديان (٢) ومثل هذا النوع من النسيان لا يزعزع الثقة بالرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا يشكك في دقة جمع القرآن ونسخه وليس في هذا الخبر الذي ذكروه رائحة أن هذه الآيات لم تكن بالمحفوظات التي كتبها كتاب الوحي ، وليس فيه ما يدل على أن أصحاب الرسول كانوا قد نسوه جميعا حتى يخاف عليها وعلى أمثالها الضياع ويخشى عليها السقوط عند الجمع واستنساخ المصحف الإمام ، كما يفتري هؤلاء الخراصون ، وعلى رأسهم «جرجس صال» و «بلاشير» بل الرواية نفسها تثبت صراحة أن في الصحابة من كان يقرؤها وسمعها منه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما حصل ذلك من قراءة عباد بن بشر لها وسمعها منه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتذكرها ورسول الله قد حفظها قبل هذا الصحابي الجليل واستكتبها كتاب الوحي ، وبلغها للناس فحفظوها عنه ومنهم رجل الرواية عباد بن بشر ـ رضي الله عنه ـ.

ونسيان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لهذه الآيات أمر طبيعي يقع مع كل بني

__________________

(١) انظر فتح الباري ٩ / ٨٦.

(٢) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ٢٩٣.

٤٢٤

البشر إذا كان يقرأ نصا قرآنيا واشتغل ذهنه بغيره مع أنه مخزون في حافظته يظهر إذا دعاه داع يستعرضه ويستحضره ثانية ومثل هذا النسيان لا يعني إمحاءه من حافظته مطلقا لأن في ذلك إخلالا بوظيفة الرسالة والتبليغ (١) وهي بلا شك مما كتب في المصحف ولم تنقص منه كما يظن هؤلاء (٢).

كما أن الأحاديث الصحيحة أشارت إلى أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ كان يعارض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ القرآن في كل رمضان مرة واحدة.

عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : «كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن» الحديث (٣).

وفي آخر رمضان من حياته عارضه مرتين والمقصد من هذه المعارضة هي تثبيت حفظ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحذف منسوخ التلاوة ، والإبقاء على النص القرآني صافيا محددا منضبطا فبكل هذه الأدلة يتضح لنا سلامة النص القرآني من الزيادة والنقصان وعدم تأثير ما كان يطرأ عليه من سهو ونسيان.

٢ ـ أما دليلهم الثاني : وهو قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استدل المستشرقون بهذه الآية على نسيان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ القرآن ومرجع ذلك عندهم الجهل لمراد الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة فسبب نزول هذه الآية هو أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى ، فأزال الله خوفه بهذه الآية.

أما الاستثناء : فالمحققون من العلماء على أنه ليس بحقيقي وإنما هو صوري يراد منه تأكيد عدم النسيان بتعليق الشيء على ما هو مستحيل وقوعه وليدل على استحالته بالبرهان وقد ضمن الله لنبيه تحقيقه له فكيف يشاء إنساءه له؟

__________________

(١) انظر مناهل العرفان ١ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٢) انظر مناهل العرفان للزرقاني ١ / ٢٥٨.

(٣) انظر إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ١ / ٧٢.

٤٢٥

قال تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)(١) والذي يدل أن الاستثناء صوري.

١ ـ ما جاء في سبب النزول وهو أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يتعب نفسه بكثرة قراءة القرآن حتى وقت نزول الوحي مخافة أن ينساه ويفلت منه فأراد الله تطمينه.

٢ ـ إن قوله (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فيه تعليق وقوع النسيان على مشيئة الله والمشيئة لم تقع بدليل قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)(٢).

أما الغرض من الاستثناء فهو :

١ ـ تعريفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن عدم النسيان من فضل الله تعالى عليه فيدين له بالشكر والعبادة والذكر في كل وقت.

٢ ـ تعريف أمته على ذلك حتى لا يخرجوه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من مقام العبودية إلى مقام الألوهية كما فعل ذلك اليهود والنصارى بأنبيائهم.

وأيا ما يكن معنى الاستثناء فإنه لا يفهم منه أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نسي حرفا واحدا مما أمر بتلاوته وتبليغه للخلق وإبقاء التشريع على قراءته من غير نسخ وذلك على أن المراد من النسيان المحو التام من الذاكرة.

ولا يمنع هذا من أن يشاء الله أن ينسيه ما أراد سبحانه نسخه فيذهب من قلبه قال تعالى : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وأيا كان فإن المراد من الآية لا يشهد لدعواهم فالقصد نفي النسيان رأسا (٣) وما ورد من أنه نسي شيئا كان يذكره فإن صح ذلك فهو في غير ما أنزل الله من الكتاب والأحكام التي أمر بتبليغها ، وقل ما يقال سوى ذلك فهو من مدخلات الملحدين التي جازت على عقول

__________________

(١) سورة القيامة آية (١٦ ـ ١٨).

(٢) مناهل العرفان ١ / ٢٦١.

(٣) المدخل لدراسة القرآن الكريم ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

٤٢٦

الجاهلين المغفلين.

٣ ـ أما الدليل الثالث : ضياع بعض الأدوات التي كتب عليها القرآن فسأناقشه في موضوع الجمع القرآني بإذن الله تعالى (١).

٤ ـ وأما الدليل الرابع : سقوط بعض الآيات لفظا وبقاؤها حكما فسأناقشه في موضوع النسخ في القرآن الكريم إن شاء الله تعالى (٢).

المسألة الثالثة :

استدلالهم على الزيادة والنقصان بوجود مصحف خاص لعلي وزوجته فاطمة رضوان الله عليهم.

الجواب :

لا أحد ينكر أن كثيرا من الصحابة كان لهم مصاحف خاصة بهم لأنفسهم خلطوا فيها بين ألفاظ القرآن وما كان شرحا لها وبيانا لمغزاها. وبين بعض القراءات وإن لم تكن متواترة ولم تثبت في العرضة الأخيرة وهذه المصاحف تختلف عن المصحف الإمام بالزيادة تارة وبالنقصان تارة أخرى ومرة بالتقديم ومرة بالتأخير وهكذا. لذا فلا يجوز القراءة بهذه المصاحف لمخالفتها ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم وهذه أمثلة من هذه المصاحف.

١ ـ جاء في مصحف عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في سورة الفاتحة : «صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين» وفي سورة المدثر «في جنات يتساءلون يا فلان ما سلكك في سقر».

٢ ـ وجاء في مصحف علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه وآمن المؤمنون».

__________________

(١) انظر ص ٣٣٠.

(٢) انظر ص ٤٥١.

٤٢٧

وفي مصحف عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ في سورة الأحزاب : «إن الله وملائكته يصلون على النبي والذين يصلون في الصفوف الأولى».

فلهذا السبب ولغيره اتفقت الأمة بموافقة عثمان ـ رضي الله عنه ـ على الاجتماع على مصحف واحد وتحريق ما سواه حتى لا تكون هذه المصاحف سببا للفتنة وضياع النص الإلهي الصحيح (١).

ومن هنا يظهر أن وجود مصحف خاص بعلي وبزوجه فاطمة مع وجود بعض المخالفات بينها وبين المصحف الإمام ، ليس دليلا كافيا على وجود النقص والزيادة في الكتاب العزيز لأن الحجة في الكتاب نفسه على غيره لا العكس.

المسألة الرابعة :

استدلالهم على الزيادة والنقصان في القرآن الكريم بعمل الحجاج (٢) إلى غير ذلك لإثبات خلافة بني أمية ، وإبطال خلافة ولد علي والعباس على حد زعمهم.

الجواب :

هذه القضية من جملة الأدلة الواهية التي يستدلون بها على مثل هذا الأمر الخطير. وهذه القضية ينقضها الواقع ويكذبها التاريخ ، وهي تتلخص في أن الناس لما فسدت ألسنتهم باختلاف ألفاظهم ، وتغير طباعهم ، بدخول اللحن على كثير من خواص الناس وعوامهم ، حدث تغيير وتحريف في نص القرآن الكريم ، طلب أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان على إثر ذلك من الحجاج بن يوسف الثقفي واليه على العراق ، بإعجام المصاحف ليزول اللحن والخطأ في كتاب الله عزوجل. قال الإمام أبو عمرو الداني موضحا هذا الأمر في كتابه المحكم في نقط

__________________

(١) كتاب شبهات مزعومة حول القرآن الكريم ص ١٥٢ ـ ١٥٤.

(٢) أسرار عن القرآن ـ سال ص ٣٤ ، والمدخل لدراسة القرآن الكريم ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، ومناهل العرفان ١ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٤٢٨

المصاحف : [اعلم أيدك الله بتوفيقه أن الذي دعا السلف ـ رضوان الله عليهم ـ إلى نقط المصاحف بعد أن كانت خالية من ذلك وعارية منه وقت رسمها. وحين توجيهها إلى الأمصار ، للمعنى الذي بيناه والوجه الذي شرحناه ، ما شاهدوه من أهل عصرهم ، مع قربهم من زمن الفصاحة ومشاهدة أهلها من فساد ألسنتهم ، واختلاف ألفاظهم ، وتغير طباعهم ، ودخول اللحن على كثير من خواص الناس وعوامهم ، وما خافوه مع مرور الأيام ، وتطاول الزمان من تزيد ذلك ، وتضاعفه فيمن يأتي بعد ، ممن هو ـ لا شك ـ في العلم والفصاحة والفهم والدراسة دون من شاهدوه ، ممن عرض له الفساد ، ودخل عليه اللحن لكي يرجع إلى نقطها ، ويصار إلى شكلها ، عند دخول الشكوك وعدم المعرفة ويتحقق بذلك إعراب الكلم ، وتدرك به كيفية الألفاظ ..](١).

وقد جاءت إشارات لمحاولات تيسيرية لبعض الصحابة في بعض المواطن كأهل المدينة وأهل مكة الذين تركوا نقطهم وتبعوا أهل البصرة (٢) ولكن الأمر لم يصبح له قواعد وقانون إلا في عهد عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي وقد اختلفوا في أول من نقط المصاحف على أقوال :

قيل : إنه أبو الأسود الدؤلي أراد أن يعمل كتابا في العربية يقوم به ما فسد من كلام الناس .. فقال : أرى أن ابتدئ بإعراب القرآن فجعل الفتحة نقطة فوق الحرف ، والكسرة نقطة تحت الحرف ، والضمة نقطة أمام الحرف والتنوين نقطتين.

وقيل : كان عمله بطلب من زياد بن أبيه والي البصرة سنة ٤٨.

وقيل : بل كان عمل نصر بن عاصم الليثي سنة ٨٠ ه‍ بأمر من الحجاج

__________________

(١) انظر المحكم في نقط المصاحف ـ لأبي عمرو الداني طبعة دار الفكر ط ٢ ، ١٤٠٧ / ١٩٨٦ م ص ١٨ ـ ١٩.

(٢) انظر كتاب النقط لأبي عمرو الداني ص ١٢٤ ـ ١٢٥ وكتاب المحكم في نقط المصاحف ص ٢ وما بعدها.

٤٢٩

وأنه الذي خمس وعشر.

وقيل : بل كان عمل يحيى بن يعمر ، وأن الخليل أتم عمله بجعل الهمز والتشديد والروم والإشمام.

فيحتمل أن يكون أول من ابتدأ بالنقط كنظام له قواعد أبو الأسود الدؤلي ، ثم تبعه نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر ، ثم جاء بعدهم بقرن تقريبا الخليل بن أحمد فابتدع علامات أخرى. بهذا أصبح للنقط نظام له قواعد وأصول تتبع.

فيجمع بين هذه الأقوال أن عمل أبي الأسود الدؤلي كان شكلا بطريقة النقط ، أما نقط الحجاج بلجنته المكونة من نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر ، والحسن البصري فهو بالاصطلاح المعروف اليوم ، وكان طابعها طابعا رسميا.

أما ما نسب من عمل كهذا ليحيى بن يعمر وابن سيرين فيكون عملا فرديا (١) والآن سأعرض الحروف التي غيرها الحجاج كما ذكرها ابن أبي داود في كتابه المصاحف (٢) قال ابن أبي داود : [كانت في البقرة (س ٢ ، آ ٢٥٩) «لم يتسن وانظر» بغير هاء فغيرها «لم يتسنه» بالهاء (٣). وكانت في المائدة (س ٥ ، آ ٤٨) «شريعة ومنهاجا» فغيرها «شرعة ومنهاجا» (٤) وكانت في يونس (س ١٠ ، آ ٢٢) «هو الذي ينشركم» فغيره «يسيركم» (٥) وكانت في يوسف (س ١٢ ، آ ٤٥) «أنا آتيكم بتأويله» فغيرها «أنا أنبئكم

__________________

(١) انظر اللئالئ الحسان في علوم القرآن ص ٦٩ ـ ٧١ (بتصرف).

(٢) أى في كتابه المصاحف ص ٥٩ ، والباقلاني في كتابه نكت الانتصار لنقل القرآن ص ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

(٣) والقراءتان سبعيتان كما ذكرهما ابن زنجلة في حجة القراءات ص ١٤٢ ـ ١٤٣ حيث قرأ حمزة والكسائي «لم يتسن» بحذف الهاء في الوصل وقرأ الباقون «لم يتسنه» بإثبات الهاء في الوصل.

(٤) قرأ النخعي وابن وثاب بفتح الشين وقرأ الجمهور بكسرها (وشرعة) ولم أجد أحدا أشار لقراءة (شريعة).

(٥) والقراءتان سبعيتان ذكرهما ابن زنجلة في كتابه حجة القراءات ص ٣٢٩ حيث قرأ ابن عامر : (هو الذي ينشركم) بالنون والشين. وقرأ الباقون (يسيركم).

٤٣٠

بتأويله» (١).

وكانت في المؤمنين (س ٢٣ ، آ ٨٥) «سيقولون لله .. لله .. لله» فجعل الآيتين «الله ... الله» (٢). وكانت في الشعراء في قصة نوح. (س ٢٦ ، آ ١١٦) «من المخرجين» ، وفي قصة لوط (آ ٦٧١) «من المرجومين» (٣).

وكانت الزخرف (س ٤٣ ، آ ٣٢) «نحن قسمنا بينهم معايشهم» فغيرها «معيشتهم» (٤). وكانت في الذين كفروا (س ٤٧ ، آ ١٥) «من ماء غير ياسن» فغيرها «من ماء غير آسن» (٥). وكانت في الحديد (س ٥٧ ، آ ٧) «فالذين آمنوا منكم واتقوا لهم أجر كبير» فغيرها «وأنفقوا» (٦). وكانت إذا الشمس كورت (س ٨٨ ، آ ٢٤) «وما هو على الغيب بظنين» فغيرها «بضنين» (٧).

هذه القراءات كما لاحظت من الصحيح المتواتر الثابت الذي يجوز القراءة به على أية وجه رسم به ومنها ما لم أجده ثابتا مما

يدعو للشك في نسبته للحجاج ، وخاصة أنه لم يكن بمعزل عن الأمة ، بل ما كان لأحد من المسلمين في عصره ليسمح بتغيير أو بتبديل شيء ثابت عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قرآنا

__________________

(١) قرأ الحسن (أنا آتيكم) بهمزة مفتوحة ممدودة بعدها تاء مكسورة وياء ساكنة ، وقرأ وصلا نافع وأبو جعفر (أنا أنبئكم) كما ذكر ذلك أحمد عبد الغني الدمياطي في كتابه إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر ٢٦٥.

(٢) القراءات سبعيات كما ذكر ذلك ابن زنجلة في حجة القراءات ص ٤٩٠ ، حيث قرأ أبو عمرو (سيقولون الله) سيقولون الله بالألف فيهما وقرأ الباقون (الله ... الله) ولم يختلفوا في الأولى.

(٣) لم أجد أحدا أشار لما ذكره المؤلف.

(٤) قراءة الجمهور معيشتهم على الإفراد. وقرأ عبد الله والأعمش ، وابن عباس وسفيان معايشهم على الجمع كما ذكر ذلك أبو حيان في البحر المحيط ٨ / ١٣.

(٥) قرأ السبعة ما عدا ابن كثير غير آسن بالمد ، أما قراءة ياسن فهي قراءة شاذة ذكرها أبو حيان في تفسيره بلفظ قيل.

انظر حجة القراءات لابن زنجلة ص ٦٦٧ ، وتفسير البحر المحيط ٨ / ٧٩.

(٦) لم أجد من أشار لهذه القراءة.

(٧) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وريس وابن مهران عن روح بالظاء ، وقرأ الباقون بالضاد ، وكذا في جميع المصاحف (انظر النشر في القراءات العشر ٢ / ٣٩٨ ـ ٣٩٩).

٤٣١

كان أو حديثا. فهذا كله يرد دعاوى هؤلاء المستشرقين. ومما يؤكد صحة ما ذهبت إليه عدة أمور منها :

١ ـ كون الحجاج من شيعة عثمان ، وكان يؤاخذ كل من قصر في نصرته يوم الدار ، فكيف لمن هذا حاله أن يطعن في عثمان ومصحفه ويغيره.

٢ ـ أن المصحف العثماني انتشر في الآفاق وكثرت نسخه في عهد عثمان وعلي لغاية أنه لو أراد أحد إحصاءها لما استطاع ، فكيف بعددها في عهد الخلافة الأموية فلا شك أنه بلغ أكثر من ذلك كما أن الحجاج ما كان إلا واليا لولاية من ولايات الدولة الإسلامية المترامية الأطراف ، والمتباعدة النواحي فإذا استطاع تغيير المصاحف في ولايته فأنى له أن يصل للمصاحف في الولايات الأخرى وهي بالآلاف.

والتاريخ لم يذكر تناقضا بين المصاحف في العراق وبين المصاحف في غيرها.

والمعروف أن الحفظ لهذا الكتاب العظيم كما كان حفظا في المصاحف كان حفظا في الصدور فإذا استطاع الحجاج أن يصل لحفظ السطور فأنى له أن يصل لحفظ صدور الآلاف من المسلمين.

٣ ـ والمعروف كذلك أن الدولة العباسية قامت على أنقاض الدولة الأموية وقد غيروا كثيرا من سياسات بني أمية في إدارة شئون الدولة ، ولم يدخروا وسعا في تبيين مثالب بني أمية ، والتقرب إلى الرعية بإبراز العدالة والإنصاف والدفاع عن الحق.

فلو وجد العباسيون شيئا من هذا التغيير في المصحف الشريف لكانت من أعظم الفرص المواتية لبني العباس ليظهروا ذلك باعتباره مثلبا كبيرا في حق بني أمية ، وإضفاء للشرعية والعدل والحق على حكمهم.

٤٣٢

الفصل الثالث

جمع القرآن الكريم وشبههم حوله

المبحث الأول

أ ـ تسمية الجمع تنقيحا

ب ـ المرحلة الأولى من الجمع القرآني وشبهاتهم حولها

المبحث الثاني

المرحلة الثانية من الجمع القرآني وشبهاتهم حولها

المبحث الثالث

المرحلة الثالثة من الجمع القرآني وشبهاتهم حولها

٤٣٣
٤٣٤

الفصل الثالث

جمع القرآن الكريم وشبههم حوله

المبحث الأول :

أ ـ تسمية الجمع تنقيحا :

أطلق «بلاشير» على عملية جمع القرآن الكريم تنقيحا (١).

الجواب :

أن هذه التسمية من المستشرقين مقصودة وذلك ليوحوا أن القرآن الكريم كأي جهد بشري قابل للزيادة والنقصان والتبديل والتغيير للوصول به لما هو أفضل كما هو في المقياس البشري. والذي دفعهم لمثل هذا اللون من التفكير ما نقل من جهود الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وفي عهد التابعين من إعادة كتابة القرآن الكريم وجمعه حفاظا على النص القرآني من التحريف والتغيير والنقص والزيادة ، واختلاف اللهجات فيه فظنوا أن ذلك كان من باب التنقيح للنص القرآني والتعديل فيه.

ولكن الله سبحانه قد تكفل حفظ هذا القرآن الكريم من أي تبديل وتغيير أو نقص وزيادة فأودع حفظه في صدور المسلمين ، وفي السطور قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٢) فلم يدخله ما زعمه «بلاشير» التنقيح بمفهومهم فهو ما زال غضا طريا كما نزل ، وسنذكر فيما يلي أهم النقاط التي أبرزوها حول جمع القرآن الكريم ، وانطلقوا منها لبناء شبهاتهم.

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٣٢ ـ ٣٥.

(٢) سورة الحجر : ٩.

٤٣٥

ب ـ المرحلة الأولى من الجمع القرآني وشبهاتهم حولها :

تاريخ جمع القرآن الكريم :

حاول بعض المستشرقين مثل «بلاشير» و «كازانوفا» التشكيك في تاريخ جمع القرآن الكريم وأول من جمعه فبعضهم اعتبر أول جامع له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبعضهم اعتبره أبو بكر ، عمر ، سالم ، عثمان ، علي ، الحجاج (١).

الجواب :

مر القرآن الكريم بثلاث مراحل أساسية وهي :

أ ـ الجمع النبوي للقرآن الكريم.

ب ـ جمع أبي بكر ـ رضي الله عنه.

ج ـ جمع عثمان ـ رضي الله عنه.

والجمع له معنيان :

أ ـ يطلق تارة ويراد به حفظه وتقييده في الصدور. وأحيانا يراد به الكتابة في الصحف والسطور.

ب ـ والمعنى الثاني وهو المقصود في مراحل الجمع الثلاث الآنفة الذكر.

المسألة الأولى :

المرحلة الأولى : الجمع فى عهد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

أثار المستشرقون على هذه المرحلة عدة شبهات منها :

الشبهة الأولى :

أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يجمع القرآن بنفسه ، ولم يأمر أحدا بجمعه وإنما

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٣٢ ـ ٦٨ ، وجمع القرآن ـ بيرتون ص ١٢١ ، القرآن.

٤٣٦

كان ذلك بجهد شخصي من بعض الصحابة وفي بعض المناسبات ، وأن الجمع الفعلي كان في المدينة المنورة بعد هجرته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تأثرا باليهود.

وقد استدلوا على ذلك بعدة أدلة منها :

١ ـ رواية عبد الله بن عمر أنه قال : «لا تجعلوا أحدكم يقول : لقد حصلت على مجمل القرآن ، فكيف يتسنى له أن يعرف ما ذا كان ذلك المجمل؟ إن كثيرا من القرآن قد ذهب. فليقل بدلا من ذلك : لقد حصلت على ما ظل موجودا».

٢ ـ رواية منسوبة لزيد بن ثابت حيث قال فيها :

«لقد مات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يكن قد تم جمع القرآن في أي مكان» (١).

الجواب :

يحمل الجمع النبوي في عهده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معنيين : الحفظ في الصدور : وحفظ السطور.

أما الأول : فيدل عليه قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)(٢) فقد ضمن حفظ هذا القرآن في صدره ـ عليه الصلاة والسلام ـ وصدر مجموعة من صحابته فإن كان عدد الحفظة لكل ما كان ينزل بالعشرات ، فإن حفظة الأجزاء منه والسور والآيات يعدون بالمئات ، وكان عددهم في ازدياد باستمرار لما لهذا القرآن عند المسلمين من قدسية ومحبة ، ولأنهم كانوا يعتبرونه من أعظم الطرق التي تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى.

__________________

(١) انظر جمع القرآن لبيرتون ص ١١٧ ، ومقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٤١ ، ومقدمة القرآن واط ص ٥١ ، والقرآن والمستشرقون ـ رابح جمعة ص ٧٨ ، والموسوعة البريطانية نقلا عن كتاب قضايا قرآنية ص ٢١٦.

(٢) سورة القيامة : ١٧.

٤٣٧

أما حفظه في السطور فالمعروف أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان أميا لم يكتب بيده الشريفة شيئا ولكنه كان قد اتخذ كتبة لكافة أغراضه واحتياجاته للوحي والمراسلات والخطابات بلغوا الأربعين ونيفا (١).

فكان إذا نزل شيء من القرآن على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ استدعى بعض كتبته وأمر بتسجيلها ثم حفظها لبعض صحابته (٢) وكانت كتابتهم للقرآن الكريم على اللخاف ، والعسب ، والأكتاف ، والأقتاب ، وقطع الأديم.

أما الأدلة التي استدلوا بها فلنا عليها تعليق.

هذه الروايات مما استدل به الشيعة على نقصان القرآن الكريم وإسقاط شيء منه فرواية عبد الله بن عمر إن صحت الرواية فالمراد بها النهي عن حفظ كل ما نزل من القرآن ناسخه ومنسوخه ، لأن من القرآن ما نسخت تلاوته بعد نزوله فالواجب أن يقول حفظت من القرآن غير منسوخ التلاوة. وأيدوا أدلتهم المدعاة بدليل آخر وهو قولهم : «ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة» فالمقصود بالصحيفة هنا الأحكام التي كتبها عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

ولم ينف أن عنده أشياء أخرى من الأحكام التي لم يكن كتبها أو أراد : ما ترك مما يتعلق بالإمامة ، أي لم يترك شيئا يتعلق بأحكام الإمامة إلا ما هو بأيدي الناس. وهذا رد صريح على دعاوي الرافضة ومزاعم المستشرقين الذين تلقفوا إفكهم هذا وهو حذف شيء من القرآن الكريم لمصلحة تخصهم (٣) والشاهد في قوله : «ما ترك إلا ما بين الدفتين» أي من القرآن الذي يتلى لأن ما سواه مما نسخت تلاوته في حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

__________________

(١) انظر كتاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ د / محمد الأعظمي.

(٢) انظر كتاب صحيح البخاري ٥ / ١٨٣ كتاب التفسير وفتح الباري ٩ / ٢٢.

(٣) انظر فتح الباري لشرح صحيح البخاري ٩ / ٦٤ ـ ٦٥ ، طبعة دار المعرفة بيروت (بتصرف).

٤٣٨

الرواية الثانية :

التي استدلوا بها على عدم جمع القرآن في عهده الشريف الرواية المنسوبة لزيد بن ثابت وهي قوله :

«لقد مات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يكن قد تم جمع القرآن الكريم في أي مكان».

فقد ذكرها السيوطي في إتقانه ونقل توضيح الخطابي لمقصودها حيث قال : «إنما لم يجمع ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته ، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر» (١).

أما ما أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «لا تكتبوا عني ، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني ولا حرج ، ومن كذب علي ـ قال همام : أحسبه قال : ـ متعمدا ـ فليتبوأ مقعده من النار» (٢).

قال «القاضي» : كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم. فكرهها كثيرون منهم ، وأجازها أكثرهم. ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف. واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي.

فقيل : هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب. وتحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث «اكتبوا لأبي شاة» .. وحديث أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب .. وغير

__________________

(١) الإتقان ـ للسيوطي ١ / ٥٧.

(٢) صحيح مسلم ٤ / ٢٢٩٨ ـ ٢٢٩٩ كتاب الزهد والرقائق.

٤٣٩

ذلك من الأحاديث.

وقيل : إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث. وكان النهي حيث خيف اختلاطه بالقرآن فلما أمن ذلك ؛ أذن في الكتابة.

وقيل : إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ (١).

فالنهي يكون عن كتابة مخصوصة وبصفة مخصوصة. أما القرآن الكريم فالشواهد على كتابته وملازمتها للحفظ واردة بأحاديث كثيرة منها حديث زيد نفسه والبراء بن عازب ـ رضي الله عنهما ـ في صحيح البخاري قال : «لما نزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ادعوا فلانا ـ فجاءه ومعه الدواة واللوح أو الكتف فقال : اكتب «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله» وخلف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ابن أم مكتوم. فقال : يا رسول الله أنا ضرير فنزلت مكانها (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)(٢)(٣).

وزيد نفسه هو الذي قال : «كنا عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نؤلف القرآن من الرقاع ..» (٤).

وهذا نص صريح يدل على أن القرآن كان مكتوبا على أشياء متعددة وفي أماكن مختلفة ولكنه لم يكن مرتب السور ولكنه مرتب الآيات بدليل رواية عثمان ـ رضي الله عنه ـ قال : «كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مما يأتي عليه الزمان ، وهو تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء منه دعا بعض من كان يكتب فيقول : «ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا»

__________________

(١) حاشية صحيح مسلم ٤ / ٢٢٩٨ كتاب الزهد والرقائق حديث رقم (٣٠٠٤).

(٢) سورة النساء : ٩٥.

(٣) انظر صحيح البخاري ٥ / ١٨٣ كتاب التفسير ، تفسير سورة النساء.

(٤) انظر المستدرك للحاكم ٢ / ٢٢٩ كتاب التفسير.

٤٤٠