موسوعة عشائر العراق - ج ٤

عباس العزاوي المحامي

موسوعة عشائر العراق - ج ٤

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٠

الرؤساء والأمراء

كل قرية لها رئيس يقال له (كتخدا) ، أو (تشمال) ، أو (كوخه) بالنظر للمحال والمواطن ومصطلحاتها ، وهؤلاء لهم كل السلطة على القبيلة ، وحق إدارتها فلا يخرجون عليهم ولا يتجاوزون رغبتهم ، ولا يخالفون أمرهم ...

وهؤلاء أشبه ب (السراكيل) عندنا ، وتدخلاتهم محدودة ، ويعدون رأس القرية وناظمها ، وفي كل حالاتهم يقومون بالتفاهم مع الأمراء ومع الملاكين ، فيتعهدون أشغال الزراعة أو الأمور الأخرى. فلا يصح التفاهم مع كل واحد ، ولا يتيسر القيام بالأعمال المنفردة مع كل بحياله ، وإنما الرؤساء يقومون بالمهمة ، ويراعون أحكامها وهم (مختار والقرية).

وطريق استفادتهم من أهمها الحصة من المزروعات يأخذونها رأسا من الملاكين ، أو يقومون بالزراعة باستئجار الأراضي منهم ، وينالون حقوق الملاك والسركال .. ومثل ذلك التفاهم مع الأمراء ، ومع الحكومة فهم واسطة التفاهم بين أهل القرية وبين الخارج ...

ولا يشترط أن يكونوا من نفس القبيلة أي من سلسلة رؤسائها. بل إن ذلك تابع للمواهب ولا يبالون ما إذا كان الرئيس حديث العهد أو قديما في القبيلة أو كما يقولون في القرية المسماة (دي) (١) أو (ده) الفارسية ..

__________________

(١) وفي الشمال تسمى القرية (كند) و (آوايي) أيضا.

٢١

والكلام على الرؤساء يتعلق بأحكام القرية وعلاقاتها بأمرائها وبحكومتها وبالمجاورين ، وهي إدارة صغيرة بل أول إدارة بسيطة ، وتشكيلاتها ابتدائية ثم تتوسع الإدارة وتتضخم ..

والإمارة أقل تدخلا ، والعلاقة بها أقل ، وهي عامة تشمل جملة قرى ، وتتناول إدارة أكثر من قرية بإيجاد ناظم للقرى ، ومدبر لها أو مدير يتعهد شؤونها وهذه تختلف في توسعها عن الإمارة العربية ، فإن الإمارة العربية تنشأ من تضخم القبيلة بحيث يكون كل فرع قد نال شكل قبيلة. والرئيس العام لها يتولى إدارتها وهو بمنزلة رئيس القبيلة كما أنه منها ، والقبائل التي تحت سلطته تكون بمنزلة الفروع بل هي الفروع. وفي القبائل الكردية هذه ليس بشرط (١) ولكن قد يتناول قبائله التي تضخمت بما تكاثر منها بمرور الأزمان ، وما انضم اليها فصار يعد منها .. فالجاف إمارة لنفس القبيلة المتكاثرة مع ما انضم إليها من القبائل بحيث بقيت محافظة على وضعها الأصلي. وأما (إمارة بابان) فإنها تتناول قبائل مختلفة ، وقرى متباينة فكانت هذه أشبه بالحكومة أو هي الإمارة بعينها.

ويوضح صلة الأمير أو الرئيس العام ما جاء عن إمارة الجاف في النصوص التاريخية التي نقدمها ، وكذا يقال في غيرها ، وذلك أن الدولة تفرض ضريبة على قبائل الجاف ، ويتولى أمرها (أمير الجاف) ، وله عائدات منها أو من غيرها بعد أن تكون بنجوة من الحكومة بما تدفعه إليها ..

وفي كل الأحوال نرى القبائل أو القرى في طاعة تامة لرؤسائها وأمرائها لا تكاد تشبهها طاعة ، ولا يوازيها إذعان في أكثر من عرفنا في أنحائنا .. بل لا يعرف هؤلاء إلا خالقهم وإلا رؤساءهم. تلك هي الإذعان التام .. ومن ملك إذعانهم وكان حسن التدبير ، قويم الإدارة ، نافذ النظر ملك بهم ما شاء ، وسيرهم السيرة المرضية التي يبلغ بها حدا لائقا ، ومبلغا فائقا ...

__________________

(١) ونشاهد مثل هذا في بعض القبائل الريفية من العرب.

٢٢

أصل الكرد

لا نمض الى عشائر الكرد دون أن نبدي كلمتنا في أصل الكرد. وقد جرت تحقيقات عديدة في أصلهم قديما وحديثا ، ومن المؤسف أن نرى معالي الأستاذ محمد أمين زكي يقول:

«الآثار القديمة الخاصة بالشعب الكردي. المكتشفة حتى الآن لا تعطينا فكرة قاطعة عن أصل الكرد ومنشئهم. فلم يحن الوقت الذي يمكننا فيه أن نبدي رأيا حاسما في مثل هذا الموضوع التاريخي» اه (١).

وفي هذا ما يشجع على البحث ، وان الآراء يحتفظ بها ، ولكل الحق في إيراد ما عنده. والمدونات العربية في الكرد وأصلهم بصورة عامة كثيرة جدا ، تعرضوا لها أثناء المباحث ، أو عرضوها. والعرب لم يدعوا ناحية تتعلق بهؤلاء القوم الذين عاشوا معهم ، أو جاوروهم إلا طرقوها ، وتكلموا على قبائلها وأصولها فكانت مباحثهم جليلة على أن الكرد كانوا معروفين قبل الإسلام بعصور لا يدرى أولها إلا أننا لا نجد المدونات عنهم وافية وصحيحة. أما القومية الكردية فلا شك أنها كانت موجودة ، وأيدها العرب في تواريخهم ، سوى أن الأمم لم تكن آنئذ موضوع المتتبعين والمؤرخين فلا يلتفتون الى الأقوام ونشوئها ، بل الأمر يتناول الدول والملوك وأعمالهم لا غير.

__________________

(١) خلاصة تاريخ الكرد وكردستان ص (٤٠) وهناك استعراض لبعض الآثار القديمة والحديثة.

٢٣

والكرد من العناصر الفعالة في العراق أيام العهد الإسلامي ، ولهم الأثر الجميل في كافة أنحاء المعرفة والإدارة والعمل للحضارة. وهم قوم قائم بحياله على الأرجح ولم يكن من بادية إيران كما توهم البعض بل يصح أن تكون إيران قد تولدت منه ، وبنت ثقافتها على أساس البداوة الكردية ، واستقت نفوسها ـ بلا ريب ـ من الكرد أو من بعض أقسامه القريبة منها. والأدلة كثيرة على قدم هؤلاء ، ورسوخهم في الحضارة ، فقد نزحوا الى المدن ، وسكناها ومالوا اليها بألفة وقبول تامين ، فلم يستنكروا ذلك ، ولا عارضوا كما يشاهد في العناصر البدوية فإنهم مالوا خطوة إثر خطوة حتى وصلوا الى الزرع ، ثم الى الغرس وتعهد المغروسات ثم تأسيس القرية وهكذا تدرجوا حتى فقهوا الحياة المدنية ، ولكنهم لا يزالون حتى في أرقى المدن محافظين على بعض العوائد ، والتقاليد القومية الموروثة ، فلم يروا وسيلة لاهمالها ، أو نسيانها فالكثير من الأمور لا يزال على حالته. والكرد أقرب الى تمثيل الحضارة ، لم يمض أمد قليل حتى أصبحوا من أعضاء الحضارة النافعة.

والتاريخ في مجراه ، وفي حوادثه العديدة برهن على أن هذا العنصر منذ دخل الإسلام صار من أهم أركانه ، وأخلص لعقيدته ، وتأثر بمبدئه السامي. ومن ثم نال نصيبا وافرا من الحضارة ومكانة مقبولة ، مرضية. الأمر الذي دعا أن يكون من أهم أركان نهضته .. وعلماؤه ، وأدباؤه ومؤرخوه ، ورجال سياسته ومدنه وصناعاته. كل هذه أكبر دليل تاريخي ، بل شاهد محسوس لما ناله من المنزلة السامية حتى أن زراعه في إنتاجهم ، وعماله بأعمالهم لا يقلون عمن ذكر من خدام المدينة.

وهنا أستعرض بعض النصوص التاريخية فأقول :

إن العرب بعد فتح البلاد المجاورة لهم صاروا يقيسون الأقوام والأمم من حيث النسب بمقياس أنسابهم وحاولوا أن يرجعوا الكرد كغيرهم الى قبائل ، بل زادوا أن عدد الكرد من أصل عربي ، وأيدوا عوامل المجاورة والاختلاط بعامل آخر ، وهو العامل النسبي مراعاة لما كان يقول به رجال

٢٤

الكرد. على أن بعضهم رأى اللغة أقرب للفارسية ، فاعتبروهم إيرانيين ، أو أنهم أهل البداوة منهم. ولكن هذا كله لم يمنع أن يحتفظوا بقوميتهم وأنهم (كرد) لا (فرس) ، ولا (عرب).

والآراء الواجبة التدقيق مما أشير اليه :

١ ـ أنهم من ولد كرد بن اسفند ياذبن منوشهر (منوجهر) من ولد ايرج بن فريدون المعروف ، وهو أول الطبقة الثانية من ملوك الفرس ، قاله في التنبيه والإشراف. ولعل هذا القول مبتن على وجود التشابه في اللغة ، ولكن هذا غير قطعي فبعض لغات الكرد بعيدة كل البعد عن اللغة الفارسية.

٢ ـ انهم ممن أبقاهم وزير الضحاك في حادثة مرضه المعلومة (١). وفي هذا ما يؤيد أنهم من الفرس عادوا الى البداوة ، أو كما عبر عنهم ابن الشحنة بقوله «أعراب العجم»(٢).

٣ ـ الادعاء بأنهم قوم من الجن كشف عنهم الغطاء لا يستحق الكلام ، ودعوى أنهم أولاد العفريت تفصيل لهذه الشائعة المعطوفة الى النبز ، فلا تستحق البحث.

٤ ـ قال المسعودي في التنبيه والإشراف أنه «قد ذهب قوم من متأخري الأكراد وذوي الدراية منهم ممن شاهدناهم الى أنهم من ولد كرد بن مرد ابن صعصعة بن حرب بن هوازن ، وفي المروج أنهم انفردوا في قديم الزمان لوقائع ودماء كانت بينهم وبين غسان. ومنهم من يرى أنهم من ولد سبيع بن هوازن. وقد علق المسعودي في التنبيه والاشراف على هذه الأقوال بقوله : «وحرب وسبيع عند نساب مضر درجا فلا عقب لهما.» فطعن بهذه الآراء ، ولم يشأ أن ينسبهم إلى إحدى قبائل العرب. وقال :

__________________

(١) مروج الذهب ج ١ ص ٣٠٨

(٢) روضة المناظر في اخبار الأوائل والأواخر. لابي الوليد محمد بن الشحنة هامش ابن الأثير ج ٧ ص ٧٨

٢٥

ومن الأكراد من يذهب الى أنهم من ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل ، وقعوا في قديم الزمان لحرب كانت بينهم الى أرض الأعاجم ، وتفرقوا فيهم ، وحالت لغتهم وصاروا شعوبا وقبائل. فكان سبب تبدل لسانهم وهكذا الأقوال من نوعها. وبعد الإسلام اختلط بهم العرب ، ولا نزال نسمع من رؤسائهم خاصة أنهم يمتون الى نجار عربي. وكل ما أقوله هنا ان المسعودي وأمثاله كتبوا عنهم ، وسجلوا ما سمعوه منهم ، ولم تكن آنئذ فكرة قوميات وإنما يعتبرون الأخوة بين الأقوام معتبرة ، وإن التعادي أوجده العصر الحاضر أو العصور المتأخرة فقام الناس بالدعوة المتطرفة وبما بثوه من نزعات. وعلى كل حال لم يقنع المسعودي بأقوالهم .. ولكن هذا لا يمنع أن يكون قد اختلط بالكرد عرب ، وتولوا رياستهم قبل الإسلام كما حدث بعده. ولذا قال ابن الشحنة : «الكرد من العرب ثم تنبطوا»

٥ ـ إن الكرد قوم قائم بنفسه لا ينتسب الى الأقوام الموجودة ، وهو منفرد عن سائر الأمم وقرباها. قال أوليا جلبي ، وعدهم ممن دخل السفينة من المؤمنين وخرج منها مع نوح عليه السّلام وأولاده ، عاشوا منفردين عن غيرهم ، وإن لغتهم لا تشبه الأقوام المعروفة ، وحكمهم ملك يقال له (كردم) وعمر عمارات مهمة في جودي وسنجار ، ومن ثم عرفوا به (١).

ومثله ما جاء في مسالك الأبصار قال :

«الأكراد جنس خاص ، وهم ما قارب العراق وديار العرب دون من توغل في بلاد العجم. ومنهم طوائف بالشام واليمن ، ومنهم فرق متفرقة في الأقطار. وحول العراق وديار العرب جمهرتهم فمنهم طوائف بجبال همذان وشهرزور وغيرها.» ا ه (٢).

__________________

(١) اوليا جلبي في سياحته ج ٤ ص ٧٥ وفيها تفصيل عن الكرد وموطنهم وتعداد عشائرهم وانها ستة آلاف عشيرة وقبيلة ، قال وكلهم شافعية.

(٢) مسالك الابصار ج ١٠ في مكتبة ايا صوفيا رقم ٣٤٢٣.

٢٦

وفي التعريف بالمصطلح الشريف :

«ويقال في المسلمين الكرد ، وفي الكفار الكرج وحينئذ يكون الكرد والكرج نسبا واحدا.» ا ه (صبح الاعشى ج ١ ص ٣٦٩)

وفي النويري : «كرد بن مرد بن يافث» وفي رأي أكثر النسابين ان الأكراد أولاد إيران ابن ارم بن سام ، أو من هوازن كما تقدم. وفي ذلك خلاف ، قاله النويري. (نهاية الأرب ج ٢ ص ٢٩٠) مما يدل على انه ليس هناك رأي مقطوع به أو يصح التعويل عليه ، والتوثق من صحته.

ونص المسالك يدل على انهم جنس خاص ، فلم يعدّهم من الإيرانيين. ولا من باديتهم. ولا من العرب ونجارهم وهو الأقرب للصواب. ويهمنا أن لا نقف عند هذا مكتفين بالآراء القديمة المبينة أعلاه ، والأخرى المتداولة في الوقت الحاضر التي لم نر حاجة في النقل منها ، وجل ما توصل اليه الباحثون أنهم من العناصر الآرية ، والكتب المدونة في الوقت الحاضر المؤيدة لهذا الرأي الشائع في أوربا كثيرة من أهمها : خلاصة تاريخ الكرد وكردستان لمعالي الأستاذ محمد أمين زكي ، وكرد للأستاذ رشيد ياسمي ، وكرد لر باللغة التركية منقولا من اللغة الألمانية ، والأكراد من فجر التاريخ الى سنة ١٩٢٠ م ومن عمان الى العمادية فكل هذه تعرضت لأصل الكرد ، وبينت أنهم من الآريين ، فمن أراد التوسع فليرجع اليها ..

وهنا يسوقنا البحث الى معرفة الأقوال المتأخرة لعلمائنا ، ولعل فيها ما يؤيد بعض الأقوال ويناصرها. أو على الأقل يعين اضطراب الآراء وتشتتها. لئلا يرمي العرب المحدثون في التعصب للعروبة بإدخالهم ضمن حضيرتهم من لم يكن منهم وإنما المنقول من الكرد أنفسهم قديما ، ولم يكن ذلك ابن اليوم أو أمس القريب.

وفي كتاب شرح منظومة عمود النسب في أنساب العرب للأستاذ المرحوم السيد محمود شكري الآلوسي (١).

__________________

(١) هذا الكتاب مخطوط وعندي المجلد الثاني منه.

٢٧

الشيخ محمود الحفيد زعيم ثوار الكرد

٢٨

«الأكراد جيل معروف ، وقبائل شتى ، واختلف نسبهم (عدد الأقوال وقال :) وقد ألف في نسب الأكراد فاضل عصره محمد افندي الكردي (١) ، وذكر فيهم أقوالا مختلفة ، بعضها صادم البعض. ورجع فيه أنهم أولاد كرد ابن كنعان بن كوش بن حام بن نوح عليه السّلام (وسرد النقول عن مؤرخين منهم صاحب كتاب مناهج الفكر ومباهج العبر وابن الجواني في آخر المقدمة الفاضلة وكتاب الجوهر المكنون في القبائل والبطون ، وتاج العروس.)

وفي تفسير روح المعاني عند الكلام على قوله تعالى (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ). يعني الأكراد كما في الدر المنثور ، ورجح أنهم (جيل من الناس) ، ونقل عن كتاب القصد والأمم وغيره اختلاف العلماء في كونهم في الأصل عربا أو غيرهم. وقال : والذي يغلب على ظني أن هؤلاء الجيل لا يبعد أن يكون فيهم من هو من أولاد عمرو مزيقياء إلا أن الكثير منهم ليسوا من العرب أصلا.

وقد انتظم في سلك هذا الجيل أناس يقال إنهم من ذرية خالد بن الوليد ، وآخرون يقال انهم من ذرية معاذ بن جبل ، وآخرون يقال انهم من ذرية العباس بن عبد المطلب. وآخرون يقال انهم من بني أمية ، قال ولا يصح عندي من ذلك شيء وصحح نسب البرزنجة وأبدى أنهم سادة انتهى ما نقل عن التفسير باختصار.» اه

هذا ما نقله الأستاذ الآلوسي المرحوم في كتابه (شرح المنظومة) ، ولم يبد أي مطالعة حول أصلهم واكتفى بما أورد من النصوص وعلى كل انجلت ماهية الخلاف ، وعرف تشعب الآراء والتعصب لبعضها.

ومن المتأخرين إبراهيم فصيح الحيدري قد تعقب ما جاء في تفسير الآلوسي فقال :

__________________

(١) لعله اراد به أن المرحوم محمد فيضي الزهاوي الا اننا لا نعرف له هذا الاثر ، ولم يوضح عنه.

٢٩

«والأكراد كلهم على ما في القاموس من أولاد كرد بن عمرو مزيقيا. وذكر في مادة مزق ان مزيقيا ، لقب عمرو ملك اليمن كان يلبس كل يوم حلتين ويمزقها بالعشي. فلذا لقب بمزيقيا. أقول (القول للحيدري) فعلى هذا تكون الأكراد من أشراف العرب وأكابرهم ، وكرمهم وشجاعتهم وغيرتهم أعدل شهود على كونهم من أشراف العرب.

وأما ذكر بعضهم من أنهم ليسوا من العرب فهو من قبيل التعصب ، وكفى صاحب القاموس تصحيحا وشهادة ، فهم على ما ذكره المجد صاحب القاموس من قحطان من العرب العاربة نسبا. لأن مزيقيا على ما ذكره علماء النسب من بني قحطان. وتبدل لسانهم لقرب منازلهم من العجم ، فلسان الكرد ممزق لسان الفرس.» اه (عنوان المجد ص ١٦٦) وفي هذا رد ضمني لما أورده أو نقله الآلوسي في تفسيره.

ونحن لا نقول أكثر من أنهم شعب مستقل عن الشعوب الأخرى ، متأثر بالمجاورين من عرب وإيرانيين. ولا ينكر أنهم اختلط بهم بعض العرب ، وعاشوا معهم ، وصاروا لا يفترقون عنهم بوجه وأنهم لا يزالون يحفظون أنسابهم فلا طريق للطعن كما أن كثيرين من الكرد عاشوا مع العرب والآن لا يخرجون عنهم ويهمنا الكلام على (العشائر في التاريخ) بنظرة سريعة للتوصل الى قبائل العصر الحاضر.

٣٠

قبائل الكرد في العراق قديما

لا ندرك التقلبات العديدة في العصور المختلفة. ولكن الكثير من الأمثلة وما تعرض له المؤرخون في مباحث عديدة عرضا أو قصدا قد يكشف عن صفحة مهمة ، تشير الى ما وراءها ، وتستدعي النظر ، ومنها نعلم قيمة العشائر في هذا القطر. ولا يهمنا في هذه العجالة التفصيل ، بل نرجح أن يكون ذلك (بيان مجرى) ، ويؤدي بنا حتما الى حقيقة ما هنالك على قاعدة «وليقس ما لم يقل».

أما فروعهم الكبرى فهي :

١ ـ كرمانج

٢ ـ لر

٣ ـ كلهر

٤ ـ كوران

وهناك فروع أخرى تدخل ضمن هذه الفروع. والآن لا تزال هذه القسمة القديمة معروفة مصادقا عليها. ونصيب العراق من هذه الأقسام كبير ، وإن كان لا يدعي حيازتها بحذافيرها بل لا تزال أقسام كبرى في إيران قد تفوق ما في العراق ، وكذا في الجمهورية التركية مقدار مهم كما أن سورية تحوي جزءا لا يستهان به.

وفي معجم البلدان (١) ذكر ممن في شهرزور من الطوائف :

__________________

(١) معجم البلدان مادة شهرزور

٣١

١ ـ الجلالية. وهي الكلالية المعروفة.

٢ ـ الباسيان. يريد ما نسميه بازيان.

٣ ـ الحكمية. لا تعرف اليوم وتنسب الى مروان بن الحكم الأموي.

٤ ـ السولية. لا يزال الموطن معروفا.

وكان من أقضية لواء السليمانية وينطق به (سيول) أيضا واللفظ العربي صحيح والآن يحتوي على قرى كثيرة عد منها صاحب سياحتنامه حدود ٢٦ قرية. وجاء ذكر هذه القبيلة المعروفة بمكانها في مسالك الابصار بلفظ (السيولية) كما في السياحتنامه (١). وتردد فيها معالي الأستاذ أمين زكي (٢).

وعدد صاحب مسالك الأبصار من قبائلهم :

١ ـ الكورانية.

٢ ـ الكلالية.

٣ ـ اللورية. وهم اللرية ...

٤ ـ بابيرية.

٥ ـ الخونسة.

٦ ـ السورانية.

٧ ـ السيولية.

٨ ـ الفرياوية. أو الفرناوية.

٩ ـ الحسنانية. وكذلك جاءت في نسخ أخرى من مسالك الأبصار ، أو خستانية.

١٠ ـ اليافية. (غير منقوطة).

١١ ـ المازنجانية.

__________________

(١) سياحتنامه حدود ص ٢٥٤.

(٢) خلاصة تاريخ الكرد وكردستان ص ٣٨٢

٣٢

١٢ ـ الحميدية.

١٣ ـ الزرارية.

١٤ ـ الجولمركية.

١٥ ـ الهكارية.

١٦ ـ بختية.

١٧ ـ الداسنية.

١٨ ـ الدنبلية.

وفي المسعودي ما يقاربها نوعا. وغالب نسبة هؤلاء الى المواطن والبقاع لا الى القبيلة ، والأمر شائع جدا في هذه الأنحاء. وهذا يصح أن يعد الأصل في الانتساب. ويؤيد ما قررناه. وبين هذه القبائل ما هو غير معروف اليوم في الأنحاء العراقية ، أو أنه يتعلق بمواطن مجاورة أو خارج العراق والبحث عن العشائر لا يقتصر على ما هو مألوف في عشائر العرب ...

وإن صاحب مسالك الأبصار تكلم عليهم بالاستناد الى علماء عراقيين مثل الحكيم الفاضل شمس الدين أبي عبد الله محمد بن ساعد الأنصاري (١) فقد توضح (تاريخ العراق) في تلك الحقبة بأمثال هذا العالم الجليل المبرز في كل علم حتى التاريخ ونظام الدين الحكم وآخرين ... وإن القلقشندي والنويري اعتمدوه وأخذوا منه.

ومن ثم نرى صاحب الشرفنامة وهو متأخر من رجال القرن العاشر وأوائل الحادي عشر يتوسع أكثر. فكانت الحقبة الأخيرة بعد الشرفنامة أكثر غموضا لقلة المؤلفات الخاصة التي نستفيد منها في التطور والتحول والانتقال ... ولا نتعرض لما قبل ذلك من القبائل والعشائر فالعصور القريبة منا هي هذه ونضيف اليها التحولات وما وقع من انتقال وهجرة أو جلاء ،

__________________

(١) ترجمته في كتاب (منتخب الذخائر).

٣٣

وللتعبير الأصح ندون ما له علاقة أكيدة بالعشائر الحاضرة ، أو كانت له مكانة أكيدة في تاريخ العراق لا يصح التهاون بها بوجه.

ولا ننس أن الداسنية والدنبلية ، والهكارية يزيدية والبختية اليوم في العراق فانها كانت ولا تزال معروفة فيه وهي يزيدية أيضا وأما الكلالية فإنها لا تزال موجودة في العراق. ومثلها الزرارية. وهكذا. والآن أبحث عن القبائل الحاضرة ، ومن ثم أراعي الصلة بين القبائل الموجودة والقبائل القديمة بقدر الامكان وبما تسمح به الوثائق التي تيسر العثور عليها ، أو تمكنت من الوقوف عليها ...

٣٤

القبائل الحاضرة

تكلمنا على القبائل القديمة من الكرد بصورة موجزة ، ويراد بها المجموعة التي تجمعها أرض واحدة ، أو قرية بعينها. وتراعى فيه المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة. ويصح أن يقال إنها واسطة عقد تكون القرية ووسيلة تشكيلها. فإذا بحثنا عن القبيلة هنا كان موضوعنا يتعلق بالقرية وعلاقة الأشخاص بها ، وإدارتها. فلا يفرق البحث عن هذه إلا من ناحية اتصال القبيلة بها ، أو تعرف أوضاعها وحالاتها أو قل ان جماعة كردية (القبيلة) حيثما حلت كونت قرية باسمها. وهذه قد تتوسع. أو تنضم إليها غيرها وتصير إمارة ... ولا يختلف هذا بين القبائل الرحالة ، والقبائل المتوطنة. إلا أن الرحالة منها أقرب الى العشائر العربية في مجموعاتها ، وفي القربى بين أفرادها ، ولكن لا تخرج عن أنها في الأصل (قرية) ، تتجول في مواطن صيفية ، وأخرى شتائية تتنقل إليها لضرورة اقتضت أو لازمت حياتها ، وسميت بها أثناء تكونها ، ويلازمها هذا الاسم.

وقد يطول بنا القول في ذلك ، والأولى أن ندخل في مباحث القبائل الحاضرة مراعين عشائر كل لواء بقدر الامكان ، ومن ثم نعين أوصافها ، ولكننا نبدأ بمن اكتسبت صفة متنقلة (رحالة) ، ثم نميل الى المتوطنة في قرى ولا نتحول منها إلا لأسباب اضطرارية ، وأحوال قاهرة قاسرة. والقبائل الكردية كثيرة ، وما وصل إلينا خبره يكون بلا ريب موضوع بحثنا.

٣٥
٣٦

(١)

لواء السليمانية

قبائل الجاف بصورة عامة

هذه القبيلة يبالغ في كثرتها ، ولا يزال منها قسم على البداوة والتنقل ، وقسم آخر أهل قرى يقطن في مكان واحد. وأول ما ورد ذكرها في معاهدة السلطان مراد الرابع المعقودة في ١١ المحرم سنة ١٠٤٩ ه‍ ، ولم يعرف عنها قبل ذلك ، وكل ما ذكر عن فروعها اربعة ، ولعل هذه هي الفروع التي وقع عليها النزاع (١) ولم نجد تدوينات تشير الى ما كانت عليه. والآن أكثرها في (لواء السليمانية) ، وقسم لا يستهان به في ناحية شيروانة التابعة لقضاء كفري من لواء كركوك ، وفريق ثالث كبير جدا في أنحاء إيران في (زهاب) والمواطن الأخرى حتى أردلان ونواحيها من إيران.

ولا نرى انتشارا وكثرة في قبائل العراق الكردية مثل ما نراه في هذه القبيلة وفروعها إلا قليلا فقد زادت نفوسها ، وتنقلت في مواطن عديدة بحيث صارت في كل موطن تعد بالألوف ولم يقع إحصاء يوثق به في بيان نفوسها أو يصح الاعتماد عليه لنرجع إليه. والنفوس متحولة في العشائر ، غير مستقرة. وهذا لا يمنع أن تكون من العشائر ذات المكانة الكبيرة ، والاهتمام الزائد من الحكومات المجاورة. لكثرتها وبداوتها وقوتها.

__________________

(١) تاريخ العراق بين احتلالين ج ٦.

٣٧

ولوقوعها في الحدود ، ولأنها تتردد بين إيران والعراق ففي رحلة الشتاء تميل الى السليمانية والأنحاء العراقية الأخرى وفي رحلة الصيف تذهب الى إيران. مما دعا أن يشار الى القبائل المنازع فيها في المعاهدة المذكورة.

وأكثر ما جاء عن هذه القبيلة من التدوينات نراه في تقرير (تحديد الحدود الإيرانية) المقدم من الفريق درويش باشا في سنة ١٢٦٩ ه‍ والمطبوع سنة ١٢٨٣ ه‍ وسنة ١٣٢١ ه‍ ، وفي كتاب خورشيد باشا مكتوبي وزارة الخارجية المسمى (سياحتنامه حدود) وكان قد رافق درويش باشا فكتب ما علمه بأمر من السلطان وإيعاز من وزير الخارجية بصورة خاصة وكذا جاء عن هذه القبيلة في دوحة الوزراء ، وفي (عنوان المجد في تاريخ بغداد والبصرة ونجد) للسيد إبراهيم فصيح الحيدري ، وراجعت أيضا نفس القبيلة وتحققت منها أشياء كثيرة لها قيمتها سواء من رؤسائها أو من أمرائها.

لم نجد من تعرض لوجه تسمية هذه القبائل ب (الجاف) وقد سألنا الكثيرين منهم فلم نظفر ببغية. كانوا في جوانرود ، فجاءوا العراق ، ولا يزال قسم منهم في (جوانرود). ولعل (الجاف) منحوت من (جوانرود) نطق به العرب ، فعم وشاع ولعل في القراء من يدري سبب التسمية وتاريخه لما قبل المعاهدة الإيرانية ـ التركية أيام السلطان مراد الرابع فيفيدنا.

والظاهر ان القبيلة لم يكن لها من الشأن ما يستدعي التدوين عنها ، وإنما عظم شأنها أيام النزاع بين إيران والعراق. ومن ثم شعروا بوجودهم للعلاقات الحربية بين الدولتين الإيرانية والعثمانية ، فكانوا كما يظهر أعانوا الدولة العثمانية ، فأدرجوا في المعاهدة تأييدا لولائهم ولما قاموا به من خدمات ، والفرق الأخرى جعلت لإيران من جراء عين السبب ... أو لتوطنها إيران وبعدها عن العلاقات السياسية.

ولما كانت الحكومة في العراق عاجزة عن تعقب أثرهم في استحصال البيتية وتسمى (الكودة) «الرسوم المعلومة» فقد اتفقت مع أمرائهم على مقطوع يستوفى بقسطين يؤدى الى لواء السليمانية في الربيع وفي

٣٨

الخريف ، وكانت الأقسام الأخرى من هذه القبيلة قبل نحو ٣٠ أو ٣٥ سنة تؤدي ضرائب للحكومة الإيرانية إلا أنها امتنعت من إعطائها خلال المدة المذكورة ، كما أن العشائر الإيرانية من الجاف حينما كانت ترد الى أنحاء خانقين ومندلي (بندنيجين) تقوم ببعض الأوضاع غير اللائقة ، تعتدي على بعض المواطنين فلا تخلو من إثارة زعازع وهكذا أعمال هذه العشائر حينما تذهب الى أنحاء (سنة) من المملكة الإيرانية لا يراعون الحالة الاعتيادية ، وإنما يقومون ببعض الأضرار وإثارة الأذى بالرعية.

وكذلك الأمر في عشائر الجاف القاطنين في لواء السليمانية يمضون الى (صغوق بولاق) المعروفة ب (صاوجبلاق) أيضا كانت تأتي الى أنحاء إيران المذكورة وتؤدي رسوم المراعي (شاة مرتع) إلا أنها منذ ٣٥ سنة امتنعت عن التأدية ، وأنها عدا ذلك لا تخلو من إيقاع اضطرابات ، وإحداث غوائل بما يقومون به من حوادث (١).

هذا. والملحوظ أن هؤلاء نظرا لمنازعات الحدود صارت الحكومتان تخطبان ودهم وتراعيان جانبهم ، الأمر الذي أدى أن تغمض العين عن هؤلاء في أمر المطالبة بالتكاليف الأميرية. فتمكنوا أن يعيشوا بنجوة من الرسوم. أو قلة التدخلات بحيث صاروا لا يتفاهمون إلا مع أمرائهم رأسا.

__________________

(١) تقرير الحدود : درويش باشا ص ٥٨ وسياحتنامه حدود ص ٢٤٢.

٣٩
٤٠