آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

د. عمر بن إبراهيم رضوان

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

المؤلف:

د. عمر بن إبراهيم رضوان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

الشخص أحيانا في صورة إنسان أو حيوان أو نبات) (١).

كما أن المشابهة بين لفظة أو لفظتين مع اختلاف دلالتها ليست دليلا على الاقتباس والأخذ كما هو في أبيات امرئ القيس المزعوم نسبتها له.

والملاحظ أن هذه الأبيات لم تثبت تاريخيا لامرئ القيس إلا عند المستشرقين أنفسهم.

والأبيات المزعومة تتحدث عن وصف الحبيبة الموعودة باللقاء وفيها يتغزل الشاعر بمحبوبته فقصده من (الساعة) ساعة موعد اللقاء ، ويقصد (بانشقاق القمر) ظهور وجه محبوبته من وسط سواد شعرها أو ظلام الليل. ويقصد ب (فتعاطى فعقر) أن سهام العيون ولحاظ النظر أصابته فجرحته وجعلته (كهشيم المحتظر) بينما نجد أن القرآن الكريم استعمل هذه الكلمات في الحديث عن الكون ومصيره ، وعن معجزة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الباهرة في انشقاق القمر عند ما طلبت قريش منه ذلك (٢).

أما عبارة (فتعاطى فعقر) القرآنية فقد وردت في سياق الحديث عن الفاسق الشقي من قوم صالح الذي انطلق لعقر ناقة نبي الله صالح ـ عليه‌السلام ـ والتي سبق أن طلبوها منه ليدلل على صدق دعوته ونبوته.

والآيات كما وردت في سورة القمر قال تعالى : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ)(٣).

فلو سلمنا صحة نسبة هذه الأبيات لامرئ القيس فوجود هذه الألفاظ المستعملة في غير ما استعملت له في القرآن الكريم لا يقتضي الأخذ والاقتباس.

__________________

(١) انظر مدخل إلى القرآن ص ١٤٣ ـ ١٤٤ (بتصرف).

(٢) انظر حادثة انشقاق القمر في مسند الإمام أحمد ١ / ٣٧٧ وغيره من كتب السنة.

(٣) سورة القمر : (٢٧ ـ ٣١).

٢٦١

فالقرآن الكريم قد نزل بلغات العرب وأساليبهم والقرآن عربي وأسلوبه عربي وقد استعملت هذه الألفاظ قبل نزول القرآن وبعده ولم يدّع أحد من معاصريه أن القرآن مقتبس من شعر الشعراء أو خطب الخطباء أو كلام الكهان مع معرفتهم بكل ذلك. ولو ثبت شيء من ذلك لرفعت قريش عقيرتها بإبطال دعوى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بل شهدت بعكس هذا.

قال ضماد بن ثعلبة الأزدي لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (لقد سمعت قول الكهنة ، وقول السحرة ، وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ، ولقد بلغن ناعوس البحر) (١).

وقول عتبة بن ربيعة في القرآن لقريش بعد مناظرته رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ [.. فلما جلسوا إليه قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا الكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ..](٢).

قال دراز : إن أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال العرب أنه شعر ، لأنها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئا منها إلا في الشعر. ومع هذا :

فالقرآن الكريم ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر لأنك ستجد فيه شيئا آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر.

ذلك لأنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتا بيتا ، وشطرا شطرا ، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها وتذهب مذهبا متقاربا. فلا يلبث سمعك أن يمجها ، وطبعك أن يملها ، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد. بينما أنت من القرآن أبدا في لحن متنوع متجدد ،

__________________

(١) انظر صحيح مسلم. كتاب الجمعة ٢ / ٥٩٣ حديث ٤٦.

(٢)؟؟

٢٦٢

تنتقل فيه بين أسباب وأوتار وفواصل على أوضاع مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء. فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم ، بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.

هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن الكريم لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن الكريم ، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟ (١).

هذا هو اعتراف أهل الفصاحة والبلاغة والشعر أن القرآن ليس بشعر ولا يشبهه فهل بلغ بالمستشرقين أن أصبحوا أكثر من أهل العربية فصاحة وبلاغة وقدرة على وقوفهم على ما هو شعر مما هو قرآن؟ أم هو الجهل الفاضح والحقد الدفين؟ يستدرجون به عقول بعض السذج ليكبروهم ويعظموهم ويظنون أنهم أتوا بما لم تأت به الأوائل.

٢ ـ المصدر الثاني :

الحنفاء :

ذهب بعض المستشرقين ومنهم «تسدال» و «مستر كانون سل» (٢) وغيرهما إلى أن الحنيفية ورجالها قبل البعثة المحمدية هم أحد مصادر القرآن الكريم بدليل وجود توافق وتشابه بين أحكام القرآن وهداياته وبين ما كان يدعو إليه الحنفاء مثل :

١ ـ الدعوة لإفراد الله بوحدانيته سبحانه وتعالى.

٢ ـ رفض عبادة الأصنام.

٣ ـ الوعد بالجنان.

٤ ـ الوعيد بالعقاب في جهنم.

__________________

(١) انظر النبأ العظيم ، دراز ، ص ١٠٢ ، ١٠٣ (بتصرف).

(٢) انظر مصادر الإسلام ص ١٩٨ وما بعدها ، وكتاب حياة محمد ص ٥٦ ـ ٥٧.

٢٦٣

٥ ـ اختصاص المولى تعالى بأسماء منها : الرحمن ، الرب ، الغفور ٦ ـ منع وأد البنات.

٧ ـ الإقرار بالبعث والنشور والحشر والحساب .. إلخ.

وقد زعم «شبرنجر» أن أفكار محمد لا تخرج عن الأفكار التي كان يدعو إليها زيد بن عمرو بن نفيل (١) أحد هؤلاء الحنفاء.

قلت : من أجل هذا ركز المستشرقون في أبحاثهم على أصل كلمة «حنف» وما يشتق منها كحنيف ، وحنفاء. وهل هي عربية الأصل أم عبرية؟ أم كنعانية آرامية؟ وعلى معانيها : هل هي بمعنى كافر؟ أو مشرك؟ أو تدل على الراهب النصراني إلى غير ذلك من المعاني التي ذكروها لهذه الكلمة. وزيادة في اهتمامهم بهذه الكلمة كتبوا فيها أبحاثا وكتابات مختلفة (٢).

وهذه الكلمة من (الحاء والنون والفاء) عربية الأصل وهي بمعنى الميل يقال للذي يمشي على ظهور قدميه أحنف ، والأصح أن الحنف اعوجاج في الرجل إلى الداخل والحنيف : المائل إلى الدين المستقيم قال الله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً)(٣) والأصل هو هذا ، ثم اتسع في تفسيره فقيل : الحنيف الناسك ، ويقال : هو المختون ، ويقال : هو المستقيم الطريقة ، ويقال : هو يتحنف أي يتحرى أقوم الطرق (٤) فالحنيف إذن الصحيح الميل إلى الإسلام والثابت عليه والدين الحنيف الإسلام ، والحنيفية ملة الإسلام وفي الحديث «أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة» (٥).

فالحنفاء : مجموعة من الناس متفرقين مالوا عن الوثنية وعن عبادة الأصنام إلى التوحيد ، إذن فلم يكن هؤلاء على رأى واحد ولا طائفة واحدة تسير على

__________________

(١) انظر تاريخ القرآن ١ / ١٨.

(٢) انظر دائرة المعارف الإسلامية ٨ / ١٢٤ ـ ١٣٠.

(٣) سورة آل عمران آية (٦٧).

(٤) معجم مقاييس اللغة ٢ / ١١٠ ـ ١١١.

(٥) انظر صحيح البخاري ١ / ١٥ كتاب الإيمان ـ باب ٢٩ الدين يسر.

٢٦٤

شريعة واحدة ثابتة ، وإنما هم نفر من قبائل شتى ظهروا في مناطق مختلفة اتفقت فكرتهم في رفض عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الإصلاح.

وكان ظهورهم في أماكن مختلفة ومتباعدة في زمن واحد فظهروا في اليمن متأثرين بمبادئ التوحيد التي حملتها إليهم اليهودية والنصرانية. وظهروا في مصر على يد «أخناتون» الذي كان داعية التوحيد عندهم. وظهروا في بلاد فارس على يد «زرادشت» بعد مولد إبراهيم عليه‌السلام بنفس الدعوة. وظهروا في الجزيرة العربية امتدادا لدعوة أبينا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما‌السلام ، فبقوا محافظين على شيء من تراث إبراهيم عليه‌السلام من دعوة للوحدانية ، ونبذ لعبادة الأصنام ، والإقرار بالبعث والنشور ، والحشر وتبشير المؤمنين بالجنة ، وتخويف الكافرين من النار ، والابتعاد عن الخمر ، ووأد البنات ، وسيّئ الأخلاق.

وخير من وضح عقيدتهم «القس بن ساعدة» حيث وقف يوما في عكاظ خطيبا فقال : [... كلا بل هو إله واحد ، ليس بمولود ولا والد ، أعاد وأبدى ، وأمات واحيا ، وخلق الذكر والأنثى ، رب الآخرة والأولى. أما بعد : فيا معشر إياد ، أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ وأين العليل والعواد؟ كل له معاد يقسم قس بن ساعدة برب العباد ، وساطح المهاد ، لتحشرن على الانفراد ، في يوم التناد ، إذ نفخ في الصور ، ونقر في الناقور ، وأشرقت الأرض ، ووعظ الواعظ ، فانتبذ القانط والصبر اللاحظ ، فويل لمن صدف عن الحق الأشهر ، والنور الأزهر ، والعرض الأكبر ، في يوم الفصل ، وميزان العدل ، إذا حكم القدير ، وشهد النذير ، وبعد النصير ، وظهر التقصير ، ففريق في الجنة وفريق في السعير ..](١).

وكانوا يستدلون على هذه الوحدانية بالعلاقات الكونية وإطالة التأمل والتفكر موضحين أنفتهم عن ديانة قومهم.

__________________

(١) البداية والنهاية ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٣.

٢٦٥

حيث قال قس بن ساعدة في سوق عكاظ يوما كذلك مبينا هذا الأمر :

[يا معشر الناس اجتمعوا فكل من فات فات ، وكل شيء آت آت ، ليل داج ، وسماء ذات أبراج ، وبحر عجاج ، نجوم تزهر ، وجبال مرسية ، وأنهار مجرية ، إن في السماء لخبرا ، وإن في الأرض لعبرا ، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون ، أرضوا بالإقامة فأقاموا ، أم تركوا فناموا ، أقسم قس بالله قسما لا ريب فيه ، أن لله دينا هو أرضى من دينكم هذا ..](١).

والذي يؤكد أنهم كانوا على دين إبراهيم ومحافظين على بقايا شرعه ما حصل من زيد بن عمرو بن نفيل كما حدثت بذلك أسماء بنت أبي بكر قالت :

«لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم على دين إبراهيم غيري» (٢).

أما عباداتهم فقد ذكر أنه كان لهم صلاة فيها سجود. وذكر أنهم كانوا يعظمون الكعبة حيث قال زيد : اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته ، وكان يصلي إلى الكعبة وكان زيد «يحيي الموؤدة ولا يأكل الميتة» (٣).

وهؤلاء الحنفاء كانوا حريصين أن يصلوا لدين إبراهيم عليه‌السلام ، وكانوا على يقين أن الله سيبعث من يجدد أمر دين إبراهيم عليه‌السلام (٤) فاختاروا في ذلك كثيرا وأجهدوا أنفسهم في الوصول لذلك ، فساحوا في البلاد يلتمسون ما عند أهل الكتاب والملل لعلهم يجدون بغيتهم ، لذا فتنصر بعضهم كورقة بن نوفل ، وعثمان بن حويرث ، وعبيد الله بن جحش ، وتهود آخرون.

فبانتقالهم للنصرانية واليهودية يكونوا قد تركوا الحنيفية. أما من هداه الله

__________________

(١) نفس المرجع ٢ / ٢٣٠.

(٢) نفس المرجع ٢ / ٢٣٧.

(٣) نفس المرجع السابق ٢ / ٢٣٨.

(٤) الوحي المحمدي ٢ / ٩٦ ـ ٩٨.

٢٦٦

منهم للإسلام فأسلم فيكون قد أصاب الحنيفية الحقة كزيد بن عمرو بن نفيل وأبي قيس بن الأسلت وعبيد الله بن جحش الذي أسلم بعد تنصره ومات على الحنيفية الأولى ، ومنهم كذلك قس بن ساعدة الذي ذكر أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سمعه في سوق عكاظ يخطب وقد مات قبل بعثة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (١).

وهؤلاء جميعا كانوا يبحثون عن دين كالإسلام ويبشرون بنبيه ويتمنون لو يدركوه فينصروه ويسلموا معه كما وضح ذلك (قس بن ساعدة) وورقة بن نوفل.

أما ما استوهمه المستشرقون أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم تتعد أفكاره أفكار هؤلاء الحنفاء ، ودعوته لم تتعد ما دعوا إليه ، فهذا ناتج عن جهلهم بحقيقة الإسلام وتاريخ نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. فالمعروف من سيرة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه لم يجلس لأحد من هؤلاء الحنفاء جلسة تعلم وإنما كان لقاؤه لهم لقاء عابرا وكانوا هم بحاجة لمن يبصرهم ويرشدهم للدين الذي يرضاه الله عزوجل. وأنا لا أنكر أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لاقى بعضهم على جمل له أورق وذلك قبل البعثة وهو يخطب ويخبر بقرب بعثة نبي أظل زمانه وقد تمنى لو يدركه فيسلم معه وينصره وقد بشر من ينصره بالجنة وخوف من يخالفه بالنار. كما لاقاه ورقة بن نوفل مرتين لمدة قصيرة : فالأولى منهما كانت بطلب من السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ وبحضورها معه لتستوضح له من ورقة عن حقيقة ما رآه من أمر الوحي. والمرة الثانية لقيه ورقة في الطريق وقبل رأس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأخبره أنه نبي هذه الأمة وتمنى لو يدركه وينصره يوم يخرجه قومه.

وهؤلاء الحنفاء كانوا في حيرة من أمرهم يبحثون عمن يوصلهم لدينه الذي يرضاه لهم أي دين إبراهيم عليه‌السلام.

__________________

(١) ضعف المحدثون هذه الرواية ، وحكم عليها ابن الجوزي بالوضع والاختلاق ذكر ذلك الأستاذ أبو شهبة ، انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة ص ٩٦.

٢٦٧

والناظر بأدنى تأمل في القرآن الكريم وما أتى به هؤلاء الحنفاء يرى البون الشاسع بينهما يرى بساطة ما دعوا إليه ويرى مقابله قرآنا معجزا في لغته وأسلوبه قد عجز العرب جميعا عن مضاهاته مع فصاحتهم وطلاقة ألسنتهم.

ويرى قرآنا معجزا في تشريعاته صغرت أمامه كل التشريعات البشرية ، ويرى قرآنا معجزا في وضوح عقيدته وتكاملها وصدق نبوءته فيما أخبر عنه من غيبيات ، وحقائق علمية ثابتة تحققت في حياته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبعد مماته ، كما أنه من المعروف أن هذا القرآن بقي يتنزل بعد موت هؤلاء الحنفاء حسب ما تقتضيه الحاجة والمصلحة فمن أين يا ترى هذه الاستمرارية له؟.

ثم إن هؤلاء الحنفاء كانوا هم أنفسهم يخبرون الناس بقرب بعثة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكانوا يطلبون من الناس أن يتبعوه ولا يخالفوه ويتمنوا لو يدركوه فيسلموا معه وينصروه ، فلو كانوا هم الأصل لدعوته ولتعليمه لقاموا بالدعوة لذلك بأنفسهم وتصدروا أمر الرسالة ، ونسبوا لأنفسهم هذا الشرف العظيم بل قد تشرفت نفوس بعضهم واشرأبت أعناقهم لهذا الفضل «كأمية بن أبي الصلت» الذي لبس المسوح وترهب طمعا به ولكن الله سبحانه يؤتي فضله من يشاء من خلقه والله ذو الفضل العظيم.

وهذا يدل على فقدهم لهذا الشيء ، وفاقد الشيء لا يعطيه.

أما كون الإسلام التقى مع دعوة الحنفاء في بعض ما صرحوا به واعتقدوه فلا غرابة في ذلك لأن ما عندهم بقايا لدين إبراهيم عليه‌السلام والإسلام كلاهما من مصدر واحد وهو الوحي الإلهي. فمن هذا القبيل جاء الاتفاق بينهما بالدعوة إلى وحدانية الله سبحانه وتعالى ، ومحاربة الشرك بأنواعه ، وخلع عبادة الأصنام ، والأوثان بأشكالها والدعوة للأخلاق الفاضلة ، ومحاربة الفساد والرذيلة.

لكن كل ذلك كان في الإسلام أتم وأكمل وأشمل.

والإسلام ما جاء ليهدم كل ما وجده في طريقه ، لا بل ما كان منه موافقا للإسلام أبقاه ودعمه وأحياه ووضح هذا المعنى قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (بعثت لأتمم

٢٦٨

مكارم الأخلاق) (١) وهذا المبدأ الذي جعل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يحضر حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان قبل بعثته لأنه يتمشى مع فطرته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويلائم ما نشأه الله عليه سبحانه. ومنه كان عليه الصلاة والسلام يثني على صاحب الخلق النبيل حتى لو كان مشركا كثنائه على حاتم الطائي لكرمه. وما كان منه مخالفا له فحاربه لمحاربته للشر وللخلق الهابط كمحاربته التعري حول البيت أثناء الطواف لعدم ملاءمته حرمة المكان ولمخالفته للفطرة السوية ولأنه تأباه النفس الأبية الزكية (٢) هذه هي نقطة اللقاء بين الإسلام والحنيفية لا كما يفهم المستشرقون.

ومن هنا يتبين الفرق بين نبوة كاملة تامة ، وشرع متكامل ، وقرآن معجز عظيم وبين بقايا دين طمس نوره بين حطام الجاهلية وأو حال الشرك والوثنية ، فالقرآن بما حواه من لغة رفيعة المستوى ، وأسلوب محكم بديع وبما فيه من فصاحة وبلاغة خارقة ، وحكم بالغة ، وأمثال محكمة ، وذكر لأحوال الماضين من أنبياء وأمم وأنباء المستقبل ، وعلاقة الإنسان بخالقه وعلاقته بغيره ، والتشريع العظيم الشأن الذي صار موضوع بحث الأئمة المجتهدين ، والعلماء الأعلام لا يكون مصدره اجتماع «زيد بن عمرو» برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مصادفة في حراء أو في الطريق (٣) ولكنها الرسالة التي بعث بها أكرم رسول وهو محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من عند الله عزوجل. فوافق نوره بقايا النور الإلهي الضارب في أعماق التاريخ لإبراهيم عليه‌السلام والذي حمل مشعله ركب الأنبياء الكرام من ذريته ، وتعهده الصالحون من أقوامهم ، أمثال هؤلاء الحنفاء الذين كانوا يتمنون أن يدركوه وينالوا من شرف الإسلام العظيم كما نال ذلك منهم أبو قيس بن الأسلت في المدينة المنورة وغيره.

__________________

(١) الموطأ للإمام مالك بن أنس ٢ / ٩٠٤ كتاب حسن الخلق باب ١ حديث رقم ٨ وهو بلفظ (حسن) بدلا من (مكارم).

(٢) انظر سيرة بن هشام ١ / ١٤٢ ، وانظر رد مفتريات على الإسلام ، د / عبد الجليل شلبي ص ٨٠.

(٣) حياة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) محمد رشيد رضا ص ٥٦ ـ ٥٧.

٢٦٩

وبهذا يسقط المصدر الثاني المزعوم للإسلام من قبل هؤلاء المستشرقين.

والحمد لله رب العالمين ..

٣ ـ المصدر الثالث :

اعتبر المستشرقون الصابئة مصدرا من مصادر القرآن الكريم وذلك للتشابه بينها وبين ما جاء في القرآن من عقائد وعبادات ونسك حيث قالوا : إن التأثير من الصابئة انتقل لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عبر الوسط الوثني الذي عاش فيه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأخذ منه كثيرا من طقوسه الدينية ممثلا في (١) :

١ ـ التشابه بين الصابئة والإسلام في الصلاة.

٢ ـ التشابه في الصوم وارتقاب انتهائه وارتقاب الأعياد ببعض الكواكب.

٣ ـ التشابه في الحج والتلبية وتقديم القرابين.

وقد زعموا أن اسم الصابئة مشتق من الأصل العبري «ص بء» أي غطس ثم أسقطت العين وهو يدل على المعمدانيين الذين يمارسون شعيرة التعميد أو الغطاس (٢).

قلت : كلمة الصابئة أصلها عربي لا كما زعم المستشرقون فهي من مادة صبأ يصبأ صبأ وصبوءا وصبؤ يصبؤ صبأ وصبوءا كلاهما : خرج من دين إلى دين آخر كما تصبأ النجوم أي تخرج من مطالعها.

والعرب كانت تسمي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الصابئ ، لأنه خرج من دين قريش إلى الإسلام ، ويسمون من يدخل في دين الإسلام مصبوا من هذا القبيل لأنهم كانوا لا يهمزون (٣).

أما الصابئة : لما مالوا عن سنن الحق وزاغوا عن نهج الأنبياء سموا بهذا

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ١١ ـ ١٢ ، وانظر المدخل إلى القرآن الكريم ص ١٣٢ ـ ١٣٣.

(٢) انظر دائرة المعارف الإسلامية ج ١٤ / ص ٨٩.

(٣) لسان العرب ٢ / ٣٩٩.

٢٧٠

الاسم (١) وبعضهم رجح أن أصلها من «سبح» لأن ديانة الصابئة تشترط القرب من الماء وتجعله المطهر الأول ، فلا زواج عندهم ولا صلاة ولا صيام ولا حياة إلا به.

أما المستشرقون فيرجحون أنها من العبرية «ص بء» بمعنى غطس. والصابئة من أكثر الفرق صعوبة في الحكم عليها حيث إنها تلتقي مع كثير من الديانات السماوية وغير السماوية سواء في العقائد أو في العبادات أو غير ذلك ومن أجل هذا اختلفت أحكام الناس عليهم من القديم وعلى ما كان وجودهم.

١ ـ فمن قائل : أنهم قوم لا دين لهم بين اليهود والمجوس كانوا في العراق وهو مروي عن مجاهد وأبي نجيح والحسن وغيرهم.

٢ ـ ومن قائل : هم أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة العرب يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا هذه الكلمة وهو مروي عن ابن زيد.

٣ ـ ومن قائل : هم عبدة الملائكة يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس ويقرءون الزبور وهو عن زياد بن أبيه وبعضهم قال : بل قبلتهم من مهب الشمال وبعضهم قال : بل إلى مهب الجنوب (٢).

٤ ـ ومن قائل : هم فرقة من أهم الكتاب يقرءون الزبور وهو مروي عن أبي العالية(٣).

٥ ـ ومن قائل : أنهم قوم يزعمون أنهم على دين نوح عليه‌السلام ، بكذبهم.

٦ ـ ومن قائل : الصابئون قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم.

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ٢ / ٧٦.

(٢) انظر لسان العرب ٢ / ٣٩٩.

(٣) انظر تفسير الطبري ٢ / ١٤٧ (الأقوال الأربعة الأولى من تفسير الإمام الطبري).

٢٧١

نحو الجنوب (١).

٧ ـ ومن قائل : هم قوم على دين صابئ بن شيث بن آدم (٢) وبعضهم زاد أنهم كانوا يؤمنون بنبوة هرمس أي إدريس عليه‌السلام (٣).

وذكري لهذه الأقوال يوضح مدى اختلاف الناس في هذه الفرقة وحيرتهم فيها.

فمن قال : إنهم وثنيون فذلك لعبادتهم الأصنام والكواكب والملائكة وتقديمهم القرابين لها.

ومن قال : هم من اليهود فذلك لموافقتهم اليهود في طريقة الذبح وحرق القرابين.

ومن قال : هم فرقة من النصارى فلالتقائهم معهم في التعميد في الماء ولتعظيمهم يوم الأحد. ولاتفاقهم معهم في بعض الأعياد.

ومن اتهم المسلمين بأخذهم منهم كالمستشرقين وذلك لما يجمع بينهما من صلاة وتوجه للقبلة ، وصيام وارتقاب انتهائه بأحد الكواكب ، وحج وتلبية على حد زعمهم ، واختلافهم بالحكم عليهم كذلك لكونهم فرق متعددة أشهرها :

١ ـ المندائيون وهم أصحاب الروحانيات وهي فرقة يهودية نصرانية تمارس شعيرة التعميد ، وتعظم يوم الأحد (٤).

٢ ـ الحورانيون : الكلدانيون وهي فرقة وثنية تؤمن بالكواكب السبعة وتقدم لها القرابين وهم الذين أرسل فيهم إبراهيم عليه‌السلام في العراق وحاججهم في عبادتهم للنجوم وقصته معهم في القرآن الكريم مشهورة.

__________________

(١) لسان العرب ٢ / ٣٩٩.

(٢) المصباح المنير ١ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(٣) الصابئون ص ١٤٤.

(٤) منهج إبراهيم عليه‌السلام في الدعوة إلى الله في ضوء القرآن / لمحمد الدريعي لسنة ١٤٠٢ / ١٤٠٣ ه‍ (رسالة جامعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية).

٢٧٢

وأنا أرجح أن هذه الفرقة هي التي كانت في بابل في العراق وأرسل لهم سيدنا إبراهيم عليه‌السلام وحاججهم بعبادتهم للنجوم واعتقاداتهم بها أنها تضر وتنفع ، وفي تقديمهم القرابين لها.

ومن هذا الباب يكون لهذه الفرقة كتاب أو شبهة كتاب على الأقل لوجود فيهم بعض الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام والحج .. إلخ مما هو موجود في الإسلام مع الاختلاف في كيفية هذه العبادات وأوقاتها والناحية التي يتوجهون بها للصلاة.

ولا شك أنها كبقية الأديان دخلها التحريف والتبديل.

لذا سأركز في ردودي على المستشرقين من خلال عبادات هذه الفرقة لما فيها من تشابه ظاهري مع العبادات في الإسلام.

أقول وبالله التوفيق :

الشبهة الأولى : التشابه بين الصابئة والإسلام في الصلاة :

قلت : بعد رجوعي لما كتب عن الصابئة وجدت أن الباحثين اختلفوا في عدد صلواتهم فقد ذكر «تسدال» أنها سبع (١) وذكر الأستاذان : «عبد الفتاح الزهيري وفريد المنصور» أنها كانت خمسا وبعد توصية النبي يحيى ـ عليه‌السلام ـ صارت ثلاثا (٢).

أما كيفية صلاتهم فهي تختلف عن صلاتنا ـ المسلمين ـ فصلاتهم الأولى : قبل طلوع الشمس بنصف ساعة أو أقل ؛ لتنقضي مع طلوع الشمس وهي ثمان ركعات وثلاث سجدات في كل ركعة.

والصلاة الثانية : انقضاؤها مع زوال الشمس ، وهي خمس ركعات وثلاث سجدات في كل ركعة.

__________________

(١) مصادر الإسلام ص ١٢.

(٢) الموجز في تاريخ الصابئة ص ١٠٢.

٢٧٣

والصلاة الثالثة : مثل الثانية ، وانقضاؤها يكون عند غروب الشمس وصلواتهم النافلة التي هي بمنزلة الوتر في لزومه للمسلمين ثلاث صلوات كل يوم.

الأولى : في الساعة الثانية من النهار ، والثانية : في الساعة التاسعة من النهار ، والثالثة : في الساعة الثالثة من الليل.

ولا صلاة عندهم إلا على طهور (١).

وصلاتهم فيها وقوف وركوع وجلوس على الأرض من غير سجود بمجموعة من الأدعية والأذكار وباللغة المندائية ، وبالتوجه فيها لحران بالعراق على أصح الأقوال (٢).

والصلاة بحد ذاتها أمر فطري ومطلب شرعي في كل الديانات السماوية وكون وجود صلاة عند الطرفين أمر طبيعي لا غرابة فيه على اعتبار أنهم أهل الكتاب أو لهم شبهة كتاب.

كما أنه بينت أن صلاتهم على خلاف صلاة المسلمين في أوقاتها وهيئاتها. فصلاتنا خمس مرات في اليوم والليلة وهي بقيام وركوع وسجود وجلوس وقراءة قرآن وبمجموعة من الأذكار والأدعية. بعكس صلاتهم في كثير من هذه الأمور.

لذا ما زعمه «تسدال» من مصدرية الصابئة للإسلام استنادا لمثل هذه الشبهة زعم باطل ينقصه الدليل ، ويرده الواقع. وهو أمر تلبيسي لا أكثر ولم يخل دين من الأديان من وجود شعائر تعبدية وعلى رأسها الصلاة كاليهودية والنصرانية ..

الشبهة الثانية :

التشابه في الصوم وارتقاب انتهائه ، وارتقاب الأعياد ببعض الكواكب.

__________________

(١) انظر الفهرست لابن النديم ص ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

(٢) الموجز في تاريخ الصابئة ص ١٠٢.

٢٧٤

سبق أن أشرت أنه لا يوجد دين من الأديان السماوية إلا وفيها ألوان من العبادة ، والصوم واحد من تلك العبادات المشتركة بين الديانات السماوية.

فالصوم عبادة عرفت من القدم فقد كانت عند قدماء البابليين والآشوريين والمصريين ، وهذا ما أشارت له الآية القرآنية وهي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١).

والصوم من العبادات التي عرفتها الصابئة الحرانيون (٢) وهي عندهم ثلاثين ليلة من الليل إلى شروق الشمس (٣) (أولها لثمان مضين من اجتماع آذار ، وتسعة أخر أولها لتسع بقين من اجتماع كانون الأول ، وسبعة أيام أخر أولها لثمان مضين من شباط وهي أعظمها ، ولهم تنفل من صيامهم ، وهو ستة عشر وسبعة عشر وعشرون يوما).

أما الصابئة المندائيون الحاليون يحرمون الصيام في طقوسهم الدينية ويرون أنه من باب تحريم ما أحله الله ، وإن كانوا يتظاهرون به في أول رمضان من كل سنة مجاراة لمجاوريهم من المسلمين كما كان يفعل ذلك أبو إسحاق الصابئي مع الشريف الرضي.

ونجدهم يمتنعون عن أكل اللحوم المباحة لهم (٣٦) يوما ، متفرقة على طول السنة ، على نحو امتناع النصارى عنها (٤).

فالناظر بعين فاحصة مقارنا بين الصيام عند الصابئة وعند المسلمين يجد أن الاجتماع والاتفاق كان في كلمة الصوم لا غير أما في الحقيقة والصورة فهما مختلفان تماما.

فصيامهم ليلا بينما صيام المسلمين نهارا.

__________________

(١) سورة البقرة آية (١٨٣).

(٢) الصابئون ـ الحسنى ص ٨٧ ـ ٨٨.

(٣) مصادر الإسلام ـ لتسدال ص ١٢.

(٤) الصابئون ـ الحسنى ص ٨٧ ـ ٨٨.

٢٧٥

وصيامهم متفرق بينما صيام المسلمين شهر كامل.

وهو ليس عند كل فرقهم بل عند الحورانيين منهم أما المندائيون فيحرمونه كما ذكرت.

وكذلك عندهم صيام يشبه صيام النصارى لمدة (٣٦) يوما يمتنعون فيها عن أكل اللحوم المباحة.

ثم هناك الاختلاف في وقت الصيام بين الفريقين.

أبعد كل هذه الملاحظات على وجه المقارنة بين صيام أهل الملتين يبقى دليل مع «تسدال» وغيره ليزعم أن الإسلام أخذ منهم عبادة الصيام بل قد أثبت التاريخ أن الأيام التي كانوا يصومونها وفيها وجه شبه مع وقت الصيام عند المسلمين ما كانت من الصابئة إلا لمجاراة المسلمين الذين كانوا يملكون السلطة والتي كان يفقدها الصابئون.

فعبادة الصيام عندنا ـ المسلمين ـ عبادة فيها سمو روحي وترفع عن عالم الشهوة سواء كانت في الفرج أم البطن.

وفيها تقوية لعلاقة المسلم بخالقه سبحانه ، وفيها طريقة تربية في مدرسة الصبر على الجوع والحرمان والشعور بالغير ، إلى غير ذلك من المعاني السامية الرفيعة.

وأعيد للأذهان مرة أخرى أن التشريعات الإسلامية في العبادات وغيرها ما زالت غضة طرية كما أنزلها الله سبحانه وتعالى على قلب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يدخلها التحريف أو التشويه أو التبديل كما دخل تشريعات الأمم الأخرى ، ومنها عادات الصابئة على اعتبار ما أشرت إليه سابقا أنهم أهل دين سماوي أو كتاب منزل (١) وبهذا تبطل الشبهة الثالثة التي استدل بها «تسدال».

__________________

(١) انظر تعليقنا السابق ص ١٨٨ ـ ١٨٩.

٢٧٦

شبهة ارتقابهم الأعياد عن طريق النجوم :

قلت : كان «تسدال» جعل مناط هذه الشبهة أن الصابئة تثبت أعيادهم بمراقبة خمسة نجوم في السماء وهي : (الجدي ، الزهرة ، زحل ، القمر ، والشمس).

وكذلك المسلمون تثبت أعيادهم بمراقبة أحد هذه الخمسة وهو القمر عند ما (يكون هلالا).

قلت : المعروف أن التقويم لأمم الأرض قديم جدا ، وهو إما شمسي وإما هلالي. والناس قد انقسمت عاداتهم في شهرهم وسنتهم القسمة العقلية. وذلك أن كل واحد من الشهر والسنة إما أن يكونا عدديين ، أو طبيعيين ، والسنة عددية ، أو بالعكس.

فالذين يعدونهما : فهؤلاء يجعلون الشهر ثلاثين يوما ، والسنة اثنى عشر شهرا. والذين يجعلونهما طبيعيين يجعلون الشهر قمريا ، والسنة شمسية.

ومنهم الذين جعلوا السنة طبيعية ، والشهر عدديا ، فهذا حساب الروم ، والسريانيين والقبط ونحوهم من الصابئين والمشركين. ممن يعد شهر كانون ونحوه عددا ويعتبر السنة الشمسية بسير الشمس.

أما اعتبار الشهر طبيعيا ، والسنة عددية فهو سنة المسلمين ومن وافقهم (١).

فالتقويم عند اليهود وعند المسلمين قمريا ، إلا أن اليهود يعتبرونه باجتماع القرصين ، أما النصارى فتجعل صيامها وسائر أعيادها دائرة على السنة الشمسية ، وتجعل سائر أعيادها دائرة على السنة الشمسية بحسب الحوادث التي كانت للمسيح عليه‌السلام.

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في كتاب الصابئين حرانيين ومندائيين ـ لرشدي عليان.

٢٧٧

وكذلك المجوس والصابئة وغيرهم من المشركين فتقويمهم بجعل السنة طبيعية والشهر عدديا ، أما ما جاءت به الشريعة الإسلامية هو أكملها وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الاضطراب ؛ لأن رؤية الهلال أمر مشهور مرئي يدرك بالأبصار ، فلا يضل أحد عن دينه ، ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه ، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه ، ولا يكون طريقا إلى التلبيس في دين الله كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم.

وما عليه الإسلام هو الأصل لكل الشرائع السابقة إلا أن أتباعها بدلوا كاليهود وعلقوا أحكامها باجتماع القرصين (الشمس والقمر) فإن اجتماعهما الذي هو تحاذيهما الكائن قبل الهلال هو أمر خفي لا يعرف إلا بحساب ينفرد به بعض الناس مع تعب وتضييع زمان كثير ، واشتغال عما يعني الناس ، وما لا بد له منه ، وربما وقع فيه الغلط والاختلاف.

وكذلك كما عند بعض الناس أن يحسبوا بمحاذاة الشمس للبرج الفلاني أو الفلاني فلا يعرف كذلك إلا بحساب فيه كلفة وشغل عن غيره مع قلة جدواه.

ومن هنا يظهر أن أفضل المواقيت ما كان متعلقا بالهلال كما عليه المسلمون أما الحول فلم يكن له حد ظاهر في السماء فكان لا بد فيه من الحساب والعدد وتكون السنة مطابقة للشهور التي عددها موافق لعدد البروج التي تكمل بدور الشمس فيها سنة شمسية اثنا عشر شهرا بعددها. وإذا دار القمر فيها كمل دورته السنوية وبهذا كله يتبين معنى قوله تعالى : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ)(١) فإن عدد شهور السنة وعدد السنة بعد السنة إنما أصله بتقدير القمر منازل وكذلك معرفة الحساب فإن حساب بعض الشهور لما يقع فيه من الآجال ونحوها إنما يكون بالهلال. وكذلك قوله تعالى : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ)(٢).

__________________

(١) سورة يونس آية (٥) قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ. ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

(٢) سورة البقرة آية (١٨٩).

٢٧٨

وما دخل على أهل الكتاب والصابئين والمجوس وغيرهم من الاضطراب والحرج والمفاسد دخل عليهم ذلك من جهة المتفلسفة الصابئة (١).

وهكذا يلاحظ أن ضبط العبادات والأحكام بشيء من الكواكب أمر عليه كل الأمم منذ القديم وليس السير فيه على سنة الصابئة وإلا لكانت الصابئة مصدر المعرفة بهذا الباب لكل الأمم وهذا مردود.

ومن هنا تسقط هذه الشبهة كذلك.

ولله الحمد والمنة.

الشبهة الثالثة : التشابه في الحج والتلبية ، وتقديم القرابين :

قلت : بعد رجوعي لما كتب عن الصابئة لم أجد هناك تفسيرا حول هذه الشعيرة إلا أني وجدت أنه كان عندهم حج وكان عندهم تقديم القرابين للآلهة المزعومة عندهم.

أما الحج فهو عبادة موجودة في أهل الأديان وغيرهم وممتدة جذوره لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ الذي أذن في الناس بالحج فلبى نداءه كل من حج لبيت الله الحرام وسيلبيه كل من سيحج قال تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)(٢).

وقد وضحت دائرة معارف المستشرقين أن الحج لم يكن خاصا بالعرب دون غيرهم من الأمم ، بل كان كذلك عند اليهود والنصارى وبعض الوثنيين (٣)

__________________

(١) انظر مجموع فتاوي الإمام ابن تيمية رحمه‌الله ٢٥ / ١٣٤ ـ ١٤٢.

(٢) سورة الحج آية (٢٦ ـ ٢٧).

(٣) انظر دائرة المعارف الإسلامية ٧ / ٣٠٥.

٢٧٩

وقد فصلت هذا الأمر ورددت عليه في الشبهة الثانية من المصدر الأول فيرجع إليه.

ولكني أريد أن أوضح هنا أمرا مهما وهو أن المعروف أن الحج عند المسلمين يتم في مكة المكرمة وطوافهم بالكعبة وما يقدمونه من قرابين (الهدي) هو لله سبحانه خالصا دون سواه. وقد رخص الأكل منها.

أما عند الصابئة فحجهم يتم بحران بالعراق وليس حول الكعبة (١) وقبلتهم الثابت بشأنها أنها قبل الشمال باتجاه النجم القطبي ؛ وذلك لثبوته في محله وعدم تحركه (٢).

أما بالنسبة لقرابينهم فكانت تذبح لآلهتهم المزعومة من الكواكب كذبحهم للزهرة ولزحل .. إلى غير ذلك.

وكانت سنّتهم في قرابينهم أن تحرق تماما ، ولا يؤكل منها شيء ، وكان بعضهم يقول إذا قرب باسم الباري كانت دلالة القربان ردته لأنه عندهم تعدى إلى أمر عظيم وترك ما هو دونه لما جعله متوسطا في التدبير والذي يذبح للقربان الذكور دون الإناث. ومن يقدم القربان لا يدخل الهياكل ذلك اليوم.

وللقربان أربعة أوقات في الشهر : الاجتماع ، والاستقبال ، وسبعة عشر وثمانية وعشرون (٣).

في حين أن القربان في الإسلام لا يقبل إلا إذا ذبح لله تعالى ويحرم أكله إذا ذكر عليه غير اسمه سبحانه ، كما أنه يذبح في أي وقت من أوقات السنة ، سواء كانت الذبائح ذكورا أم إناثا. ولا يمنع ذبح القربان من دخول أماكن العبادة في الإسلام. والذبيحة عندنا لا تحرق بل تؤكل ولا حرج في ذلك ومن هنا يظهر

__________________

(١) انظر مدخل القرآن الكريم ص ١٣٣ نقلا عن كتاب ج. سال (ملاحظات تاريخية ونقدية عن الإسلام ص ٣٠ ـ ٣١ ، ودائرة المعارف الإسلامية باللغة الفرنسية (مادة صبأ).

(٢) انظر الموجز في تاريخ الصابئة ص ٣٦ ، والفهرست لابن النديم ص ٤٤٢.

(٣) انظر الفهرست لابن النديم ص ٤٤٣.

٢٨٠