آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

د. عمر بن إبراهيم رضوان

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

المؤلف:

د. عمر بن إبراهيم رضوان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

الباب التمهيدي

الاستشراق

المبحث الأول

أ ـ تعريفه

ب ـ نشأة الاستشراق

المبحث الثاني

دوافع المستشرقين وأهدافهم

المبحث الثالث

وسائل المستشرقين

المبحث الرابع

اليهود والاستشراق

المبحث الخامس

طوائف المستشرقين

المبحث السادس

المناهج وميزان البحث عند المستشرقين

٢١
٢٢

الباب التمهيدي

الاستشراق

المبحث الأول

أ ـ تعريفه :

كلمة الاستشراق لفظة مولدة من لفظ (استشرق) المأخوذ من مادة «شرق» أي مستشرق.

استعملها المحدثون ترجمة لكلمة (Orientalism) التي تدل على معنى (مستشرقون) ، أما المحققون فيستعملون بدلا منها (علماء المشرقيات) ولكن كلمة (مستشرقون) أكثر شيوعا خاصة في الآونة الأخيرة (١).

فالمستشرق هو : عالم غربي اهتم بالدراسات الشرقية عقدية كانت أو تاريخية أو أدبية أو حضارية .. إلخ.

فالاستشراق إذن هي دراسة الغربيين عن الشرق من ناحية عقائده أو تاريخه أو آدابه .. إلى غير ذلك.

وكان أول ظهور لكلمة «مستشرق» في اللغة الإنجليزية سنة ١٧٧٩ م كما دخلت في معجم الأكاديمية الفرنسية سنة ١٨٣٨ (٢) م.

ب ـ نشأة الاستشراق :

اختلف المفكرون كثيرا في بداية حركة الاستشراق على أقوال عدة وإن كان قول من أرجعه للقرن السادس عشر الميلادي أكثر وضوحا ولا يمنع أن يكون هناك محاولات غير منظمة ظهرت قبل هذا التاريخ من القرن العاشر الميلادي منذ

__________________

(١) الاستشراق نشأته وتطوره وأهدافه ـ إسحاق موسى الحسيني ص ١.

(٢) فلسفة الاستشراق. د. أحمد سمايلوفتش ص ٣٠ ، والاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ـ محمود زقزوق ، ص ١٨.

٢٣

أن عم الإسلام بلاد الأندلس ، وانهزمت أمامه جيوش الغرب العسكرية وبأن عوار تأخره ثقافيا وحضاريا ، فما كان منه إلا أن وجه كل اهتمامه للتعرف على هذه القوة التي قهرته وتغلغلت في أرضه حتى دكت أبواب دوله وعواصمه. فأرسل طلابه ينهلون من العلوم الإسلامية في معاقل العلم في ديار الإسلام ، فترجموا كثيرا من كتبه وعلى رأس ذلك القرآن الكريم للتعرف على هذا الدين العظيم كما طلبوا مدرسين يعلمونهم في مراكز العلم عندهم إلى غير ذلك من الأمور التي تدل على اهتمامهم بالشرق الإسلامي من وقت مبكر.

فمن هذه البعثات الدراسية التي جاءت تنهل العلم من ديار الإسلام.

١ ـ البعثة الفرنسية برئاسة الأميرة «إليزابيث» ابنة خالة «لويس السادس» ملك فرنسا.

٢ ـ البعثة الإنجليزية برئاسة الأميرة (دوبان) ابنة الأمير جورج صاحب مقاطعة (ويلز).

٣ ـ البعثة الأسبانية التي كانت سنة ١٢٩٣ م والتي بلغ تعداد طلابها (٧٠٠) طالب وطالبة (١) وكان من بين هؤلاء الطلاب بعض الرهبان فرجع هؤلاء لبلادهم يحملون علوم الشرق الإسلامي الباهرة.

وكان من بين الدعاة المتحمسين الذين طالبوا بضرورة تعلم لغات الشرق لغرض التنصير «روجر بيكون» (١٢١٤ ـ ١٢٩٤ م) و «رايموندلول» (١٢٣٥ ـ ١٣١٦ م) وكان لهذين المستشرقين الأثر الكبير في إنشاء كراسي تدريس اللغة العربية في الجامعات الغربية على أثر قرارات مجمع (فينا) الكنسي في عام ١٣١٢ م الذي وافق على أفكارهما واقتراحاتهما بذلك فأنشأ خمسة كراسي جامعية في خمس جامعات غربية لتعليم اللغة العربية منها : باريس ، اكسفورد ، بولونيا ، سلمنكا (٢).

__________________

(١) الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار ـ البهي الخولي ، ص ٥٣٢.

(٢) تراث الإسلام ـ لجنة الجامعيين لنشر العلم بحث الأدب ـ جب ١ / ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٢٤

والعوامل التي كونت نشأة الاستشراق متعددة : دينية ، وسياسية ، واقتصادية ، وعلمية ، وغير ذلك.

فالعامل الديني واضح لا غموض فيه وهو يهدف إلى نشر الديانة المسيحية وتبليغ دعوتها ، وتصوير الإسلام تصويرا يثبت فضل المسيحية ورجحانها عليه ، ويبعث في الطبقة المثقفة إعجابا بالمسيحية وحرصا عليها ويحول بين أفرادهم والدخول في الإسلام ، لذا ركزوا على إثارة الشبهات والأباطيل حول القرآن خاصة والإسلام عامة لهذا الغرض نفسه. ولذلك نرى أن «الاستشراق والتبشير» يسيران في أغلب الأحوال معا. وأن عدد المستشرقين الأكبر أساقفة ، وعددا منهم يهود ديانة وجنسا.

أما العامل السياسي فواضح كذلك فقد كان المستشرقون روادا لدولهم الغربية في الشرق ، ومن واجبهم أن يمدوها بمددهم العلمي ليتعرف الغرب ـ عن قرب ـ على الشرق في كل شئون حياته ، ويتسنى له أن يبسط نفوذه وسلطته على الشرق وأن يحسن التعامل مع أهله ، ويتسنى له قيادهم والتحكم فيهم.

أما العامل الاقتصادي فكثير من المثقفين اتخذ الاستشراق تجارة رابحة ، ومهنة ناجحة. فشجعوا نشر الكتب التي تدور حول الإسلام والعلوم الشرقية ، وأشرفوا على نشرها لما يرون لها من سوق نافقة في أوربا وآسيا وغيرهما من بلاد العالم اليوم.

وأما العامل العلمي المحض فهو محدود وقد كان من عدد قليل من المثقفين الذين اهتموا بالدراسات الشرقية لشغفهم العلمي (١).

هذه العوامل وغيرها كانت من الأسباب الرئيسية في نشأة الاستشراق ودفع عجلته للأمام وكان من أوائل من اهتم بالدراسات الاستشراقية الراهب الفرنسي «جوبرت» الذي انتخب بابا لكنيسة روما عام (٩٩٩ م) بعد تعلمه في

__________________

(١) الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية لأبي الحسن الندوي ص ١٨٧ وما بعدها (بتصرف).

٢٥

مدارس الأندلس وعودته إلى بلاده ، و «الراهب بطرس» المحترم (١٠٩٢ ـ ١١٥٦ م) ، والراهب «جيراردي كريمون» (١١١٤ ـ ١١٨٧ م) وفردريك الثاني ملك صقلية سنة (١٢٥٠ م) ، و «الفونس» ملك قشتالة ، و «جوبرت» الراهب الفرنسي ، وغيرهم.

وعند ما عاد هؤلاء الرهبان من الأندلس إلى بلادهم نشروا ثقافة المسلمين وعلومهم ومؤلفات أشهر علمائهم في تلك البلاد ، وأخذوا يدرسونها في معاهدهم آنذاك. وقد استمروا بالاعتماد على هذه الكتب قرابة ستة قرون. ولما جاء القرن الثامن عشر العصر الذي بدأ فيه الغرب في استعمار العالم الإسلامي والاستيلاء على ممتلكاته نبغ عدد من علماء الغرب في الاستشراق نبوغا ملحوظا.

وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر عقد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس عام (١٨٧٣ م) وتتالى عقد المؤتمرات التي تلقى فيها الدراسات عن الشرق وأديانه وحضاراته حتى يومنا هذا.

فبناء على ما تقدم تكون بداية الاستشراق بشكل واضح منذ أن دقت جيوش الفتح الإسلامي أبواب أوربا وعواصمها ؛ مما دفع أوربا الغارقة في الجهل والتخلف الحضاري يومئذ للبحث عن أسباب نهضة المسلمين ، وعن سبب بلوغهم هذا المجد العظيم الذي بلغوه ؛ لذا درسوا علوم هؤلاء الفاتحين لعلهم يوقفون مدهم وزحفهم عن بلادهم ، ولعلهم يكتسبون منهم ما ينفعهم في إنقاذهم من تخلفهم الحضاري ، لذا كان الاستشراق هو باب الأمل المنشود لهم (١).

ولما انتهت الحروب الصليبية بالهزيمة الساحقة لجيوش الغرب النصراني ، وضعت الخطة لغزو المسلمين بوسائل أخرى غير الحرب بالأسلحة المادية واقتضت خطة الغزو الجديد التوسع في الدراسات الاستشراقية ؛ لتكون تمهيدا للغزو الفكري الرهيب وإعدادا لشروطه الفكرية والنفسية. وانطلق المهتمون بالدراسات

__________________

(١) أجنحة المكر الثلاثة عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ص ١٢٠ ـ ١٢١. والمستشرقون والإسلام إبراهيم اللبان ، ص ١١.

٢٦

الشرقية يعملون لهذا الهدف فأخذوا يترجمون إلى لغاتهم كثيرا من كتب المسلمين ويعملون عليها الدراسات المتعددة فيضعونها بين أيدي ساسة الغرب ليتسنى لهم إخضاع الشرق لهم فكريا ، وتوجيهه سياسيا حسب خططهم المرسومة.

من هنا زاد اهتمام هؤلاء الساسة لحركة الاستشراق وتوجيهها ودعمها لدراسة الشرق من جوانب متعددة : لغوية ، ودينية ، واجتماعية ، وتاريخية ، وسياسية ، وغير ذلك. وقد كان كثير من هؤلاء المستشرقين من منسوبي الكنيسة. لذا التقت في الاستشراق أهداف جمعيات التبشير وأهداف الدوائر الاستعمارية ، ثم توسعت الحركة الاستشراقية ونمت بشكل كبير خاصة عند ما انتقلت إلى مقاعد الدراسة ومراكز العلم حيث أسست للاستشراق معاهد ومقاعد جامعية ، وتألفت له جمعيات تهتم به وبدراساته وتنشر هذه الدراسات في صحف ومجلات لها اهتمام بهذا الجانب ومن دراساتهم التي نشرت بعض المخطوطات العربية ووضع الفهارس الشاملة لبعض الكتب الإسلامية ووضع بعض المعاجم المفهرسة (كالمعجم المفهرس لألفاظ الحديث) وتأليف (المعجم المفهرس لآيات القرآن الكريم). وكتفصيلهم آيات القرآن الكريم حسب الموضوعات إلى غير ذلك ..

ومن الجامعات التي اهتمت بالاستشراق فأنشأت له كراسي جامعية جامعة السوربون في فرنسا ، وجامعة لندن في بريطانيا ، وغيرهما. وقد بلغ بهذه الجامعات أن أخذت تعطي شهادات في الدراسات الشرقية عامة والإسلامية خاصة. ومما يؤسف له أن بعض هذه الجامعات تدعم من قبل بعض الدول العربية. ظنا منهم أن في دعمهم لها تعريفا للغرب على الإسلام. ورأى اليهود في الاستشراق بابا يحقق أغراضهم وأهدافهم فدخلوه باهتمام بالغ حتى وصل بعضهم لرئاسة بعض هذه الأقسام واحتلال كثير من كراسيها الجامعية مثل جولد تسيهر وغيره.

كما أن الدول الأوربية الشرقية بعد نجاح الثورة الشيوعية في بلادهم اهتمت بالحركة الاستشراقية لاستخدامها في حرب الإسلام الذي يقف سدا منيعا في طريق انتشارها.

٢٧

وهكذا نجد أن الاستشراق ولد في حضن التبشير وكبر في حضن الاستعمار والصهيونية والشيوعية.

٢٨

المبحث الثاني

دوافع المستشرقين وأهدافهم

باستطاعتنا أن نتعرف على دوافع المستشرقين وأهدافهم من خلال أعمالهم ، ومن النظرات التاريخية إلى واقع حال الدول الغربية ، قبل أن تظهر فيها ظاهرة الاستشراق وبعدها ، ومن النظر في صلة الاستشراق بالتبشير ، وإلى صلته بالاستعمار .. إلخ فسأذكر فيما يلي خلاصة عن دوافعهم وأهدافهم. مع العلم أن الدوافع تلتقي مع الأهداف ، باعتبار أن الدافع يمثل المحرض النفسي لاتخاذ الوسائل التي توصل إلى الأهداف الغائبة من العمل (١).

أ ـ دوافع الاستشراق :

تنوعت دوافع الاستشراق خلال فترات نشأته منها :

١ ـ الدافع النفسي :

لا شك أن حب الاطلاع والتعرف على حياة الآخرين وأفكارهم وسبل معيشتهم أمر فطري غريزي في الإنسان وهذه الرغبة متأصلة في أعماق النفس البشرية لا يمكن أن تستأصل. ومن أجل هذه الرغبة يتحمل الإنسان المتاعب والمصاعب بأنواعها (٢).

لذا فهذا الدافع كان من أول الدوافع التي جعلت المستشرقين يهتمون بالشرق وحضارته وسبل عيش أهله وطرق تفكيرهم ، إلى غير ذلك مما يجهلونه ويحبون أن يطلعوا عليه.

__________________

(١) أجنحة المكر الثلاثة للميداني ص ١٢٥.

(٢) فلسفة الاستشراق ص ٤٠ ـ ٤٢ ، د. أحمد سمايلوفتش ، طبعة دار المعارف.

٢٩

٢ ـ الدافع التاريخي :

العلاقة بين الشرق والغرب قديمة جدا ، كان يصحبها في بعض الأحيان عداء وحروب بين الطرفين ، وصراع من أجل السيطرة سواء كانت فكرية أو عسكرية. مما يدعو كل طرف منهما للاطلاع على ما عند الآخر من عقائد ، وتراث وحضارة وعادات وقيم ليخترقه ويسيطر عليه من خلال نقاط الضعف التي فيها. ومن الأمثلة على ذلك الحروب الصليبية حيث اقتضت هذه الحروب استصحاب من له خبرة واطلاع على جغرافية الشرق وأحوال أهله ودياناتهم وعاداتهم .. إلى غير ذلك من الأمور (١).

٣ ـ الدوافع الاقتصادية والتجارية :

من الدوافع التي كان لها الأثر في تنشيط حركة الاستشراق ، رغبة الغربيين في التعامل مع الشرق لترويج بضائعهم في أسواقه والاستيلاء على موارده الطبيعية الخام بأبخس الأثمان ؛ لذا حرصوا على فتح أسواق تجارية لصناعاتهم في منطقتنا ، وحرصوا كذلك على قتل النشاط الصناعي والتجاري في شرقنا حتى يبقى متخلفا ، شاعرا بالنقص والحاجة لهم ، منهزما نفسيا أمام تقدمهم مما يسهل خضوعه وخنوعه وانقياده لهم.

هذه من الدوافع التي جعلت الغرب يهتم بالشرق ويحب التعرف على كل شيء فيه خاصة جغرافيته ، ومكان الخيرات فيه مما جعل هؤلاء الطامعين يشجعون الباحثين والمفكرين في تقديم دراسات وافية عن الشرق (٢) وقد نالت هذه الدراسات الرضا والقبول وأصبحت تدر على أهلها ودور النشر التي تتولى نشرها أرباحا هائلة.

٤ ـ الدافع الديني :

إننا لا نحتاج إلى عناء كبير للتعرف على دافع الاستشراق الديني فقد بدأ

__________________

(١) الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ـ د. محمود زقزوق ص ٧٤.

(٢) افتراءات فيليب حبيب وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي ـ عبد الكريم الباز ص ١٩ ، وأجنحة المكر الثلاثة ص ١٢٨.

٣٠

الاستشراق أول ما بدأ كما ذكرت سابقا من الفاتيكان ، وكان أول رواده من رجال الكنيسة وعلماء اللاهوت حيث ظلوا المشرفين على هذه الحركة والمسيرين لها حتى القرن التاسع عشر ؛ وذلك للدفاع عن الكنيسة وسلطانها ولمواجهة الضغوط الشديدة المتزايدة من المفكرين المتمردين عليها ، خاصة وأن بعض المتمردين وجدوا في الإسلام فرصة لتفكيرهم وتخلصا من سلطان كنائسهم التي تحجر على عقولهم ، حيث أظهر بعضهم إعجابه بالإسلام. مما أفزع الكنيسة ودفعها لمحاربة الإسلام بثلاثة اتجاهات :

١ ـ الطعن في الإسلام وتشويه حقائقه ، والافتراءات عليه بمختلف الأكاذيب لشحن أتباعها ضده وتنفيرهم منه ، والإثبات لجماهيرها التي تخضع لسلطانها أن الإسلام هو الخصم الوحيد للمسيحية وهو دين لا يستحق الانتشار ، زاعمة أن أتباعه ـ على حد زعمهم ـ قوم همج متخلفون ، سراق نياق ، سفاكو دماء ، يبحثون عن المتعة الرخيصة من الكأس إلى غير ذلك من الأباطيل والافتراءات التي لا تمت للحقيقة بصلة (١).

٢ ـ حماية النصارى من خطر الإسلام بالحيلولة بينهم وبين رؤية حقائقه الناصعة ، وآياته البينة الواضحة ، وتاريخه المجيد حتى لا يؤثر عليهم فيدخلوا فيه.

٣ ـ محاولة تنصير المسلمين فمن أجل ذلك جهزوا جيوشا من المنصرين لهذا الغرض ، ووضعوا بين أيديهم الإمكانيات الكبيرة ؛ لإعطاء الثقة لمن فقدها من أبناء جنسهم ، ولهز ثقة المسلمين أنفسهم في دينهم.

فمن أجل هذا الغرض عقدوا مؤتمرات عدة بدءوها بمؤتمر فينا الكنسي سنة (١٣١٢ ه‍) الذي قرروا فيه إنشاء كراسي جامعية للغة العربية (٢) كما حصل في جامعة كمبردج آنذاك وغيرها وذلك ليسهل عليهم التعرف على الإسلام

__________________

(١) افتراءات فيليب حبيب وبروكلمان على التاريخ الإسلامي ص ١٨ ـ الاستشراق والخلفية الفكرية زقزوق ص ٧٢. الاستشراق والخلفية الفكرية ص ١٩.

(٢) الاستشراق والخلفية الفكرية ص ٧٢.

٣١

ومعرفة مكامن الضعف عند المسلمين فيتسللوا من خلالها. وكذلك أنشئوا المجلات العلمية لنشر أفكارهم ودسائسهم فيها كمجلة العالم الإسلامي (سنة ١٩١١ م) برئاسة (صموئيل زويمر) رئيس المبشرين في الشرق الأوسط. كما أكثروا من التأليف عن الإسلام بكتب فقدت روح البحث العلمي لما حوته من تفاهات وأساطير وأباطيل وقلب للحقائق عن الإسلام ككتب «سال» مثلا (١) وقد استمرت سيطرة الكنيسة على حركة الاستشراق من سنة (١٣١٢ م) إلى القرن الثامن عشر حيث بدئ بالفصل بين اللاهوت والدراسات الاستشراقية في بعض البلاد الغربية كفرنسا وانجلترا. أما ألمانيا والنمسا فقد استمرت فيهما سيطرة الكنيسة على الحركة الاستشراقية لمنتصف القرن التاسع عشر حيث فصل بينهما.

وخير من وجه حركة الاستشراق وجهة علمية بعيدة عن التنصير وكان ذلك في منتصف القرن التاسع عشر المستشرق الفرنسي (سلفستر دي ساسي).

وممن اشتهر من المستشرقين بالدراسات الإسلامية على وجه الخصوص «جولد تسيهر» ، و «نولديكه» ، و «فلهاوزن» ، «ريتشارد بل» ، و «بلاشير» وغيرهم. كما أن هذا الدافع دفع اليهود لاستغلال حركة الاستشراق لتحقيق مآربهم وأهدافهم وإن لم يظهروا بشخصيتهم اليهودية بل تلونوا مع كل الطوائف وعملوا تحت كل اللافتات وكان من أشهرهم اليهودي المجري «جولد تسيهر» ، والألماني «نولديكه» وغيرهما كثير.

وكان هذا الدافع من أكثر الدوافع التي دفعت عجلة الاستشراق للأمام وأكثر من أساتذتها وتلاميذها.

٥ ـ الدافع الاستعماري والسياسي :

لازمت حركة الاستشراق الاستعمار الغربي لبلاد الشرق الإسلامي فقد

__________________

(١) الاستشراق والخلفية الفكرية ص ٧٢.

٣٢

استطاع الغرب المسيحي أن يسيطر على كثير من بلدان العالم الإسلامي. وقد كان هذا الاستعمار امتدادا للحروب الصليبية التي كانت في ظاهرها دينية وفي باطنها استعمارية.

ولم تأت نهاية القرن التاسع عشر حتى كانت كل أجزاء العالم الإسلامي تقريبا قد سقطت في براثن الاستعمار الغربي. وليتم لهم السيطرة ، وليتمكنوا من الاستمرار في بقائهم في هذه البلاد كان لازما عليهم دراسة أحوال الشرق ، وتاريخه ، ولغاته وعقائده فجندوا لهذه المهمة عددا كبيرا ممن لهم دراية بالشرق وأحواله فسخروا علمهم لخدمة الاستعمار البغيض فكان هؤلاء المستشرقون عملاء لحكوماتهم ، وشركاء لهم في صنع القرار السياسي في آن واحد.

بعد تحرر البلاد الإسلامية من الاستعمار العسكري رأى ساسة الغرب أن يكون الاستعمار له طابع آخر وهو أن يكون استعمارا فكريا ؛ لذا اقتضى الأمر أن تزود القنصليات والسفارات والمؤسسات الدولية التابعة لهم بمن لديهم الخبرة في الدراسات الاستشراقية ليبثوا ما تريده دولهم من اتجاهات سياسية ، وليقوموا بمهمات سياسية متعددة منها :

١ ـ الاتصال بالسياسيين والتفاوض معهم لمعرفة آرائهم واتجاهاتهم.

٢ ـ الاتصال برجال الفكر والصحافة للتعرف على أفكارهم وواقع بلادهم.

٣ ـ بث الاتجاهات السياسية التي تريدها دولهم ، فيمن يريدون بثها فيهم وإقناعهم بها.

٤ ـ الاتصال بعملائهم وأجرائهم الذين يخدمون أغراضهم السياسية داخل شعوب الأمة الإسلامية (١).

وقام هؤلاء المستشرقون بدراسة هذه البلاد في كل شئونها من عقدية

__________________

(١) الاستشراق والمستشرقون ـ د. مصطفى السباعي ص ١٨ ـ ١٩.

٣٣

وعادات وأخلاق وثروات ولغات وتاريخ إلى غير ذلك. للتعرف على مواطن القوة فيها فيضعفوها ، وإلى مواطن الضعف فيغتنموها ، ولإضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين ، وبث الوهن والارتباك في تفكيرهم ، وكان لهم في ذلك دسائس تسللوا بها إلى نفوس المسلمين منها :

١ ـ التشكيك بفائدة ما في أيدي المسلمين من تراث ، وبما عندهم من عقيدة وشريعة ، وخلق وقيم إنسانية. ليفقدوا الثقة بأنفسهم ويرتموا في أحضان الغرب يستجدون منهم المقاييس الأخلاقية والمبادئ والعقائد والحلول لمشاكلهم ، ليتم للغرب إخضاع المسلمين لحضارته وثقافته إخضاعا كاملا.

٢ ـ إحلال مفاهيم جاهلية ماتت منذ انتشر الإسلام ، كالقوميات الفرعونية ، والفينيقية ، والآشورية ، والعربية والكردية والتركية ، والفارسية ، ونحو ذلك ؛ ليتسنى لهم تشتيت شمل الأمة الواحدة (١).

٣ ـ إحلال الفتن الطائفية بين السكان كالمسلمين والنصارى والدروز والعلويين ، وغير ذلك. وما حرب لبنان عنا ببعيد. وإشعال الفتن بين الدول الجارات كما حصل في إشعالهم الحرب بين العراق وإيران وتمزيق وحدة الأمة الواحدة بسياستهم «فرق تسد» ، وطبخ الانقلابات العسكرية لصالح سياسة دولة من دولهم .. حتى باتت كثير من حكوماتنا عسكرية تحكم شعوبها بالحديد والنار وسفك الدماء وسجن الأحرار والمصلحين. مع أنهم لا يرضون لأنفسهم إلا الديمقراطية وكامل الحرية الشخصية للفرد.

فمن خلال هذه الدراسات تعرف الغرب على مكامن وبواعث القوة والمجد ومواقع الخير والإنتاج والعبقرية والتفوق عند الشرق وعلى مواقع الجدب وهزال الإمكانات والمواهب (٢) فتسنى لهم السيطرة الكاملة على شرقنا العزيز ، فضيعوا هويته ، وأفقدوه ثقته بنفسه فكان لهم ما أرادوا. وبهذا يكون قد خرج

__________________

(١) أجنحة المكر الثلاثة ـ ص ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٢) وحي الله حقائقه في الكتاب والسنة نقض مزاعم المستشرقين ـ د. حسن عتر. ص ٢١.

٣٤

الاستشراق عن غايته الأساسية التي أسس من أجلها مما أثار في نفوس بعض المنصفين منهم الأسى والحزن لهذه السياسة حيث قال «استفان فيلد» مظهرا استياءه :

[والأقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون أنفسهم مستشرقين سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين. وهذا واقع مؤلم لا بد أن يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة](١).

ومن بين الأمثلة العديدة على ارتباط الاستشراق بالاستعمار :

١ ـ المستشرق «كارل هينريخ بيكر» (ت ١٩٣٣ م) مؤسس (مجلة الإسلام) الألمانية الذي قام بدراسات تخدم الاستعمار الألماني في إفريقيا حيث حصل الرايخ الألماني في عام ١٨٨٥ ـ ١٨٨٦ م على مستعمرات في إفريقيا واستمر هذا الاستعمار إلى عام ١٩١٨ م.

٢ ـ المستشرق الروسي «بارثود» (ت ١٩٣٠ م) الذي تم تكليفه عن طريق الحكومة الروسية بالقيام ببحوث تخدم السيادة الروسية في آسيا الوسطى. وقد أسس مجلة باسم (عالم الإسلام).

٣ ـ المستشرق (سنوك هورجرونية) عالم الإسلاميات الهولندي الشهير ، فإنه في سبيل خدمة الاستعمار توجه إلى مكة في عام ١٨٨٥ م بعد أن انتحل اسما إسلاميا هو (عبد الغفار) ، وأقام هناك ما يقرب من نصف عام ، وقد ساعده على ذلك أنه كان يجيد العربية كأحد أبنائها ، وقد لعب هذا المستشرق دورا هاما في تشكيل السياسة الثقافية والاستعمارية في المناطق المستعمرة للهولنديين في الهند الشرقية ، وقد شغل «سنوك» مناصب قيادية في السلطة الاستعمارية الهولندية في أندونيسيا (٢).

__________________

(١) الاستشراق ـ محمود حمدي زقزوق ص ٤٤.

(٢) نفس المرجع السابق ص ٤٥ ـ ٤٦.

٣٥

٤ ـ «هانوتو» ج. ت (١٩٤٤ م) المستشرق الفرنسي الذي كان بمقترحاته يوجه سياسة فرنسا في مستعمراتها الأفريقية الإسلامية والتي ركز فيها على إضعاف المسلمين في عقيدتهم حتى يسهل قيادهم (١).

٥ ـ اللورد «كيرزن الإنجليزي» الذي كان متحمسا لإنشاء مدرسة للدراسات الشرقية لدعم الموقع الذي نالته بريطانيا في الشرق وقد تحولت هذه المدرسة فيما بعد إلى جامعة لندن للدراسات الشرقية والأفريقية. والذي يظهر لك مقدار اعتماد الدول الاستعمارية على الاستشراق أن الحكومة البريطانية كانت تضع سياستها في البلاد التي احتلتها بعد التشاور مع فريق من المستشرقين.

وهكذا يظهر لنا جليا الارتباط العضوي الذي كان يجمع بين الاستعمار والاستشراق وكيف استطاع الاستعمار أن يسخر الاستشراق لأغراضه الرخيصة ، وأن يخرج الاستشراق عن أهدافه العلمية.

٦ ـ الدافع العلمي :

من المستشرقين نفر قليل جدا أقبل على الدراسات الاستشراقية لإشباع نهم علمي متجرد. وذلك بدافع من حب الاطلاع على حضارات الأمم ، وأديانها ، وثقافاتها ، ولغاتها. وكان هؤلاء النفر من المستشرقين أقل من غيرهم خطأ في فهم الإسلام وتراثه ، حيث جاءت بحوثهم أقرب إلى الحق والصواب ، إلا أن موارد هؤلاء المالية الخاصة بهم كانت قليلة لا تسعفهم بالانصراف لمثل هذه الدراسات والتي لا تلقى رواجا عند رجال الدين ولا عند رجال السياسة في بلدانهم ؛ لذا كسدت بحوثهم فقل عددهم حتى أصبحوا نادرين وهؤلاء مع إخلاصهم في البحث والدراسة لم يسلموا من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق ، إما لجهلهم بأساليب اللغة العربية وإما لجهلهم بالأجواء التاريخية الإسلامية على حقيقتها ، فيتصورونها كما يتصورون مجتمعاتهم الغربية ، ناسين الفروق الطبيعية والنفسية والزمانية التي تفرق بين المجتمعين ، ومن استطاع من هؤلاء أن يعيش

__________________

(١) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ص ٣٠.

٣٦

بقلبه وفكره ويتجرد من جو البيئة التي كان يعيش فيها ، أتى بنتائج توافق الحق والصدق والواقع ومثل هؤلاء المستشرقين لا يدعهم قومهم وشأنهم ، بل يهاجمونهم ، ويتهمونهم بالانحراف عن المنهج العلمي ، والانسياق وراء العاطفة لمجاملة المسلمين. ومن هؤلاء المستشرقين المستشرق «توماس أرنولد» الذي حين أنصف المسلمين في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) الذي برهن فيه على تسامح المسلمين في جميع العصور مع مخالفيهم في الدين.

ومن هؤلاء المستشرقين من أدى به بحثه الخالص لوجه الحق إلى اعتناق الإسلام كما حصل ذلك مع المستشرق الفرنسي الفنان «دينيه» والذي سمى نفسه «ناصر الدين دينيه» وألف بعد ذلك مع عالم جزائري كتابا عن سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. و «لدينيه» كتاب آخر بعنوان (أشعة خاصة بنور الإسلام) بين فيه تحامل قومه على الإسلام ورسوله. ومنهم المستشرق المجري «عبد الكريم جرمانوس» الذي أسلم في الهند سنة ١٩٣٠ م والذي ألف أكثر من (١٥٠) كتابا عن الإسلام ومنهم الطبيب الفرنسي «موريس بوكاي» صاحب كتاب «دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» الذي أثبت فيه موافقة القرآن لأحدث الحقائق العلمية التي توصل إليها الناس بوسائلهم المختلفة اليوم (١) ، وغير هؤلاء كثير. ومثل هؤلاء المستشرقين يحتاجون من المسلمين أن يتبنوا كتبهم بنشرها والوقوف بجانبهم في كل ما يحتاجونه من دعم مادي ومعنوي ، فإنهم أقدر منا وأبلغ في إيصال دعوة الإسلام لأبناء قومهم وذلك لمعرفتهم الشاملة بما يناسب قومهم من أساليب وبراهين ، وما هم بحاجة لكشفه من شبهات وتفنيد ما ترسب في نفوسهم من أباطيل وأكاذيب (٢)(وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٣).

__________________

(١) والأستاذ «محمد أسد» صاحب كتاب منهاج الحكم في الإسلام.

(٢) أجنحة المكر الثلاثة ص ١٢٩ ـ ١٣١ (بتصرف).

(٣) سورة يوسف (٢١).

٣٧

ب ـ أهداف المستشرقين :

الذي ينظر في أعمال المستشرقين وجهودهم التي بذلوها في سبيل التعرف على الشرق وأحواله ودياناته وحضاراته .. إلخ يتساءل :

ما الذي دعا هؤلاء الباحثين الغربيين لبذل كل هذا الجهد والعمر والمال في دراسة غريبة عنهم. مع أنهم لو بذلوها لدراسة مجالات أوربية أخرى لكانت أكثر فائدة لهم من الناحية العلمية والمادية. ولسلموا من النقد الذي يوجه إليهم دائما ، فلا شك أن هناك دوافع قوية وأهدافا رئيسية كانت وراء كل هذه الجهود وقد وجدت «نجيب العقيقي» في كتابه (المستشرقون) قد جعل الدافع العلمي وراء كل هذه الجهود.

ولكني أجد أن الاستشراق ولد في حضن التنصير ، وكبر في حضن الاستعمار ، ونضج في النهاية في حضن المؤسسات التعليمية.

وقد أكد «رودي بارت» أن الدافع العلمي في الحركة الاستشراقية لم يظهر إلا في منتصف القرن التاسع عشر.

فالذي يرجع لبداية تاريخ الاستشراق يجد أن الهدف الديني هو أساس انطلاقة الحركة الاستشراقية ولم يستطع الاستشراق أن يتحرر من إسار الخلفية الدينية حتى نهاية القرن التاسع عشر إلا قليلا. وقد تمثل هذا الهدف باتجاهات ثلاثة :

١ ـ محاربة الإسلام والبحث عن نقاط ضعف فيه ، وإبرازها وتضخيمها والزعم بأنه دين مأخوذ من النصرانية واليهودية ، والانتقاص من قيمته والحط من قدر نبيه.

٢ ـ حماية النصارى من خطر الإسلام بحجب حقائقه عنهم ، وتحذيرهم من خطره عليهم.

٣ ـ حملات التنصير بين المسلمين ، لتشكيكهم في دينهم ، وهز ثقتهم

٣٨

فيه وخير ما يوضح هذا الهدف قرارات مؤتمر (فينا) الكنسي الذي عقد سنة ١٣١٢ م.

واعتبار هذا الهدف هو أساس الأهداف كلها لا يعني أنه لا يوجد أهداف أخرى واكبت حركة الاستشراق في خلال مسيرتها. وسأستعرض هذه الأهداف بشيء من التفصيل .. والله الموفق.

١ ـ منع انتشار الإسلام في أوربا وغيرها والحيلولة بينه وبينهم ، حفاظا على سلطان الكنيسة ومغانمها. وذلك لما رأوا في الإسلام من تمتع بقوى ذاتية يصل من خلالها للنفوس ، بسبب جلاء معانيه ، وبساطة تعاليمه ، وانسجامه مع الفطرة ، وصلاحيته لكل زمان ومكان وفي كل الظروف (١) لذا قاموا بتشويه الإسلام ، وحجب محاسنه عن أقوامهم لإقناعهم بعدم صلاحيته لهم كنظام حياة.

وقد استغل المستشرقون كراهية الأوربيين للإسلام بسبب التوسع العثماني في أوربا ، وما صحبه من تعصب وحروب لعدة قرون ، فعمد المستشرقون إلى تعميق هذه الكراهية والأحقاد في نفوس الأوربيين وتغذيتها بالشبهات والأباطيل.

٢ ـ اقتباس أفكار إيمانية من الإسلام لتثبيت أقدام الكنيسة في بلادها بفكر ديني معقول. وهذا يظهر جليا في مسائل القضاء والقدر وكلزوم التداوي من الأمراض اليوم وخلاف ما كان يعتقده القوم سابقا (٢). واختيار الإنسان في أعماله الإرادية .. وفي مسائل الإيمان عامة كالإيمان بوحدة الكون ووحدة نظامه في الأرض والأجرام السماوية. وسلك رجال الكنيسة في إيراد الدلائل العقلية على الإيمان بالله كثيرا آخذيها من مسائل علماء الإسلام المتقدمين الواردة في الكتاب والسنة وكتب علم الكلام. ولا يعني هذا أن الفكر الكنسي الغربي قد خلص من جميع آفاته بل إنه لا يزال يعول على ما نسميه : العقيدة الاحتياطية ، والتي يقصدون بها أن العقيدة الدينية قضايا فوق العقل ، فالتسليم بها واجب

__________________

(١) وحي الله ـ د. عتر ص ٣٢.

(٢) انظر شمس العرب تسطع على الغرب للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه ـ ص ٢١٥.

٣٩

ومناقشتها بالدلائل محظور وذلك تخلصا من نقاش عامة النصارى للأسس والعقائد الكنسية المنافية للعقل والعلم كالتثليث ونحوه (١).

٣ ـ جعل الدراسات الاستشراقية مصدرا لتعليم الإسلام للمسلمين أنفسهم ومصدرا للدراسات عن الشرق عامة.

لقد شملت دراسات المستشرقين كافة الدراسات العربية والإسلامية مما دعا قومنا لإكبارهم والإعجاب بإنتاجهم العلمي واثقين بهذه الدراسات كل الثقة لتوهمهم أنها أنشئت على الموضوعية العلمية والحياد والإنصاف في البحث ابتغاء الحقيقة.

وغفل قومنا أن هؤلاء لم يكونوا أمناء على كتابهم المقدس فكيف بهم يؤمّنون على دراساتنا ولغاتنا. والذي يطلع على ما كتب هؤلاء يجد أنهم وضعوا السم في الدسم ، وقلبوا الحقائق وكتموا الحق وهم يعرفونه. وقد وصل الهوان بقومنا أن أصبحت مناهج التعليم في كثير من الدول الإسلامية في المدارس والجامعات من صنع هؤلاء المستشرقين.

قال الأستاذ «عبد الرحمن الميداني» : [وسقطت معظم الجامعات المنشأة في بلاد المسلمين تحت الأيدي الخفية للاستشراق والتبشير والدوائر الاستعمارية ، وغدت خططها ومناهجها وتوجيهاتها تخضع بطريق غير مباشر لما تفرضه وتمليه هذه الأيدي الخفية ، وغدت الكنيسة الغربية تفخر بأن العلوم الإسلامية والعلوم العربية تدرس على طريقتها التي تخدم أغراضها في بلاد المسلمين ، وبأن المشرفين على تدريس هذه العلوم من تلامذة أبنائها](٢).

وأي انتكاس أقبح من هذا الانتكاس ، أن يتعلم المسلمون دينهم ولغاتهم وفق طرائق أعدائهم وأعداء دينهم ، ووفق دسائسهم وتشويهاتهم وتحويراتهم وأكاذيبهم وافتراءاتهم.

__________________

(١) وحي الله ـ د / عتر ص ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) أجنحة المكر الثلاثة ـ للميداني ص ١٥٠ ، طبعة دار القلم ـ دمشق.

٤٠