آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

د. عمر بن إبراهيم رضوان

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

المؤلف:

د. عمر بن إبراهيم رضوان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

٦ ـ ايحاؤه سبحانه له من وراء حجاب :

وهو فوق السموات السبع في معراجه وهي المرتبة السادسة لقوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ..) الآية (١).

والجدير بالذكر أن هذه المراتب لم ينزل عن طريقها قرآن قط إلا ما كان عن طريق جبريل ـ عليه‌السلام ـ وإنما كان ينزل عليه بهذه المراتب غير القرآن الكريم. حتى لا يلتبس ما هو قرآن بغيره من التوجيهات النبوية. كما سبق الإشارة إليه.

المسألة الخامسة :

الشبه على ظاهرة الوحي :

عجزت عقول المستشرقين ومختبراتهم العلمية أن توصلهم إلى كنه ظاهرة الوحي. فاختلفوا في هذه الظاهرة على أقوال متباينة مجافية للحق ، مجانبة للصواب ، وكل ذلك سببه تصورهم ظاهرة الوحي في النصرانية وقياس ظاهرة الوحي في الإسلام عليها.

وسأجمل أقوالهم في ظاهرة الوحي في نقاط محدودة.

١ ـ الوحي النفسي ، والإلهام السمعي.

٢ ـ بتأثير انفعالات عاطفية.

٣ ـ لأسباب طبيعية عادية كباعثة النوم (التنويم الذاتي).

٤ ـ تجربة ذهنية فكرية.

٥ ـ كحالة الكهنة والمنجمين.

٦ ـ حالة صرع وهستيريا.

وغير ذلك من الأقوال التي فاقت سذاجة الجاهلين الأوائل.

__________________

(١) سورة الشورى : ٥١.

٣٨١

الشبهة الأولى :

الوحي النفسي :

قالوا : نحن لا نشك في صدق محمد في خبره عما رأى وسمع ولا نشك في كونه مصلحا اجتماعيا ، وعبقريا فذا ، وإنما نقول أن منبع ذلك إلهام من نفسه وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال : إنه وراء عالم المادة والطبيعة الذي يعرفه جميع الناس. فإن هذا الغيب شيء لم يثبت عندنا وجوده ، كما أنه لم يثبت عندنا ما ينفيه ، ويلحقه بالمحال.

فمنازع نفسه العالية وسريرتها الطاهرة ، وقوة إيمانه ، وخياله الواسع وإحساسه العميق ، وعقله الكبير ، وذكاؤه الوقاد ، وذوقه السليم ، مما كان لذلك التأثير بأن يتجلى في ذهنه ، ويحدث في عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية فيتصور أن ما يعتقده إلهيا نازلا عليه من السماء بدون وساطة ، أو عن طريق رجل يتمثل له يلقنه ذلك ، أو يسمعه يقول له شيئا في المنام ، والقرآن شيء من هذا الذي يراه ويتخيله وإنما كل ذلك نابع من نفسه ، ومن عقله الباطن ، وصورة لأخيلته ووجدانه التي انطبعت في نفسه بما يحيط بها من شائعات في بيئته على حد تعبير «جب» فامتلأ بها عقله الباطن ففاضت بذلك نفسه ثم صاغها بأسلوبه المؤثر ، وخياله الخصيب ، نتيجة لخلواته الخاصة بغار حراء ، وتأملاته العميقة.

واستدلوا على ذلك بقصة الفتاة الفرنسية «جان دارك» في القرن الخامس عشر الميلادي التي اعتقدت أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها ، ودفع العدو الإنكليزي عنه ، وادعت أنها تسمع صوت الوحي ، فأخلصت في دعوتها ، وتوصلت بصدق إرادتها وحسن سيرتها إلى رئاسة جيش صغير تغلبت به على العدو ثم خذلها قومها فوقعت في يد عدوها فألقوها في النار حية فماتت غب انتصارها ، وقد ذهبت تاركة وراءها اسما يذكره التاريخ(١).

__________________

(١) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة ص ٩٠ ، والوحي المحمدي ص ٨٩ ، وشبهات مزعومة حول القرآن الكريم للقمحاوي ص ٤١ ، ومقدمة القرآن ، ص ٢٠.

٣٨٢

الجواب :

لما كان الوحي هو الأساس الذي يترتب عليه جميع حقائق الإسلام بعقائده وتشريعاته ، وهو المدخل للتصديق بكل ما جاء به الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من إخبارات غيبية وأوامر تشريعية من أجل هذا وغيره اهتم أعداء الإسلام بالتلبيس والتشكيك في حقيقة الوحي الإلهي ليشككوا المسلمين في دينهم ويحولوا بين غير المسلمين وخاصة الأوربيين وبين الإسلام (١) ، لذا زعموا أن الوحي ناتج عن سبب من هذه الأسباب التي لخصناها من الشبه آنفة الذكر.

وقد قامت الأدلة النقلية والعقلية على بطلان هذه المزاعم. فمن الأدلة النقلية :

١ ـ قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٢).

وقال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)(٣).

٢ ـ ووصفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لكيفية إتيان الوحي إليه. كما ورد في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ عند ما سأله الحارث بن هشام : «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ..» الحديث (٤).

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «أول ما بدئ به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ..» الحديث (٥).

أما الأدلة العقلية فكثيرة كذلك. ولكني سأقتصر على رد عام على فريتهم هذه.

__________________

(١) انظر توثيق نص القرآن الكريم ـ خالد عبد الرحمن العك ص ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) سورة النجم ٣ ـ ٤.

(٣) سورة النساء : ١٦٣.

(٤) انظر صحيح البخاري كتاب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ، بشرح إرشاد الساري.

(٥) نفس المرجع ١ / ٦١.

٣٨٣

فالمستشرقون بنوا هذه الشبهة على مقدمات مبناها أن فكرة الوحي تكونت نتيجة تشبع العقل الباطن بما في البيئة من ثقافات وعقائد وغير ذلك مما جعل نفسه الصافية تفيض بما فيها من ذخائر وقد فصلت القول في كل ما زعموه كركائز للوحي النفسي من ثقافة يهودية ونصرانية ووثنية ومجوسية وزرادشتية وغير ذلك في فصل المصادر المزعومة للقرآن الكريم فليرجع إليها هناك.

وعلى إثر سقوط هذه المقدمات تسقط النتيجة التي توصلوا لها في تفسير ظاهرة الوحي أنها (وحي نفسي) أو ناتج عن رياضات روحية وتفكير طويل كإلهام الواصلين ، وكشف العارفين (١).

ولكن لا بد من كلمة عامة على هذه الشبهة ، فالناظر لهذا الدين وحقيقته يجده فريدا متميزا صافيا بكل ما جاء به من عقائد وشرائع عما كان موجودا في وسطه الذي كان يعيش فيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

فقد جاء هذا الدين عاما شاملا لكل نواحي الحياة ، سهلا في عبادته ، دقيقا في معاملاته ، رادعا في حدوده ، فذا في نظمه الاقتصادية والسياسية وغيرها ، عظيما في أخلاقه وآدابه ، إلى غير ذلك من المزايا والفضائل أكل هذه العقائد والنظم والتشريعات كانت مذكورة مدخرة في نفس محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ابن البيئة المختلفة العقائد ، والفقيرة الموارد ، المختلفة الأنظمة ، المضطربة الأخلاق والآداب؟.

فهذا الإسلام بعظمته ، والقرآن بربانيته يبطل كل هذه المزاعم ، والعلم يكشف كل يوم لنا من أسرار آياته في الأنفس والآفاق مما يؤكد أنه من تنزيل إلهي ، وليس فيه أدنى شيء لعقل بشري ، لأنه أعجز من أن يؤلف شيئا من مثل آياته فكيف تأتي هذه الفرية لتزعم أن هذا القرآن فيض بشري ووحي نفسي لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

__________________

(١) مباحث في علوم القرآن ـ صبحي الصالح ص ٢٦.

٣٨٤

وقد كان الوحي يفتر عنه فترات وهو بأشد الحاجة إليه ولا يجد جوابا لما سألوه ، أو بما تحدوه. كما أن الوحي ليس إلهاما فقط بل هو إخبار من الله سبحانه لنبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بواسطة أو بدون واسطة ، ويكون قلبيا أو قلبيا وسمعيا ، أو قلبيا وسمعيا وبصريا.

روى السيوطي في كتابه لباب النقول في أسباب النزول حيث قال :

أخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس قال : «بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة فقالوا لهم سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة ، فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ووصفوا لهم أمره ، فقالوا لهم : سلوه عن ثلاث إن أخبركم بها فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول.

سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فإنه كان لهم أمر عجيب ، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ، وسلوه عن الروح ما هو. فأقبلا حتى قدما على قريش فقالا قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد. فجاءوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فسألوه : فقال : أخبركم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن ، فانصرفوا ومكث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خمس عشرة ليلة لا يحدث الله في ذلك إليه وحيا ، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وحتى أحزن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مكث الوحي عنه وشق عليه ما تتكلم به أهل مكة ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف وقول الله يسألونك عن الروح» (١).

__________________

(١) كتاب النقول في أسباب النزول حاشية على تفسير الجلالين ـ طبعة عبد الحميد حنفي مصر ص ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٣٨٥

فكيف إذن يعجز محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يأتيهم بجواب وهو صاحب العقل الباطن المملوء بالمعارف ، وصاحب الوجدان الملتهب ، والنفس المتوثبة ، والقريحة المتوقدة ، والبديهة الحاضرة.

ما ذا إلا لأن القرآن تنزيل من حكيم حميد لا دخل لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بشيء منه.

كما ينقض هذه الفرية كون العقل الباطن على ما يقول علماء النفس إنما يفيض بما فيه في غفلة من العقل الظاهر ، ولذلك لا يظهر ما فيه إلا عن طريق الرؤى والأحلام ، والأمراض كالحمى مثلا ، وفى الظروف غير العادية ، والقرآن الكريم لم ينزل شيء منه في هذه الحالات وإنما نزل على نبي الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقظة لا مناما ، وفي اكتمال من عقله وبدنه ، في تمام صحة نفسه فهكذا يظهر لنا جليا أن فريتهم الوحي النفسي التي أتى بها لإبطال الوحي الإلهي مكشوفة وما استندوا إليه من مقدمات باطلة مردودة ونتائجهم غير صائبة.

فبهذا يثبت الحق أن الوحي الإلهي من الله سبحانه وحده دون تدخل بشري (١).

والله تعالى أعلم.

أما ما استدلوا به لهذه الفرية بقصة الفتاة الفرنسية (جان دارك) فباطلة ، لأن (جان دارك) لم تدع النبوة ، ولو أنها ادعت لما صدقت ، لأن دعوى النبوة لا تثبت إلا بدليل وهي المعجزة ، ولم يظهر من هذا على يدها.

والفتاة لا شك أنها كانت قوية القلب ، مرهفة الحس ، أصيبت بهيجان عصبي لما أصاب قومها من اضطهاد وظلم مما حرك وجدانها بسبب شعورها الديني ، فاستنهضت قومها للقتال ، وقادتهم للخلاص من ذل الاستعباد. وهذا أمر متكرر في كل البيئات والأوقات أن يوجد في مثل هذه الظروف مثل هذه

__________________

(١) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ٩٩ ـ ١٠٠.

٣٨٦

الفتاة من رجال أو نساء.

حيث تلاقي دعواتهم هوى في نفوس أقوامهم فيهبوا وراءهم لنصرة صاحب فكرة الخلاص.

وشبيه بهذا أصحاب دعوة المهدي المنتظر ، أو دعوى الباب الإيراني ، والبهاء والقادياني وغيرهم في التاريخ كثير ، مما زعموا أنه يوحى إليهم حيث وجدوا من يغتر بدعواتهم الكاذبة فأين دعوة هؤلاء جميعا من دعوة المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ التي غيرت تاريخ أمة فجعلتها فريدة في عقيدتها وشريعتها وهدايتها الربانية قامت على كل ذلك حضارة لها طابعها الخاص بمدة قياسية.

أما (جان دارك) فإنها لم تصنع بدعوتها أمة ولم تقم بها حضارة فأين الثرى من الثريا. فلا قياس (١).

الشبهة الثانية :

زعم نولديكه أن ظاهرة الوحي كانت بسبب تأثير النوبات الانفعالية الطاغية التي كانت تسيطر عليه مما كان يدعو محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الشعور بأنه تحت تأثيرات إلهية (٢) حيث قال :

[كانت نبوة محمد نابعة من الخيالات المتهيجة والإلهامات المباشرة للحس أكثر من أن تأتي من التفكير النابع من العقل الناضج. فلو لا ذكاؤه الكبير لما استطاع الارتقاء على خصومه .. مع هذا كان يعتقد أن مشاعره الداخلية قادمة من الله بدون مناقشة](٣).

الجواب :

هذه الشبهة لها قرب من الشبهة الأولى وتدل على تجن ، وسوء فهم واضح ،

__________________

(١) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ١٠٣ ، انظر الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص ٨٩ ـ ٩٤.

(٢) انظر مقدمة القرآن ـ واط ص ١٨.

(٣) تاريخ القرآن ـ نولديكه ١ / ٥.

٣٨٧

ويرد ذلك الوقوف على سيرته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلى كيفية نزول الوحي عليه.

فالواقف على ذلك يجد أن الوحي كان يأتي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أوقات عدة وبأشكال مختلفة فقد كان يأتيه في ظروف اعتيادية ، ويقطعه في ظروف عصيبة وهو بأشد الحاجة إليه. فكل ذلك يدل على أن الوحي خارج عن ذاته وليس له فيه أدنى تدخل. فها هم المنافقون يخوضون في عرضه الشريف في قصة الإفك التي افتريت ضد زوجته المصون ويشتد الأمر عليه ويتمنى لو يجد شيئا يقوله ليبرئ زوجته أو يثبت ما يقولونه فيرتاح مما هو فيه ولكن الأمر ليس بيده ، ولم يستطع أن يقول شيئا حتى نزل من صاحب هذا القرآن وهو الله سبحانه ما يبرئ هذه الزوجة الطاهرة النقية ويرد كيد المنافقين.

وما حصل معه في سؤال المشركين له عن ثلاثة الأسئلة المذكورة في قصة أهل الكهف وقد ذكرت القصة بطولها أثناء ردي على الشبهة الأولى مما بينت أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يستطع أن يأتيهم بجواب حتى خاض المشركون في أمر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما طاب لهم من قول حتى نزلت الإجابة من السماء.

كل ذلك يؤكد أن الوحي أمر خارج عن إرادة نبينا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعن رغبته وأنه ما كان يظهر عليه أثناء نزول الوحي عليه أثر للانفعالات الطاغية المزعومة عند «نولديكه» فقد كان يأتيه أحيانا بصورة رجل كبقية الرجال حتى أنه لا يستطيع أن يميز جبريل ـ عليه‌السلام ـ أحد من الحاضرين إلا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيدارس الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قواعد الإسلام وأصوله كما حصل فيما رواه «عمر» في حديثه الطويل. كما أنه أحيانا كان ينفث في روعه شيئا من أمور الإسلام.

وأشد ما كان يلاقيه عند نزول جبريل ـ عليه‌السلام ـ بصوت كصلصلة الجرس وهذا الصوت كان يثير في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عوامل الانتباه فتهيأ نفسه بكل قواها لتلقي القول الثقيل الذي جاء به من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهذه الكيفية شدتها ناتجة لما يحصل من ممازجة جبريل ـ عليه‌السلام ـ لروح محمد ـ

٣٨٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويخاطبه بصوت قوي يشبه صوت الجرس يفهمه هو دون غيره.

وسبب المعاناة والتعب والكرب عند نزول الوحي ، لأنه أمر طارئ على الطباع البشرية.

وقال في الإمتاع : جعل الله تعالى لأنبيائه ـ عليهم‌السلام ـ الانسلاخ من حالة البشرية إلى حالة الملكية في حالة الوحي فطرة فطرهم عليها ، وجبلة صورهم فيها ، ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بما ركب في غرائزهم من العصمة والاستقامة فإذا انسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك ما يتلقونه عادوا على المدارك البشرية لحكمة التبليغ للعباد. فتارة يكون الوحي كسماع دوي كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه. وتارة يتمثل له الملك رجلا فيكلمه ويعي ما يقوله والتلقي من الملك والرجوع إلى البشرية وفهمه ما ألقي إليه كله يتم في لحظة واحدة ، بل أقرب من لمح البصر ، ولذا سمي وحيا.

وإنما كان التعب والشدة في حالة النزول ليبلو صبره فيرتاض لاحتمال ما كلفه من أعباء النبوة.

وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة الناتجة عن تلقي الوحي من زيادة الزلفى ورفع الدرجات (١).

فصور الوحي كلها تدل أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان في حالة تلقيه الوحي يكون في قمة الهدوء وسلامة الأعصاب ولم يكن يظهر عليه أي انفعالات عاطفية طاغية ، وهيجان أحاسيس كما زعم «نولديكه».

الشبهة الثالثة :

زعم بعضهم أن منشأ الوحي من أسباب طبيعية عادية كباعثة النوم أو

__________________

(١) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ١ / ٥٨ ـ ٦٠.

٣٨٩

ما سماه «واط» (التنويم الذاتي) (١).

الجواب :

هذه فرية من جملة مفترياتهم حيث إن البعد شاسع بين الوحي وبين عارض السبات الطبيعي الذي يعتري المرء حيث إن ظاهرة الوحي كانت تعتريه قائما أو قاعدا ، أو سائرا ، أو راكبا ، وبكرة أو عشيا ، ليلا أو نهارا ، وفي أثناء حديثه مع أصحابه أو مع أعدائه ، وكانت تعتريه فجأة وتزول عنه فجأة ، وتنقضي عنه أحيانا في لحظات يسيرة لا بالتدريج الذي يعرض للوسنان. وكانت تصاحبها تلك الأصوات الغريبة التي تشبه صلصة الجرس والتي لا تسمع عند النوم وغيره. فمن هنا يظهر أنها كانت تباين حال النائم في كل أوضاعها وأوقاتها وأشكالها. فقد صور لنا الإمام البخاري ـ رحمه‌الله تعالى ـ بسنده إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صورة من هذه الصور عند ما طلب يعلى من عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ أن يريه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين يوحى إليه.

قال الإمام البخاري : فبينما النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل فقال : يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ساعة فجاءه الوحي ، فأشار عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى يعلى ، وعلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثوب قد أظل به فأدخل رأسه فإذا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ محمر الوجه ، وهو يغط. ثم سري عنه. فقال : أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي برجل فقال : اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات ، وانزع عنك الجبة ، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك (٢).

فهذا يبين أن ظاهرة الوحى ليس لها تحضير مسبق من قبل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما زعم ذلك «واط» بل هي ظاهرة خارجة عن ذاته الشريف وبغير

__________________

(١) وحي الله ـ د / حسن عتر ص ١٤١.

(٢) انظر صحيح البخاري ، كتاب الحج ـ باب غسل الخلوق من الثياب انظر إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ٣ / ١٠٤ ـ ١٠٥.

٣٩٠

إرادته وأعراضها لا تستجلب ولا تدفع.

والذي يزيد هذه الحقيقة وضوحا سماع صوت دوي كدوي النحل عند وجه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يسمعه من حوله كما في حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : «كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا نزل الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل ..» الحديث (١).

فهل من كان في سبات يسمع عند وجهه مثل هذا الدوي؟ كل ما ذكرت يدل على بطلان هذا الرأي الذي زعمه «واط» ومن معه وفساده (٢).

كما يبين جليا التغاير الواضح بين الظاهرتين. ظاهرة الوحي وظاهرة «التنويم الذاتي» كما سماها بعض المستشرقين.

الشبهة الرابعة :

زعم بعض المستشرقين أمثال «بل» و «واط» (٣) أن الوحي كان تجربة ذهنية فكرية وأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أدرك ما أدرك نتيجة قدرته على التركيز واستدامته ذلك على مستوى تجريدي لا يطيقه غيره لذا كان يختار له ساعات الليل لأنها أدعى للفكر وأصفى للروح ، وأكثر استجابة لعواطفه.

الجواب :

١ ـ هذا هو الفكر المادي الذي لا يعترف بتكامل بين الروح والمادة ولا يؤمن إلا بالمحسوس الذي يدخل تحت عدسات المجهر والتحليل المخبري.

فالنبوة لا تخضع لمثل هذه الدراسات. فالإنسان مهما جرب وركز بكامل قواه العقلية ليصبح نبيا لا يمكن أن يصبح نبيا ولا يصل لرتبتها. وأبرز ظواهر النبوة الوحي. وهذا الوحي لا يمكن تحضيره ولا استحضاره وإنما يأتي

__________________

(١) سنن الترمذي ـ كتاب التفسير ـ باب ومن سورة المؤمنون.

(٢) وحي الله د / حسن عتر ص ١٤٢ ـ ١٤٥.

(٣) انظر مقدمة القرآن ـ واط ص ١٨.

٣٩١

فجأة وبإذن من صاحبه فقط وهو الله سبحانه ، وبلحظات خاطفة كما بينت خلال ردي على الشبهة السابقة ، فهو إذا ليس نتيجة فيضان نفسي ، أو كبت لمجموعة من التأملات احتشدت وتفجرت في نفس النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأن النبوة اصطفاء رباني علوي مسبوق ببعض الإرهاصات ، لا يعرف التدرج إلى ما يسمى النضج في النهاية.

٢ ـ أمر نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليس أمرا بدعيا وإنما هو حلقة في سلسلة النبوة ، ولبنة في صرحها العظيم يعرفه كل أصحاب الديانات لذا فعند ما سمع ورقة ابن نوفل من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خبر الوحي قال له : هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى ـ عليه‌السلام ـ (١).

قال الأستاذ قحطان الدوري : [إن الوحي أمر خارج عن النفس وهو الأساس الذي يبنى عليه الاعتقاد بالنبوات ، وهو الطريق الذي جاءت به العقائد .. ولذلك اهتم الأعداء بإثارة الشكوك حول الوحي ، والوحي أمر ثقيل لا يستطيعه إلا من ارتاض جسده على تحمل عبء النبوة](٢).

٣ ـ الواقع التاريخي وسيرته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تكذب وتبطل هذه الفرية :

أ ـ من ذلك ما نقلته لنا كتب السير قدوم عبد الله بن أم مكتوم يطلب من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يعلمه مما علمه الله في الوقت الذي كان جالسا يخاطب فيه زعماء قريش ويناجيهم طمعا في إسلامهم ، فانصرف عنه وعبس في وجهه. فعاتبه الله عزوجل على ذلك بصدر سورة عبس (٣).

وكذلك حادثة (٤) أخذه الفدية بدلا من قتل الأسرى في عقب غزوة بدر فنزل عتابه بقوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي

__________________

(١) إرشاد الساري لشرح البخاري ـ كتاب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ـ ١ / ٦٥.

(٢) انظر تصحيح المفاهيم ـ أنور الجندي ص ٥٤ ـ ٥٦.

(٣) أسباب النزول للواحدي ص ٣٣٢ (طبعة مكتبة المتنبي ـ القاهرة).

(٤) نفس المرجع ص ١٧٨.

٣٩٢

الْأَرْضِ ..)(١)

وحادثة مجادلة خولة بنت ثعلبة وشكواها زوجها لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنزل صدر سورة المجادلة قبل مفارقتها المجلس (٢).

فما نزل من هذه الوقائع كان في حينه وقبل أن ينهض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من مجلسه أحيانا مما يؤكد أنه ليس نتيجة إجهاد ذهن أو طول تفكير بساعات الليل لصفائها على حد زعم بعض المستشرقين.

وقصة إرسال قريش للنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط لأحبار اليهود بالمدينة وسؤالهم الأحبار عن محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن أمر الفتية ، والرجل الطواف ، والروح ، فأخبرهم أنه سيجيبهم في الغد ولم يستثن ولكن الوحي انقطع خمس عشرة ليلة حتى أرجف أهل مكة لانقطاع الوحي وكثر اللغط في حق الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنزل صدر سورة الكهف (٣).

فلو كان نبينا محمد يأتي بهذا القرآن من بنات فكره ، وبلمسة فكرية سحرية منه أو بإطالة تأمل فما الذي كان يمنعه من أن يأتي بشيء منه للإجابة على أسئلتهم مع أنه في أشد الحاجة إليه وخاصة في مثل هذه الظروف.

ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله (٤) وصدق ربنا إذ يقول : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)(٥).

ب ـ آيات كثيرة عاتب الله سبحانه فيها نبينا محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عتابا عنيفا ، ونقده نقدا مرا على إثر تصرف معين منه كقوله تعالى على إثر تحريم رسول الله ـ

__________________

(١) سورة الأنفال : ٦٧.

(٢) نفس المرجع ص ٣٠٤.

(٣) انظر ردنا على الشبهة الأولى.

(٤) النبأ العظيم ـ دراز ص ٢٣ ـ ٢٤.

(٥) سورة الحاقة : ٤٤ ـ وما بعدها.

٣٩٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شيئا على نفسه دون تحريم الله له : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ)(١)

وكقوله تعالى على إثر موقفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من زينب بنت جحش أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ زوج متبناه زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)(٢) وعتابه له سبحانه لما بدى منه إعراض في حق ابن أم مكتوم كما ذكر ذلك في سورة «عبس» (٣).

أرأيت لو كانت هذه التقريعات المؤلمة صادرة عن وجدانه؟! ومعبرة عن ندمه ، ووخز ضميره ، حين بدا له خلاف رأيه الأول أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل والتشنيع والعتاب المر والتأنيب الشديد. أليس في سكوته ستر على نفسه ، واستبقاء لحرمة آرائه. فلو كان القرآن صادرا عن نفسه لكان أولى شيء بالكتمان مثل هذه الآيات (٤).

ج ـ لقد كان يجيئه الأمر أحيانا بالقول المجمل أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو ولا أصحابه تأويله حتى ينزل الله عليه بيانه ، فأي عاقل يا ترى توحي إليه نفسه كلاما لا يفهم هو معناه ، وتأمره أمرا لا يعقل هو حكمته ، أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل ، وأنه مأمور لا آمرا ، (٥) وأن القرآن ليس من تأملات فكره ، ولا من صنيع خياله ، بل تنزيل من حكيم حميد.

الشبهة الخامسة :

[زعم أصحاب الموسوعة البريطانية أن أسلوب الوحي المحمدي جاء نثرا مقفى ، أو ما يسميه العرب بالسجع ، وقد استعمل هذا الأسلوب سابقا من

__________________

(١) سورة التحريم : ١.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٧.

(٣) انظر سورة عبس.

(٤) النبأ العظيم ص ٢٥ بتصرف.

(٥) نفس المرجع ص ٢٨.

٣٩٤

قبل الكهنة ، ومن قبل المنجمين ..](١) اه.

وقد اعتبر بعضهم أن الوحي من حالات هؤلاء الكهنة والمنجمين والسحرة.

الجواب :

إن كون أسلوب القرآن مشابها لأساليب الكهنة والمنجمين أو السحرة من قبل أمر لم يقبله العرب الذين لم يكونوا أقل حقدا ، ولا أقل كراهية للإسلام ممن جاء بعدهم بعامة ومن كتاب الموسوعة بخاصة ، ولم يزعموا كما زعم المستشرقون أن الوحي صادر عن حالة من حالات الكاهن أو الساحر أو المنجم. وها هو الوليد وعتبة بن ربيعة وغيرهما يردون بكل حزم ويرفضون بكل إنصاف أن يكون أسلوب القرآن مشابها لأسلوب الكهان وسجعهم أو المنجمين وكلامهم ، أو السحرة ونفثهم ، ولم يقولوا إن حالة صدور الوحي عنه كحالة هؤلاء مع إنهم معاصرون له ، ومن أكثر الناس خبرة بذلك.

ولقد روت لنا كتب الأدب والتاريخ شيئا من هذا السجع ، أعني سجع الكهان والمنجمين ، وأفعال السحرة وكلامهم ، وعن أحوالهم حين صدور ذلك عنهم. فالمنصف لا يرتاب في أن أسلوب القرآن ونظمه ، والحالة التي يكون فيها ناقله للناس عليه الصلاة والسلام يختلف كلية عن أولئك المذكورين ، لذا نفى سبحانه أن تكون حالته كحالتهم أو كلامه ككلامهم قال سبحانه : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)(٢).

ذكر مقاتل أن سبب نزول هذه الآيات أن الوليد قال : إن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال عتبة : كاهن ، فرد الله تعالى عليهم بهذه

__________________

(١) انظر قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية ، د / فضل عباس ص ٤٢.

(٢) سورة الحاقة : ٣٨ ـ ٤٢.

٣٩٥

الآيات (١) هذه المزاعم والأكاذيب ؛ لأن عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند. بخلاف مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومعاني القرآن المنافية لطريق الكهانة ومعاني أقوالهم (٢) وكل ذلك كان واضحا جليا ومعروفا لدى معاصريهم. فهذا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يزجر أحد السائلين بأسلوب الكهان وسجعهم حين قال : [يا رسول الله ، كيف أغرم من شرب ولا أكل ، ولا نطق ولا استهل؟ (٣) فمثل ذلك يطل](٣) فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إنما هذا من إخوان الشياطين» (٥) من أجل سجعه الذي سجع فقد اعتبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من يسجع بأسلوب الكهان من إخوان الشياطين ، لذا نهى أن يفعل أحدهم فعلهم ، أو يقول بقولهم.

ولكن المستشرقين والمبشرين على حد سواء جهدهم وهمهم أن يوجهوا إلى هذا القرآن كل مطعن بقطع النظر عن المقاييس النقدية ، والأسس المنطقية ، والمنهج العلمي ، كما هو الحال في هذه الموسوعة التي جانبت الحق في هذه المزاعم (٦) وألقت الكلام دون تدقيق.

ولكن الله سبحانه اقتضت حكمته أن لا يسوي بين الصادق والكاذب نقل الأستاذ حسن عتر حفظه الله عن الإمام ابن تيمية قوله : (فإنه يمتنع في حكمة الرب وعدله أن يسوي بين هؤلاء خيار الخلق ، وبين هؤلاء شرار الخلق لا في سلطان العلم وبراهينه وأدلته ولا في سلطان النصر والتأييد. بل يجب في حكمته أن يظهر الآيات والبراهين الدالة على صدق هؤلاء وينصرهم ويؤيدهم ويعزهم ويبقي لهم سلطان الصدق ، ويفعل ذلك بمن اتبعهم ، وأن يظهر الآيات

__________________

(١) انظر تفسير روح المعاني للآلوسي ـ طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ٢٩ / ٥٢ ـ ٥٥.

(٢) معاني القرآن ـ للآلوسي ٢٩ / ٥٣ ـ ٥٤.

(٣) ولا استهل : ولا صاح عند الولادة ليعرف به أنه مات بعد أن كان حيا ، ويطل : يهدر ولا يضمن.

(٣) ولا استهل : ولا صاح عند الولادة ليعرف به أنه مات بعد أن كان حيا ، ويطل : يهدر ولا يضمن.

(٥) صحيح مسلم ـ للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري ، كتاب القسامة ـ باب (دية الجنين) .. إلخ ٣ / ١٣١٠ حديث رقم ١٦٨١.

(٦) قضايا قرآنية ص ٤٢ ـ ٤٦.

٣٩٦

المبينة لكذب أولئك ويذلهم ويخزيهم ويفعل ذلك بمن اتبعهم ، كما قد وقع في هؤلاء وهؤلاء ، وقد دل القرآن على الاستدلال بهذا في غير موضع) اه (١).

فالكاذب المدعي النبوة رجل شرير فاجر ، شره المطامع ، دنيء المطالب ، فالكاهن والساحر والمنجم نفوسهم وضيعة مريضة شريرة خبيثة. ونفوسهم تكون مأوى للشياطين فلا ينتج عن هذا الاتصال إلا كل شر وخبث ومكر ووقيعة بين الناس ، لم يحمله على الدعوة إلا نفسه الخبيثة وأغراضه الخسيسة ، لذلك فإنه إذا تظاهر في البداية بالتدين والصلاح للتغرير بالبعض فإنه لا يطيق في البقاء عليه صبرا .. ولا يلبث أن يفتضح أمره وتظهر حقيقته لأعين الملأ. قال زهير بن أبي سلمى :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

(٢) لذا سرعان ما افتضح للناس أمر مسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي وغيرهما (٣).

أما القلوب الطاهرة النظيفة كقلوب الأنبياء فلا تكون مأوى إلا للنور الإلهي وحكمته ، فلا يخرج منها إلا كل طهر ونبل وحكمة ، وأغراضه من دعوته نبيلة.

أما النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الصلاح والتقى والخيرية ثابت ومؤيد من الله بالدلالة على صدقه بمعجزاته وهو خير أهل زمانه بلا منازع في كل أحواله.

لذا فالمعجزات عامة ، والقرآن الكريم خاصة ليست من قبيل السحر والشعوذة والتنجيم حتى لو كان هؤلاء السحرة والكهنة والمنجمون يأتون

__________________

(١) انظر كتاب بينات المعجزة الخالدة د / حسن عتر ـ دار النصر سوريا ط ١ ، ١٣٩٥ ه‍ / ١٩٧٥ م. ص ٣٩ ـ ٤٧.

(٢) شرح المعلقات السبع ـ للزوزني ص ١٥٩ ـ مكتبة المعارف ـ بيروت.

(٣) بينات المعجزة الكبرى ـ حسن عتر ص ٣٩ ـ ٤٧.

٣٩٧

بالعجائب والغرائب لأن أفعالهم لها قواعد معروفة ، وفنونها تدرس ، وفيها كتب مؤلفة يمكن لأي إنسان أن يدرسها ويبرع فيها كما برع غيره وأكثر. أما الوحي والنبوات فهبة من الله تعالى ، واصطفاء لأهلها ، فالفرق بين وواضح بين معجزة موسى ـ عليه‌السلام ـ وبين ما أتى به سحرة فرعون فالوحي حقيقة لا خيال ، وصدق لا كذب ، ولا يحصل عليه حريص وإلا لنالها أمية بن أبي الصلت الذي ترهب ولبس المسوح لينال شرف النبوة ولكنه لم ينلها ، ولم يحصل عليها وذلك لأنها فضل من الله تعالى يؤتيه من يشاء (١).

الشبهة السادسة :

[زعم كثير من المستشرقين والمبشرين أمثال «الويز سبرنجر» و «جوستاف فايل» وغيرهم أن الحالة التي كانت تصيب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حالة صرع يغيب فيها عن الناس وعما حوله ويظل ملقى على إثرها بين الجبال لمدة طويلة ، يسمع له على إثرها غطيط كغطيط النائم ، ويتصبب عرقه ، ويثقل جسمه.

وبعضهم اعتبرها حالة هستيرية ، وتهيجا عصبيا ، يظهر عليه أثرها في مزاجه العصبي القلق ، ونفسه كثيرة العواصف بشكل غامض ، حتى كان يصل به الأمر أن لا يفرق بين تعاقب الليل والنهار ، وقد هزل على إثرها جسمه ، وشحب لونه ، وخارت قواه](٢).

الجواب :

هذه المزاعم والمفتريات ليس لها سند من الواقع التاريخي فرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عاش ومات وهو بكامل صحته وعافيته ولم يظهر عليه أي عارض نفسي أو عصبي على ما يزعمون.

__________________

(١) انظر كتاب الوحي والقرآن الكريم ، د / محمد حسين الذهبي ص ٢٨ بتصرف.

(٢) انظر مقدمة القرآن ـ مونتجمري ، واط ص ١٧ ـ ١٨ ، ومقدمة القرآن ل بل ص ٢٩ ـ ٣٠ ، وكتاب العقل المسلم ص ٤١ ، كتاب حياة محمد هيكل ، ص ٤٥.

٣٩٨

لذا كان عاقلا ذكيا فطنا ، يمتاز بسرعة البديهة ، وحصافة الرأي وسداد التفكير ، واستقرار النفس ، قويا في جسمه وذاكرته ، سليما في كل أعضائه. ويشهد لذلك جهاده الطويل ، وسياسته الحكيمة ، وتخطيطاته الحربية الناجحة ، وتنظيماته الاجتماعية الكاملة ، وكمال الدين الذي دعا له.

لذا نفى الله سبحانه عنه صفة الجنون لأنها تناقض هدي النبوة وتخل بشرف الرسالة. قال سبحانه : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)(١) ويأبى الله إلا أن يظهر الحق حتى على ألسنة أعدائه.

فهذا أحد المستشرقين وهو «أميل درمنغم» يصف هذا النبي العظيم : [وقد غفل المشتغلون بأمور النفس الحضريون الذين افترضوا وجوده من الصرع والاستيحاء والخيال المتقد ، عن حياة الخيام في الصحراء ، وعما يجب أن يبديه الرجل فيها من الحذق والدهاء ليبقى زعيم عصبة من الأعراب ، وحياة محمد كانت منتظمة موزونة قبل بعثته ، وما انفكت تكون كذلك بعدها إلا في حالات الوحي].

قال «أرميا» : [انسحق قلبي في وسطي ، ارتخت كل عظامي ، صرت كإنسان سكران ، ومثل رجل غلبته الخمر من أجل كلام الرب ومن أجل كلام قدسه] .. ولم تنشأ رؤى محمد ووحيه من مرض فيه ، بل كانت تبدو عليه علائم المرض بسبب الرؤى والوحي ، وهنالك ظواهر مشتركة بين مريض الأعصاب أو المهوس وبين الموحى إليه الصادق ، فالأول منفعل غير فاعل. والآخر مبدع فاعل ، وهذا إلى أن من الجائز أن يقال : إن البنية المريضة قليلا تساعد على التصوف ويزيدها التصوف مرضا.

والحق أن محمدا كان مبرأ من مثل هذه الأمراض على الدوام ، فقد كان تام الصحة إلى أن بلغ سن الكمال ، ولم تبد العوارض عليه بعد هذه السن إلا

__________________

(١) سورة التكوير : ٢٢.

٣٩٩

عند تقبل الوحي. وأنت إذا ما استثنيت المرض الذي استولى عليه في الستين من عمره ، رأيته لم يصب بغير وجع الرأس مرتين أو ثلاث بسبب أسفاره الطويلة تحت وهج الشمس ، ذلك الوجع الذي عولج بوضع المحاجم على رأسه .. وكان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا نزل عليه الوحي يتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان ، (١) وكان يحمر الوجه وهو يغط كما يغط البكر (٢) وكان إذا ما خرج من نوبة الوحي يتلو ما أوحي إليه والآيات ، فكان بعض المسلمين يحفظونه عن ظهر قلب أو يكتبونه كما يمليه عليهم ..](٣).

ومع تحفظنا على بعض ما ورد في كلامه فلا نحسبه كتبه من دافع الحب للإسلام وأهله. بل هو لا يقل عن غيره من المستشرقين تعصبا ضد الإسلام ونبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فإن كتابه هذا مليء بالغمزات المسمومة والوخزات المخدرة ، ولكنه لم يستطع أن يخفي مثل هذه الحقيقة الواضحة.

كما أن التفرقة بين تخبطات المجانين والصرعى ، وبين هزات الانتشاء الروحي ، والإشراق النفسي ليس بالأمر العسير الذي يحتاج إلى علم غزير ، وإلى دراسات عميقة .. إذ أن شقة الخلاف بين الحالين بعيدة ومدى التفاوت بينهما طويل ممتد ، وبأدنى نظر يستطيع المرء أن يعرف الحق من الباطل ، والسليم من السقيم ، فهذا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما نظر لابن صياد عرف أنه يهودي دعي كاذب ، قد ركبته جنة ، فجعل يخبط ويخرف فتند منه بعض كلمات تبرق فيها بوارق يحسبها كثير من الناس من متنزلات الغيب وما هي في حقيقتها إلا لمعات الخبل والجنون ، وكم للخبل والجنون من لمعات .. ولكنها أشبه بلمعان السراب ، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا (٤).

__________________

(١) الجمان : اللؤلؤ.

(٢) البكر : الفتى من الإبل.

(٣) انظر حياة محمد ـ أميل درمنغم ص ٢٤٥ ـ ٢٤٧.

(٤) كتاب النبي محمد ـ عبد الكريم الخطيب ص ١٤٨ (بتصرف).

٤٠٠