موسوعة عشائر العراق - ج ٢

عباس العزاوي المحامي

موسوعة عشائر العراق - ج ٢

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

المدونة في هذا الباب التي نقلت منها. ثم نقلت من دواوين العرب والمحدثين وتواريخ أهل الادب ... ومن أفواه الرواة وتفاريق الكتب. وما شاهدته في أسفاري ، وحصلته في تطوافي أضعاف ذلك ...» ا ه (١)

وفي هذا توجيه للاشتغال ، بل فيه بيان مواطن عشائرنا الحاضرة إلا اننا نستدل منها على تاريخ تنقل العشيرة وحاجتنا تدعو إلى استنطاق مؤلفات كثيرة. والعشائر لا تختلف في أصولها. وتبدل الموطن لا يغير أصلها. ونرى كلّ هذا لا يفي بالغرض. فالعشائر الريفية تختلف عن البدوية. فهي في مطالبها مهمة. ومن جهة أخرى ولدها القدم والتفرع فصارت لها فروع استقلّت بأسماء جديدة. وهذا ما يبعد الشقة عن أصل العشيرة فينسى. والصعوبة كلّ الصعوبة في ارجاع الفروع إلى اصولها.

وعلى كل نرى الموضوع وافر المراجع لا سيما ما يتعلق ببعض العشائر الكبيرة وفيه توجيه للباحثين في عشيرة أو جملة عشائر من نجار واحد في استقصاء أحوالها ، واستيعاب أخبارها.

ولا ننازع في اختلاف وجهة النظر فالأمر ليس مما ينصرف إليه كلّ أحد ، وانما يتطرق إليه الخطأ من وجوه.

وكلّ ما أقوله أن حياة الأرياف جديدة بالنظر للبدو. اتصلت بمحيط غريب عنها وبأوضاع غير مألوفة لها ، فرأت صعوبة في القبول ، ولكن الاستمرار والنسل الجديد مما يجعلهم يكتسبون أوصافا منتقلة ممن سبق في هذه العيشة. ومهمتنا تدوين الفروق ومعرفة حقيقة ما عليه أهل الأرياف حتى في آدابها وعاداتها مع مراعاة الاتصال بأهل الحضر وما أدى إليه من تبدل يتوضح لنا من أصل القبيلة وما عليه هذه الفروع من الدخول في الارياف.

__________________

(١) معجم البلدان ج ١ ص ٧ ـ ٨ طبعة مصر.

٢١
٢٢

المباحث

عشائر الأرياف كثيرة جدا ، وتجمعها (القحطانية) ، و (العدنانية). و (المتحيرة) قليلة. والمثل العربي (من آل وبني) يضرب للقدم. فإن (آل) و (بني) أي هذا التقسيم قديم فالقحطانية تمت إلى (آل) ، والعدنانية إلى (بني). ولا تخرج عشيرة عن هؤلاء.

ففي العشائر الجنوبية يستعمل (آل) بما نقصده من (بني) ومن أولاد أو أسرة أو ذرية ، في حين أننا نستعمل آل بمعنى (الأسرة). وأما (البو) فيراد بها لدى القبائل القحطانية معنى (آل) أو (بيت) عند العدنانية. وفي أنحاء العمارة والكوت والجهات الفراتية يراد بالبيت ما نريده من الفخذ أو (البو) بلا فرق. وكذا عند العدنانيين يراد ب (البو) عين ما يراد عند القحطانيين إلا أنه تمدّ همزته فيقال (آلبو). و (آل) عند القحطانية يراد به عين ما يراد من (ال). ولكل استعماله.

ومباحثنا تتناول (آل وبني) أي القحطانية والعدنانية. وكلّ واحد من هذين الجذمين يتفرع إلى عشائر عديدة جدا لها مزاياها وخصائصها. فالقحطانية تتناول الزبيدية والطائية وما يتصل بهما ويتكون هذا المجلد منها. والعدنانية ينطوي تحتها المنتفق وربيعة وما يمت اليهما. ومنهم يتكوّن المجلد الرابع.

ولا شك ان الاختلاط أدى إلى تغلب الاكثر من العشائر على الآخر. القليل في الخصائص. فالمنتفق عدنانية إلا ان العشائر القحطانية

٢٣

التي ساكنتها لم تعد تفترق عنها بالرغم من انها حفظت نسبها ، ولم تندمج بها من كل وجه. وهكذا يقال في العدنانية التي خالطت القحطانية فاكتسبت خصالها وان كانت اعتزت بنسبها. وبمثل هذا لا يخرج كل منهما عن عربيتهما ، أما الذين خالطوا الكرد او الايرانيين أو الترك فانهم أضاعوا في الغالب لغتهم ، وللاختلاط أثره. فهو مشهود فيهم. والنسب لا يزال محفوطا أو محتفظا به للعرب حتى فيمن اندمج في العشائر الكردية ، أو الكرد في العشائر العربية. ومثلهم الترك والايرانيون.

ولا نتوغل في أمر التفريع الآن. وأقل ما فيه القربة القريبة ، والاشتراك في المنافع ، ودفع الغوائل أو كما يقولون (في الدم والمصيبة). وهذا التوزيع الاصلي إلى قحطانية وعدنانية سهل بيان خصائص كل صنف وأدى إلى الاحتفاظ بالنسب وهو عزيز عند العرب محتفظ به. وعليه تستند عصبيتهم وقوة (نخوتهم) أو (صيحتهم). والملحوظ أن يوجه لجهة الخير ، فلا يستغل للشرور والآثام بل إلى التعاون والتناصر في العمل للانتاج الممدوح.

وكنت أرغب أن أسرد العشائر الريفية على ترتيب حروف الهجاء الواحدة تلو الاخرى إلا اني رأيت أن الفهرس الهجائي للعشائر يعوض. وذكر القحطانية فالعدنانية يجعل كل جذم من هذه وتفرعاته في موضوع خاص. وهذا هو الذي رجحته بعد تلوّم. لان ذكر العشائر على ترتيب حروف الهجاء لا يجعل صلة بينهما ، ولا يؤدي إلى توحيد عرفها بوجه. ولا لهجتها وآدابها وسائر احوالها. ولا يؤدي إلى معرفة التعاون والتناصر بينهما.

وكذا رجحناه على ترتيب الأرياف بالنظر (للالوية). وفي هذا تجتمع عشائر غير متجانسة في صعيد واحد وكلها احتفظت بصلاتها ، لذلك اخترنا أن نمضي على ترتيب القحطانية والعدنانية. وهذا نعوض عنه بالخارطة ، وبذكر عشائر كل لواء في بحث خاص على حدة توقيا من التداخل الملحوظ ، ومن فقدان المزايا المرغوب فيها لدى العشائر. فالعشيرة تود الوقوف على أجزائها ، وعلى من يمت اليها بنسب في المواطن الاخرى مجموعة.

٢٤

الشيخ رشيد البربوتي ـ زبيد

٢٥
٢٦

من البدو إلى الأرياف

هذا التنقل او الميل من البدو إلى الأرياف ضرورة لازمة لحالة المجاورة للارياف فالبدوي يحاول سنوح الفرصة ، ويتأهب للاوضاع المواتية او يتوثب ليحل محل الريفي أما لوقوع نزاع بين أهل الأرياف وتدافعهم ، أو لخلل حدث في الحياة الاجتماعية كأن يميل أهل الأرياف إلى المدن ، أو لاتفاقات حدثت لما شعر أهل الأرياف بضعف تجاه البدو ، أو كانت هجومات متوالية أدت إلى انتصار البدو لشعورهم بقوة بأن تتهيأ الفرصة السانحة فيضطر الريفي أن يميل إلى مواطن مانعة من الاعتداء. إلى آخر ما هنالك من أوبئة وطواعين وغوائل قحط وما ماثل.

نرى الحالة الواقعية هيأت ذلك. وهي طبيعية قطعا والا فقد اتخذت الدول تدابير لتحضير البدو فلم تتمكن من وسيلة ناجعة. فلما قبل البدو الاسلام قلبا وقالبا ، لم يروا بدا من قبول الحضارة ، بل لم يقبلوا بغيرها. ومن ثم تحضروا ، أو صاروا حضرا في البادية. وهذا حادث عظيم لم نر ما يماثله من نوعه إلا قليلا في العشائر التي تركت الغزو فمالت إلى الحضارة.

ولا يسعنا حصر الاسباب القسرية أو الاختيارية لركون البدو إلى الأرياف. ومن ثم يألف البدو عيشة الأرياف. ويفقدون مزايا البدو تدريجيا. وكان ضعف الريفي يجعله يميل إلى القوة العشائرية أو الاحتماء بالمدينة فيتقدم إلى الحضارة قسرا. ومثل ذلك العداء المستمر ، والطواعين ، أو القحط ... مما يجعل خللا في الأرياف. ومن ثم يميل البدو اليها.

٢٧

والبدو قد يقسرون على النزوح ، او يتربصون الفرص ليحلوا محل أهل الأرياف. وبواعث الهجرة أو النزوح كثيرة ، وللتدافع حكمه. وهكذا يصيب الريفيين الجدد ما أصاب من قبلهم ... والتحول سنة قاهرة. وادراك هذا التيار القسري أو الارادي نتيجة استمداد من الحضارة وعوامل بقائها ، وتوارث بعضها من بعض. والحالات مشتركة تقريبا بين البدو وأهل الأرياف. فتيار الهجرة غير منقطع ، ولا يحصر في حالات خاصة. وفي الوقائع التاريخية أو تاريخ العشائر الريفية ما يعين ذلك.

واذا تمت الهجرة حدثت اوضاع جديدة في الحضارة بدخول عناصر جديدة ، وفي الأرياف لظهور أقوياء لا يزالون في قوة طبيعية ممرنة ... وهناك اكتساب أوضاع او حالات غير ملوفة ، ومن ثم تتغلب وتستقر ولو بعد حين عادات أهل الأرياف بالاختلاط والالفة الطويلة ، ولكنه تترك أثرا من البداوة فيها فلم تتخلص منها.

مضت بعض الامثلة في حادث ظهور زوبع العشيرة المعروفة ، وشمر طوقة وعشائر عديدة تقربت إلى الأرياف بالنظر للسكان الاصليين من أهل الأرياف حتى حصلت الالفة ، فلم تلبث أن فقدت الكثير من خصائصها وآدابها البدوية. وهذا مشاهد في المسعود ، وفي بني لام وعشائر عديدة ..

وأثر الآداب اوضح.

ومن أهم خصائص الأرياف :

١ ـ التقيد بأرض بعينها. وهو أشبه بالاستقرار.

٢ ـ العوائد. ولها بحث خاص. وقد يفقد البدوي الكثير منها بميله إلى الأرياف ، ويكتسب عوائد جديدة.

٣ ـ الانساب. وتغلب المحافظة عليها ، وهي أقل تأثرا في حالة التحول من البدو إلى الريف.

٢٨

٤ ـ الآداب. وهذه متحولة كثيرا. وأمرها مشاهد في اختلاط العدنانية بالقحطانية وبالعكس ... وقد يبقى أثر الواحدة مستمرا إلى حين ولكنه محكوم عليه بالزوال.

٥ ـ الغزو. وهذا انعدم تقريبا. أو انقلب إلى اثارة العداء بقصد الوقيعة. أو انحصر في الدفاع عن الكيان.

٢٩
٣٠

التحولات الحديثة في توطين البدو في

الحاضر والمستقبل وآثارها الاجتماعية

والاقتصادية

الحرب العالمية الاولى والثانية مما نبّه من الغفلة ، وبصّر بحياة الاقوام في اظهار قدرتها ، وبالامكانيات العظيمة وحدودها الواسعة النطاق التي لا تزال في فيض وازدياد ونشاط ... وهكذا توالت الاتصالات بكثرة وسائط النقل ، وسهولة وصول الاخبار ، فأدت إلى اختلاط. وهذا الاختلاط قد شمل الكرة الارضية ... فهل تعد عشائر البدو بنجوة من هذه مع ان العربان غربان؟ أو انها لم تشاهد أوضاعها ، ولم تشعر بالقوة؟.

كفى ذلك أن يلفت نظر الساهي ، ويوقظ النائم ، والعشائر البدوية تحاول أن تنال نصيبها من هذه الحضارة وأن تكتسب ما اكتسبت الامم من قوة وعزم لا سيما وأن البدوي ممرن على الفتوة ، معود على النشاط ، فهو في حل ومرتحل ، لا يستقر على حالة ، بل هو في حركة دائمة لا يهدأ ، وهو أسرع لقبول التحولات الحديثة في النظم الاجتماعية على ان ترافقها حياة اقتصادية طيبة. يريد ما نريده نحن ، ويطمح إلى ما نطمح إليه إلا أننا نراه مكتوف الايدي ، مقيدا بالحالة الاقتصادية والامكانيات ، فلو تيسر له ذلك لا يتردد في قبول الحضارة بل هو أقرب إلى الظهور فيها. ولم يلجأ إلى الغزو في سالف عهده إلا لضيق ذات يده فهو في حاجة إلى التوجيه والمساعدة لينهض ويظهر.

٣١

والنظم الاجتماعية في القبائل مكنتها الحالات القسرية والاوضاع القطعية وتارة التحكمات وهذا ما ندعوه ب (العرف العشائري). فاذا زالت الاسباب ابدل ما عنده بالنظم الشرعية. أو ما ندعوه بالنظم الحديثة. فاذا رأى البدوي أن امواله مصونة ، وان حياته هادئة فلا يرى صعوبة في القبول ولا يتردد لا سيما انه اذا رأى في حياة الأرياف ما يسد احتياجاته انصاع حينئذ إلى ما تصبو إليه تلك الحياة من نظم ، وقبل الحضارة وتحولاتها الجديدة بلا نفرة. وهكذا فعل اسلافه ممن مالوا إلى الأرياف أو المدن. فالبدو يناضلون بقوة ويقارعون أهل الأرياف ليزيحوهم ويحلوا محلهم. وأن هؤلاء يدافعون ويناضلون ويحاولون صدهم باتفاق مع العشائر الريفية الاخرى. وهذا النزاع والمثابرة عليه حرب دائمة ومن ثم يغتنمون الفرص فيحلون تدريجيا لينالوا ما ناله أهل الأرياف من رفاه نوعا ما ، وقد تحدث جوائح من طواعين او حروب طاحنة او قحط وما ماثل ذلك فتؤدي إلى خلل في نفوس الأرياف ، او ما يدعو ان يميلوا إلى المدن لما انتاب من حروب ، او ان يركنوا إلى العشائر القوية وينظموا اليها فينزع البدو إلى الأرياف ويحلون المواطن الريفية.

وهذا كله يعيّن حاجة البدو وطموحهم إلى الأرياف حتى يتيسر لهم ان يتمكنوا ، الامر الذي يولد فينا فكرة استغلال هذا الوضع الطبيعي بأعداد (مواطن ريفية) واتخاذ مشاريع زراعية ، أو عمل آبار فنية (ارتوازية) لإسكانهم تطمينا لتلك الرغبة. والا فأمل التقريب بعيد والاصلاح صعب. وأرى ان تكون المشاريع الخاصة بالبدو في مواطنهم واماكن وجودهم حذرا من دخول المتنفذين والاستئثار عليهم. وبذلك تنقطع المشادة بين البدو وأهل الأرياف. ومن ثم نرى النظم البدوية سهلة التبديل ، وهي بذاتها واجبة الازالة اذا تمكنت الدولة. واذا كنا قضينا على الغزو فمن المتيسر الغاء (قانون العشائر) والسير بهم بقوانين المملكة المدنية. وما معنى مسؤولية الواحد عن عمل الاخر ، واخذه بجريرة غيره!؟ فالقضاء على مثل هذه امر ضروري لحماية الحق والنفس والمال.

٣٢

فإذا مال البدوي إلى الأرياف صار في حماية الدولة ، وامكنه قبول النظم الجديدة لان الأرياف في ادارتها لا تختلف عن القرية. ولكننا نرى الأرياف عندنا تابعة إلى (نظم البادية) بالرغم من زوال خصائص كثيرة ولدتها حالة البوادي. واذا وقع نزاع بين عشائر عديدة امكن الرجوع إلى (التحكيم) وتحديد المسؤوليات. وهذا امر شرعي أو قانوني في اصلاح ذات البين. وقد اوضحت ذلك في محله.

وهناك (عوائد) (١) او نظم معتادة (عادات) ولكن في غير الخصومات ، ويراعيها البدوي كالريفي ، والتفاوت بينهما قليل. وهي متآتية من المجتمع وملهماته والتلقين المستمر وتتعلق بالافراح والزواج والمجالس والمجتمعات. وهذا لا يضر بقاؤها أو ان طبيعة التحولات الحديثة تدعو إلى زوالها. وبين هذه ما هو مقبول من اعزاز الجار واكرام الضيف ، وحمايته والتكاتف والتعاون في حالات ظهور الطوارئ. وأما المرذول فيزال أيضا من طريق التلقين وبيان معايب العادة الرديئة. وكل الاقوام لا يخلون من أمثال هذه. ورجل الاصلاح يقتبسها من المعاشرة ، أو من آدابهم في شعرهم وأمثالهم ، أو من حكاياتهم المنقولة أو من وقائعهم التاريخية ، فيسعى للقضاء عليها من طريق التلقين أيضا. فالكثير من عوائدهم مقبول. ولا شك ان الاجتماعي الحكيم يعزز المقبول ، وينفر من الرديء. والبدوي لا يحتاج إلى أكثر من التوجيه بعد أن يكتسب الحالة الريفية فيستقر ... وهو أقرب إلى قبول التوجيه الحق بعد المعرفة.

كنت سألت مرة بدويا أصحيح انكم تنفقون (الخيرات) على موتاكم مما تكسبون من (غارة الضحى)؟ ولماذا يغضب البدوي من القول له (حرمك الله من غارة الضحى). فأجاب وهل أجل من غارة الضحى. فهي

__________________

(١) العوائد جمع عائدة. ومعناها المكررة. ويراد بها ما يراد من العادة ولكنها شائعة بعوائد. والمقاربة واضحة في المادة وفي المعنى. ويقال لها (عرف) و (سواني) جمع سانية. و (تعاملات).

٣٣

على وجه نهار؟ وكيف تحرمني من مثل هذه الغارة ...!! ولكننا رأينا من مالوا إلى الأرياف تركوا الغزو ومالوا إلى الهدوء والطمأنينة ... وكل أهل الأرياف بدو في الاصل.

وهنا ألفت النظر إلى أن الزراعة صعبة على البدوي ، ولا يتعوّد عليها بسهولة ، فمن الضروري اعداد مراع له ، وزراعة أقرب إلى المراعي. لصعوبة عملها الشاق عليه. ولكن الوسائل الحديثة والآلات الزراعية سهلت التقريب إلى الأرياف. ومع هذا نرى ضرورة انعدام الغزو قد قربته كثيرا وجعلته يتولى ادارة الزراعة لا أن يقوم بالفلاحة. ولذا نرى من دخل الأرياف تولى رئاسة العشيرة لان فكر البدوي جوّال ممرن على التفكير وانه لا يصبر على الحياة المطردة في الزراعة. فان زوبعا وشمر طوقه وبني لام لم يعتادوا الزراعة إلا بعد قرون. وشمر وعنزة والضفير لا تزال على البداوة مع مرور مئات السنين. والذين تولوا رئاسة الاكرع وبعض عشائر الأرياف من البدو ليسوا بالقليلين ...

وأكبر حاجة البدوي إلى المراعي الخصبة لتربية الإبل ، والخيل ، ومراعاة الصيد وما ماثلها. وفي هذه ما يسدّ حاجات مدنية كثيرة يؤديها البدو. والمشاريع الكبرى المغريات للبدوي تزيد في أمله ، ويميل اليها بقوة ورغبة. وبذلك يغير أوضاعه الاجتماعية ونظمه المعتادة. وهذه النظم سريعة الزوال بذهاب البواعث والاسباب التي دعت اليها. ووسائل التوطين والميل إلى الأرياف كان يبذل لها البدوي ما استطاع من قوة. فاذا حصلت له عدها نعمة ، وترك ما كان عليه.

والملحوظ ان البدوي لا يتحمل ارهاق الملاكين أو أرباب اللزمة. ومن الضروري اتخاذ التدابير لاجل أن لا يتحكم به هؤلاء ممن استأثروا بالارضين وصاروا يقاسمون الفلاحين في الاراضي السيحية على اكثر من النصف وذلك ما لا يدع مجالا للفلاحين أن يعيشوا. وان تكاثر النفوس يزيد في التحكم أو يدعو إلى ايجاد مشاريع جديدة.

٣٤

الشيخ محمد بن رشيد البربوتي ـ زبيد

٣٥

والاولى أن يلاحظ تعديل الخطة ، لأن هؤلاء استأثروا بالارضين لانفسهم. ويلاحظ وجوب اصلاح ذلك. وكذا في التوزيع الجديد يجب ان نراعي فيه الامور التالية :

١ ـ تحديد ملكية أصحاب اللزمة الكبيرة.

٢ ـ عند تعذر ذلك أن يحدد ما يأخذه صاحب اللزمة من غلة بأن يكون لهم العشر لا أكثر في الاراضي السيحية ، أو لا يتجاوز ما يأخذه الميري من ضريبة.

٣ ـ أن تقلل الحكومة من ضرائبها فلا تتجاوز بها العشر.

٤ ـ أن لا يخرج الفلاح من أرضه ولو لم تكن له (لزمة) ، لمنع الاستئثار والتحكم. وأكثر ما يهرب الزرّاع التحكم من صاحب الارض.

وأخراج هؤلاء لا يقبل إلا بتحوطات ادارية شديدة.

٥ ـ أن يكون الترتيب عاما شاملا في المشاريع الجديدة والقديمة.

وبذلك يزول التحكم ويقلل من هذا الاستئثار ويرفع الحيف. ليتنعم الفلاح بنتائج عمله.

ومن هذا كله يتجلى بوضوح أن نظم البدو سائرة إلى الزوال.

والضرورة تدعو إلى التعجيل بازالتها وتسهيل أمر الميل إلى الأرياف في اصلاح شؤونها. وعندنا العشائر البدوية قليلة جدا وهي شمر وعنزة والضفير وقلّ غيرها. وبعض المشاريع الزراعية أو حفر الآبار الفنية (الارتوازية) يجعلهم أهل ارياف بميلهم إلى الزراعة. والاصلاح يراعى فيهم رأسا على أن تتخذ التدابير اللازمة مما أوضحت في الأرياف من المعايب. وأن يخفف في الوسائل الاقتصادية ويرفه بما ذكرت من الاسباب فتحول الاوضاع الاجتماعية. والملازمة مشهودة.

وأرى نجاح التحولات الحديثة والمستقبلة في أن تمضي بسرعة لتحقيق الاصلاح. والاولى أن تلغى هذه النظم الجائرة للبدو وأهل الأرياف الذين قبلوا التعديل في أنظمة البدو ، فالعرف العشائري في الخصومات

٣٦

ومراعاة قانون العشائر مما تجب ازالته ، أو أن يبقى محصورا تحت دائرة ضيقة وهي (المنازعات الكبرى) بالرجوع إلى التحكيم ...

وأقل ما في قانون العشائر انه لم يجعل للدماء حرمة ، ولا للاموال صيانة سواء في تحديد المسؤوليات أو تعميمها. ووحدة الامة في وحدة قوانينها أو أن القوانين ظاهرة المجتمع في حالة وحدته أو تفرقه. والبدو عندنا قليلون. والمسؤولية العامة لجأ اليها البدو من جراء عدم السلطة وفقدانها كتدابير لمنع الاعتداء. ولما كان أهل الأرياف في عداد أهل القرى فلا يختلفون عن أهل المدن في تطبيق القوانين المدنية.

وانني اوسعت القول في عرف القبائل وقانون العشائر في كتاب عشائر العراق (١) وليس من الصواب ايداع مثل هذه الامور لغير أهلها. وأهلها الحكام المدنيون. والبدو في ميلهم للزراعة لا يختلفون عن أهل الأرياف. واصلاح الحالة الاقتصادية مؤثر في حاضرهم ومستقبلهم. ولا تكفي المدارس ، ولا اعداد ما يلزم للمعرفة بل الحاجة ملحة في تقديم رقوق سينمائية ، وراديوات فتوضع في أماكن عامة وسيارة ، مع خزائن كتب سيارة ... وطرق الاصلاح الاخرى معلومة.

والعمل الاجتماعي العظيم الفائدة يجب أن يكون مصروفا إلى حلّ (المشاكل الزراعية) في الأرياف ، أو الاكثار من التدوينات في المشهودات على أن نتثبت من صحتها ، وندقق آمالهم وآلامهم من طريق الاختلاط بهم سواء في مهمة انتقال البدو إلى الأرياف ، أو الوقوف على حالات الأرياف.

ومن أهم ما يوصلنا إلى معرفة الاحوال الاجتماعية زيادة الاتصال (بالآداب البدوية) من جهة ، ومراعاة التوغل في (الآداب الريفية) بأنواعها. فانها تبصرنا بالحالات النفسية الكثيرة ، وتؤدي إلى الوقوف على روحية

__________________

(١) المجلد الاول من هذه الموسوعة.

٣٧

العشائر. وليس المحل محل بسط ولكنه يعدّ من أجل المصادر للمعرفة. وفي وقائع تاريخهم المنوعة المختلفة أمثلة على ذلك.

والإصلاح الاجتماعي تابع للمعرفة الحاضرة المتصلة اتصالا مباشرا بالمجتمع العشائري ومن هذا نرى التفاوت الكبير بين البدو وأهل الأرياف. وندرك الحاجات وما يعانيه الزراع. وطرق المعرفة لا تحصى وكنت قلت في كتاب عشائر العراق سنة ١٩٣٧ م :

«ومباحث العشائر ، واصلاح شؤونها ، وملاحظة نواحي ادارتها ، وتربيتها ، ورفاه حالتها ، وخصوماتها وآدابها ، وتطوراتها بقصد تأسيس ثقافة سليمة ، وآداب نافعة ، وادارة صالحة ، مما يجب أن يراعيه الاجتماعي ، أو من يعنيه صلاح هذه المجموعة الكبيرة بأن ينظر إلى شؤونها كافة ، ووسائل اصلاحها ، وتنظيم جماعاتها ، والطرق التي ترفع مستواها إلى آخر ما يتحتم الالتفات اليها بأستطلاع الآراء من كل ناحية وصوب حتى تتكامل المعرفة ، ومن ثم يعرف ما يستقر عليه حسن الادارة. وهناك تأسيس الحضارة ...

ولم يسبق لنا اشتغال بسعة في هذه المباحث واننا لم نعهد الافتكار بها ، وعرضها على النقد ، ولا استطلعنا الآراء في موضوعها ، أو الالتفات إليه بعناية زائدة الامن نفر قليل ، لا تتناسب مباحثهم وأهمية هذا الموضوع .. (وذكرت تلقي البدو ، ورأي الحضري ، ووجهة الاجنبي في العشائر) .. وقلت :

«اذا كانت العشائر بهذه الروحية ، وتلك النزعة ، وعلى هذا النمط من الحياة الاجتماعية والادبية ... فما الذي يجب ان نراعيه في صلاحها ، ووحدتها ، أو تسييرها؟ وما هي النواقص الطارئة؟ وما العمل المثمر؟ للوصول إلى الاصلاح؟.

ومن ثم تبدأ وظيفة الاجتماعي ، أو المربي ، فتستدعي حله أو تسترعي نظره وفي عملنا هذا تسهيل مهمته ... وتعيين الوضع الصحيح حذرا من أن يغلط المتتبع في نتائج كلها أو اكثرها عثرات ... ولا أريد

٣٨

بالاجتماعي الفرد واختباراته الخاصة ...» انتهى ما قلته (١).

وبعد أن عينت المهمة واقترحت ما اقترحت قبل نحو ١٧ سنة سرني في هذه الايام أن ظهرت قيمة اشتغالي ، فتوجهت الفكرة إلى العمل الاصلاحي الكبير في هذا المؤتمر الموقر وصارت تدقق المناحي الاجتماعية من أساتذة أكابر لهم الخبرة الكاملة لتسهيل هذه المهمة. ولم أكتف بالعشائر البدوية. وانما كتبت في العشائر الكردية مجلدا ، والعشائر العربية الريفية مجلدين. ولا تختلف العشائر الكردية كثيرا عن حياة الأرياف العربية.

كل هذا ليتمكن الاجتماعي من تطبيق مناهجه التي اختطها للاصلاح بعد الوقوف على الاوضاع. ولا شك أن الامكانيات متوقفة على الرفاه الاقتصادي ليتيسر الحصول على المهمة الاجتماعية. ولا يكفي عمل الدولة. فإن رفاه الأرياف أعظم مساعد والملازمة أكيدة. ومن ثم تشترك الامة في القيام بالخدمات الاجتماعية ، ولا نرى صعوبة في العمل. ومن المطالب العامة :

١ ـ الثقافة : البدوي عارف بحاجاته. ويفيد التبصر بما يلزمه اكثر.

والثقافة يجب أن تكون من هذه الطريقة.

٢ ـ الصحة العامة : التوجه إلى العبادة الحقة مما يؤدي إلى النظافة وتقلل الامراض. والتشكيلات الصحية مفقودة نوعا.

٣ ـ التوجيهات القومية والشعور المشترك.

٤ ـ القيام بالمهمات الاقتصادية.

٥ ـ الحالات التعاونية : وهذه شديدة وتحتاج إلى توجيه.

٦ ـ المجتمعات والاجتماعات.

٧ ـ ادارة العشائر : من أعوص الادارات ، وتحتاج إلى قدرة مكينة.

__________________

(١) المجلد الاول من هذه الموسوعة.

٣٩

٨ ـ عقيدة المجتمع : بسيطة إلا أنها في ضرورة إلى الاصلاح.

٩ ـ العرف : مبناه التكاتف على الخير والشر. ويجب أن يصرف إلى الخير.

١٠ ـ الاموال والممتلكات : ومن أهمها (الأرضون). وغالب المنازعات عليها ومن أجلها ... والمشاريع المهمة تنجلي بالحاجة اليها بوضوح.

١١ ـ الزراعة والمغروسات : وهذه أصل مهم في موضوع الأرياف.

١٢ ـ القنص والصيد.

١٣ ـ اللباس والمسكن.

١٤ ـ الافراح والاحزان.

ولكل من هذه شأنه في الحياة الريفية. وله بحثه الخاص من وجوب العناية به في الدراسات الاجتماعية. وتعاون العشائر في الموضوع له قيمته.

وكل ما في العشائر يحتاج إلى توجيه وتنظيم ليكون اداة صلاح وخير ممن يتعهد الامر أو ممن كان واجبه ذلك. تكلمت في غالب هذه المباحث في عشائر العراق وعينت ما كان مألوفا. ووظيفة الاجتماعي التوجيه والتدريب.

وواجب الدولة تسهيل مهمة الاجتماعي والقيام بتنفيذ وصاياه والّا كان الاشتغال عبثا. أو يعود مشغلة. وان الرعاية الاجتماعية والانعاش كل هذا يتم بالتعاون بين الدولة والامة في تنفيذ الرغبات الاجتماعية الحقة.

ومن المهم الالتفات بعناية إلى (قانون التسوية) والاخطار العظيمة التي نجمت منه ، والمبادرة إلى لزوم أصلاحه وتعمير ما خربه والعناية بالغرس وانه أجل واسطة إلى الاستقرار وتكوين (القرية) إلا أنه لا يخلو من اجحاف كبير وتحكم عظيم ... فتهم المبادرة إلى تلافي اخطاره ... اه.

وأرى في هذا ما يعين الاتجاهات وطرق الاصلاح باجمال ليكون البدوي من أهل الأرياف. ولا شك أن هذه تابعة لما يحوطها من الامكانيات وما يعترضها من حالات ، أو ما يدعو للاخذ من وجوهه.

٤٠