آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

د. عمر بن إبراهيم رضوان

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

المؤلف:

د. عمر بن إبراهيم رضوان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

أهلها لما في مثل هذه المواقف القرآنية من تصفية لعقائد الناس كلهم حتى عند الذين حرفوها وضلوا بها من النصارى ومن غضب الله عليهم من اليهود. وفي ذلك تكريم للأنبياء وتشريف لهم وأدب جم بحضرتهم ولأشخاصهم أحياء وأمواتا.

ه ـ نزول عيسى ـ عليه‌السلام ـ في آخر الزمان :

زعم «تسدال» أن هذا الاعتقاد عندهم ناشئ عن عدم فهم لعبارة واردة في أعمال الرسل التي تفيد بأنه ـ عليه‌السلام ـ أقام مع تلاميذه أربعين يوما بعد قيامته كما أنهم استندوا إلى كتابين ساقطين وهما (نياحة أبينا القديس الشيخ يوسف النجار) وكتاب (تاريخ رقاد القديسة مريم).

لذا رجح أن يكون منشأ هذا الاعتقاد من المسلمين جهلة أصحاب البدع والضلالة .. هذا كله على حد تعبيرات «تسدال» (١).

قلت : إن هذه القضية وقع تلاميذ المسيح فيها بشك واضطراب لأنها مبنية على قضية أخرى هم مضطربون فيها وهي قضية رفع المسيح ـ عليه‌السلام ـ بعد قيامه من قبره وظهوره لتلاميذه كما هم ذكروا ذلك ، فلوقا ذكر في إنجيله أنه ارتفع إلى السماء بعد قيامه من قبره (٢) بأربعين يوما (٣) وبعضهم قال : بل بعد أحد عشر عاما وقد خالف لوقا بذلك الاعتقادات القديمة القائلة : أن القيامة والصعود له حدثا في نفس الوقت في حين لم يذكره «بولس» ، و «كليمنت» و «أجناتيوس» و «هرمس» و «بوليكارب» وغيرهم (٤).

وقد حدد بعضهم جلوسه عن يمين الله عزوجل (٥) أما بعضهم زعم أن

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ١٣٧ ـ ١٣٩.

(٢) انظر إنجيل لوقا ـ الإصحاح الثالث والعشرون فقرة ٣٥ ـ ٤٣.

(٣) انظر سفر أعمال الرسل ـ الإصحاح الأول فقرة (٣).

(٤) انظر المسيح في مصادر العقائد المسيحية ص ٣٠٥. وانظر إنجيل لوقا ٢٤ : ٥١.

(٥) انظر أعمال الرسل ٢ ـ ٣٢.

٣٢١

المسيح نزل إلى الجحيم كما جاء في «قانون إيمان الرسل» على لسان «توما» حيث قال : إنه نزل إلى الجحيم ، وفي اليوم الثالث قام ثانية من الأموات.

وهذا القانون موجود في (كتاب الصلوات للكنيسة المتحدة في انجلترا وإيرلندا) وقد جاء كذلك في إنجيل «نيوقديموس» أن آدم وإبراهيم والأنبياء استقروا في الجحيم بعد الموت إلى أن نزل إليهم المسيح ثم صعد بهم إلى الفردوس في السماء حيث قابلوا ثلاثة من بني آدم لم يذوقوا الجحيم (١). وهذا يناقض موقف كل كتب السماء من أنبياء الله عزوجل حيث حرم الله عليهم النار ، وانتقالهم يكون إلى النعيم مباشرة فهذا يؤكد أن الأناجيل والمصادر المسيحية قائمة على الشكوك وغيوم الظنون والأوهام ؛ وذلك لأن النصرانية مشتقة من اليهودية المتخبطة في شئون العقيدة والتوحيد. أما شأن عودته مرة ثانية الذي أنكره «تسدال» واعتبره من الفهم الخطأ لنا وأن مرجعه مبتدعة النصارى فقد ذكر الإنجيل هذا الأمر في أكثر من موطن بكل وضوح مخالفا قول «تسدال» الذي يقلب الحقائق لإبطال القرآن وتخطئته وزعمه أن ذلك لأن محمدا أخذ من مصادر شتى بزعمه ..

جاء في إنجيل «مرقس» بعد ذكر الأحداث الكونية التي تسبق يوم القيامة [.. وأما في تلك الأيام بعد ذلك الضيق فالشمس تظلم والقمر لا يعطي ضوءه ونجوم السماء تتساقط والقوات التي في السماء تتزعزع وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيا في سحاب بقوة كثيرة ومجد ..](٢).

وهذه الأحداث الكونية والإرهاصات موافقة لما ذكره القرآن الكريم من أشراط الساعة وقد جاء الرفع إلى السماء والنزول منها ثانية لعيسى ـ عليه‌السلام ـ واضحا في سفر أعمال الرسل حيث قال : [.. إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء هكذا كما رأيتموه منطلقا إلى السماء ..].

__________________

(١) انظر المسيح في مصادر العقائد المسيحية ص ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٢) إنجيل مرقس الإصحاح ١٣.

٣٢٢

وقد أوصاهم أن لا يبرحوا أورشليم وينتظروا عودته ولما سألوه عن وقت ذلك رد الأمر في ذلك لله سبحانه صاحب السلطان (١).

ومن هنا يظهر صواب ما جاء في السنة النبوية الشريفة من عودة المسيح ـ عليه‌السلام ـ آخر الزمان حكما عدلا بشريعة الإسلام ، يكسر الصليب رمز العقيدة الفاسدة ويقتل الخنزير ، ويقتل الدجال في باب اللد في فلسطين ، ويضع الحرب بعدها ، ويفيض المال على الناس في عصره حتى لا يقبله أحد فيصلي مع المسلمين الصلوات ، ويجمع الجمع ، ويجيء من أمور شرعنا ما هجره الناس ، ويكون خليفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أمته من بعده في آخر الزمان. فيمكث فيهم أربعين سنة.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

«.. فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ، ويعطى المال حتى لا يقبل ، ويضع الخراج ، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما». قال : وتلا أبو هريرة (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)(٢).

وفي رواية أخرى عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «ليس بيني وبين نبي ـ يعني عيسى ـ وأنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه.

رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، بين ممصرتين ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيقاتل الناس على الإسلام ، فيدق الصليب ويضع الجزية ، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويهلك المسيح الدجال ، فيمكث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون» (٣).

__________________

(١) انظر سفر أعمال الرسل الإصحاح الأول فقرة ١ ـ ١٢.

(٢) مسند الإمام أحمد ٢ / ٢٩٠.

(٣) مسند الإمام أحمد ٢ / ٤٣٧.

٣٢٣

وقد جمع الإمام السيوطي ـ رحمه‌الله ـ كتابا في نزول عيسى بن مريم عليه‌السلام (١) ـ آخر الزمان وقد روي فيه ثمان وستون حديثا في نزوله عن ست وعشرين صحابيا تقريبا ، وثمان من التابعين تقريبا. وقد كتب زميلي «عبد العزيز كجك» رسالة ماجستير في رفع عيسى ـ عليه‌السلام ـ ونزوله آخر الزمان رجح فيها درجة التواتر المعنوي للأحاديث الواردة في ذلك (٢). وذكر الإجماع على نزوله وقد استدل القائلون بعودته من القرآن الكريم بقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)(٣).

وقد رجح الأستاذ العقاد فكرة المسيح المنتظر عند الأمم بقوله :

[.. يدل علم المقارنة بين الأديان على شيوع الإيمان بالخلاص وظهور الرسول المخلص في زمن مقبل .. وقد يشتد هذا الأمل حين تشتد الحاجة إليه. فكان المصريون الأوائل يترجون المخلص المنقذ بعد زوال الدولة القديمة .. وقد كان البابليون يؤمنون بعودة «فروخ» إلى الأرض فترة بعد فترة .. وكان المجوس يؤمنون بظهور رسول من إله النور كل ألف سنة يبعث في جسد إنسان. وقيل : إنه هو «زرادشت» رسول المجوسية الأكبر .. أما الإيمان بظهور رسول إلهي يسمى «المجوسية» خاصة فلم يعرف بهذه الصيغة قبل كتب التوراة وتفسيراتها ، أو التعليقات عليها في التلمود والهاجادا وما إليها ..](٤).

كما أن اليهود يعتقدون بقدوم مسيح لهم يقيم لهم دولتهم المزعومة. كما أن القاديانية والبهائية من الفرق الضالة تزعم أنه عاد وهو زعيمهما (٥). والحق أن المسيح المراد كما بينت هو عيسى بن مريم ـ عليه‌السلام ـ.

__________________

(١) انظر نزول عيسى بن مريم ـ عليه‌السلام ـ ونزوله آخر الزمان.

(٢) انظر رسالة رفع عيسى ـ عليه‌السلام ـ ونزوله آخر الزمان مقدمة لجامعة الإمام لنيل درجة الماجستير لسنة ١٤٠١ ه‍ / ١٤٠٢ ه‍.

(٣) سورة النساء آية ١٥٩.

(٤) انظر كتاب (حياة المسيح) للأستاذ العقاد ص ٣٥ ـ ٣٧.

(٥) رفع عيسى عليه‌السلام ونزوله آخر الزمان ص ٢٣٨.

٣٢٤

بهذا البيان تسقط شبه «تسدال» وأمثاله ويظهر بطلان مزاعمهم وهيمنة القرآن الكريم بما ذكره.

والله الموفق للسداد والصواب.

ب ـ قضايا أخرى متفرقة :

١ ـ التبشير بنبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

أنكر «تسدال» أن تكون الكتب المقدسة بشرت بنبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصرف التبشير لعيسى ـ عليه‌السلام ـ وزعم أن العرب أخطأت في فهم معنى كلمة فارقليط حيث توهموا أنها بمعنى «أحمد» ولكن معناها الحقيقى معز (١).

قلت : لا غرابة أن ينكر «تسدال» نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكذلك لا غرابة أن ينكر إلهية قرآنه ويزعم أنه بشري المصدر ، مجمع من ديانات وآراء شتى طمعا في جمع الناس على دين موحد حبا في السيادة والقيادة. فهذا الأمر إذن من جملة إنكارات «تسدال» ومن جملة مزاعمه.

والمعروف أنه ما من نبي جاء إلا وكان يبشر بالنبي الذي يأتي بعده ويأخذ الميثاق على قومه أن يؤمنوا به وينصروه.

فهذا موسى ـ عليه‌السلام ـ في وصاياه يخبر بقدوم سيدنا عيسى ـ عليه‌السلام ـ ويبشر بقدوم خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام. جاء في العهد القديم : [قال : جاء الرب من سيناء (أي موسى عليه‌السلام) وأشرق من ساعير (وهو عيسى عليه‌السلام) واستعلن من جبل فاران (وفاران مكة والذي بعث فيها هو محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ)](٢).

كما نقل عن زرادشت تبشيره بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث قال : [تمسكوا

__________________

(١) مصادر الإسلام ص ١٣٤ ـ ١٣٥.

(٢) انظر الكتاب المقدس ـ سفر التثنية الإصحاح ٣٣ فقرة ٢.

٣٢٥

به إلى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر](١).

حتى ملائكة الله ـ كما ذكرت التوراة ـ أخبرت هاجر أم اسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ عند «عين ثور» بأنه سيكون من ذرية كثيرة [وسيكون من هذه الذرية واحد تدين له معظم الدنيا والنص : كما في التوراة [.. وقال لها ملاك الرب تكثيرا أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة. وقال لها ملاك الرب : ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك. وأنه يكون إنسانا وحشيا. يده على كل واحد ويد كل واحد عليه وأمام جميع إخوته يسكن](٢).

كما ذكرت التوراة كلام الرب لموسى ـ عليه‌السلام ـ أنه سيبعث فيهم رسولا ومن يخالفه فإن الله سيطالبه والنص هو : [.. أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه ...](٣).

فهذا النص صريح أنه سيبعث لهم نبيا ليس منهم بل من بين إخوتهم وليس ذلك إلا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والأناجيل كلها ذكرت أنهم سيعطون معزيا ومخلصا آخر إلى يوم القيامة ولم يأت رسول بعد عيسى ـ عليه‌السلام ـ إلا سيدنا ـ محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

جاء في إنجيل يوحنا : [وأنا أطلب من الأب فيعطيكم «فارقليطا» معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد](٤).

أما كلمة «الفارقليط» التي زعم «تسدال» أنها غير موجودة وحرف معناها عن أحمد إلى معزي.

__________________

(١) الأديان في القرآن ص ٨٢.

(٢) الكتاب المقدس الإصحاح السادس عشر الإصحاح فقرة ٧ ـ ١٢.

(٣) الكتاب المقدس ١٤ / ٢٢ ـ ٢٩ (بمعناه).

(٤) الكتاب المقدس الإصحاح ١٤ فقرة ١٥.

٣٢٦

فهذه الكلمة موجودة في أصل الإنجيل بنسختيه اليونانية والعبرية ولكن الترجمة العربية غيرت معنى أحمد إلى المعزي والمخلص ليخالفوا بذلك القرآن الكريم الذي نص على تبشيره كل من التوراة والإنجيل بأحمد (محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ) والكلمتان «فارقليط أو بارقليط» اليونانيتان والذي زعم «تسدال» أن المسلمين فهموها خطأ وأنهما بعيدتان في المعنى عن بعضهما.

قال الأستاذ «رحمت الله الهندي» في رده على هذه النقطة أثناء رده على القس «فندر» : [أصل «فارقليط» (١) معرب من اللفظ اليوناني «باراكلي طوس» فيكون معناه المعزي ، أو المعين أو الوكيل وإن قلنا أن اللفظ الأصلي «بيروكلوطوس» فيكون معناه قريبا من محمد وأحمد والتفاوت بين اللفظتين يسير جدا ، وأن الحروف اليونانية متشابهة فتبدلت بيروكلوطوس بباراكلي طوس](٢).

وقد نقل ابن إسحاق في سيرته لفظا آخر بدلا من «فارقليط» «المنحمنا» وهذا اللفظ كان موجودا في الإنجيل نقلا عن الحواري يحنس والنص :

[وقد كان ، فيما بلغني عما كان وضع عيسى بن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، مما أثبت يحنس الحواري لهم ، حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى بن مريم ـ عليه‌السلام ـ في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إليهم أنه قال : من أبغضني فقد أبغض الرب ، .. ولكن لا بد من أن تتم الكلمة التي في الناموس : أنهم أبغضوني مجانا ، أي باطلا ، فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم عند الرب ، وروح القدس هذا الذي خرج من عند الرب خرج فهو شهيد علي وأنتم أيضا ، لأنكم قديما كنتم معي ،

__________________

(١) كلمة فارقليط اليونانية أصلها بالعبري (بيرقليط) وهي لغة المسيح ، والتي معناها محمد وأحمد ولكن النصارى حرفوها إلى (بارقليطوس) ثم حذفوها ووضعوا مكانها المعزي والمعين والوكيل. وقد كان هذا الاسم (بيروقليط) موجودا في التراجم الحديثة سنة ١٨٢١ م ، ١٨٣٢ م ، ١٨٤٤ م ، المطبوعة بلندن. انظر حاشية كتاب هداية الحيارى ص ١٢٠.

(٢) انظر إظهار الحق ص ٤٢٠ ـ ٤٢١.

٣٢٧

في هذا قلت لكم لكيما لا تشكوا والمنجمنا [بالسريانية] : محمد. وهو بالرومية : البيرقليطس ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١).

أما نصوص الأناجيل الأربعة اليوم فقد جاء اسمه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بلفظ المعزي ، أو المخلص ، أو الوكيل ، فمثلا : جاء في إنجيل يوحنا [.. ومتى جاء المعزي الذي سأرسله إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي](٢).

وذكر لفظ المخلص بقوله : [وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ، ويذكركم بكل ما قلته لكم](٣).

وقد جاء وصفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الزبور وكم سيبلغ مدى سلطانه وخضوع الملوك والأمم له وإرسال الملوك الهدايا له حتى أن اسمه سيكون قبل الشمس وذلك لمعرفة القاصى والداني به وهذا ما كان قال الزبور : [.. يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلام إلى أن يضمحل القمر ، ويملك البر إلى البحر ، من الهند إلى أقاصي الأرض ، أمامه تجثوا أهل البرية ، وأعداؤه يلمون التراب ، وملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمه ، ملوك شبا وسبأ يقدمون هدية ، ويسجد له كل الملوك ، ويصلي لأجله دائما اليوم كله يباركه ... ويزهرون من المدينة مثل عشب الأرض يكون اسمه إلى الدهر قدام الشمس ويمتد اسمه ، ويتباركون به كل أمم أهل الأرض يطوبونه ..](٤).

وقد وصف كذلك في سفر أشعياء بقوله : [هو ذا عبدي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي. وصعق روحي عليه فيخرج الحق للأمم لا يصيح ولا يدفع ولا يسمع في الشارع صوته. قضية مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ. إلى الأمان يخرج الحق. لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٢٤٨.

(٢) إنجيل يوحنا الإصحاح ١٥ فقرة ١٦.

(٣) نفس المرجع الإصحاح ١٤ فقرة ٢٦.

(٤) انظر الكتاب المقدس ـ سفر المزامير ، المزمور الثاني والسبعون لسليمان عليه‌السلام فقرة ١ ـ ١٩.

٣٢٨

وتنتظر الجزائر شريعته ..](١).

والنصوص في الكتب السابقة كثيرة جدا وخاصة الكتاب المقدس ولكن أكتفي بهذه وفيها المبلغ للرد على «تسدال» وزمرته.

أما كتب التاريخ فقد شهدت على انتشار خبر مقدم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والتبشير بقرب بعثته قبل أن يبعث والإرهاصات والدلائل التي تشير أنه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من يوم أن حملت به أمه إلى بعثه فمن ذلك :

١ ـ ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن «شقا وسطيحا» كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٢).

٢ ـ قصة حليمة السعدية وأنها كانت تعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على اليهود كلما مر بها جماعة منهم وتحدثهم بشأنه فكانوا يحضون على قتله فتهرب منهم كما أن نصارى من الحبشة عرفوه أنه النبي المنتظر فأرادوا أخذه من حليمة لملكهم وانفلتت منهم بصعوبة (٣).

٣ ـ أنهم اتفقوا على أن بحيرا الراهب عرف الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعلامات النبوة التي فيه وحذر أبا طالب عليه من يهود طالبا منه أن يرجع به لمكة المكرمة (٤).

٤ ـ معرفة أحبار اليهود ، ورهبان النصارى ، وكهان العرب من شياطينهم صفة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصفة زمانه ، وما كان من عهد أنبيائه إليهم فيه وإنذار اليهود به فلما بعث كفروا به (٥).

٥ ـ سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ الذي أسلم بعد ما استدل على

__________________

(١) سفر أشعياء الإصحاح الثاني والأربعون فقرة ١ ـ ٤.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ١ / ١٥ ـ ١٩.

(٣) انظر سيرة ابن هشام ١ / ١٦٨ ، ١٧٧.

(٤) نفس المرجع ١ / ١٩١.

(٥) نفس المرجع ٢١٧ ، ١٧٧.

٣٢٩

رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعلامات كان يعرفها من راهب عمورية حيث صحبه أخيرا وذكرها له (١).

٦ ـ إسلام حبر اليهود وأحد علمائهم عبد الله بن سلام بن الحارث الذي عرف صفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واسمه وزمانه (٢).

٧ ـ ورقة بن نوفل وإخباره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه نبي هذه الأمة وما جاءه هو الناموس الذي نزل على موسى عليه‌السلام (٣).

٨ ـ خبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع يهود بني قينقاع من أهل المدينة حيث قال لهم : «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم (٤).

هذا غيض من فيض من الأدلة التاريخية الدالة على معرفتهم ببعثته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتعرفهم عليه بأوصافه لما عرفوا ذلك من كتبهم وإخبار أنبيائهم لهم.

ومن هنا يظهر لنا من خلال الروايات التاريخية والنقول من الكتب المقدسة كم كان هؤلاء المستشرقون والمبشرون ظالمون ومفترون على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنهم يعرفون الحق ولكنهم عنه يحيدون فهم ممن أضلهم الله على علم. ولم يكونوا علميين في مناهجهم أبدا فضلوا وأضلوا.

وفي هذا مبلغ للرد على «تسدال» وزمرته بافتراءاتهم وتحريفاتهم.

ولله الفضل والمنة

__________________

(١) نفس المرجع ١ / ٢٣١.

(٢) نفس المرجع ٢ / ١٦٣ ـ ١٦٤ والبداية والنهاية ٣ / ٢١٠.

(٣) نفس المرجع ١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٤) انظر البداية والنهاية لابن كثير ٤ / ٣.

٣٣٠

٢ ـ القضايا المتبقية سيكون ردي عليها برد واحد وهي :

١ ـ قصة خلق آدم من تراب.

٢ ـ والتشابه في ذكر الميزان والأعراف.

٣ ـ التشابه في ورود معنى آية وحديث في القرآن والإنجيل.

٤ ـ المرور على الصراط.

قلت : «زعم تسدال» أن قضية نزول الملاك من السماء لأخذ شيء من أديم الأرض لله سبحانه ليخلق منها آدم ـ عليه‌السلام ـ أنها مأخوذة من أقوال «مرقيون» وهو يوناني من أصحاب البدع المارقين عن الدين القويم.

أما قصة : خلق آدم من تراب فهي واردة في التوراة والقرآن ونصها في الكتابين.

جاء في القرآن الكريم أن : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١) كذلك جاء في السنة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «أن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض ... الحديث» (٢).

وجاء في التوراة : [... وجبل الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسا حية ، وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ، ووضع هناك آدم الذي جبله .. وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء ..](٣).

فالكتابان أذن متفقان على أن آدم ـ عليه‌السلام ـ خلق من تراب وهذا لاتحاد المصدر. أما الاختلاف الذي وجهه «تسدال» فقط في هل خلقه الله

__________________

(١) سورة آل عمران آية (٥٩).

(٢) انظر سنن أبي داود ٤ / ٢٢٢ كتاب السنة باب ١ ومسند الإمام أحمد ٤ / ٤٠٠.

(٣) العهد القديم ـ سفر التكوين الإصحاح الثاني فقرة ٧ ـ ٩ ، ١٩.

٣٣١

بيده أو خلقه بواسطة ملائكته التي أحضرت مكوناته الأساسية (التراب) ثم نفخ الله سبحانه فيه من روحه.

ولكني لم أجد في الكتب المعتمدة أن الذي أحضر التراب أحد من الملائكة ولكن الأمر منسوب لله سبحانه نفسه كما في التوراة ويمكن أن يكون ما ورد في كتاب (عرائس المجالس) للثعلبي مأخوذ من الإسرائيليات والمعروف أن هذا الكتاب مليء بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيلية كالرواية المنسوبة لعبد الله ابن سلام.

إذن فلا مجال لاعتراض «تسدال» علينا والملاحظ على «تسدال في هذا البحث أن كل ما ورد من كتب نصرانية خالفته اعتبرها شاذة ، وموضوعة ، واعتبرها لفرق ضالة. ولكنا نحن نقول هو من الكتب الإسلامية التي تحتاج إلى تهذيب وتنقية مما دخلها من الإسرائيليات.

أما زعم «تسدال» أن الميزان والصراط والمرور عليه والأعراف ، كلها مأخوذة من قدماء المصريين من كتابين : (كتاب عهد إبراهيم) الذي ألف قبل الهجرة بأربعمائة سنة (٤٠٠). وكتاب (الأموات) الذي وجد بخط اليد في قبور قدماء المصريين (١).

قلت : إن دعوة التوحيد دعوة ربانية نزل بها أبو البشرية آدم ـ عليه‌السلام ـ وكان يعلمها لذريته. وكلما زاغت فئة من ذريته ـ عليه‌السلام ـ كان الله سبحانه يرسل لهم من رسله من يرشدهم للصواب ، ويذكرهم بدعوة أبيهم آدم ـ عليه‌السلام ـ.

ومن هذه الأمم التي بلغتها دعوة التوحيد قدماء المصريين. فقد تبنى هذه الدعوة الشاب المصلح «أخناتون» الذي كان داعية التوحيد بين قدماء المصريين. ويحتمل أن هذه الدعوة قد بلغته بالتأثر بدعوة أحد الأنبياء في عصره في بلاد الشام ، أو عن طريق اطلاعاته على ما كتب ممن سبقوه من أهل المعتقدات.

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

٣٣٢

وقد اعتقد المصريون بالموت والبعث والحشر ووزن الأعمال والنعيم والعذاب ، وغير ذلك من قضايا العقيدة ، ووضعت الأحكام والتشريعات والأخلاق عندهم متمشية مع هذه العقيدة التي فيها مراقبة الله سبحانه والخوف منه ومن غضبه وعقابه (١).

هذه الدعوة في مجملها لا تختلف عن أي دعوة توحيدية كانت تظهر بين الفينة والفينة بعناية الله سبحانه لبني الإنسان من الضلال والخسران ، والمعروف أن قدماء المصريين تأثروا في نهاية الأمر بالمسيحية من القرن الأول الميلادي.

لذا فلا غرابة إذا وجدنا القرآن الكريم يذكر ما ذكر في الديانات التوحيدية السابقة وذلك لوحدة المصدر في كلها. والغريب أن يستنكر «تسدال» مثل هذا الأمر ، ولما ذا لم يعب على النصرانية أن جاءت بما دعت إليه المصرية القديمة من قضايا عقدية قبل أن يتنصروا؟

وكذلك ما ذكره «تسدال» أن القرآن والإنجيل توافقا في لفظ آية وحديث والآية المقصودة قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ..) الآية (٢).

وقد شابهها في إنجيل لوقا قوله : [.. فلما رآه يسوع قد حزن (أي أحد الأغنياء) قال : ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله ..](٣).

وكذلك ورد مثل هذه الفقرة في إنجيل متى الإصحاح ١٩ وإنجيل مرقس الإصحاح ١٠.

__________________

(١) انظر كتاب الديانة القديمة المصرية من ص ٨١ ، ٢١١ وما بعدها ، وكتاب الإنسان في ظل الأديان ص ١٣٨ وما بعدها.

(٢) سورة الأعراف آية ٤٠.

(٣) إنجيل لوقا الإصحاح ١٨ فقرة ٢٤ ـ ٢٥.

٣٣٣

أما الحديث المقصود فهو قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال الله عزوجل : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (١).

وقد جاء شبيه له في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس جاء فيها : [بل كما هو مكتوب ما لم تر عين ولا تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه](٢).

قلت : هذه الآية والحديث الذي زعم «تسدال» أن مصدرها الكتاب المقدس العهد الجديد.

ف «تسدال» ينسى أو يتناسى أن هذين الكتابين وأقوال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خاصة الحديث القدسي الذي أورده «تسدال» مصدرهما واحد لأن القرآن والإنجيل ومعنى الحديث القدسي الذي ذكره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليس له طريق ولا مصدر غير خبر السماء.

فإذا حصل تشابه بين الكتب السماوية بعضها مع بعض في بعض الألفاظ أو توارد معاني أو بعض القصص أو الأحكام أو الأخبار .. إلخ ، فذلك لأن منزلهما واحد وهو الله سبحانه وتعالى. وكل من محمد وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ رسولان من رسل الله سبحانه فلا غرابة فيما أورد «تسدال» والغريب في نسيانه أو تناسيه مثل هذا الأمر.

وهكذا نكون قد أتممنا الرد على المصدر الخامس المزعوم من مصادر الإسلام العظيم بتفنيد مزاعم «تسدال» وتوضيح شبهاته وإبطالها حتى بان الحق.

ولله الحمد والمنة ..

__________________

(١) انظر مسند الإمام أحمد ٢ / ٣١٣.

(٢) انظر رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كوزثيوس ـ الإصحاح (٢) فقرة (٩).

٣٣٤

٦ ـ المصدر السادس :

(اليهودية):

زعم «تسدال» و «ماسيه» و «أندريه» و «لامنز» و «جولد تسيهر» و «نولديكه» وغيرهم من المستشرقين أن اليهودية مصدر من مصادر الإسلام واستدلوا على ذلك بأمور منها.

١ ـ تشابه القرآن والكتب اليهودية في القصص. كقصة ابني آدم ـ عليه‌السلام ـ وقتل أحدهما للآخر ، وقصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وإنقاذه من نار النمرود ، وقصة سليمان ـ عليه‌السلام ـ مع ملكة سبأ ، وقصة هاروت وماروت ، وقصة موسى ـ عليه‌السلام ـ وبعض مواقف له ، وغير ذلك كثير.

٢ ـ التشابه في بعض القضايا العقدية والتشريعية والحث على مكارم الأخلاق (١).

قلت : يعترف الإسلام بالأديان السماوية السابقة ، ويوجب على أتباعه أن يعترفوا بهذه الرسالات وبالرسل الذين حملوها إلى أقوامهم.

ولكن الإسلام جاء خاتما للديانات السابقة ، وناسخا لها ، وحاملا أحسن ما حوته من تشريعات وزاد في احتياجات البشرية في كل جوانب الحياة ، فجاء شاملا لمناحي الحياة عاما لكل بني الإنسان إلى يوم الدين فجاء صورة لكتاب الله الواحد المتحد في الأصل والوجهة ، الشامل للحقائق الكبرى التي تقوم عليها أسس الحياة. ملبيا لهم كافة حاجاتهم البشرية ، وموضحا ما يحتاجونه من أحكام شرعية مما يجب على البشرية الرجوع له واتباعه وتحكيم شرعه ، والخضوع والانقياد لأوامره وتعليماته حيث إنه يتضمن باقي شرائع الله التي وردت في الكتب السابقة.

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام لتسدال ص ٢٩ وما بعدها (الفصل الثالث) ، وانظر مذاهب التفسير الإسلامي ص ٦ ، ١٠ ، وتاريخ القرآن لنولديكة ١ / ٦.

٣٣٥

قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(١).

والمسلمون يمتازون عن بقية الأمم بتعظيمهم رسل الله ـ عليهم‌السلام جميعا ـ ويثبتون في حقهم علو الفطرة ، وصحة العقول ، والصدق في القول ، والأمانة في التبليغ ، والعصمة من كل ما يشوه مسيرتهم ، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار ، وتنفر منه الأذواق السليمة ، فهم بشر كبقية خلق الله ميزوا عليهم برسالاته ، وأيدوا بمعجزاته لإثبات صدقهم وتأييدهم في دعواتهم. هذا هو موقف المسلمين من رسل الله ـ عليهم‌السلام ـ.

أما موقف اليهود والنصارى فكان على عكس هذا من التشنيع على أنبيائهم ، ونسبة ما لا ينبغي في حقهم ، وإيذائهم بالسب والطعن والقتل وخاصة اليهود الذين لم يقف أمرهم مع أنبيائهم إلى هذا الحد بل تعداه لما هو أعظم أن تعدوا على مقام الله ـ عزوجل ـ فهم يعاملوه كبشر بل جعلوا سلطة حاخاماتهم أقوى من سلطته سبحانه.

كما أن اليهود وقفوا من الإنسانية جمعاء موقف العداء والتحقير واعتبروا أنفسهم شعب الله المختار للسيادة والحكم وتسخير كل ما في الكون له.

فقد زعموا أن إسرائيل سأل إلهه : [لما ذا خلقت خلقا سوى شعبك المختار؟! فقال له : لتركبوا ظهورهم ، وتمتصوا دماءهم ، وتحرقوا أخضرهم ، وتلوثوا طاهرهم ، وتهدموا عامرهم](٢).

لذا جاء القرآن الكريم ليضع تقريراته الإلهية اليقينية في بيان الشخصية اليهودية خير بيان.

١ ـ فقد بين الله سبحانه إلحاد اليهود في عقائدهم بدءا من موقفهم من الله

__________________

(١) سورة المائدة الآية : ٤٨.

(٢) انظر سفر المكابيين الثاني (١٥ ـ ٣٤) نقلا عن كتاب معركة الوجود بين القرآن والتلمود ص ٣٥.

٣٣٦

سبحانه وتعالى وانتهاء بأبسط أمور العقيدة في دينهم قال تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ)(١).

وقال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ..) الآية (٢).

أما موقفهم من رسل الله ـ عليهم‌السلام ـ بينه سبحانه بقوله : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)(٣).

وأما موقفهم مع ملائكة الله فبينه قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)(٤).

أما استخفافهم بالوحي وبالكتب الإلهية بينه قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٥).

ولم يكتف اليهود بتحريف التوراة عن قصد وعمد بل صنعوا كتابا آخر سموه (التلمود) الذي تتضاءل بجانبه سائر أكاذيبهم في أسفارهم العلنية!! وفيه يزعمون أن تعاليم الحاخاميين لا يمكن نقضها ولو بأمر من الله سبحانه. كما يزعمون أن للحاخاميين السيادة على الله ، وعليه إجراء ما يرغبون (٦).

التوراة الحالية وهل تصلح أن تكون مصدرا للإسلام :

يعترف المسلمون بالتوراة القديمة التي أنزلها الله سبحانه على نبيه موسى

__________________

(١) سورة آل عمران الآية (١٨١).

(٢) سورة المائدة الآية (٦٤).

(٣) سورة المائدة الآية (٧٠).

(٤) سورة البقرة الآية (٩٨).

(٥) سورة آل عمران الآية (٧٨).

(٦) كتاب معركة الوجود ص ٣٩.

٣٣٧

ابن عمران ـ عليه‌السلام ـ ولا يعترفون بما سوى ذلك من أمثال التوراة الحالية وليسوا بملزمين بالإيمان بها لما فيها من مخالفة لروح التنزيل الإلهي.

لكن لو نظرنا للعهد القديم الحالي فهل هذا الكتاب نفسه هو الذي أنزله الله سبحانه على موسى ـ عليه‌السلام ـ؟.

فما ينسب لموسى ـ عليه‌السلام ـ الأسفار الخمسة الأولى : سفر التكوين ، الخروج ، اللاويين [الأحبار] ، العدد ، والتثنية. أما غيرها من الأسفار فهي أسفار الأنبياء والكتبة من اليهود حتى التوراة المنسوبة لموسى ـ عليه‌السلام ـ فقد أنكر بعضها فهذا «تسدال» نفسه مثلا ينكر سفر التكوين لكتابته حوالي سنة ٢٢٠ م (١) ولم يسلم بعضها الآخر من الضياع والتحريف (٢).

ومما يدل على ضياع النسخة الأصلية لتوراة موسى ـ عليه‌السلام ـ أن موسى ـ عليه‌السلام ـ لما كتب التوراة وضعها مع اللوحين في التابوت ، الذي جاء ذكره في القرآن الكريم قال تعالى: (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٣) والتابوت هو الذي كانوا يستنصرون به بتقديمه أمام الجيش في المعارك. وظهر بعد ذلك في بني إسرائيل كثير من الفجرة والكفرة حتى جاء عهد سليمان ـ عليه‌السلام ـ وفتح التابوت بعد أن وضع في الهيكل ، فلم توجد به نسخة التوراة وإنما وجد اللوحان الحجريان فقط. وحدثت بعد سليمان ـ عليه‌السلام ـ أحداث دينية عجيبة أدت إلى الردة وعبادة الأوثان ، وعبادة آلهة الأقوام المجاورين حتى بني مذبح للأصنام في فناء بيت المقدس (٤).

__________________

(١) مصادر الإسلام ص ٤٠.

(٢) كتاب اليهودية للأستاذ أحمد شلبي ص ٢٤٨.

(٣) سورة البقرة الآية : (٢٤٨).

(٤) كتاب اليهودية ص ٢٥٠ ـ ٢٥١.

٣٣٨

وبعد ذلك حكم «يوشيا» الذي رجع لاتباع التوراة وبعد سبعة عشر عاما من حكمه زعم كاهنه «حوقيا» أنه وجد نسخة التوراة في بيت المقدس بطريق الإلهام ، وأعطاها «شافات» الكاتب.

وهذا يدل على بطلان هذا الزعم لأنه لا يعقل أن توجد نسخة التوراة في بيت المقدس سبعة عشر عاما ولا يراها أحد حتى يكتشفها «حوقيا».

لذا يرى الباحثون أن «حوقيا» قام بكتابة أسفار التوراة من اختراعاته ومما سمعه من أفواه الناس. حتى قال «ول ديورانت» : لم يبق لدينا من شريعة موسى سوى الوصايا العشر(١).

بل نفس التوراة الحالية تدل على أنها ليست لموسى ـ عليه‌السلام ـ فقد جاء في سفر التثنية : [فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب ، ودفنه في الجواء في أرض مؤاب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم](٢).

هذا الكلام منقول في سفر منسوب إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ فليس من المعقول أن يكتب هذا موسى عن نفسه.

وجاء في نفس السفر [ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى](٣). ومن الواضح أن مثل هذه العبارة لا تقال إلا بعد موت موسى بزمن ليس بالقصير (٤).

والأمثلة غير هذه كثيرة.

وإذا تركنا أسفار موسى ونظرنا في بقية أسفار العهد القديم نجد نفس النتيجة

__________________

(١) قصة الحضارة ٢ / ٢٧١ ، نقلا عن اليهودية للأستاذ شلبي ص ٢٥١.

(٢) سفر التثنية الإصحاح الرابع والثلاثون ـ الفقرة (٥ ـ ٦).

(٣) نفس المرجع فقرة (١٠).

(٤) كتاب اليهودية ـ للأستاذ شلبي ص ٢٥٢.

٣٣٩

من كتابتها بعد أصحابها بفترة طويلة.

فسفر يوشع كتبه أرميا ، وبينهما ثمانية قرون تقريبا.

ويرى آخرون أنه تصنيف صموئيل ، وآخرون يرون أنه تصنيف فنيحاس (١).

أما سفر القضاة ينسبه بعض الكتاب الغربيين إلى «حزقيال» وآخرون ينسبونه «لعذار» وفريق ثالث ل «لفنيحاس» وبين عزرا وفنيحاس أكثر من تسعة قرون.

ويمكن القول عن بقية الأسفار بنفس الطريقة.

وقد أحسن بتلخيص هذا الموضوع «ول ديورانت» حيث قال :

[.. فإن العلماء مجمعون على أن أقدم ما كتب من أسفار التوراة هو سفر التكوين ، وقد كتب بعضه في يهوذا وبعضه في إسرائيل ، ثم تم التوافق بين ما كتب هنا وهناك بعد سقوط دولتي اليهود ، والرأي الغالب أن سفر التثنية من كتابة «عزرا» ويبدو أن أسفار التوراة الخمسة قد اتخذت صورتها الحاضرة حوالي عام ٣٠ ق. م](٢).

أبعد كل هذه الأدلة يزعم بعض المستشرقين بكون القرآن اعتمد في مصدريته على التوراة المضطربة سندا ومتنا وخاصة جانب القصص.

وهذا الأستاذ «هنري ماو» يبين لنا حقيقة قصص التوراة لنرى أيصلح أن يكون مصدرا للقرآن أم لا؟.

قال الأستاذ «هنري» : [علينا أن نثبت بادئ ذي بدء ، أن تعاليم الكتاب تكون وحدة منسجمة ، ولكن القصص التوراتي لم يتعد منزلة الخرافة ، فلم نتوصل إلى تدوين وقائعها ضمن نطاق التاريخ العام ، ولم نجد لها مكانا في

__________________

(١) كتاب اليهودية ـ للأستاذ شلبي ص ٢٥٣.

(٢) قصة الحضارة ٢ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨ نقلا عن كتاب اليهودية للأستاذ شلبي ص ٢٥٤.

٣٤٠