آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

د. عمر بن إبراهيم رضوان

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

المؤلف:

د. عمر بن إبراهيم رضوان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

الفرق في حج المسلمين ، وفي قرابينهم عن الصابئة لا كما يزعم المستشرقون.

والإسلام يخالف الصابئة ليس في هذا الجانب فقط ، بل في أمور كثيرة منها :

* عليهم الغسل وتغيير الثياب بسبب الجنابة ومس الطامث ويعتزلها البتة. أما عندنا فيغتسل ولا تغير الثياب إذا كانت الملابس طاهرة ، ولا غسل لمن مس طامثا فنجاستها ليست في يدها. ولا يعتزل عندنا منها ، إلا موضع الولد وقت طمثها.

* كما أنهم لا يأكلون الجزور ويفرطون في كراهيته والمسلمون يأكلونه ولا يكرهونه. ويتركون الختان وعندنا سنة ثابتة في حق كل مسلم.

* وفريضة الذكر والأنثى في الميراث عندهم واحدة أما عندنا فللذكر مثل حظ الأنثيين.

* وعندهم لاطلاق إلا ببينة عن فاحشة ظاهرة ، ولا تراجع عندهم المطلقة وعندنا جواز الطلاق لحاجته ، وله مراجعة مطلقته.

* وعندهم لا يجمع بين امرأتين ولا يطأهن إلا لطلب الولد. وعندنا يجمع بين أربعة لطلب الولد ولغيره من الاعتبارات الشرعية ، وغير ذلك من الأمور التي تخالف الصابئة فيه الإسلام.

ومن هنا يظهر الفرق الكبير بين الإسلام وبين الصابئة في الاعتقادات والعبادات والأحكام والسلوك وغير ذلك كثير (١).

والأمر واضح ولا شبهة فيه إلا في رءوس المستشرقين القاصدين تشويه الإسلام بكل سبيل. ولكن الله يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

وبهذا نكون قد رددنا على الشبهة الثالثة وسقطت قوائمها ونكون بها قد أكملنا الرد على المستشرقين في مصدرهم المزعوم الثالث للإسلام العظيم وقرآنه

__________________

(١) انظر الفهرست لابن النديم ص ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

٢٨١

الكريم ، وظهر بطلان دعواهم وبان الحق وعلا.

ولله الحمد والمنة.

٤ ـ المصدر الرابع :

الزرادشتية والهندية القديمة :

زعم «تسدال» أن كثيرا من المطالب الواردة في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية تطابق مطابقة غريبة لما ورد في كتب الزرادشتية والهندية القديمة فينتج من ذلك أننا ملزمون ـ على حد تعبيره ـ أن نسلم أن الزرداشتية كانت مصدرا من المصادر التي اتخذت بعضا منها الديانة الإسلامية.

قلت : الزرادشتية : هم أصحاب زرادشت بن بورشب الذي ظهر في زمان «كشتاسف بن لهراسب» وقد كانت ولادة زرادشت سنة ٦٦٠ ق. م وقتل من الطورانيين في سنة ٥٨٣ ق. م.

زعم الزرداشتيون أنه كان لهم أنبياء وملوك أولهم «كيومرث» وكان أول من ملك الأرض. وجاء بعده «أوشهنج بن فراول» ونزل أرض الهند وبعده جاء «طهمورث» الذي ظهرت الصابئة في أول سنة من ملكه. والديانة في فارس كديانات جيرانهم مزيج من ديانة الهند وسومر وشور ولكن كان لها طابعها الخاص بها. ويدعي الفرس أن زرادشت نبي وكتابه المقدس هو «أوستا» أي المعرفة. وقد شرحه زرادشت في كتابه (الزند) ثم شرح التفسير بكتاب (بازند) وقد جاءت الزرادشتية تمحيصا للمجوسية مما جعلها تلتقي مع الأديان السماوية في كثير من القضايا العقدية والأحكام ، وغير ذلك. وهذا ما جعلها والهندية القديمة تلتقي مع الإسلام في بعض القضايا لأن لهم مصدرا سماويا أو تأثرا بالأديان السماوية.

إن النقاط التي أوردها «تسدال» يمكن تقسيمها إلى مجموعتين :

٢٨٢

أ ـ المجموعة الأولى من الشبهات :

ما ورد لها أصل في القرآن والسنة الصحيحة مثل :

قضية المعراج والجنة والنار ، وملك الموت ، والصراط ، وعزازيل (الشيطان) والافتتاح بالبسملة ، والصلوات الخمس ، وشهادة كل نبي لمن يأتي بعده.

والمجموعة الثانية من الشبهات :

لم يرد لها أصل من القرآن الكريم ولا في السنة النبوية الشريفة ووردت في الزرادشتية فحسب.

الرد على شبهات المجموعة الأولى جملة :

إن جميع الديانات السماوية لم تخل من ذكر هذه الأمور الغيبية ، ومن تكريم بعض الأنبياء بالمعجزات التي فيها خرق العادات على أيديهم ، كما ألزموا ببعض الفرائض. فإذا اشتملت بعض الديانات السماوية على مثل هذه الأمور ووافقت ما ورد في القرآن والسنة الصحيحة فتكون هذه القضايا من الأمور التي لم تتناولها أيدي التحريف والتبديل في الديانات السابقة المنسوخة.

فإن ورد شيء منها في كتب الزرادشتية فيمكن أن تكون هذه الزرادشتية من هذه الملل التي كان أصلها وحيا سماويا ثم حرفها أصحابها كما حرفوا التوراة والإنجيل. ولهذا أثبتت أبحاث العالم الألماني الدكتور «ميللر» الذي كانت له اليد الطولى في حل رموز اللغة السنسكريتية بالهند (أن الناس كانوا في أقدم عهودهم على التوحيد الخالص ، وأن الوثنية عرضت عليهم بفعل رؤسائهم الوثنيين) (١).

وقد أشار أبو محمد ابن حزم إلى التبديل والتحريف الذي وقع في الزرادشتية

__________________

(١) النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلامية للمهندس أحمد عبد الوهاب ، مكتبة وهبة ١٤٠٠ ه‍ ـ ١٩٧٩ م ص ١٠ ـ ١١.

٢٨٣

حيث قال : [وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلها ، وكانا محظرين على من سواهما : فالتبديل والتحريف مضمون فيهما وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كان طول مدة دولتهم عند «المؤبذ» وعند ثلاثة وعشرين هربذا لكل هربذ سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من الهرابذة ولا من غيرهم ولا يباح بشيء من ذلك لأحد سواهم ثم دخل فيه الخرم بإحراق الإسكندر لكتابهم أيام غلبته لدارا بن دارا. وهم مقرون بلا خلاف بينهم أنه ذهب منه مقدار الثلث ذكر ذلك بشير الناسك وغيره من علمائهم](١).

وقد نقل عن عمر بن الخطاب أنه عد الزرادشتية أهل كتاب وعاملهم على هذا الأساس (٢) ذكر سفيان قال : (سمعت عمر قال : كنت جالسا مع جابر بن زيد ، وعمرو بن أوس فحدثهما بحاله سنة سبعين سنة حج مصعب ابن الزبير بأهل البصرة عند درج زمزم قال : كنت كاتبا «لجزء بن معاوية» عم الأحنف ، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل مدته بسنة ، فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن ابن عوف أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخذها من مجوس هجر) (٣) والمعروف أن الجزية لا تؤخذ إلا من كتابي.

وممن قال كذلك أنهم من أهل الكتاب علي بن أبي طالب وحذيفة ـ رضي الله عنهما ـ وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، وأبو ثور ، وجمهور أصحاب أهل الظاهر.

وقد أشار لهذا المعنى أبو الحسن الندوي بقوله : [إن بقايا الأخلاق والفضائل والمثل العليا الباقية في هذا العالم اليوم لا بد من إرجاعها بصورة أو بأخرى إلى ديانة سماوية موحى بها](٤).

__________________

(١) الفصل في الملل والأهواء ١ / ٩٢.

(٢) الديانات والعقائد ١ / ٢٥٢.

(٣) انظر صحيح البخاري ٤ / ٦٢ كتاب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب.

(٤) كتاب النبوة والأنبياء في ضوء القرآن ـ لأبي الحسن الندوي ـ دار القلم دمشق ص ٤٢.

٢٨٤

وقد رجح المسعودي في تاريخه أن يكون زرادشت نبي المجوس وقد نقل عنه أنه بشّر بالنبي محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (لا تمسكوا به إلا أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر) (١).

كما وتبنى هذا الرأي ، د / حامد عبد القادر في كتابه (زرادشت نبي قدامى الإيرانيين) (٢).

وقد ذكر ابن حزم أن كثيرا من المسلمين اعتبروا زرداشت نبيا ثم قال : [ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لمن صحت عنه معجزة ، قال الله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)(٣)](٤).

وحتى لو فرضنا أنها لم تكن ديانة سماوية فلا بد أن تكون قد تأثرت بأكثر من دين. فقد تأثرت بالمجوسية لأنها جاءت لتنقيتها مما دخلها من فساد ، كما تأثرت بعقيدة الطورانيين لأن زرادشت عاش بينهم زمنا بشرهم فيه بدينه ، كما تأثروا باليهودية لأن الزرادشتية عاصرت بعثة نبي الله موسى ـ عليه‌السلام ـ (٥) كما تأثرت بالهندية للحوار واجتماعهما في عبادة الإله «مترا» كما تأثرت بالنصرانية وببعض الفرق الإسلامية وذلك لطول المدة التي استمرتها الزرادشتية.

والمعروف أن ما دخل الزرادشتية من انحراف وفساد مرده لبقايا المجوسية وتأثيرها عليها.

والملاحظ أن ما دعت إليه الزرادشتية قد سبقتها به المصرية القديمة والهندية القديمة من موت وبعث وحساب وميزان وجنة أو نار وغير ذلك (٦).

__________________

(١) انظر الأديان في القرآن ص ٨٠ ـ ٨٢.

(٢) انظر الأديان في القرآن ص ٨٠ ـ ٨٢.

(٣) سورة فاطر آية (٢٤).

(٤) انظر الفصل في الملل والنحل ١ / ٩١.

(٥) انظر كتاب النبوة والأنبياء في ضوء القرآن ص ٤٢.

(٦) كتاب «الله» للعقاد ص ٨٦.

٢٨٥

فالذي يرجح عندي أن الزرادشتية سواء كانت في صورتها القديمة أو بعد تغيرها وانحرافها عن طريقها الأول قد تأثرت بعدة ديانات سماوية.

أما ما ذكره «تسدال» من نقاط مشابهة كما ورد في القرآن وهي عند الزرادشتية كقصة المعراج. فهذه القصة لم تذكر عندهم في كتب يصح الاعتماد عليها. وإن وجد مثل ذلك فعلى اعتبار أن أصل هذه الديانة سماوي أو تأثرت بما هو سماوي ولا مانع أن تتكرر مثل هذه الحادثة في عدة ديانات لوحدة المصدر. وهذا شبيه بما توافق وقوعه في التوراة والإنجيل والقرآن كالجنة والنار والميزان وغير ذلك فلا ضرورة أن يكون بعضهم أخذ من بعض وإنما ذلك بابتداء الوحي لكل نبي على حدة. وأما الاتفاق بين الإسلام والزرادشتية في شأن الجنة والنار ، وملك الموت ، والشيطان ، والصراط. فهذا أمر ذكرته كل الديانات السماوية لوحدة المصدر كما سبق وبينت. إلا أني أود أن أوضح أمرا وهو أني قد وجدت «تسدال» ذكر أن خروج عزازيل (الشيطان) كان من النار ونسب موطن ذلك في الإسلام لبعض الكتب الإسلامية كقصص الأنبياء للثعلبي وبعد رجوعي للكتاب المذكور لم أجد ما ذكره ووجدت ما عنده هو ما عند المسلمين جميعا. وأن خروجه كان مع آدم وحواء ـ عليهما‌السلام ـ من الجنة.

و «تسدال» نسب ذلك لبعض كتب الزرادشتية ولا ندري أهذا ثابت في كتبهم أو خطأ في الترجمة لها.

أما بالنسبة للبسملة والتوافق بين الإسلام والزرادشتية على مثلها. فهو أمر عام عند كل شعوب الأرض أن تبدأ مراسلاتهم باسم السلطة أو الجهة الحاكمة للبلد ولله المثل الأعلى فإذا ابتدأ كتابه بذلك وجاءت رسائل الأنبياء في الزرادشتية مفتتحة ببسملة فهذا لا غرابة فيه ، كما أنه ليس من الضرورة أن يكون هذا دليلا على أخذ الإسلام من الزرادشتية لمثل هذه الشبهة.

أما شهادة الأنبياء لبعضهم بعضا وتبشير السابق باللاحق فهي فكرة عامة في كل الديانات السماوية بأخذ النبي الميثاق على أمته أن يؤمنوا بالأنبياء الذين

٢٨٦

سبقوه ويناصروا النبي الذي سيأتي بعده وقد جاء ذكر ذلك على لسان موسى وعيسى بمحمد عليهم‌السلام وهي آخر وصايا موسى عليه‌السلام كما جاء في سفر التثنية في الإصحاح ٣٣ فقرة ٢ : [قال : جاء الرب من سيناء (أي موسى عليه‌السلام) وأشرق من ساعير (أي عيسى عليه‌السلام) واستعلن من جبل فاران (أي مكة والمقصود بذلك محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ومعه ألوف الأطهار ..](١).

هذه آخر وصية صدرت من موسى ـ عليه‌السلام ـ يخبرهم فيها بالرسولين العظيمين اللذين سيأتيان من بعده وأوصاهم أن يؤمنوا بهما لأنهما يحملان نفس الشريعة التي أتى بها موسى ـ عليه‌السلام ـ.

كما صرح القرآن بمثل هذه الوصية صراحة بقوله تعالى :

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٢).

كما أنه نقل عن زرادشت نفسه أنه بشر بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث قال : «تمسكوا به إلى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر» (٣).

فهذا الأمر إذن سنة في الأنبياء ومن لهم كتب من السماء أن يبشر السابق باللاحق لأن دعواتهم متوافقة وتدعو لأمر واحد وهو إفراد الله بالوحدانية وعدم الإشراك به في عبادته.

بهذا البيان تسقط شبهة «تسدال» وأمثاله ممن يحاولون تشويه الحقائق الناصعة بإلقاء سحب من دخان الشكوك.

__________________

(١) انظر الكتاب المقدس ص ٣٣٤.

(٢) سورة الصف آية (٦).

(٣) الأديان في القرآن ص ٨٢.

٢٨٧

ب ـ المجموعة الثانية من الشبهات :

شبهات لم يرد لها أصل في القرآن الكريم ولا في السنة الصحيحة ووردت في الزرادشتية ونسبها «تسدال» للإسلام من خلال بعض كتب المسلمين التي لا تراعي في قصصها وموضوعاتها الصحة والدقة كالمواهب الدينية ، وروضة الأحباب.

من ذلك : ما أورده «تسدال» من خلق الكائنات من نور سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

و «تسدال» اعتمد في هذه القضية الغيبية على الكتابين الآنف ذكرهما. وهي قضية انتقال هذا النور المحمدي إلى آمنة بنت وهب. ثم ربط بين هذا الأمر وبين ما ورد في كتب الزرادشتية ك «الأوستا» حيث ذكرت أن هذا النور كان من جهة «جمشيد» وهو آدم عليه‌السلام ولما سقط في الزلل انتقل النور منه إلى أفضل أولاده بالتتابع](١) إلى أن حل بآمنة بنت وهب بزواجها من عبد الله ابن عبد المطلب والد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

هذا الحديث الذي استند إليه صاحبا الكتابين السابقين لا يصح ولم أجد أحدا صوبه بل قد حكم الإمام ابن تيمية ـ رحمه‌الله تعالى ـ على هذا الحديث وأمثاله بالكذب حيث قال : [.. وكذلك ما ذكر من أن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها فعرقت ودلفت فخلق من كل قطرة نبيا ، وأن القبضة كانت هي النبي محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنه بقي كوكب دري فهذا كذب باتفاق أهل المعرفة بحديثه.

وقال أيضا : وكذلك ما يشبه هذا مثل أحاديث يذكرها «شيرويه الديلمي» في كتابه (الفردوس) ويذكرها ابن حمويه في حقائقه مثل كتاب (المحبوب) ونحو ذلك ما يذكرون أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان كوكبا ، أو أن العالم

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ١٩٠.

٢٨٨

كله خلق منه ، أو أنه كان موجودا قبل أن يخلق أبوه .. إلخ.

قال : فكل ذلك كذب مفترى باتفاق أهل العلم بسيرته] ا. ه.

وقد ذكر الإمام السيوطي ـ رحمه‌الله ـ في كتابه (شرح المواقف) قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (أول ما خلق الله نوري) فعلق عليه الأستاذ صبحي السامرائي قائلا : هذا الحديث لا يصح ، لعله من كلام أصحاب وحدة الوجود ، أو بعض الجهال والمخرفة وقد ذكر أنه بذل جهده لتخريج الحديث فلم يجده في كتب الموضوعات والعلل وذكر بعدها تعليق الإمام ابن تيمية السابق الذكر (١).

إذن هذا الحديث وأمثاله كلها أحاديث لا يصح الاعتماد عليها ولا جعلها عمدة في قضية غيبية كهذه لضعفها ووضعها ومن هنا تسقط هذه الشبهة التي استند إليها «تسدال» حيث اتخذها كدليل يستند به على أخذ الإسلام من الزرادشتية.

وبعد هذا الرد الإجمالي على شبه المجموعتين اللتين استدل بهما «تسدال» على أخذ الإسلام من الزرادشتية تسقط شبهة المصدرية ويظهر الله الحق ويرد كيد هؤلاء المستشرقين.

٥ ـ المصدر الخامس :

النصرانية :

زعم «تسدال» أن النصرانية كانت أحد المصادر التي أخذ منها محمد وأدخلها في قرآنه مع أن مصادر النصرانية هذه لم تكن موثوقة بل كانت لفرق شاذة لها أساطير غريبة وكان يظن أنها الإنجيل (٢).

__________________

(١) انظر كتاب شرح المواقف للإمام السيوطي ص ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) انظر مصادر الإسلام تسدال ـ الفصل الرابع ص ١٠١ ، وما بعدها ، وتاريخ القرآن نولدكه ج ١ ، ص ٧ وما بعدها.

ـ ومذاهب التفسير الإسلامي ـ جولد تسيهر ص ١٧١ الذي اعتبر الإسلام مزيجا من مذهبي الانتخاب والمزج (من اليهودية والنصرانية وديانة الفرس وما بعدها).

٢٨٩

واستشهد «تسدال» على ذلك ببعض القصص وببعض القضايا الأخرى.

أ ـ من القضايا التي ذكرها «تسدال» :

١ ـ قصة أصحاب الكهف.

٢ ـ قصة مريم عليها‌السلام.

٣ ـ قصة طفولة المسيح عليه‌السلام وما جاء به من معجزات ذكرها القرآن وأنكرها «تسدال» مثل :

أ ـ كلام عيسى في المهد.

ب ـ صنعه من الطين طيرا ثم يكون طيرا بإذن الله.

ج ـ قصة المائدة.

د ـ صلب عيسى عليه‌السلام حيث نفاه القرآن الكريم في حين قد أثبته الكتاب المقدس.

ه ـ نزول عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان.

ب ـ القضايا الأخرى :

١ ـ التبشير بمقدم سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

٢ ـ قصة خلق آدم من تراب الأرض.

٣ ـ الميزان.

٤ ـ الأعراف.

٥ ـ زعمه أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخذ من الإنجيل آية وحديثا سأذكرهما فيما بعد.

قلت : سيكون ردي إن شاء الله تعالى على هذه الشبهات على قسمين :

القسم الأول : ـ ما توافق وروده في القرآن والإنجيل معا.

القسم الثاني : ـ ما تفرد بذكره القرآن الكريم.

٢٩٠

أ ـ القسم الأول : ما توافق وروده في القرآن الكريم والإنجيل معا :

القصص :

١ ـ قصة أصحاب الكهف :

ذكر «تسدال» أن هذه القصة موجودة في كتاب لاتيني اسمه (كتاب الشهداء) وأن أصلها إغريقي وأنها لم ترد في المصادر النصرانية الموثوق (١) بها كما أنكر هذه القصة «ماسينيون» والمؤرخ «ادوارد جيبون» في كتابه (سقوط روما وانحطاطها) واعتبروها من قبيل الخرافة (٢).

قلت : عرف علماؤنا القرآن الكريم بأنه كلام الله المنزل على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بلفظه ومعناه ، المعجز بتلاوته ، والمنقول إلينا بالتواتر (٣).

وهذا التعريف له دلالته في وصف القرآن الكريم. فكل ما ورد فيه من قصص وأخبار وأحكام وعقائد وغيرها قاله الله سبحانه يقينا وأوحى به على قلب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

والقصة القرآنية كما هو معروف تمتاز بالصدق والواقعية والدعوة للتوحيد وللهدايات الربانية.

وقد جاء ذكر كثير من هذا القصص بشكل أو بآخر في الكتب القديمة ولم يستطع علم التاريخ الحديث أن يبطل واحدة من هذه القصص بإقامة أدلة على عكس ما ذكره القرآن الكريم بل قد عجز عن التوصل إلى معرفة خفايا كثير منها.

أما زعم «تسدال» أن القرآن اعتمد في مصدريته على النصرانية للتشابه بين القصة القرآنية وما ورد في بعض الكتب النصرانية فهو باطل لعدة أمور :

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ١٠١ وما بعدها.

(٢) انظر نفس المصدر فصل النصرانية كمصدر وهو الفصل الرابع من الكتاب.

(٣) الوحي والقرآن الكريم ص ٣٣.

٢٩١

١ ـ أن ما ذكره «تسدال» أن هذه القصة موجودة في بعض الكتب التي يدعمها دليل على وجودها ، ووقوعها ، فهذا مردود ذلك لأن القصة كانت معروفة في الوسط اليهودي والذي يدل على ذلك ما ورد في السؤالات التي اقترحتها اليهود على القرشيين أن يسألوها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لاختبار صدقه فأخبروهم أن يسألوه على ثلاثة أشياء عن الروح ، وعن الرجل الطواف في الأرض حتى بلغ قرنيها ، وعن فتية ذهبوا في غابر الزمان. وسيأتي بعد قليل ذكر الرواية وقد ذكرت هذه القصص الثلاث في سورة الكهف ، هذا يدل على أن لهذه القصة أصلا كما أن عدم ذكرها في كتب خاصة يريدها «تسدال» لا ينفيها.

٢ ـ القرآن الكريم كله صدق مطابق للواقع. وهذه القصة مما كان معروفا عند اليهود في عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث أوعزوا لنفر من قريش منهم النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط وغيرهما أن يسألوا محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن ثلاثة أمور لا يعلمها إلا نبي مرسل : (عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ ، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه؟ وعن الروح ما هي؟) فقالوا لهم بعد ذلك : فإذا أخبركم فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل ، فهو رجل متقول.

ثم جاءه الله عزوجل بسورة الكهف ، وخبره عما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف والروح (١).

فلو كانت هذه القصة غير صحيحة لما اقترحتها يهود ولاعترضوا عليها عند ما سمعوها منه. ولأظهروا بطلانها. فعند ما سمعوها ولم يعترضوا عليها دل ذلك على صدقها وبطلان زعم «تسدال» و «ماسينيون» و «جيبون».

أما حجتهم بعدم ذكرها في الكتاب المقدس فليس بدليل لهم لأن هذا الكتاب دخله الزيادة والنقصان ، والتحريف ، والتبديل ، وما فيه من اضطراب يزعزع الثقة فيه كما هو حال رسائل بولس مع الأناجيل الأربعة.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٣٢٢.

٢٩٢

وقد اعترف بعض النصارى بهذا التحريف وألقاه على عاتق اليهود ومن هؤلاء «مرقيون» وهو هرطوقي في نظر الكنيسة ، عاش في القرن الثاني الميلادي مقتنعا بأن اليهود قد حرفوا إنجيل المسيح الأصلى ولذلك كان لا يعترف بأناجيل متى ومرقس ويوحنا ، وبكل ما يعتبره من تحريف اليهود في إنجيل لوقا.

وكان المانويون يقولون حسب شهادة «أوغسطنيوس» : أن العهد الجديد محرف.

وقد قال الفيلسوف «سلسيوس» في القرن الثاني الميلادي : أن بعض المؤمنين مثلهم في ذلك مثل السكارى الذين يصل بهم الأمر إلى ضرب نفوسهم بأيديهم ، قد غيروا نص الإنجيل الأصلي ثلاث مرات أو أربع أو أكثر من ذلك وحرفوه ، ليتمكنوا من التصدي لاعتراضات النقاد كما أن خصوم النصارى من الوثنيين قد اتهموهم بتغيير النص الأصلي للإنجيل وتبديله قبل أن نتهمهم نحن بذلك (١).

فهذا مما يدل على أن ما ورد في الأناجيل ليس بحجة. وعدم وجود شيء فيها لا يدل على عدم وجوده ولا على عدم حصوله في الواقع وتكرر القصة في ديانتين أو أكثر. فذلك لوحدة المصدر ولأن القصص في الديانات السماوية يتكرر ذكره لمصلحة الناس آنذاك وتأييدا لنبي تلك الفترة وإذا كان «تسدال» صادقا فليثبت عكس ما أثبته القرآن الكريم.

ويجب أن يعرف «تسدال» أن الأنبياء معصومون من الكذب وما أخبروا به كله حق وصدق وقد شهد التاريخ وعلم الآثار على صدق ما أخبر به سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

فالمصادر النصرانية قد ذكرت هذه القصة وأنها موجودة في كتب معتمدة لا كما زعم «تسدال» قال الأستاذ «محمد تيسير ظبيان» في كتابه (أهل

__________________

(١) انظر الفكر الإسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن الرابع / العاشر ص ٤١٣ ـ ٤١٤.

٢٩٣

الكهف) : [لدى مراجعة المصادر المسيحية القديمة والحديثة تبين أن أول من كتب قصة أصحاب الكهف بالسريانية هو «جيمس الساروغي» وكان كاهنا لمقاطعة ساروغ في العراق ، وقد ولد سنة ٤٥٢ م ومات سنة ٥١٨ م أي بعد وفاة الأمبراطور «اثيودوسيس الثاني» المعروف بالأصفر.

وقد نقلت القصة عنه إلى اللغة اللاتينية بعناية «غريغوري» حوالي القرن السادس الميلادي كما تشير إلى ذلك موسوعة : (Chamfeus Of.Tours).

ويقول المرحوم رفيق الدجاني عالم الآثار الأردني ، والذي كان له اليد الطولى في حفريات الكهف أنه (أي الساروغي) عاصر الأمبراطور «جستينوس الأول» الذي حكم من سنة (٥١٨ م إلى ٥٢٧ م) وفي زمانه بنيت الصومعة فوق الكهف كما ثبت ذلك بالمكتشفات الأثرية التي عثر عليها كنقوده التي وجدت عند قواعد البنيان.

وقد نقلت هذه القصة من السريانية إلى اليونانية واللاتينية والحبشية والهندية والفارسية ثم إلى العربية وإليها استند المفسرون والمؤرخون المسلمون في سرد تفاصيل هذه القصة.

وجاء في دائرة المعارف للأخلاق والديانات تعقيبا على هذه القصة :

(إن قصة النائمين السبعة من أكبر القصص التي تروى عن القديسين من حيث المتعة العقلية ، والذيوع في الآفاق).

ومما يذكر أن ذكرى هؤلاء الفتية حفظت في اجتماعات العشاء الرباني في الشرق المسيحي.

وأخبرني أحد رجال الكهنوت في عمان أن لديهم صلاة خاصة تحمل اسم «الرقيم» نسبة إلى جبل الرقيم الذي يوجد فيه الكهف) (١).

__________________

(١) انظر كتاب أهل الكهف ص ٢٨ ـ ٢٩.

٢٩٤

ومما يدحض هذه الاتهامات والأباطيل اكتشاف معالم الكهف والعثور على قرائن وأدلة وبينات تاريخية وأثرية حيث تؤيد ما ورد في القرآن الكريم أعظم اكتشاف تاريخي وأثري في القرن العشرين حيث أظهرت المعجزة القرآنية الكبرى بإخبار عن غيب ينكره أمثال «تسدال» وزمرته والأدلة والشواهد على حصول هذه القصة كثيرة وهو أمر يتجاهله الكثير من النصارى اليوم.

وهذه القصة كما ذكرت في الكتب الصحيحة المعتمدة ذكرت كذلك في كتب الأساطير كما أشار لذلك الأستاذ «سيد قطب» والأستاذ «رابح لطفي جمعة» (١).

واختلاف قصة أصحاب الكهف في القرآن عنها في الكتاب المقدس أمر طبيعي لتحريف كتبهم ونقصانها في كثير من الأمور وهذا لم يحصل في القرآن الكريم من فضل الله عزوجل لذا قال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٢) وكتبهم أثبتت حدوثها في القرن الثالث الميلادي كما أشرت وهذا يدل على أنها حدثت واشتهرت في كتبهم التاريخية ومواعظهم الدينية. فمن البديهي عدم وجودها في كتابهم المقدس اليوم.

ومثل هذه القصة تستحق أن تخلد لأنها تعرض نموذجا للإيمان في النفوس المؤمنة واستعلائها على الحياة الدنيا وزينتها ولما فيها من مثال للحياة والموت والبعث حتى لو أنكر هذا «تسدال» و «ماسنيون» والمؤرخ «أدوارد جيبون» وغيرهم.

القصة الثانية التي استدل بها «تسدال» :

٢ ـ قصة مريم عليها‌السلام (٣) :

أنكر «تسدال» قصة مريم عليها‌السلام أن تكون وردت بهذا الشكل

__________________

(١) انظر في ظلال القرآن ٤ / ٢٢٦٠ ـ ٢٢٦١ ، وانظر القرآن والمستشرقون ص ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٢) سورة النمل آية (٧٦).

(٣) مريم بنت عمران بن ماتان بن يعاقيم وموسى وهارون ابنا عمران من قاهت بن لاوى بن يعقوب كما في تاريخ المسعودي ١ / ٦٢ ـ ٤٨.

٢٩٥

في كتب النصرانية المعتمدة واعتبرها خرافية وهمية لا تصح ـ حسب زعمه ـ وحجته في ذلك عدة شبه في ذهنه :

١ ـ أن ولادتها لعيسى (وصف في القرآن على شكل أشبه ما يكون بأسطورة «ميلاد بده» عند الهنود حيث ولد «بده» من عذراء لم يمسها رجال).

٢ ـ ذكر خدمتها للهيكل مع أن هذا لا يجوز في حق النساء ـ على حد زعمه ـ.

٣ ـ ذكر القرآن أنها أخت هارون أخي موسى ـ على حد فهمه ـ واعتبر هذا من الخطأ التاريخي في القرآن الكريم للفارق الكبير بينهما.

قلت : هذه القصة من الشهرة والانتشار والبداهة في الوسط المسيحي بمكان حتى إن فرقة البربرانية منهم ألهوها وابنها عيسى عليهما‌السلام (١) نظرا لولادتها لابنها بطريقة خارقة للعادة. وقد أشار القرآن الكريم لقضية تأليههم لهما عليهما‌السلام.

أما زعم «تسدال» أن القصة غير موجودة في الكتاب المقدس ورده لها بناء على ذلك فهذا يرده ما ورد في إنجيل لوقا ونصه : [وبعد تلك الأيام حبلت اليصابات (٢) امرأته (أي زكريا عليه‌السلام) وأخفت نفسها خمسة أشهر قائلة : هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي فيها نظر إلى لينزع عاري بين الناس ، وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة الجليل اسمها (ناصرة) إلى عذراء محظوية لرجل من بيت داود اسمه يوسف ، واسم العذراء مريم فدخل إليها الملاك ، وقال : سلام لك أيتها المنعم عليها ، الرب معك ، مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية.

__________________

(١) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل ١ / ٤٧.

(٢) اليصابات : هي زوج زكريا عليه‌السلام وهي خالة مريم عليها‌السلام.

٢٩٦

فقال لها الملاك : لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسميه يسوع هذا يكون عظيما وابن العلى يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية](١).

أما إنجيل برنابا فكان أكثر وضوحا من إنجيل لوقا حيث جاء ذكر قصة مريم عليها‌السلام وحملها لابنها عيسى عليه‌السلام قائلا : [لقد بعث الله في هذه الأيام الأخيرة بالملاك جبريل إلى عذراء تدعى مريم من نسل داود من سبط يهوذا بينما كانت هذه العذراء العائشة بكل طهر بدون أدنى ذنب المنزهة عن اللوم المثابرة على الصلاة والصوم يوما ما وحدها وإذا بالملاك جبريل قد دخل مخدعها وسلم عليها قائلا : ليكن الله معك يا مريم ، فارتاعت العذراء من ظهور الملاك. ولكن الملاك سكن روعها قائلا : لا تخافي يا مريم لأنك قد نلت نعمة من لدن الله الذي اختارك لتكوني أم نبي يبعثه إلى شعب إسرائيل ليسلكوا في شرائعه بإخلاص ، فأجابت العذراء وكيف ألد بنين وأنا لا أعرف رجلا؟ فأجاب الملاك : يا مريم إن الله الذي صنع الإنسان من غير إنسان ، لقادر أن يخلق منه إنسانا من غير أب ، لأنه لا محال عنده. فأجابت مريم : إني لعالمة أن الله قدير فلتكن مشيئته. فقال الملاك : كوني حاملا بالنبي الذي ستدعينه يسوع عيسى فامنعيه الخمر والمسكر وكل لحم نجس لأن الطفل قدوس الله «مبارك» فانحنت مريم بضعة قائلة : ها أنا ذا أمة الله فليكن بحسب كلمتك فانصرف الملاك .. إلخ](٢).

هذان نصان من إنجيلين أحدهما يعترف به «تسدال» وهو إنجيل «لوقا» وآخر لا يعترف به وهو إنجيل «برنابا» ولكن النصين يؤيدان ما جاء في القرآن الكريم مما أنكره «تسدال» واستغربه ، وعده من قبيل الأسطورة والخرافة وذلك لعدم تصوره لقدرة الله سبحانه وتعالى. والنصارى عقيدتهم قائمة على هذه

__________________

(١) انظر انجيل لوقا الإصحاح ١ ، فقرة ٢٦ ـ ٣٨.

(٢) إنجيل برنابا ـ الفصل الأول ـ بشرى جبريل للعذراء مريم بولادة المسيح فقرة ١ ـ ١٦ ص ٣٩.

٢٩٧

المعجزة حيث يعتقدون أن أقنوم الابن التحم بعيسى في بطن أمه. وتفصيل هذا الاعتقاد أن النصارى يعتقدون أن الله تبارك وتعالى عاقب آدم وذريته بجهنم من أجل خطيئة آدم في الأكل من الشجرة ، ثم إنه حن عليهم بخروجهم من النار بأن بعث ولده فالتحم في بطن مريم بجسد عيسى (فصار إنسانا وإلها : إنسانا من جوهر أمه وإلها من جوهر أبيه ثم ما أمكنه من خروج آدم وذريته من النار إلا بموته. وبه يفدي جميع الخلق من الشيطان) (١).

هذه عقيدة النصارى مع فسادها الشديد تثبت ما في القرآن الكريم من خلق عيسى عليه‌السلام من غير أب.

فالله القادر سبحانه وتعالى خلق عيسى عليه‌السلام من أم بلا أب ، في حين خلق آدم عليه‌السلام بلا أب ولا أم بكلمة الله النافذة (كن) مع أن التوراة ذكرت كذلك خلق آدم عليه‌السلام من التراب. وينبغي أن يؤمن بهذا كل النصارى ومن بينهم «تسدال» وخلق آدم أصعب في المقياس البشري من خلق عيسى عليه‌السلام. ولكن شتان بين قدرة الخالق والمخلوق فالقصة إذن حقيقة وواقعية لا كما زعم «تسدال» أنها خرافية وهي في الإنجيل المعتمد عندهم لا كما زعم أنها فقط ذكرت في كتاب (التاريخ القبطي للعذراء).

إلا أن الفرق بين الروايتين في الأسلوب المعجز واضح وسأذكر القصة كما وردت في القرآن الكريم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا. قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا. فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا. فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ

__________________

(١) تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب ـ للميورقي ص ١٤٩.

٢٩٨

جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ. قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(١).

إذن فقصة ميلاد عيسى ـ عليه‌السلام ـ المذكورة في القرآن الكريم موجودة في الإنجيل بأصولها وأحداثها البارزة فكيف يتسنى ل «تسدال» أن يتوهم أن القصة خرافية ، وأنها مأخوذة من قصة خرافية عند الهنود وهي قصة (ميلاد بده) وكيف يسمح لنفسه أن يطمس نور هذه الحقائق الواضحة الجلية ويحرفها قصدا.

أما رده القصة وحكمه عليها بالبطلان لذكر خدمتها للهيكل :

فأنا أقول أن أصل الخدمة في أماكن العبادة في الديانات الثلاث هي للرجال ، ولكن هذا لا يمنع إذا قامت بعض النساء بمثل هذا العمل فقد حصل في الإسلام أن امرأة كانت تعتني بمسجد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تقمه وتقوم بخدمته فلما ماتت دعا لها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالرحمة (٢).

كما أن الإنجيل ذكر خدمة «حنة أم مريم» للهيكل ، والنص كما في الإنجيل

__________________

(١) سورة مريم (١٦ ـ ٣٦.

(٢) مسند الإمام أحمد ٢ / ٣٥٣ ، ٣٨٨ ، وغيره من كتب السنن.

٢٩٩

لوقا [وكانت نبية حنة بنت فنوئيل من سبط أشير وهي متقدمة في أيام كثيرة قد عاشت مع زوج سبع سنين بعد بكوريتها وهي أرملة ، وثمانين سنة لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلا ونهارا](١).

فالله سبحانه علم إخلاص حنة امراة عمران القوامة الصوامة في ندائها لربها بأن يتقبل نذرها الذي نذرته لربها طالبة بأن يرزقها ولدا ذكرا ليقوم على خدمة الهيكل بيت الله المقدس فلما قدر الله سبحانه الوليدة أنثى تحسرت «حنة» على ذلك ولكن الله سبحانه بسابق علمه وتقديره يعلم أن هذه الأنثى سيكون لها شأن عظيم أعظم من شأن الذكور.

ستأتي بآية دالة على عظمة الله سبحانه وقدرته في الخلق بإنجاب نبي رسول من أولي العزم دون أن يمسها أحد من البشر.

وكأن الله سبحانه قال لها : (أنت يا «حنة» تريدين ذكرا بمفهومك وفاء لنذرك ، خادما لبيته المقدس وأنا وهبت لك أنثى سأعطي البشرية بها خادما للعقيدة الإلهية بدلا من خدمته لبيته ، وبها تتحقق آية على طلاقة قدرة الله الإلهية) (٢).

فبهذا توضح شبهته هذه ويثبت ما جاء به القرآن فهو الحق المبين.

أما الأمر الثالث الذي دعا «تسدال» يحكم على القصة بالخرافة ويعتبرها خطأ قرآنيا تاريخيا ، وذلك لأن القرآن سماها بأخت هارون ظنا منه أنه هارون أخو موسى بن عمران والفترة الزمنية الطويلة بينهما لا تسمح بذلك لأنها تقدر بخمسة عشر قرنا.

قلت : وجه العلماء المسلمون هذا الأمر على عدة وجوه :

١ ـ أن هارون المذكور رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من

__________________

(١) انظر الكتاب المقدس ، إنجيل لوقا ـ الإصحاح ٢ ، فقرة ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) انظر كتاب مريم والمسيح ص ١٤.

٣٠٠