آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

د. عمر بن إبراهيم رضوان

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره - ج ١

المؤلف:

د. عمر بن إبراهيم رضوان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

نبيه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بالتوجه إليها وبناء أول بيت لله عزوجل في الأرض فيها ليؤمه الناس للعبادة والطاعة ففعل عليه‌السلام بمساعدة ابنه إسماعيل عليه‌السلام الذي قدم مع أمه «هاجر» ونزلا موضع زمزم اليوم.

ولما استقر المقام بإسماعيل في مكة تزوج وكثر نسله فيها حتى ملئوها وضاقت بهم ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا في البلاد (١) لالتماس العيش.

وبعد فترة دخلت الوثنية ديارهم وكان ذلك بسبب أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم ، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تعظيما للحرم وصبابة بمكة.

وهكذا استبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره من عبادة الأوثان وصاروا كمن سبقهم من الأمم .. وبقي فيهم بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام يتنسكون بها ، من ذلك : تعظيم البيت ، والطواف به ، والحج والعمرة والوقوف على عرفة ، ومزدلفة ، وهدي البدن ، والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه.

وكان أول من غير دين إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ونصب الأوثان ، وسيب السائبة ، وبحر البحيرة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحام ، عمرو بن لحي. ثم انتشرت عبادة الأصنام وصارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب حتى بلغ بهم الجهل أنه حين غلبت خزاعة على البيت ونفت جرهم عن مكة ، جعلت العرب عمرو بن لحي (٢) ربا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة ، لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم ، وقيل : إن أمره وأمر ولده دام على مكة ثلاثمائة سنة (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ١٥٢.

(٢) انظر كتاب أخبار مكة ١ / ١١٦ ، وسيرة ابن هشام وعليها حاشية الروض الأنف ١ / ١٠١.

(٣) انظر الروض الأنف ١ / ١٠٢.

٢٤١

وهكذا ابتعد العرب عن دين إبراهيم عليه‌السلام فدخل الشرك في عقائدهم وعباداتهم وصرفوا ما ينبغي أن يكون لله سبحانه لأصنامهم وأوثانهم وساءت الأخلاق ، وانتشرت المفاسد ، وانتهكت المحارم ، وتركت الفرائض والسنن ، وانتشرت البدع والخرافات ، ومع هذا بقي قلة من الناس يبحثون عن الحقيقة وهم الحنفاء.

فلما بعث الله محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أراد من قومه أن يعودوا لدين إبراهيم عليه‌السلام قبل التحريف والتغيير فدعاهم لعبادة الله وحده وترك ما سواه ، وصرف كل الأمور إليه دون وسائط ، وطلب منهم أن يزكوا نفوسهم بأداء الواجبات وترك المنكرات وبالابتعاد عن مفاسد الأخلاق فأبوا أن يطيعوه ـ إلا من رحم ـ بل نابذوه العداء وعذبوه وأصحابه ، وأخرجوهم وقاتلوهم ولكن حقق الله ما أراد من نصره لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ عليهم.

وخير من صور ما كان عليه أهل الجاهلية من فساد في العقيدة والأخلاق والسلوك والقيم «جعفر بن أبي طالب» ، وأم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنهما ـ موضحين الفرق بين الجاهلية والإسلام.

قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة ردا على افتراءات السفيرين اللذين أرسلتهما قريش لإرجاع المهاجرين من الحبشة لمكة :

[.. أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيئ الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، ـ وعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده

٢٤٢

لا نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا ..](١).

أما ما جاء في انحطاط الأخلاق فصورته السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ.

[.. إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء :

فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها.

ونكاح آخر : كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يستبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.

ونكاح آخر : يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ، ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم لقد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يافلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل.

ونكاح رابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما ، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه ، لا يمتنع من ذلك. فلما بعث محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم](٢).

هذا هو الوسط الوثني بما فيه من خير وشر الذي اعتبره المستشرقون مصدرا

__________________

(١) انظر البداية والنهاية لابن كثير ٣ / ٧٣ ـ ٧٤ ، والكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ٥٥.

(٢) انظر صحيح البخاري ٦ / ١٣٢ باب ٣٦ من قال : لا نكاح إلا بولي.

٢٤٣

من مصادر الإسلام والناظر فيه بتجرد يرى أن هذا الوسط لا يصلح أبدا لما توهموه. كيف لا ومصدر القرآن الوحيد هو الله عزوجل.

من خلال هذه النصوص يستدل على أن العرب كان فيهم بقايا من دين إبراهيم عليه‌السلام وبقايا من أخلاق الإسلام ، وأمور أقرها الإسلام وحض عليها. لذا فنحن لا نستغرب أن توجد عندهم مثل هذه البقايا تحت ركام الجاهلية والشرك.

والآن سنقف وقفات مع شبهات هؤلاء المستشرقين التي دعتهم لمثل هذه الدعوى الباطنية ونرد عليها بما يفتح الله علينا.

الشبهات :

زعموا أن الإسلام جاء وفي الوسط الذي ابتدأ فيه مجموعة من العقائد والأخلاق نقاها وجدد الدعوة إليها لذا فالإسلام صورة من صور الجاهلية واجترار لها والوثنية أحد مصادره الرئيسية.

الشبهة الأولى :

قالوا : مما دعا إليه الإسلام الوحدانية وكان ذلك بتأثير الوسط الوثني الذي نشأ فيه الإسلام (١).

قلت : نحن لا ننكر أن الوحدانية أمر أصيل وجذورها التاريخية تصل لأقدم عصر وجد فيه إنسان على سطح الأرض فآدم عليه‌السلام أنزل بالتوحيد والدعوة لعبادة الله وحده دون سواه ، ونبذ الشرك بأنواعه ، وتكررت هذه الدعوة على ألسنة كل الرسل بين أقوامهم كما ذكر ذلك القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)(٢).

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام لتسدال ص ٦.

(٢) سورة الأنبياء (٢٥).

٢٤٤

وقد نقل إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ هذه الدعوة إلى أرض الجزيرة ، ولكن مع تقادم العهد نسي العرب نصيبا مما ذكروا به فطمسوا معالم التوحيد بالشرك والخير بالشر فجاءت دعوة المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لتذكيرهم بدعوة أبينا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ والتوجه في سائر الأعمال لله الواحد الأحد ونبذ عبادة الأصنام والشرك بكل أنواعه.

فدعوة المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للوحدانية لم يكن بتأثير الوسط الوثني كما زعم المستشرقون بل هي صدى للدعوة الأولى دعوة إبراهيم عليه‌السلام ، لأن أصلهما واحد. والتاريخ يشهد بذلك. والناظر في التوراة والإنجيل والقرآن وأي كتاب سماوي آخر يجد أن هذه الدعوة متكررة على لسان كافة أنبياء الله. فلا غرابة إذن من تجديد الدعوة لها في الإسلام على لسان رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والقرآن الكريم مليء بالآيات القرآنية الداعية لتوحيد الله سبحانه وتعالى ، منها : قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ)(١) وقوله تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(٢).

وكذلك وضح القرآن هذه القضية في دعوة إبراهيم عليه‌السلام كما أنه كان داعية إلى هذا التوحيد. قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٣).

الشبهة الثانية :

زعموا أن هناك تشابها بين الإسلام والوسط الجاهلي الذي نشأ فيه في جانب الشعائر التعبدية كالحج مثلا بما فيه من طواف وتقبيل للحجر الأسود وسعي

__________________

(١) سورة البينة : (٥).

(٢) سورة النحل : (٥١).

(٣) سورة النحل : (١٢٠).

٢٤٥

بين الصفا والمروة ، وغير ذلك من شعائر الحج (١).

الجواب :

ذكرت في المقدمة أن الجزيرة العربية نبتت فيها دعوة إبراهيم وابنه إسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ ولكن العرب هم الذين غيروها بالشركيات والوثنيات ومع هذا فإنه بقي في هذا الوسط الوثني شيء من تلك الديانة الحنيفية.

كما أن الشرائع الإلهية التي نزلت على إبراهيم وإسماعيل ومحمد ـ عليهم‌السلام ـ أصلها واحد وهي منزلة من عند الله عزوجل لأنهم جميعا رسله لأقوامهم فالصلاة والصيام والزكاة والحج وسائر العبادات مما شرعه الله عزوجل في كل الديانات سواء ديانة إبراهيم أو ديانة محمد أو غيرهما من أنبياء الله عليهم‌السلام. فإذا حصل تشابه في مثل هذه الجوانب بين الديانات السماوية مع اختلاف في الهيئات والأوقات والأماكن فهو أمر طبيعي قال تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ..)(٢).

ويشهد لما قلت ما جاء على ألسنة المستشرقين في دائرة المعارف الإسلامية حيث قالوا : (ولم يك هذا الحج إلى عرفات أمرا اختص به العرب فالحج إلى معبد من المعابد عادة سامية قديمة جعلت حتى في الأجزاء القديمة من أسفار موسى الخمس فرضا يجب أداؤه فقد ورد في سفر الخروج الإصحاح الرابع والثلاثين (ثلاث مرات في السنة يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب إله إسرائيل) (٣).

فالمسلمون يقفون في حجهم على جبل عرفات ، واليهود يقفون في حجهم على جبل سيناء ، والنصارى يحجون إلى بيت المقدس في فلسطين فهل يعني هذا أن الديانات الثلاث أخذن شعيرة الحج من الوسط الجاهلي الوثني! والمستشرقون يعرفون أن اليهودية والنصرانية سابقة للوثنية في الجزيرة العربية فلا يبقى إلا أن

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ٨٠٦ ، ومقدمة القرآن بل ص ٩.

(٢) سورة الحج : (٦٧).

(٣) دائرة المعارف الإسلامية ٧ / ٣٠٥ ، وانظر الكتاب المقدس ص ١٤٥.

٢٤٦

يكون المصدر لكل ذلك هو الله عزوجل.

والجاهليون لم يكونوا مقتصرين في حجهم بالطواف ببيت واحد بل كان لهم بيوت أخرى يطوفون بها كبيت ذي الخلصة (١).

روى البخاري في صحيحه : عن جرير بن عبد الله قال : [كان في الجاهلية بيت يقال له ذو الخلصة ، وكان يقال له الكعبة اليمانية ، أو الكعبة الشامية ، فقال لي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هل أنت مريحي من ذي الخلصة ، قال : فنفرت إليه في خمسين ومائة فارس من أحمس قال : فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده فأتيناه فأخبرناه فدعا لنا ولأحمس](٢).

وقد ذكر كذلك عن معبد في الشمال (٣). فلا غرابة إذا إذا جاء الإسلام بنسك كالحج. فأصل هذه الشرائع والمناسك هو الوحي فقط وأي تبديل أو طمس لها فمرده أمر الجاهلية فحسب. والإسلام ما جاء إلا ليحيي هذه المناسك التي شرعها الله عزوجل ، لذا بينها وفصلها ليبرز محاسن الإسلام في هذه المناسك والشعائر.

وفي الحج الإسلامي مقاصد عظيمة منها : توجه العباد إلى عبادة الله الواحد الديان ، وتذكيرهم بيوم الحشر الأكبر ، ولتكون فريضة الحج وشرائعه مدرسة تربوية مكتملة الجوانب ضمن صرح الإسلام العظيم ، فأين هذا التشابه المزعوم وأين هذه التشريعات التي تسمو بالعواطف الإنسانية النبيلة من تلك المظاهر الوثنية المنحطة ، فلا شك أنه لا يلتبس أمر التفريق بين الشريعتين شريعة الجاهلية وشريعة الإسلام على ذي عقل ، وإن برزت في بعض الصور والخطوط العامة وكأنها مستقاة من دين إبراهيم عليه‌السلام.

__________________

(١) بيت من مروة بيضاء ، منقوش عليها كهيئة التاج. كان سدنتها من أمامة من باهلة كاللات والعزى ، كان يطلق على هذا المعبد الكعبة اليمانية أو الشامية.

(٢) انظر صحيح البخاري ٤ / ٢٣٢ كتاب مناقب الأنصار.

(٣) انظر دائرة المعارف الإسلامية ٧ / ٣٠٥.

٢٤٧

وما شعيرة الحج في الإسلام إلا صورة عن شعيرة الحج التي أداها إبراهيم عليه‌السلام والتي يجمعهما التوحيد الخالص لله عزوجل ، وخلع كل الشركيات التي أدخلتها الجاهلية الوثنية لحج إبراهيم عليه‌السلام كما حصل في إدخالهم الشرك في التلبية وهي قولهم :

(لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك) (١) ، وكاستئذانهم بالوقوف في جبل عرفة من الغوث بن مر وولده من بعده (٢) ، وكعدم دفعهم من عرفة إلا إذا دفع رجل من صوفة ولا رميهم إلا إذا رمى رجل من صوفة (٣) كذلك وكابتداعهم أمر الحمس وغير ذلك من الأمور.

وهكذا ما من تغيير لحج إبراهيم عليه‌السلام إلا وجاء الإسلام ليعيده لما كان عليه.

وهكذا يظهر جليا أن أصل الحج وغيره من العبادات من السماء بأمر وتعليم من الله عزوجل لنبيه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا من الوسط الوثني المزعوم عند المستشرقين ، وما كان عند الجاهلية باق من شعائر ومناسك هو من بقايا دين إبراهيم عليه‌السلام الذي جاء الإسلام ليحييه ويعيده.

وكذلك فإن الحج ليس مصدره من اليهودية كما زعم «دوزي» (٤) حيث ظهر من عرضي السابق أن الحج عند الجميع من مسلمين ويهود ونصارى وغيرهم مصدره ديانة إبراهيم عليه‌السلام.

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ١٠١.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٢٣٠.

(٣) انظر سيرة ابن هشام ١ / ١٤٣. الغوث بن مر كانت أمه من جرهم وكانت لا تلد فنذرت لله إن هي ولدت رجلا أن تصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها ويقوم عليها فولدت الغوث فكان يقوم مع أخواله هو الأول على خدمتها والغوث هو الذي كان يجيز للناس في الجاهلية النزول من عرفة ثم تولى هذه الإجازة من بعده حتى انقرضوا. وكان سبب تسميتهم بصوفة لأن أمه كانت تربط شعره بصوفة. (هذا كلام شيخي مناع خلال جلسة المناقشة).

(٤) انظر دائرة المعارف الإسلامية ٧ / ٣١٠.

٢٤٨

أما بالنسبة لتقبيل الحجر الأسود وهل هو من بقايا الوثنية؟.

قلت : فالإسلام دين التوحيد وقد دعا له من أول يوم ولم يكن يرضى بالأوثان والشركيات بل حاربها وطمسها فلو كان الحجر الأسود واحدا من بقايا الوثنية كما زعم المستشرقون لما أبقاه الإسلام.

فالحجر الأسود لم يكن في يوم من الأيام صنما من أصنام العرب ولا من أوثانهم ولم يقدسوه في يوم من الأيام فهل يعقل يترك الوثنيون عبادته وتقديسه ويفعله المسلمون!!!.

أما سر احترام هذا الحجر لأنه من بقايا بناء إبراهيم للكعبة المشرفة حتى إن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أظهر الدافع لتقبيل هذا الحجر أنه الاقتداء بسنة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال : «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولو لا أني رأيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبلك ما قبلتك» ثم قال : «فما لنا والرمل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال : شيء صنعه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلا نحب أن نتركه»(١).

فالتقبيل إذن أمر تعبدي خالص لله سبحانه وتعالى وإن جهلنا سر ذلك التقبيل فهو من سنن الطواف بالبيت فكثير من العبادات تخفى أسرارها والمسلم مكلف بأدائها.

وشتان بين التوجه تعظيما قلبيا لحجر أو شجر أو مخلوق ما على سبيل العبادة ، وبين أداء عبادة لله سبحانه وتعالى وحده وطاعة له دون سواه إيمانا واحتسابا في زمن معين وبصفة معينة وفي مكان معين.

والنكتة في مقالة عمر ـ رضي الله عنه ـ هذه لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الحجر وتعظيمها رجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها ، وكان العهد قريبا بذلك لذا بين أنه حجر مخلوق كباقي

__________________

(١) انظر صحيح البخاري ٢ / ١٦٠ كتاب الحج باب ٥٠ / ٥٧.

٢٤٩

المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع لأن الضرر والنفع بيد الله سبحانه وحده دون سواه (١).

وما حذر منه وقع به المستشرقون في يومنا هذا حيث ظنوا أن هذا الفعل هو من بقايا الوثنية.

والمسلمون اليوم كلهم يتوجهون في صلواتهم إلى الكعبة المشرفة جاعليها قبلة لهم ولا يوجد مسلم واحد صحيح العقيدة يعتقد أنه بهذا التوجه يعبد الكعبة. بل حتى أقل من ذلك فقد نهينا عن الحلف والقسم بالكعبة بل نقسم بربها سبحانه لأن القسم بالشيء لون من ألوان تعظيمه والتعظيم لا يكون إلا لله سبحانه. كما أن بعض مناسك الحج ترمز لأشياء معينة ، فلبس الأبيض لباس الإحرام فيه تذكير بالكفن الذي يكفن به الإنسان ساعة موته ، وخلع للدنيا والإقبال على الآخرة. والوقوف في عرفات فيه تذكير بيوم الحشر الأكبر ، ورمي الحجارة فيه التذكير لمواقف كيد الشيطان للإنسان كما حصل منه مع سيدنا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ولا يمنع أن يكون تقبيل الحجر من هذا القبيل بالرمز لما كان عليه هذا الحجر أول نزوله من الجنة للأرض أشد بياضا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٢) حيث فيه إشارة إلى أن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد وذلك ليترك الناس المعاصي ويتوجهوا إلى الله بالطاعات.

وتقبيل الحجر الأسود سنة من سنن الطواف فعلها الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتفعله لفعله لأنه لا يفعل إلا ما أمر به من الله عزوجل وما شرعه له ، ونحن مأمورون بالاقتداء به وهو القائل ـ عليه الصلاة والسلام ـ يوم النحر وهو يرمي على راحلته : (لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) (٣).

__________________

(١) الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ١٢ / ٣٨.

(٢) انظر الفتح الرباني مع مختصر شرحه بلوغ الأماني ١٢ / ٢٦.

(٣) انظر صحيح مسلم ٢ / ٩٤٣ كتاب الحج حديث رقم (٣١٠).

٢٥٠

فهل بقي بعد هذا البيان شبهة إلا في أذهان خربة ونفوس حاقدة على الإسلام وأهله تزعم أن استلام الحجر وتقبيله من بقايا الوثنية التي أبقاها محمد في تشريعاته.

وزعم «سال» أن مما أخذ الإسلام من موروثات الجاهلية الاعتقاد بالجن مما يدل على أن الإسلام صورة عن الجاهلية (١).

الجواب :

عرف العلماء الجن : بأنها أجسام هوائية وهبها الله قدرة على التشكل بأشكال مختلفة ، منهم من يظهر على شكل حيوانات متنوعة ، لهم عقول وأفهام ومقدرة على الأعمال الشاقة ، يأكلون ويشربون ويتناكحون ويتناسلون ... وهم خلاف الإنس.

وعرفها بعض العلماء : بأنها حيوان ناري شفاف الجرم (٢).

ووجودهم حقيقة ثابتة لا ينكرها أو يشك بها عاقل فليس عدم رؤيتها دليل على إنكارهم لها ، فكم من أشياء حول الإنسان وهو لا يراها ، كالهواء والإشعاعات ، والجاذبية الأرضية ، والتيار الكهربائي ، والمجالات المغناطيسية ، والموجات الصوتية ، إلى غير ذلك من الموجودات غير المرئية.

فمذهب أهل السنة والجماعة وأهل الكتاب ، ومشركو العرب ، وجمهور الكنعانيين واليونانيين والرومان والهنود القدماء الإقرار بوجود الجن.

ولم ينكر وجودهم إلا أكثر الفلاسفة وجماعة من القدرية والمعتزلة والجهمية ، وكافة الزنادقة قديما وحديثا (٣).

__________________

(١) مذاهب التفسير الإسلامي ـ جولد تسيهر ١٦٥.

(٢) حقيقة الجن والشياطين ـ محمد السيدابي ـ دار الحارث السودان / ط ١ ، ١٤٠٧ ه‍ ١٩٨٧ م ص ٩.

(٣) عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة ـ عبد الكريم عبيدات ، طبعة دار ابن تيمية ـ الرياض ص ٩٢ وما بعدها.

٢٥١

والتصور السليم للجن وحقيقتهم عند المسلمين فحسب. أما بقية من يعترفون بوجودهم فقد انحرفت تصوراتهم فيهم.

فمنهم من اعتبرهم شركاء لله في الخلق والتدبير فعبدوهم كالزنادقة ، وهو مذهب المجوس واليونانيين والرومان ، ومنهم من اعتبر أن لهم سلطانا في الأرض وأنهم يعلمون الغيب ، وأن بينهم وبين الله أخوة كمشركي العرب. ومنهم من اعتبر بينهم وبين الله نسبا كاليهود. ومنهم من اعتبر الشيطان رئيس رتبة من الأرواح النجسة وأنه إله في الأرض وذلك كالنصارى. ومنهم من قسم الشياطين لأخيار وأشرار ولكنه اعتبر أن الأخيار همهم الرقص للآلهة أما الأشرار فهم للإفساد في الأرض وهكذا من تصورات حادت عن الصواب وتلوثت بروح الوثنية تارة والخرافة والأساطير تارة أخرى.

فالاعتراف بوجود الجن أمر قديم ، واعتقاد متوارث وليس منشؤه من الوسط الجاهلي كما تصوره «جولد تسيهر» وإنما هو اعتقاد قديم بين أصحاب الديانات السماوية وغيرها وكان دور الإسلام أن أمره وقومه حسب التصور الإلهي السليم البعيد عن الانحراف والخرافة. وقد أقر وجودهم النقل والعقل ، فهذا يظهر زيف دعوى المستشرقين الذين يحاولون عبثا أن يجعلوا من مصادر الإسلام الوسط الجاهلي.

الشبهة الثالثة :

استند المستشرقون في دعواهم على أن هناك تشابها بين الإسلام والوسط الوثني كذلك في بعض العادات كالزواج والختان وغيرهما (١).

قلت : كان للعرب عادات تأصلت فيهم فلما جاء الإسلام فما وجده منها موافقا لشرعه أقره وشجعه ، وما كان منها مخالفا لشرع الله ودينه فقد أبطله وحاربه.

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام لتسدال ص ٨.

٢٥٢

فالزواج سنة فطرية وأساس قويم للاجتماع البشري ونشوء الكيانات فالأسرة المكونة من الزوجين وما يتصل بهما هي اللبنة الأولى في تكوين الصرح الاجتماعي.

فأصل الاجتماع البشري الثابت في الديانات السماوية هو نكاح الرجل للمرأة وانفراد الرجل بزوجته وعدم مشاركة أحد له فيها وهذا أمر تقره الفطر السوية ، وتقتضيه المجتمعات القويمة لما في ذلك من حفاظ على الدين والخلق والنسل من الاختلاط.

وقد حرص الإسلام حرصا شديدا في تشريعاته التفصيلية الدقيقة على إبقاء الأنساب نظيفة معينة معروفة إلى من تنسب إليه ؛ لذا حارب بشدة كل عادة تدعو إلى اختلاط الأنساب ببعضها وإلى إشاعة الفاحشة وإيجاد الفوضى الجنسية في المجتمعات كل ذلك ليبقى المجتمع الإسلامي مجتمعا ربانيا ترفرف عليه ظلال المودة وتقوى الله عزوجل. ووفر الإسلام لهذا المجتمع المقومات التي تساعده للقيام لهذه المهمة بشرائعه الكاملة الشاملة التفصيلية في الزواج والتناسل والحفاظ على سلامة المجتمع من الانحرافات الخلقية.

لذا ما كان من عادات العرب في الزواج وغيره موافقا لروح الإسلام وتشريعاته فقد أقرها الإسلام وحض عليها وما جاء منها مخالفا للإسلام في روحه وشرعه كنكاح الجاهلية الذي وصف في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أو عدم الزواج من امرأة المتبني ، أو نكاح أكثر من أربع نساء كل ذلك أبطله الإسلام وحاربه لما فيه من أضرار خلقية وفوضى اجتماعية.

هذا شأن الإسلام في كل تشريعاته التقويم والتقييم للخلق الفاضل النبيل وإحياء كل ما يوافق شرع الله ويلائم الفطرة السوية ومحاربة الانحرافات والرذيلة في كل صورها.

هذا هو الإسلام صورة فريدة وليس صورة معكوسة من المجتمع الوثني كما يزعم المستشرقون الذين يجهلون حقيقة الإسلام وروحه وشرعه. هذا بالنسبة

٢٥٣

لما يتعلق بالزواج.

أما ما يتعلق بالختان فصورته كذلك غير واضحة عند المستشرقين فالختان كذلك سنة فطرية وأمر شرعي في كل الديانات السماوية التي سلمت من التبديل والتحريف والتغيير.

فالختان : هو موضع القطع من الذكر ، وموضع القطع من نواة الجارية (١) ، وهذه المادة ترجع للغة السامية القديمة وهي في العبرية بلفظ (عرل) (٢) والختان فيه فوائد كثيرة تعود على الإنسان المختون.

ومما يدل على أنها سنة فطرية ما جاء في حديث المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ (الفطرة خمس : الاختتان ، والاستحداد ، وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط) (٣).

أما ما يدل على قدمها في الديانات منذ إبراهيم عليه‌السلام ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ (اختتن إبراهيم عليه‌السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم) (٤).

وقد ذكرت التوراة أن الختان هو العهد بين الرب وبين إبراهيم وذريته ، ومن يترك الختان ينكث العهد ، كما ذكرت أن إبراهيم ختن وهو ابن تسع وتسعين. وقد تعاهد الأنبياء وأتباعهم من بعده هذه السنة فقد انتشرت في بني إسرائيل (٥) حتى اعتبروا أن من لم يفعلها قد ارتكب عارا. فيشوع مثلا لم يترك الخارجين من مصر قلفا بل ختنهم جميعا ليخلصهم من هذا العار وقد ذكرت التوراة أمر الختان في سفر يشوع الإصحاح الخامس فقرة ١ ـ ٩ [وفي ذلك

__________________

(١) انظر مادة (ختن) في لسان العرب ـ معجم مقاييس اللغة لابن فارس ٢ / ٢٤٥.

(٢) انظر دائرة المعارف الإسلامية ٨ / ٢١٥.

(٣) انظر صحيح مسلم كتاب الطهارة حديث (٥٠) ج ١ / ٢٢١.

(٤) انظر صحيح البخاري ٤ / ١١١ كتاب الأنبياء وباب ٨ وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً.

(٥) انظر الكتاب المقدس ص ٢٤ ـ ٢٥. سفر التكوين الإصحاح ١٧.

٢٥٤

الوقت قال الرب : يشوع اصنع لنفسك سكاكين من صوان وعد فاختن بني إسرائيل ثانية. فصنع يشوع سكاكين من صوان وختن بني إسرائيل في تل القلف](١).

وقد جاء ذكر ختان بني إسرائيل وأن تركه عار في سفر التكوين الإصحاح الرابع والثلاثين (٢).

والختان كذلك موجود في النصرانية قبل تبديلها وإدخال ما ليس فيها من قبل بولس الذي مسخها وأدخل فيها الوثنية والفلسفة الإغريقية. فقد جاء في العهد الجديد في إنجيل لوقا الإصحاح الثاني الفقرة ٢١ [ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن](٣).

كما أن الختان كان منتشرا في أمم أخرى قديمة كالمصريين والعرب ، وأهل أروم ، وموآب ، وبني عمون (٤).

وهكذا نرى من خلال هذه النصوص أن الختان سنة فطرية في أمم الأرض قديما وسنة مشروعة لأهل الأديان السماوية جميعا وفي ذلك رد كاف على هذه الفرية التي أشاعها المستشرقون.

وزعم بعض المستشرقين أمثال «تسدال» و «شيخو» و «شبرنجر» أن من مصادر القرآن الكريم الشعر الجاهلي. فقد توافقت بعض الآيات القرآنية مع مقاطع من شعر أمية بن أبي الصلت وامرئ القيس مما دل في زعمهم أن القرآن الكريم قد اقتبس من قصائد الشعراء الجاهليين كالمعلقات (٥).

__________________

(١) انظر الكتاب المقدس ص ٢٤٣.

(٢) انظر الكتاب المقدس (العهد القديم ص ٥٥ ـ ٥٧.

(٣) انظر الكتاب المقدس (العهد الجديد) إنجيل لوقا ص ٩٣.

(٤) انظر الكتاب المقدس (العهد القديم) سفر أرميا الإصحاح التاسع فقرة ٢٥.

(٥) انظر مصادر الإسلام ص ٨ ـ ١٠ ، وتاريخ القرآن لنولدكة ١ / ١٩ ومعجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين ص ١٥٢.

٢٥٥

قلت : بالرجوع إلى ما جمع من شعر ابن أبي الصلت في تاريخ الأدب العربي ؛ لاحظنا أن النصارى من العرب والمستشرقين مثل الأب «شيخو» و «كافنتسكي» قد عنوا بجمع هذا اللون من الشعر الديني أكثر من سواهم حتى إن «كافنتسكي» كتب رسالته للدكتوراة في جمع مثل هذا اللون من الشعر ليظهر العلاقة بين القرآن وبين شعر أمية وقد أشار لأخذ القرآن من شعر أمية (١) ابن أبي الصلت كذلك «كلمنت هاوث» كما أشار تسدال لهذه الموافقة بين القرآن وشعر امرئ القيس في كتابه مصادر الإسلام واعتبره مصدرا من مصادر الإسلام وذلك لموافقة الأبيات لبعض التراكيب القرآنية في سورة القمر والملك وغيرهما وهذه هي أبيات أمية المقصودة بالتوافق :

ويوم موعدهم أن يحشروا زمرا

يوم التغابن إذ لا ينفع الحذر

مستوسقين مع الداعي كأنهم

رجل الجراد زفته الريح منتشر

وأبرزوا بصعيد مستو جرز

وأنزل والميزان والزبر

فمنهم فرح راض بمبعثه

وآخرون عصوا مأواهم سقر

يقول خزانها ما كان عندكم

ألم يكن جاءكم من ربكم نذر

قالوا : بلى فتبعنا فتية بطروا

وعزنا طول هذا العيش والعمر

وأما أبيات امرئ القيس التي ذكرها «تسدال» متوافقة مع آيات من سورة القمر فهي :

دنت الساعة وانشق القمر

عن غزال صاد قلبي ونفر

أحور قد حرت في أوصافه

ناعس الطرف بعينه حور

مر يوم العيد في زينته

فرماني فتعاطى فعقر

بسهام من لحاظ فاتك

فتركني كهشيم المحتظر

__________________

(١) انظر معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين ص ١٥٢ ، تاريخ القرآن لنولدكة ١ / ١٩.

٢٥٦

وأضيف لها أبيات أخرى :

وأقبل والعشاق من خلفه

كأنهم من حدب ينسلون

وجاء يوم العيد في زينته

لمثل ذا فليعمل العاملون

أما الآيات التي وافقتها بزعمهم في بعض الألفاظ والتراكيب فهي :

١ ـ قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ)(١).

٢ ـ وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً)(٢).

٣ ـ وقوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى)(٣).

٤ ـ وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)(٤).

إن قضية التلفيق في الشعر ونسبتها للقدماء من الشعراء أمر لا يستطيع أحد إنكاره وقد فعل هذا حماد الراوية وخلف الأحمر (٥) فما الذي يمنع أن يكون هذا الشعر ملفقا على العصر الجاهلي وعلى شعرائه كامرئ القيس وأمية بن أبي الصلت وهذا ما أرجحه. ومن عنده دليل تاريخي أن هذا الشعر ثابت لهما فليثبته.

والرد على هذه الفرية من جوانب :

__________________

(١) سورة القمر : (٦ ـ ٧).

(٢) سورة الكهف : (٧ ـ ٨).

(٣) سورة الملك : (٨ ـ ٩).

(٤) سورة الأنبياء : (٩٦).

(٥) انظر المزهر في علوم اللغة وأنواعها ١ / ص ١٠٦ ـ ١٠٧ ، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ٥ / ١٦٣.

٢٥٧

بالنسبة لأمية بن أبي الصلت عاش في عصر نزول الوحي في الطائف وكان من الحنفاء في الجاهلية ممن قرأ الكتب المتقدمة من كتب الله عزوجل ورغب عن عبادة الأوثان ، وكان يخبر بأن نبيا يبعث قد أظل زمانه ويؤمل أن يكون هو ذاك النبي فلما بلغه خروج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كفر حسدا. ولما أنشد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شعره قال : «آمن لسانه وكفر قلبه» وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء ، وأفكارا تتعلق بأمور الآخرة كالميزان ، والجنة والنار .. إلخ. وكان يأتي بألفاظ وأفكار لا تعارضها العرب يأخذها من الكتب المتقدمة ، وبأحاديث يأخذها من أحاديث أهل الكتاب (١).

والأفكار التي أتى بها أمية في هذه الأبيات من هذا القبيل وصف للناس وأحوالهم في اليوم الآخر ووصف لما فيه من ميزان وحشر وصراط وجنة ونار وتبشير للمؤمنين وتبكيت للمجرمين ، وكلها صور من موقف الحساب والجزاء يوم القيامة وقد اشتملت عليها الكتب السماوية السابقة التي اطلع عليها.

فتوافقها مع العبارات القرآنية كتوافق أفكار ومصطلحات مع التوراة والإنجيل مع الفوارق في اللغة والأسلوب.

ثم إن أمية بن أبي الصلت من المعروف أنه كان معاصرا لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما سبق ذكره وعاش واستمر في قرض الشعر طوال ما يقرب من ثماني سنوات بعد هجرة المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث توفي سنة (٩ ه‍) (٢) ومن هنا نشعر بالتشابه بين شعر أمية والقرآن الكريم ، لذا يكون من التعسف الادعاء بأن هذا الشعر كان سابقا للقرآن من الناحية التاريخية .. وأضيف أن أمية لم يدع الأصالة ولا الإلهام بل إنه كثيرا ما عبر عن خيبة أمله وأسفه في هذا الشأن. مما يحملنا على الاعتقاد بأنه اندفع إلى التقليد بروح المنافسة (٣) والذي يزيدني جزما أن أمية

__________________

(١) انظر الشعر والشعراء ص ٢٢٧.

(٢) معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين ص ١٥٢.

(٣) انظر مدخل إلى القرآن الكريم ص ١٤٣ ـ ١٤٤.

٢٥٨

هو المقتبس من القرآن ما قاله الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي [أن أمية يأخذ في شعره الكوني والديني من أساليب القرآن ومعانيه وروحه كما في قوله من قصيدة :

عند ذي العرش يعرضون عليه

يعلم الجهر والكلام الخفيا

يوم نأتيه وهو رب رحيم

إنه كان وعده مأتيا

يوم نأتيه مثل ما قال فردا

لم يذر فيه راشدا وغويا

أسعد سعادة أنا أرجو

أم مهان بما كسبت شيئا

رب كلا حتمته وأرد النار

كتابا حتمته مقضيا

ولأمية قصائد أخرى عليها الطابع القرآني كقصيدته في حادثة الفيل وقصة إرسال الله موسى وهارون عليهما‌السلام إلى فرعون وغيرهما من القصص.

وأنا لا أشك في سعة ثقافة أمية لنهله من النصرانية حتى عده بعضهم من شعرائها فقصد القصائد في القصص الإنجيلي كقصيدته في قصة مريم وابنها عيسى عليهما‌السلام. ولنهله من اليهودية حتى عد من روادها الذين قصدوا لها حيث نظم قصائد كثيرة في القصص التوراتي. فهذا كله يجعلنا نزداد جزما أن أمية كما أخذ من التوراة والإنجيل أخذ من القرآن لا العكس](١).

كما أن كثيرا من الأشعار المنسوبة إليه محل ريبة كما ذكر ذلك أكثر من واحد. حيث صنعها غيره ونسبوها له ؛ لمعرفتهم بطبيعة شعر أمية. ولتأخذ طابع الأقدمية والأصالة.

وقد ذكر الريبة في بعض أشعار الجاهليين وإلصاق بعض الأشعار لهم مع أنهم لم يقولوها بعض المستشرقين أمثال «تيودور نولديكه» و «ديفيد صمويل رجليوث» و «ه. الفرت» و «أ. بروينلش» و «أجنتس جولد تسيهر» و «أوجست أشبرنجر» و «ف. كرنكسوف» ، وغيرهم.

__________________

(١) انظر الشعراء الجاهليون ص ٩٥ ـ ١١٦ (بتصرف).

٢٥٩

وأنا أقول إنه قد حصل مثل هذا من حماد الراوية ، وخلف الأحمر ، ولكنه ليس بالقدر الذي يسقط كل الشعر الجاهلي لأن الشعر يعتبر من أسس فهم النص القرآني لنزوله بلغة هؤلاء الجاهليين.

وهذا هو أساس تركيز المستشرقين على هذه القضية باعتبار هذا الشعر أساسا للقرآن ومصدرا من مصادره.

والملاحظ من دراساتهم المستفيضة لهذا الجانب ومع حرصهم عليه لم يجمعوا إلا أبياتا معدودة.

ثم هناك أمر آخر يرد عليهم فريتهم وهو أن خصوم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانوا دائما على يقظة لأقل ثغرة يجدونها ليوجهوا من خلالها ضربتهم ضد الإسلام ويحولوه إلى سخرة واستهزاء ، ألم يكن من الأيسر لهؤلاء ، أن يضعوا يد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على مسروقاته المفضوحة من شعر أمية وامرئ القيس وغيرهما هذا الشعر الذي لم يكن قد جف مداده بعد ـ بدلا من أن يوجهوا حججهم في كل اتجاه ، وأن يلجئوا إلى كل افتراض وافتراء ، حتى وصل بهم الأمر إلى حد وصم الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالجنون تارة وبالسحر تارة أخرى إلى غير ذلك لتفسير ظاهرة الوحي.

والقرآن الكريم كان أساس الإنتاج الأدبي في عصر نزوله والعصور التالية لذلك.

والشاعر دائما كما هو معروف همه جمال القالب الشعري بغض النظر عن المصدر الذي يأخذ منه خاماته ، وهذا ما ثبت من شعر أمية بصفة خاصة الذي كان يأخذ من عدة مصادر وهذا ما لاحظه «هوارت» على أمية حيث قال عنه : كان أمية إذا وصف النار قد أسلوب التوراة ، وإذا وصف الجنة استخدم عبارات القرآن ، وإذا نظم قصص التاريخ الديني لجأ أحيانا إلى الأسطورة الشعبية وإلى ما يشبه الأساطير الميثولوجية أي (الأساطير الإلهية اليونانية. حيث يتمثل

٢٦٠