آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

د. عمر بن إبراهيم رضوان

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

المؤلف:

د. عمر بن إبراهيم رضوان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

وهذه الفرية ترد بما يلي :

١ ـ كما ذكرت سابقا أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يتلقى الوحي في أكثر من حالة ولكنه لم يكن يظهر عليه أي مظهر من مظاهر الاضطراب النفسي أو القلق ، وقد جاء وصف حالات الوحي في أكثر من حديث منها حديث الحارث بن هشام ـ رضي الله عنه ـ عند ما سأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن كيفية إتيان الوحي إليه.

٢ ـ الثابت علميا أن المصروع يتعطل تفكيره ، وإدراكه تعطلا تاما ، فلا يدري أثناء نوبته عما يدور حوله ، ولا ما يجيش في نفسه ، ويغيب عن صوابه. وتعتريه تشنجات تتوقف فيها حركة الشعور عنده ، ويصبح المريض بلا إحساس وأبرز سمة عنده تكون النسيان ولكن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يكن يظهر عليه شيء من ذلك. فكان يبقى في تمام وعيه قبل وخلال وبعد حالة الوحي فكان يفصم عنه وقد وعي كل ما قاله له جبريل ـ عليه‌السلام ـ من آيات بينات ، وتشريعات محكمات ، وعظات بليغات ، وأخلاق عظيمة ، وكلام بلغ الغاية القصوى في الفصاحة والبلاغة والإعجاز حتى طأطأ لإعجازه أقدر الناس فصاحة وبلاغة فرادا أو مجتمعين وفي كل الأزمان.

٣ ـ وسائل الطب الحديث ، والأجهزة المتقدمة في التشخيص والعلاج ، أثبت هذا الطب أن نوبات الصرع ناتجة عن تغيرات فسيولوجية عضوية في المخ. حيث أمكن تسجيل تغيرات كهربائية في المخ أثناء النوبات الصرعية مهما كان مظهرها الخارجي. كما أثبت الطب الحديث أن هناك مظاهر عديدة ومختلفة لنوبات الصرع وذلك تبعا لمراكز المخ التي تبدأ فيها التغيرات الكهربائية ، وتبعا لطريقة انتشارها وسرعته.

وأهم نوبات الصرع ، النوبات الصرعية النفسية.

وفي هذه الحالة من نوبات الصرع فإنه تمر بذهن المريض ذكريات قديمة ، وأحلام مرئية أو سمعية أو الاثنان معا ، وتسمى «بالهلاوس» وهذه الذكريات

٤٠١

يكون قد عاشها المريض نفسه ثم احتفظ بها مخه في ثناياه ، استدعتها للخروج من مكانها الحالة الصرعية التي انتابته. وقد أمكن طبيا إجراء عملية التنبيه لها بواسطة تيار كهربائي صناعي سلط على جزء خاص في المخ فشعر المريض بنفس «الهلاوس» التي تنتابه في أثناء نوبة الصرع ، وبتطبيق ما قرره الطب الحديث في حقائق الصرع على ما كان يعتري النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نجده يردد آيات لم يسمعها من قبل في حياته أخبره بها الله جل وعلا. ولما كانت هذه الأحاديث والآيات والأحوال لم تمر به ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من قبل فهي إذا لم تختزن بالتالي في مخه لتثيرها وتخرجها نوبات صرعية فيتذكرها وينطق بها.

فيظهر جليا أن ما كان يعتري رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هي حالة نفسية وجسدية لتلقي وحي الله سبحانه فبالتالي فهناك فرق شاسع بين الحالتين : حالة الصرع التي تنتاب المصروعين ، وحالة الوحي التي تعتري أنبياء الله ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ولا شك أن الطعن في الوحي الذي نزل على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ طعن في كل ما نزل على أنبياء الله من قبل ، وهذا لا يكون من مؤمن بالله وأنبيائه ، ولا يكون إلا من ملحد لا ديني أحيل بين قلبه وبين الإيمان. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (١).

٤ ـ يرد فريتهم أن الوحي أثر لمرض الهستريا الذي هو كما بينه كل من الأساتذة «كريكيه» و «الأندوز» و «شاركو» أنه مرض عصبي عضال ، وهو وراثي أكثر أصابته في النساء ، ومن أعراضه شذوذ في الخلق ، وضيق في التنفس إلى حد الاختناق ، ويظهر عليه ضيق في الصدر ، واضطراب في الهضم ، وقد تصحب هذه الأعراض كذلك بحركة واضطراب في اليدين والرجلين إلى حد الشلل في بعض الأعضاء ، فإذا تابع المرض تقدمه جاء دور التشنج فيسبقه بكاء وعويل ، وكرب عظيم وهذيان ، ينتهي إلى حد الإغماء ، فإذا تجاوز هذه المرحلة فإن المريض يرى أشباحا تهدده وتسخر منه ، وأعداء تحاربه ويسمع أصواتا لا

__________________

(١) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم ، ص ١٠٣ ـ ١٠٨ ، نقلا عن مجلة منبر الإسلام عدد ٩ لسنة ١٩ رمضان ١٣٨١ ه‍ فبراير ١٩٦٤ م (بتصرف).

٤٠٢

وجود لها في الحس والواقع.

وفي هذا الدور يقع المريض بحركات مضطربة ، وقفز من مكان لمكان على صورة تلقي الذعر في قلب كل من يراه (١).

هذا الوصف لأعراض هذا المرض لم يكن يظهر منه شيء على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي كان يتمتع بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء بصحة جيدة وعقل رصين ، ونفسية هادئة ، وخلق كريم وحركات متزنة ، ويشهد لصحته وقوته صرعه «لركانة بن عبد يزيد» الذي كان أقوى عصره (٢) ويشهد لرجاحة عقله وسلامته ، فصله في خصومة قريش في شرف وضع الحجر الأسود في مكانه (٣). والطب لم يخرج لنا مريضا واحدا مصابا بمثل هذا المرض وقال كلاما معقولا وآراء راجحة.

قال المستشرق الفرنسي «ماسينيون» : [إن محمدا كان على تمام الاعتدال في مزاجه].

وهذا يناقض ما قاله «كارليل» : [إن محمدا كان حاد الطبع ناري المزاج].

وقال «ماكس مايرهوف» في كتابه (العالم الإسلامي) :

[لقد أراد بعضهم أن يرى في محمد رجلا مصابا بمرض عصبي ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره ليس فيه شيء يدل على هذا. كما أن ما جاء به فيما بعد من أمور التشريع والإدارة يناقض هذا القول] ويقول «بلاتونوف» في (تاريخ العالم) : [وغاية ما نقدر أن نجزم به هو تبرئة محمد من الكذب والمرض](٤).

__________________

(١) انظر القرآن والمستشرقون ـ رابح جمعة ـ ص ٢٧ ومناهل العرفان للزرقاني ١ / ٧٤.

(٢) انظر الاستيعاب في تمييز الأصحاب ١ / ٥١٥ ـ ٥١٦.

(٣) انظر السيرة النبوية للذهبي ـ ص ٣٢ ـ ٣٣ طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت ط ١ ـ ١٤٠١ ه‍ / ١٩٨١ م.

(٤) القرآن والمستشرقون ص ٢٦ ـ ٢٧.

٤٠٣

٥ ـ أثبت الطب الحديث أن المصاب بالصرع يشعر بآلام حادة في كافة أعضاء جسمه ، ويبقى حزينا كاسف البال بسببها ، وكثيرا ما يحاول مرضى الصرع الانتحار من قسوة ما يعانون من آلام في النوبات ، فلو كان ما يعتري النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند حالة الوحي صرعا ، لأسف لذلك وحزن لوقوعه ، ولسعد بانقطاع الوحي عنه ، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك لقد فتر الوحي عن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مدة من الزمن فحزن حزنا شديدا ، وكان يذهب إلى غار حراء ، وقمم الجبال عسى أن يعثر على الملك الذي جاءه بحراء أول مرة حرصا عليه ، وأسفا على قليه وهجرانه له.

قال الزهري : عن عروة عن عائشة : «وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حزنا شديدا وغدا مرارا كي يتردى من شواهق الجبال وكلما أوفى بذروة ليلقي نفسه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقا ، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال مثل ذلك» (١).

الخلاصة :

يظهر لنا من خلال هذه المناقشة والأقوال أن ظاهرة الوحي ربانية المنشأ ، ملائكية النقل ، بشرية التبليغ ، فرسولنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مبلغ فقط ، لذا كان يحرص عليها كنعمة مهداة ، له من الله سبحانه وتعالى بقوله : «اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك ، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (٢).

ولم يكن نتيجة ترو فكري. يدل على ذلك حرصه على حفظه قال تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)(٣).

__________________

(١) انظر السيرة النبوية للإمام الذهبي ـ ص ٦٤.

(٢) انظر مسند الإمام أحمد ٢ / ١٦٨.

(٣) سورة القيامة : ١٦.

٤٠٤

ويدل أن القرآن الكريم ليس منه تصدير كثير من الآيات بلفظة «قل» والعتاب الشديد على بعض تصرفاته قال تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ..) الآية (١).

وهدده إن غيّر فيه شيئا بقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)(٢).

ويشهد لانفصال ظاهرة الوحي عن شخصه الفرق بين أسلوب وخصائص القرآن الكريم والأحاديث النبوية والقدسية (٣).

فالقرآن الكريم له مزايا وخصائص يتفرد بها عن غيره منها :

١ ـ القرآن الكريم معجزة باقية على مر الدهور ، محفوظة من التغيير والتبديل ، فتواتر اللفظ في جميع الكلمات والحروف والأسلوب.

٢ ـ يحرم روايته بالمعنى.

٣ ـ يحرم مسه لمحدث ويحرم تلاوته من جنب.

٤ ـ تعينه في الصلاة.

٥ ـ تسميته قرآنا.

٦ ـ التعبد بقراءته فقراءة كل حرف منه بعشر حسنات.

٧ ـ تسمية الجملة منه آية. ومقدار مخصوص من الآيات سورة.

٨ ـ القرآن الكريم لفظه ومعناه من عند الله عزوجل قال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٤).

__________________

(١) سورة التوبة : ٤٣.

(٢) سورة الحاقة : ٤٤ وما بعدها.

(٣) انظر مبحث الإعجاز ـ القضية الخامسة.

(٤) سورة النجم : ٣.

٤٠٥

أما الحديث القدسي :

فهو ما كان لفظه من عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومعناه من عند الله تبارك وتعالى ، بالإلهام أو المنام ، وقد يكون بوحي جلي ، أي ينزل به الملك من عند الله تعالى بلفظه ، في حين أن الأحاديث القدسية لا تنحصر في كيفية من كيفيات الوحي. بل يجوز أن ينزل بأي كيفية من كيفياته كرؤيا النوم ، والإلقاء في الروع ، وعلى لسان الملك. ويجوز روايته بالمعنى لأن لفظه من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا يجزئ في الصلاة ، بل يبطلها.

أما الحديث النبوي الشريف :

فهو قول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو فعله أو إقراره ، وهو لفظا ومعنى من الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فهو لا يقول إلا حقا وباجتهاده ولكنه لا يقر على اجتهاد خطأ. فهو إذن قد يكون بوحي أو باجتهاد منه (١) قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

«إلا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» (٢).

فالعاقل من يمسك عن كنه الوحي لأن ذلك لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى والتفكير في ذلك سيوصل الإنسان إلى ما وصل إليه الجاهليون من قبل لما أعياهم التفريق بين الذات الملقية والذات المتلقية. فردوا مصدر القرآن لرؤى النائم أو شطحات المجنون ، أو افتراءات المختلق ، وتخرصات الكذوب.

ثم تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن أو ببعضه ، فعجزوا وسلموا عجزا وضعفا مع بذلهم كامل الجهد. وكلما تقدم العصر وأهله سلّم العلم وأهله بحقائقه لهذا القرآن العظيم قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ)(٣).

__________________

(١) انظر : أصول الحديث د / محمد عجاج ص ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) انظر سنن ابن ماجة الجزء (٢) حديث ٢٤٤٢.

(٣) سورة فصلت : ٥٣.

٤٠٦

لذا كان لزاما على كل صاحب عقل وصاحب علم أن يدرك أن الوحي حقيقة لا خيال ، صدق لا كذب ، تنزيل من حكيم حميد.

والله تعالى أعلم ..

المبحث الثالث :

موثوقية النص القرآني وشبههم حولها :

ما زال أعداء الله منذ القدم يوجهون للقرآن الكريم سهامهم المسمومة من طعن وتشكيك وافتراءات محضة محاولين إضعاف تمكن هذا القرآن من نفوس أهله ليسهل السيطرة عليهم وعلى خيرات بلادهم.

ومعظم ما استند إليه أعداء الله روايات إما واهية أو مختلقة اشتملت عليها بعض الكتب الإسلامية أو شبه أوردها بعض الكاتبين في علوم القرآن وبعضها صحيحة ولكن لها محامل صحيحة ، ومخارج مقبولة. فالتقط المبشرون والمستشرقون هذه الروايات وزادوا عليها من خيالاتهم وأوهامهم وسموم حقدهم محاولين بذلك إدخال الريب في نفوس المسلمين.

والإحالة بين قومهم وبين هذا الدين العظيم. ومن بين الشبه التي أثاروها شبه حول موضوع النص القرآني من حيث كونه ثقة أم يمكن الشك في سلامته بزيادة أو نقصان.

ومن بين من أثار هذه الشبهة (موثوقية النص القرآني) أصحاب دائرة المعارف الإسلامية و «تيودور نولديكه» و «اجنتس جولد تسيهر» و «ريجي بلاشير» و «ريتشارد بل» وغيرهم.

وقد حاول أن يرسخ هذه الشبهة بطريق التساؤل «بل» في مقدمته حيث قال : [لو أن شخصا سأل ما الضمان القائم على أن القرآن الذي تم جمعه في عهد عثمان تسجيل صحيح للتنزيلات كما تم تلقيها وإعلانها بواسطة محمد ..](١).

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ بل ص ٥٠.

٤٠٧

وقد صرح بهذه الشبهة باضطراب وعدم سلامته «جولد تسيهر» في مقدمة كتابه مذاهب التفسير الإسلامي حيث قال :

[فلا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديا على أنه نص منزل أو موحى به ، يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات ، كما نجد في نص القرآن](١).

وقد رد هؤلاء أسباب هذا الاختلاف والاضطراب لعدة أمور منها :

١ ـ الاعتماد في حفظ القرآن على صدور الصحابة.

٢ ـ الكتابة بوسائل بدائية يصعب المحافظة عليها.

٣ ـ نسيان شيء من القرآن استنادا للنصوص العامة من القرآن والسنة التي ذكرت هذا الأمر.

٤ ـ وجود منسوخ التلاوة.

٥ ـ اختلاف مصاحف الصحابة في عدد السور والآيات ووجوه القراءات والاختلاف في الرسم.

٦ ـ النقصان والزيادة في القرآن الكريم للمصلحة.

وسأتناول هذه الشبهة بالعرض والتفنيد إلا ما خصص له مبحث مستقبل كشبههم على الرسم والكتابة والقراءة فسأتركه لمكانه.

الشبهة الأولى :

قالوا : إن القرآن الكريم قد زيد فيه ما ليس منه بدليل ما ورد أن عبد الله ابن مسعود كان لا يكتب الفاتحة والمعوذتين في مصحفه.

وفي رواية كان يحك المعوذتين من مصحفه ويقول إنما أمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

__________________

(١) مذاهب التفسير الإسلامي ـ طبعة دار اقرأ ـ بيروت ط ٢ ، ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٣ م ص ٤.

٤٠٨

أن يتعوذ بهما ـ ويقول إنهما ليست من كتاب الله (١).

الجواب :

هذه الرواية مما اختلف في ثبوتها عن ابن مسعود فممن أنكر ثبوتها عنه الإمام الباقلاني في كتابه نكت الانتصار (٢) والإمام النووي أثناء شرحه لصحيح مسلم ، وابن حزم في كتابه القدح المعلى تتميم المحلى (٣).

ولكن والحق يقال : إن هذه الرواية وهي إثبات كون المعوذتين قرآنا مما ثبت وصح نسبتها لابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فقد أثبتها عنه الإمام البخاري في صحيحه والإمام أحمد في مسنده. وأبو يعلي في مسنده وهم من هم علما ومعرفة بحديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهذه رواية البخاري كما في صحيحه.

روى البخاري بسنده إلى زر بن حبيش قال : سألت أبي بن كعب قلت : أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا فقال أبي : سألت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال لي : قيل لي فقلت : قال : فنحن نقول كما قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٤) ونص رواية الإمام أحمد في مسنده بسنده إلى زر بن حبيش قال : قلت لأبي بن كعب : إن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه فقال : «أشهد أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبرني أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ قال له : قل أعوذ برب الفلق» (٥).

وعنه في رواية عبد الرحمن بن يزيد قال : كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله تبارك وتعالى.

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ واط ص ٤٦.

(٢) نكت الانتصار ص ٧٥.

(٣) المدخل لدراسة القرآن ص ٢٨٨.

(٤) انظر صحيح البخاري ٦ / ٩٦ كتاب تفسير القرآن الكريم.

(٥) انظر مسند الإمام أحمد ٥ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

٤٠٩

لكن مع صحة هذه الرواية لعبد الله بن مسعود فإنه لا ينقص ذلك من فضله ولا من علمه بكتاب الله شيئا وهو القائل : «والله لقد أخذت من في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بضعا وسبعين سورة» وقل أن يحصل هذا لكثير من الصحابة كما أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال في حقه «.. خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأبي بن كعب» (١) ولكن هذه الروايات مع ثبوتها وصحتها لكنها توجه وتحمل على محامل ووجوه صحيحة بإذن الله تعالى.

١ ـ إن عدم كتابة ابن مسعود للمعوذتين وسورة الفاتحة لا يستلزم إنكار كونهما من القرآن الكريم لأن ابن مسعود كان ينكر إثباتها في المصحف فقط لأنه كان لا يرى إثبات شيء من القرآن إلا إن كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أذن فيه ، وكأنه لم يبلغه الإذن في ذلك فقال ما قال (٢).

٢ ـ ويحتمل أنه ما كان يكتبها اعتمادا على حفظ الناس وشهرتها وأنها أصبحت مما لا يمكن أن ينسى ، لأن كتابة القرآن خوفا من أن ينقص منه شيء أو يزاد.

٣ ـ وهناك احتمال قوي وهو ما ذكره أحمد في مسنده أنه كان يظن أنهما عوذة ورقية لأنه كان يرى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعوذ بهما الحسن والحسين فظن أنهما كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة .. وكسائر الرقى» (٣).

٤ ـ يحتمل أنه قال ذلك في بادئ الأمر لعدم سماعه لها من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولكن لما بلغه قول الجماعة وتأكدت قرآنيتها عنده رجع لهذه السور الثلاث وقال بقول الجماعة وأقرأها لتلاميذه وهذا ما أرجحه ، وذلك لما بلغنا من أسانيد القراء الصحيحة لابن مسعود بقراءتهم القرآن بطريقه ومن ضمن ما

__________________

(١) انظر فتح الباري ٩ / ٤٦.

(٢) الفتح الرباني ـ للبنا ١٨ / ٣٥١ وما بعدها.

(٣) تأويل مشكل القرآن الكريم ص ٤٣ ـ ٤٤.

٤١٠

تلقوه عنه المعوذات الثلاثة الفاتحة والفلق والناس. فممن روى القراءة عنه كل من :

١ ـ عاصم بن أبي النجود عنه حفص بن سليمان ، وعنه أبو بكر بن عياش عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن ضمن ما تلقوه عنه ، المعوذتان والفاتحة (١).

٢ ـ حمزة بن حبيب الزيات أحد القراء السبعة الذي أخذ القراءة عرضا عن سليمان الأعمش الذي كان يجود حرف ابن مسعود والذي أخذه عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفيه المعوذتان والفاتحة (٢).

٣ ـ أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي الذي تلقى قراءة القرآن عن حمزة بسنده إلى ابن مسعود عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفيه المعوذتان والفاتحة (٣).

٤ ـ أبو محمد خلف بن هشام أبو محمد الأسدي البزار البغدادي أحد القراء العشرة والروايات عن سليم بن حمزة الذي تنتهي قراءته إلى ابن مسعود إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفيه المعوذتان والفاتحة (٤).

هكذا نرى أن الراجح إثبات ابن مسعود للمعوذتين والفاتحة ورجوعه لها والقول بقرآنيتها بعد أن كان لا يثبتها في مصحفه مما يرد ما نسب إليه من هذا الأمر.

ويشهد لصحة ما قلناه أن تأليف السور الثلاث من نفس تأليف القرآن العظيم ومن نفس نظمه البديع الذي أعجز البلغاء ودان له الفصحاء واعترف له بالعظمة والجلال الإنس والجان كما قد أثبت قرآنيتهن برسم الإمام عثمان وانعقاد الإجماع على ذلك فتم بذلك العلم اليقين ولا يضرنا قول من قال من هؤلاء

__________________

(١) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

(٢) نفس المرجع ١ / ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٣) نفس المرجع ١ / ٥٣٥ ـ ٥٤٠.

(٤) نفس المرجع ١ / ٢٧٣.

٤١١

المنكرين الملحدين.

الشبهة الثانية :

زعموا أن القرآن نقص منه بعض السور مستدلين على ذلك بكتابة بعض الصحابة كأبي بن كعب بعض السور ولم تكتب في القرآن الحالي ويقصدون بذلك سورتي الخلع والحفد كما يحلو لهم تسميتهما وهو ما يطلق عليه عندنا دعاء القنوت : «اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ..» (١) أو غيرهما مما تلقفوه من أقوال الشيعة المردودة في حق القرآن الكريم.

الجواب :

هذه القضية وسابقتها من القضايا الهامة لتعلقها بجوهر القرآن وكماله وتمام نصه. والمستشرقون بنزوات خيالهم وجنوح فكرهم وما جبلت عليه نفوسهم يطيب لهم أن يتهموا القرآن الكريم هذا الجوهر المصون ، فيدعون أن النص الموجود في مصاحف المسلمين نص غير كامل ويزعمون ـ للبرهنة على ذلك ـ بمثل هذه الأدلة غير الصحيحة ، وبما نسبوه للشيعة من أقوال أن القرآن دخله النقص والزيادة. ولكن لحسن الحظ فقد قيض الله لهذا الإسلام من ينفي عنه زيغ المبطلين وتأويل الجاهلين وزيف المنحرفين وأهواء الضالين. قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (٢).

وخلو القرآن من الزيادة والنقصان والتحريف أمر لا يشك فيه مسلم سواء كان متدينا أو من غير المتدينين فالكل منهم يعترفون أن القرآن الكريم هو الوثيقة الربانية التي حفظت من التغيير والتبديل والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها تنزيل من حكيم حميد»(٣).

__________________

(١) انظر مذاهب التفسير الإسلامي ـ جولد تسيهر ص ٢.

(٢) انظر التمهيد لابن عبد البر ج ١ / ٥٩ ، طبعة المطبعة الملكية المغربية.

(٣) انظر قضايا قرآنية د / فضل عباس ، دار البشير عمان ص ٢١٦ وما بعدها.

٤١٢

قال الإمام الطبري : (أما الزيادة في القرآن فمجمع على بطلانها وأما النقصان فهو أشد استحالة) (١).

١ ـ فالناظر لما زعموه من كون دعاء القنوت قرآنا أمر غير مسلم به ترده حقائق العلم الثابتة والروايات الصحيحة المنسوبة إلى أبي بن كعب كما ذكر ذلك عنه أبو الحسن الأشعري ـ رحمه‌الله ـ حيث قال : (قد رأيت أنا مصحف أنس بالبصرة عند قوم من ولده ، فوجدته مساويا لمصحف الجماعة ، وكان ولد أنس يروي أنه خط أنس وإملاء أبي) (٢).

وكتابة أبي لهذا الدعاء لو صحت لا يدل على قرآنيتها لأن مصاحف الصحابة لم تكن قاصرة على المتواتر من القرآن فقط بل كان بعضها مشتملا على الآحادي منه ، وعلى منسوخ التلاوة ، وعلى بعض التفسيرات والتأويلات والأدعية ، وعلى بعض المأثور ومن ذلك هذا الدعاء الذي يقنت به بعض الأئمة في الوتر فلعله إذا أثبته على أنه دعاء لا استغناء عنه.

٢ ـ كما أن الناظر لدعاء القنوت يجده مباينا لنظم سائر القرآن ولا يعدو أن يكون من معدن أقوال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

٣ ـ والمعروف أن أبيا كان من أقرأ علماء الصحابة وقد ذكره الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من ضمن الأربعة الذين حض على أخذ القرآن عنهم وذلك بقوله : «خذوا القرآن من أربعة .. وأبي بن كعب».

لذا لا يمكن لمن كانت هذه منزلته ومكانته العلمية ومعرفته الكبيرة بكتاب الله عزوجل أن يجهل كون دعاء القنوت ليس قرآنا. ولكني أريد أن أبين صفة كان أبي يمتاز بها أنه كان إذا سمع شيئا من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يرجع عنه حتى لو أخبره غيره أن تلاوته نسخت. قال عبد الله بن عباس ـ رضي الله

__________________

(١) انظر شبهات مزعومة حول القرآن الكريم ـ القمحاوي ص ١٥٠.

(٢) نكت الأنصار لنقل القرآن الباقلاني ص ٨١.

٤١٣

عنه ـ : قال عمر : أبي أقرؤنا ، وإنا لندع من لحن أبي وأبي يقول : أخذته من في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلا أتركه لشيء قال الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(١).

هذا كله يؤكد عدم قرآنية دعاء القنوت وعدم ثبوته عن أبي بن كعب.

ويزيد هذا وضوحا وتأكيدا ما بلغنا من القراء الذين أخذوا القرآن بسندهم إليه. رضي الله عنه ولم يكن من بين ما تلقوه عنه هاتان السورتان المزعومتان.

ومن هؤلاء الأئمة :

١ ـ نافع بن أبي نعيم المدني من طريق الأعرج عن أبي هريرة عن أبي ابن كعب عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٢) ولم يكن فيما تلقاه هاتان السورتان.

٢ ـ عاصم بن أبي النجود الذي أخذها عن زر بن حبيش عن أبي عبد الرحمن السلمي والذي أخذها عن أبي بن كعب عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يكن منها هاتان السورتان (٣).

٣ ـ أبو الحسن علي بن حمزة الذي تلقى القراءة عن طريق إسماعيل ويعقوب ابني جعفر قراءة نافع والذي بدوره أخذ قراءة أبي بالسند السابق (٤).

٤ ـ خلاد أبو عيسى خالد الشيباني بالولاء الذي تلقى قراءة عاصم والتي سندها يتصل إلى أبي بن كعب بالسند السابق (٥).

فهؤلاء القراء كلهم وغيرهم قد تلقوا القراءة عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ ولم يكن فيما تلقوه هاتان السورتان المزعومتان مما يدل على عدم ثبوت

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٦.

(٢) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٣١.

(٣) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٥٣٥ ـ ٥٤٠.

(٤) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٥٣٥.

(٥) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٢٧٤.

٤١٤

ذلك عنه. ويؤكد هذا أن القرآن الكريم قد انتشر واشتهر وثبت تدوينه وحددت سوره بمصحف عثمان القطعي ولم يكن هاتان السورتان المزعومتان فيه ، والثابت في حق هذا المصحف وأمثاله أنه قد حرق فقد روى محمد والطفيل ابنا أبي بن كعب أنهما قالا لوفد أصحاب عبد الله عند ما طلب مصحف أبيهما : إن عثمان قد قبضه منه) (١).

فهذا كله يؤيد كونه دعاء فحسب ويرد نسبة إثبات هذا الدعاء على أنه قرآن في مصحفه ـ رضي الله عنه ـ.

والله تعالى أعلم.

أما ما زعموه كذلك أن سورا بكاملها ناقصة من القرآن الكريم أو بعض الآيات القرآنية مستدلين على ذلك بما عند الشيعة من روايات ساقطة وحجج واهية زاعمين أن الدافع من وراء ذلك مصلحة بعض الصحابة فسأذكر بعض هذه الأمثلة التي ذكروها والرد عليها.

١ ـ ما نسب للإمام علي من حذفه آية المتعة.

٢ ـ حذف من القرآن ما يتعلق بفضائل آل البيت وولايتهم كحذف سورة الولاية التي كانت ٧ آيات. وكما فعل بسورة الأحزاب التي كانت لا تقل طولا عن سورة البقرة ـ ٢٨٦ آية.

٣ ـ حذف جزء من سورة «لم يكن» كان فيها أسماء سبعين رجلا من قريش.

٤ ـ الحذف من سورة النور التي كانت أكثر من مائة آية ، وسورة الحجر التي كانت تحوي ١٩٠ آية وسورة النورين التي كانت ٤١ آية.

٥ ـ مصحف فاطمة وعلي الخاص بهما.

__________________

(١) انظر حاشية كتاب تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص ٤٧ ، ونكت الأنصار لنقل القرآن ص ٨٠.

٤١٥

الجواب :

هذه الترهات والأقاويل تلقفها المستشرقون والمبشرون من بعض فرق الشيعة كالإثني عشرية ومن الغلاة منهم على وجه أخص أمثال الوري ميزا حسين الطبرسي صاحب كتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) المطبوع في إيران سنة ١٢٨٩ ه‍ والذي جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة ومجتهديهم في مختلف العصور لإثبات دخول الزيادة والنقص للقرآن الكريم. وقد أثار هذا الكتاب ضجة كبرى لأنهم لا يريدون لكذبهم أن يفضح فألف كتابا آخر سماه (رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) (١).

والمفيد في كتابه (تحريف القرآن) والمجلسي في كتابه (تذكرة الأئمة) والقمي في تفسيره الذي خص فيه التحريف في آيات الولاية والكليني في كتابه (الأصول من الكافي) و (روضة الكافي) وأبو القاسم الكوفي على بن أحمد ابن موسى في كتابه (الاستغاثة) وغير هؤلاء كثير (٢).

فهؤلاء جميعا بشكل خاص والشيعة على وجه العموم إلا بعض الفرق كالزيدية يعتقدون أن القرآن الكامل الذي أنزله الله سبحانه كان أطول كثيرا من القرآن المتداول في أيدينا ، ومن قرآنهم أيضا.

وقد نقل هذا الأمر «جولد تسيهر» في كتابه (مذاهب التفسير الإسلامي) و «جارسان دي تاسي» و «مرزا كاظم بك» في (المجلة الآسيوية سنة ١٨٤٢ اللذان نشرا سورة من هذه السور المتداولة في دوائر الشيعة كما اعتنى بجمع هذه الزيادات الشيعية «كلير تسدال» باللغة الإنجليزية (٣).

__________________

(١) انظر الشيعة وتحريف القرآن ـ محمد مال الله ، ص ٥٧.

(٢) تعريف بمذهب الشيعة الإمامية ص ٨٣ ـ ٨٤.

(٣) مذاهب التفسير الإسلامي ص ٢٩٤.

٤١٦

والمعروف أن الشيعة بذلوا جهدهم لإثبات هذه المسألة في سبيل أن يجدوا لعقيدتهم الدينية والسياسية مستندا من القرآن الكريم. وهذه العقيدة تتمثل في رفض الشيعة خلافة أهل السنة ، وتقديس علي والأئمة ، ورجعة الإمام المهدي المحتجز الذي يعيش في الخفاء. ومن هذا المنطلق كان التحريف الشيعي للروايات والافتراءات التي بها محاولة إثبات النقص في كتاب رب العالمين.

وقد أنكر على الشيعة هذه الافتراءات أحد عقلائهم «الإمام الطبرسي» صاحب (كتاب مجمع البيان لعلوم القرآن) و «الشريف المرتضى».

قال الإمام الطبرسي : «أما الزيادة في القرآن فمجمع على بطلانها وأما النقصان فهو أشد استحالة. ثم قال : إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام ، والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حد لم يبلغه شيء في الوجود لأن القرآن معجزة النبوة ، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حمايته الغاية القصوى حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من تفسيره وأحكامه وإعرابه وقراءاته ورسمه وضبطه وعدد آياته وعدد نقطه وحركاته فكيف يتخيل عاقل بعد تلك العناية الفائقة بالقرآن الكريم ، أن يحصل فيه نقص أو زيادة مع هذا الضبط الشديد» (١).

والذين ينسبون هذا الفعل للصحابة لا يعرفون مقدار حب الصحابة لهذا الكتاب العظيم الذي فاق حبه عندهم الأهل والولد.

لذا لا يعقل أن تتفق هذه الأمة التي أحبت هذا الكتاب وقدسته ، أن تتفق على مثل هذا العمل المفترى دون أن يقوم من ينكر ذلك ، مع أن الصدق والأمانة في الأداء والدقة في النقل كانت السمة البارزة لهم حتى إنهم اشترطوا لجمعه موافقة المحفوظ في الصدور لما هو عندهم مكتوب في السطور. بل إن

__________________

(١) انظر شبهات مزعومة حول القرآن الكريم ص ١٥٠ ـ ١٥١.

٤١٧

زيدا عند ما فرغ منه راجعه ثلاث مرات ثم راجعه أمير المؤمنين عثمان ـ رضي الله عنه ـ مرة رابعة فلما اطمأن قلبه له حمل الناس عليه. لذا لقد نال هذا الكتاب من العناية والضبط ما لم ينله كتاب آخر وأي مصلحة في إسقاط شيء من كلام الحكيم الخبير الذي لم يجعل لهم عليه سلطانا فأرجع حفظه له وحده وتكفل ذلك بنفسه قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١).

وإذا كان شعر النابغة أو شعر زهير بن أبي سلمى لا يستطيع أحد أن يزيد فيه شيئا أو ينقص منه شيئا لأن أمره سيفتضح فمن باب أولى هذا القرآن العظيم الأكثر اشتهارا.

فالدفاع عنه والمحافظة عليه مقدم على مثل هذه الأشعار. كما أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يحتاطون لأحاديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلا يسمحون بالزيادة فيها أو الإنقاص منها والقرآن الكريم أولى منها بلا شك.

روي عن أبي سعيد الخدري قال : «كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار ، فجاء أبو موسى فزعا فقالوا : ما أفزعك؟ قال : أمرني عمر أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت فقال : ما منعك أن تأتينا فقلت : إني أتيت فسلمت على بابك ثلاثا فلم تردوا علي ، فرجعت. وقد قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع» (٢).

قال عمر : لتأتيني على هذا بالبينة ، فقال عمر لأبي موسى : إني لم أتهمك ولكنه الحديث عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفي رواية أخرى وذكر أن عمر قال لأبي موسى : أما إني لا أتهمك ، ولكنني أحببت أن أتثبت» (٣).

فإذا كان هذا حال الصحابة مع الحديث النبوي الشريف من التحقق

__________________

(١) سورة الحجر الآية ٩.

(٢) انظر صحيح البخاري ٧ / ١٣٠ كتاب الاستئذان باب ١٣ التسليم والاستئذان ثلاثا.

(٣) انظر تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه ، محمد طاهر الكردي ط ٢ ، ١٣٧٢ ه‍ ١٩٥٣ م ، ص ٦٣ وما بعدها.

٤١٨

والتثبت مع أنهم كلهم عدول أمناء أوفياء لا يجرءون أن يكذبوا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا بزيادة ولا بنقصان لا لمصلحة خاصة لأحدهم ولا عامة كما يزعم الشيعة فكيف إذن لا يكونون أشد تحققا وتثبتا في كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من الحديث النبوي الشريف أو غيره.

قال المستشرق الأمريكي «ر. ف. بودلي» في كتابه (الرسول : حياة محمد) عن القرآن الكريم : [فبين أيدينا كتاب معاصر فريد في أصالته وفي سلامته لم يشك في صحته كما أنزل أي شك جدي ، وهذا الكتاب هو القرآن. وهو اليوم كما كان يوم كتب لأول مرة تحت إشراف محمد ، وعلى الرغم من أن الأفكار قد دونت في الرقاع وسعف النخل والعظام في لحظات غريبة ، فالسور والآيات الأصلية قد حفظت .. ثم يقول : وإن الحسنة الوحيدة في طريقة زيد أنها كانت أمينة فوق الشبهات فلم يفعل شيئا ليضيف فقرات ، أو يضع جمل ربط ، أو بحذف أو ينسخ تفاصيل تشين الإسلام ، لقد عمل بإخلاص لا يمكن تصوره حتى إنه لما انتهى من نشر القرآن ، كان الكتاب من عمل مؤلفه خالصا ومؤلفه فقط) ـ أي الله سبحانه وتعالى ـ.

ثم يقول : والمهم أن القرآن هو العمل الوحيد الذي عاش أكثر من اثني عشر قرنا دون أن يبدل فيه ، ولا يوجد شيء يمكن أن يقارن بهذا أدنى مقارنة ، لا في الديانة اليهودية ولا في الديانة المسيحية) (١).

والآن سأعرض لبعض هذه المزاعم للرد عليها.

المسألة الأولى :

ما نسبوه لعلي ـ رضي الله عنه ـ أنه أسقط آية المتعة .. إلخ فهو محض كذب وافتراء ولا أدري ما ذا يريد الطاعن بالمتعة فإن أراد نكاح المتعة فالآية التي يستدل بها بعض القائلين بإباحته موجودة في سورة النساء لم يحذفها علي كما زعموا

__________________

(١) تاريخ القرآن ـ الكردي ص ٦٨ ـ ٦٩.

٤١٩

وهي قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً)(١) ونكاح المتعة أحل في أول الإسلام للضرورة ثم حرم إلى قيام الساعة (٢).

وأما إذا قصدوا آية أخرى فعليهم البيان والبراهين.

والشيعة ليست حجة على القرآن وأهله لانحرافاتهم العقدية الخطيرة والتي منها نسبة النقص إلى كتاب الله سبحانه وتعالى مع أن التواتر قد قام والإجماع قد انعقد على أن الموجود بين دفتي المصحف كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير ولا تبديل.

المسألة الثانية :

ما زعموه أن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان سبعة عشر ألف آية مع أن آياته ستة آلاف ومائتان وثلاث وستون آية. وما زعموه من رواية منسوبة لمحمد بن نصر أن سورة (لم يكن) كان فيها اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم. وما نسب لمحمد بن جهم الهلالي وغيره عن أبي عبد الله أن لفظ «أمة هي أربى من أمة» سقطت من سورة النحل على حد زعمهم. وما زعموه من سقوط سورة «الولاية» بتمامها. وما زعموه من سقوط أكثر سورة «الأحزاب» (٣).

هذه الترهات وأمثالها مما افتراه الشيعة لإثبات مذهبهم ومقصدهم المنحرف ، مع أنها روايات مكذوبة ينقضها العقل والتاريخ. وهي مجرد ادعاءات لم يقم عليها دليل ولا شبهة دليل ، ولو أن كل دعوة تقبل من غير دليل لما ثبتت حقيقة ، ولما توصل الناس إلى علم ومعرفة. وصدق من قال : [أصحاب الدعاوى أدعياء ما لم يقيموا عليها دليلا] فمثلا زعمهم أن سورة الأحزاب كانت توازي سورة البقرة طولا ومن ضمنها آية الرجم وأن الصحابة أسقطوها لوجود

__________________

(١) سورة النساء آية : ٢٤.

(٢) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

(٣) الشيعة والقرآن ـ إحسان إلهي ظهير ص ٣١.

٤٢٠