الامام الكاظم عليه السلام سيّد بغداد

الشيخ علي الكوراني العاملي

الامام الكاظم عليه السلام سيّد بغداد

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

حديث علي بن أبي طالب وكم من فضيلة من جميع الفقهاء ؟ قلت : شئ يسير يا أمير المؤمنين . قال : كم ؟ قلت : مقدار عشرة آلاف حديث وما يزداد . قال : يا سلمان ألا أحدثك بحديث في فضائل علي يأكل كل حديث رويته عن جميع الفقهاء ، فإن حلفت لاترويها لأحد من الشيعة حدثتك بها ! قال : لا أحلف ولا أحدث بها . قال : إسمع . كنت هارباً من بني مروان وكنت أدور البلدان أتقرب إلى الناس بحب علي وفضائله .. الخ . » .

ولم يقتل المنصور الأعمش يومها ، لكن من الطبيعي أن يكون قتله بعدها بالسم !

الرابع : أمر بتعظيم أبي بكر وعمر لأنهما خصوم علي عليه‌السلام

قال البياضي في الصراط المستقيم : ٣ / ٢٠٤ : « لمَّا وقع بينه وبين العلوية خلاف قال : والله لأرغمن أنفي وأنوفهم ، ولأرفعن عليهم بني تيم وعدي ، وذكر الصحابة في خطبته ، واستمرت البدعة إلى الآن » !

وقال العلامة الحلي رحمه‌الله في منهاج الكرامة / ٦٩ : « ابتدعوا أشياء اعترفوا بأنها بدعة ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فإن مصيرها إلى النار . وقال : من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو ردٌّ عليه ! ولو رُدُّوا عنها كرهته نفوسهم ونفرت قلوبهم ، كذكر الخلفاء في خطبتهم ، مع أنه بالإجماع لم يكن في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا في زمن أحد من الصحابة والتابعين ، ولا في زمن بني أمية ولا في صدر ولاية العباسيين ، بل هو شئ أحدثه المنصور لما وقع بينه وبين العلوية فقال : والله لأرغمن أنفي وأنوفهم ، وأرفعن عليهم بني تيم وعدي ، وذكر الصحابة في

٨١

خطبته ، واستمرت هذه البدعة إلى هذا الزمان » ! انتهى .

فالهدف الأهم عنده أن يواجه ثورات العلويين ، لذلك رأى أن يعيد الإعتبار لأبي بكر وعمر ، حتى لو ناقض بذلك نفسه ونقض مذهب بني العباس ! فقوله : لأرغمن أنفي وأنوف بني علي ، معناه : عليَّ وعلى أعدائي يا رب ! فأصدر أمره الى خطباء الجمعة في أنحاء الدولة بأن يترضوا على أبي بكر وعمر ، وأمر الفقهاء أن يفتوا به : « قال مالك : قال لي المنصور : من أفضل الناس بعد رسول الله ؟ فقلت : أبو بكر وعمر . فقال : أصبت ! وذلك رأي أمير المؤمنين » . ( النهاية لابن كثير : ١٠ / ١٣٠ ) .

وقد بحثنا مرسومه في الترضي عن الشيخين في كتاب : كيف رد الشيعة غزو المغول .

الخامس : تعظيم جده العباس وحصر الخلافة بأولاده

فقد وضع المنصور وأولاده أحاديث في مناقب العباس وأنه الوارث الوحيد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه عمه ، وأنه أولى به من ابن عمه علي عليه‌السلام وولديه الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وبعد العباس يأتي مقام أبي بكر وعمر ، رغم أنهم أخذا الخلافة وهي حقٌّ للعباس وأولاده ! لكن رضي الله عنهما ، فهما خير من علي وأبناء علي !

ثم زعم المنصور أنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه فعقد له لواءً وأوصاه بأمته « وعممه بعمامة من٢٣ دوراً ، وقال له : خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة » !

قال « ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب وتعلقوها في أعناق الصبيان » ! ( تاريخ بغداد : ١ / ٨٥ ، وتاريخ دمشق : ٣٢ / ٣٠١ ، وابن كثير : ١٠ / ١٢٩ ، وحكم بصحة المنام ) !

وكان المنصور وأولاده لا يقبلون أن يقال إن جدهم العباس قال لعلي عند وفاة

٨٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أبسط يدك أبايعك فيقال : عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله ، فلا يختلف عليك اثنان . فقال له علي : ومن يطلب هذا الأمر غيرنا » ! ( الإمامة والسياسة : ١ / ١٢ ، والإقتصاد / ٢١٤ ، والنزاع والتخاصم / ٧٨ ) .

أو يقال إن الحسنين أبناء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقوله تعالى : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ..

ولا أن يذكر مذهب جدهم عبد الله بن عباس وأحاديثه ، لأنه كان تلميذاً مطيعاً لعلي عليه‌السلام ناطقاً بفضائله ووصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له بالخلافة !

وكلها تنقض ما يريده المنصور من تمجيد جده العباس وحصر الخلافة به هو !

قال أحمد بن حنبل في العلل : ٢ / ٣١٢ : « قدم بن جريج على أبي جعفر ( المنصور ) فقال له : إني قد جمعت حديث جدك عبد الله بن عباس ، وما جمعه أحد جمعي أو نحو ذا ، قال : فلم يعطه شيئاً ! فضمه إلى سليمان بن مجالد ... فأحسن إلى ابن جريج يعني أعطاه وأكرمه ، فقال له بن جريج : ما أدري ما أجزيك به ، ولكن خذ كتبي هذه فانسخوها ، فبعضها سماع وبعضها عرض » .

واسمع ما يقوله ابن جريح وهو ربيعة الرأي وأستاذ مالك بن أنس !

« أتينا مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي بن أبي عبد الرحمن ، فكنا نستزيده حديث ربيعة ، فقال لنا ذات يوم : ما تصنعون بربيعة هو نائم في ذاك الطاق ! فأتينا ربيعة فأنبهناه ، فقلنا له : أنت ربيعة بن أبي عبد الرحمن ؟ قال : بلى ، قلنا : ربيعة بن فروخ ؟ قال بلى ، قلنا ربيعة الرأي ؟ قال بلى . قلنا هذا الذي يحدث عنك مالك بن أنس ؟ قال بلى ، قلنا له : كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك ؟ قال : أما علمتم أن مثقالاً من دولة خير من حِمْل علم » ! ( تاريخ بغداد : ٨ / ٤٢٣ ) .

٨٣

٧ ـ المنصور يحاول قتل الإمام الكاظم عليه‌السلام

عندما ارتكب المنصور قتل الإمام الصادق عليه‌السلام بالسم في سنة ١٤٨ ، كان عمر الإمام الكاظم عليه‌السلام نحو عشرين سنة ، وعاش المنصور بعدها عشر سنوات ، وقد ذكرت نصوص سياسة المنصور مع الإمام الكاظم عليه‌السلام ومحاولته قتله !

أولها : في إحدى المرات التي أمر بقتل الإمام الصادق عليه‌السلام ولم يوفق !

فقد روى في الدر النظيم / ٦٢٢ ، لابن حاتم العاملي عن : « قيس بن الربيع قال : حدثنا أبي الربيع قال : دعاني المنصور يوماً وقال : أما ترى ما هو ذا يبلغني عن هذا الحبشي ؟ قلت : ومن هو يا سيدي ؟ قال : جعفر بن محمد ، والله لأستأصلن شأفته . ثم دعا بقائد من قواده فقال له : انطلق إلى المدينة في ألف رجل فاهجم على جعفر بن محمد وخذ رأسه ورأس ابنه موسى بن جعفر ! فخرج القائد من ساعته حتى قدم المدينة وأخبر جعفر بن محمد ، فأمر فأتيَ بناقتين فأوثقهما على باب البيت ، ودعا بأولاده موسى وإسماعيل ومحمد وعبيد الله ، فجمعهم وقعد في المحراب وجعل يهمهم . قال أبو نصر : فحدثني سيدي موسى بن جعفر أن القائد هجم عليه فرأيت أبي وقد همهم بالدعاء ، فأقبل القائد وكل من كان معه وقال : خذوا رأس هذين القائمين ، ففعلوا وانطلقوا إلى المنصور ، فلما دخلوا عليه أطلع المنصور في المخلاة التي كان فيها الرأسان ، فإذا هما رأسا ناقتين !

فقال المنصور : وأي شئ هذا ؟! قال : يا سيدي ما كان أسرع من أن دخلت البيت الذي فيه جعفر بن محمد فدار رأسي ولم أنظر ما بين يديَّ فرأيت شخصين قائمين خُيِّل إليَّ أنهما جعفر بن محمد وموسى ابنه ، فأخذت رأسيهما !

٨٤

فقال المنصور : أكتم عليَّ ! فقال : ما حدثت به أحداً حتى مات !

قال الربيع : فسألت موسى بن جعفر عليه‌السلام عن الدعاء فقال : سألت أبي عن الدعاء فقال : هو دعاء الحجاب وهو : بسم الله الرحمن الرحيم : وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا . وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا . اللهم إني أسألك بالإسم الذي به تحيي وتميت وترزق وتعطي وتمنع ، يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم من أرادنا بسوء من جميع خلقك فأعم عنا عينه ، واصمم عنا سمعه واشغل عنا قلبه ، واغلل عنا يده ، واصرف عنا كيده . وخذه من بين يديه وعن يمينه وعن شماله ومن تحته ومن فوقه ، يا ذا الجلال والإكرام » .

وثانيها : عندما قتل الإمام الصادق عليه‌السلام بالسم أرسل الى واليه على المدينة : أنظر إن كان أوصى الى شخص فاقتله وابعث اليَّ برأسه ! وهذا ينسجم مع قرار المنصور بإبادة ذرية علي وفاطمة عليهما‌السلام !

قال كاتبه أبو أيوب الخوزي كما في الكافي : ١ / ٣١١ ، وغيبة الطوسي / ١٩٨ ، واللفظ له : « بعث إلي أبو جعفر المنصور في جوف الليل فدخلت عليه وهو جالس على كرسي ، وبين يديه شمعة وفي يده كتاب ، فلما سلمت عليه رمى الكتاب إلي وهو يبكي وقال : هذا كتاب محمد بن سليمان يخبرنا أن جعفر بن محمد قد مات ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ( ثلاثاً ) وأين مثل جعفر ؟! ثم قال لي : أكتب فكتبت صدر الكتاب ، ثم قال : أكتب إن كان أوصى إلى رجل بعينه فقدمه واضرب عنقه ! قال : فرجع الجواب إليه : إنه قد أوصى إلى خمسة : أحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان ( واليه على المدينة ) وعبد الله وموسى ابني جعفر ، وحميدة ! فقال

٨٥

المنصور ليس إلى قتل هؤلاء سبيل » .

وهذا يدل على أن المنصور كان يريد مبرراً لقتل الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام ، لأن أباه كان ينص عليه من صغره بأنه الإمام بعده ، وقد امتحنه أبو حنيفة وهو صبي وأجابه وأفحمه ، وظهرت منه معجزات . لذا وسع الإمام الصادق عليه‌السلام وصيته وجعل أوصياءه خمسة أولهم المنصور نفسه ، ثم واليه على المدينة ، ليحفظ حياة الإمام الكاظم عليه‌السلام ويحبط تعطش المنصور لدماء أبناء علي عليه‌السلام !

وفي مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٤٣٤ ، أن أبا حمزة الثمالي رحمه‌الله لما بلغته وصية الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « الحمد لله الذي هدانا إلى المهدي . بين لنا عن الكبير ، ودلنا على الصغير ، وأخفى عن أمر عظيم . فسئل عن قوله فقال : بين عيوب الكبير ودل على الصغير لإضافته إياه ، وكتم الوصية للمنصور ، لأنه لو سأل المنصور عن الوصي لقيل أنت » .

وثالثها : ورد أن الإمام الكاظم عليه‌السلام غادر المدينة ، وتخفَّى عن السلطة في قرى الشام ، لفترة لم يحددها الراوي . ففي مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٤٢٧ : « دخل موسى بن جعفر عليه‌السلام بعض قرى الشام متنكراً هارباً ، فوقع في غار وفيه راهب يعظ في كل سنة يوماً ، فلما رآه الراهب دخله منه هيبة فقال : يا هذا أنت غريب ؟ قال عليه‌السلام : نعم . قال : منا أو علينا ؟ قال عليه‌السلام : لست منكم . قال : أنت من الأمة المرحومة ؟ قال عليه‌السلام : نعم . قال : أفمن علمائهم أنت أم من جهالهم ؟ قال عليه‌السلام : لست من جهالهم . فقال : كيف طوبى أصلها في دار عيسى ، وعندكم في دار محمد وأغصانها في كل دار ؟ فقال عليه‌السلام : الشمس قد وصل ضوؤها إلى كل مكان وكل

٨٦

موضع وهي في السماء . قال : وفي الجنة لا ينفد طعامها وإن أكلوا منه ولا ينقص منه شئ ؟ قال عليه‌السلام : السراج في الدنيا يقتبس منه ولا ينقص منه شئ .

قال : وفي الجنة ظل ممدود ؟ فقال عليه‌السلام : الوقت الذي قبل طلوع الشمس كلها ظل ممدود ، قاله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا .

قال : ما يؤكل ويشرب في الجنة ، لا يكون بولاً ولا غائطاً ؟

قال عليه‌السلام : الجنين في بطن أمه !

قال : أهل الجنة لهم خدم يأتونهم بما أرادوا بلا أمر ؟ فقال عليه‌السلام إذا احتاج الإنسان إلى شئ عرفت أعضاؤه ذلك ، ويفعلون بمراده من غير أمر .

قال : مفاتيح الجنة من ذهب أو فضة ؟ قال عليه‌السلام : مفتاح الجنة لسان العبد لا إله إلا الله .قال : صدقت ، وأسلم والجماعة معه » .

ورابعها : يدل على أن المنصور استعمل الليونة والإحترام مع الإمام الكاظم عليه‌السلام وأراد أن يظهر للفرس أن علاقته به جيدة ، أو يعرف تعاطف الفرس معه عليه‌السلام !

ففي مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٤٣٣ : « وحكي أن المنصور تقدم إلى موسى بن جعفر بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز وقبض ما يحمل إليه فقال عليه‌السلام : إني قد فتشت الأخبار عن جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم أجد لهذا العيد خبراً ، وإنه سنة للفرس ومحاها الإسلام ، ومعاذ الله أن نحيي ما محاه الإسلام !

فقال المنصور : إنما نفعل هذا سياسة للجند ، فسألتك بالله العظيم إلا جلست ، فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنونه ويحملون إليه الهدايا والتحف ، وعلى رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل ، فدخل في آخر الناس

٨٧

رجل شيخ كبير السن فقال له : يا ابن بنت رسول الله إنني رجل صعلوك لا مال لي ، أتحفك بثلاث أبيات قالها جدي في جدك الحسين بن علي :

عجبت لمصقول علاك فرنده

يوم الهياج وقد علاك غبار

ولا سهم نفذتك دون حرائر

يدعون جدك والدموع غزار

ألا تقضقضت السهام وعاقها

عن جسمك الإجلال والإكبار

قال : قبلت هديتك ، أجلس بارك الله فيك ، ورفع رأسه إلى الخادم وقال : إمض إلى أمير المؤمنين وعرفه بهذا المال وما يصنع به ؟ فمضى الخادم وعاد وهو يقول : كلها هبة مني له يفعل به ما أراد ، فقال موسى عليه‌السلام للشيخ : إقبض جميع هذا المال فهو هبة مني لك » !

أقول : قام الفرس بالثورة على بني أمية وسلموا قيادتها الى بني العباس ، وكانت سلامة أم المنصور فارسية من بلدة إيذه أو إيذج قرب الأهواز ، فكان المنصور يتكلم الفارسية ويألفها ، وسكن في إيذة وتزوج وولد فيها ابنه محمد الذي سماه المهدي . وكان يحتفل مع الفرس بعيد النوروز ، ويستقبل قادة الدولة ويقدمون له الهدايا الثمينة على رسومهم ، ولا بد أنه خطط لجلوس الإمام عليه‌السلام مكانه وتحجج بالمرض ، ليقول للناس إن موسى بن جعفر عليه‌السلام مؤيد له يُقر بشرعيته ، وأن المنصور يحترمه ويستنيبه في بعض المراسم التشريفية ، ويظهر أن ذلك كان بعد ليونة الإمام عليه‌السلام معه وتطمينه بأنه ليس في صدد الثورة عليه .

*  *

٨٨

الفصل الرابع

الإمام الكاظم عليه‌السلام قديس بغداد

١ ـ شريط سيرة الإمام الكاظم عليه‌السلام

١. أبوه الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام سادس أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وأستاذ أئمة المذاهب الإسلامية . وأمه حميدة المُصَفَّاة البربرية ، ويبدو أنها كانت سمراء فانتقلت منها السمرة الى الإمام عليه‌السلام .

٢. في الخامسة من عمره الشريف أجلسه والده الإمام الصادق عليه‌السلام ، فتحدث لأحبار اليهود عن معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيأتي ذلك في أواخر الكتاب .

٣. كان صبياً فسأله أبو حنيفة عن الجبر والإختيار ، فأجابه جواباً علمياً مقنعاً .

٤. عرَّفه الإمام الصادق عليه‌السلام الى أصحابه في حياته ، وأنه الإمام بعده .

٥. في العشرين من عمره استشهد أبوه الإمام الصادق عليه‌السلام واستقل بالإمامة وعاش بعد أبيه خمساً وثلاثين سنة ، الى أن استشهد سنة ١٨٣ في سجن هارون .

٦. في الحادية وعشرين من عمره كان في العراق وجاء الى الحج ، فرآه شقيق البلخي سنة ١٤٩ ، وربما كان المنصور أحضره الى العراق ، أو كان في زيارة الى المؤمنين بالكوفة ، أو في زيارة قبر جده أمير المؤمنين وجده الحسين عليهم‌السلام .

٧. عاصر المنصور العباسي وجلس مكانه مرة لاستقبال المهنئين بعيد النوروز .

٨٩

٨. عاصر حكم المهدي بن المنصور عشر سنوات ، وأحضره مرة الى بغداد ليسأله عن قوم ثمود ومدائن صالح ، ثم حبسه ، فرأى مناماً مرعباً فأطلقه .

٩. عاصر موسى الهادي ، وفي عهده كانت ثورة صاحب فخ واتهم الخليفة الإمام عليه‌السلام بأنه هو الآمر بالثورة ، وقرر قتله ، لكنه أمه الخيزران قتلته قبل ذلك .

١٠. عاصر هارون المسمى بالرشيد ثلاث عشرة سنة ، وكتب الى الخيزران يعزيها بموت ولدها المهدي ، ويهنيها بحكم ولدها هارون !

١١. أحضره هارون الى بغداد في سنة توليه الخلافة ، وقد يكون فرض عليه الإقامة الجبرية فيها ، ثم حبسه فرأى آياته وأطلقه وأعطاه ثلاثين ألف درهم .

١٢. حبسه هارون في سنة ١٧٩ في سجن البصرة لمدة سنة ، ثم نقله الى بغداد وأبقاه أربع سنوات في الإقامة الجبرية والسجون ، الى أن قتله بالسم سنة ١٨٣ .

١٣. وردت الرواية بأنه كان في الشام فترة ، والتقى ببعض علماء النصارى ، ولعله كان غيَّب نفسه في زمن المنصور أو المهدي العباسي قبل أن يحبسه .

١٤. عاش في بغداد فترات في وضع الإقامة الجبرية ، وكان له مجالس مع هارون ووزرائه وغيرهم ، وفي هذه المدة رأى بشراً الحافي ، وقد وصفت الرواية بيته المتواضع الذي كان يعيش فيه في بغداد ، وهو يختلف عن بيته في المدينة .

١٥. روت المصادر له عليه‌السلام عدة أحاديث ومناظرات مع هارون الرشيد ، كانت في فترات إحضاره وحبسه وإقامته الجبرية .

١٦. قيل إنه عليه‌السلام حبس في واسط سنة ، ولم نجد ذلك في المصادر التي بأيدينا .

٩٠

١٧. أبرز برنامج في حياة الإمام عليه‌السلام العبادة وسجوداته الطويلة ، وكان يشكر ربه في السجن على أنه فرغه لعبادته .

١٨. روي عنه الكثير من العلم ، من ذلك مسائل علي بن جعفر ، وكتاب الحلال والحرام ، ورسالة في العقل لهشام بن الحكم . ومئات الروايات في مسائل من عقائد الإسلام وأحكامه . وكل أحاديث متميزة كأحاديث آبائه الأئمة عليهم‌السلام .

١٩. كان يدير شيعته في العالم ، وفيهم شخصيات كبيرة كعلي بن يقطين وزير المهدي وهارون ، والحسن بن راشد ، وجعفر بن محمد بن الأشعث من وزراء هارون أيضاً ، وهشام بن الحكم ، ومحمد بن أبي عمير ، من كبار الشخصيات .

وكان يحترمه كبار علماء عصره من السنة ويرجعون اليه أحياناً . وكان الطالبيون يحترمونه ويقدسونه ، حتى أن الخليفة المهدي كان يعتقد أنه كان وراء ثورة فخ .

٢٠. تميزت حياته بكثرة المعجزات من صغره عليه‌السلام ، وأكثرها إخبار بمغيبات عن أشخاص وأحداث ، فكانت تقع كما أخبر عليه‌السلام ، وكان يجاهر بذلك ويخبر هارون ووزيره يحيى بن خالد وغيرهم ، وفي آخر سجن له زاره يحيى البرمكي فقال له : « أبلغه عني يقول لك موسى بن جعفر : رسولي يأتيك يوم الجمعة فيخبرك بما ترى ، وستعلم غداً إذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه والسلام ! فخرج يحيى من عنده واحمرت عيناه من البكاء حتى دخل على هارون فأخبره بقصته ومارد عليه ، فقال هارون : إن لم يدع النبوة بعد أيام فما أحسن حالنا ! فلما كان يوم الجمعة توفي عليه‌السلام » . ( الغيبة للطوسي / ٢٤ ) .

٩١

٢١. ما أن دفن الإمام عليه‌السلام حتى صار قبره الشريف مزاراً ومشهداً ، وتوافد أولياؤه من الشيعة وكذلك كبار علماء السنة وأئمة المذاهب ، لزيارته والصلاة عنده والتوسل به الى الله تعالى ، وعرف عليه‌السلام بعد وفاته باسم : باب الحوائج .

٢ ـ اعتقاد أئمة المذاهب بالإمام الكاظم عليه‌السلام

أجمع كبار أئمة السنة وعلمائهم على تعظيم الإمام الكاظم عليه‌السلام وتقديسه ، وترجموا له في كتبهم ، وزاروا قبره للتبرك والتوسل به الى الله تعالى .

وقد اشتهر عن الإمام الشافعي أنه كان يزور قبر الإمام الكاظم عليه‌السلام ويقول : «قبر موسى الكاظم ترياقٌ مجرب لإجابة الدعاء » ( كرامات الأولياء للسجاعي / ٦ ، والرسالة القشيرية لابن هوازن / ١٠ ، والفجر الصادق للزهاوي / ٨٩ ، وسيوف الله للقادري الحبيبي / ٨٣ ، والبصائر / ٤٢ لحمد الله الداجوي الحنفي ) .

وروى الخطيب البغدادي في تاريخه : ١ / ١٣٣ ، عن إمام الحنابلة في عصره الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال يقول : « ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به ، إلا سهل الله تعالى لي ما أحب » !

وقال ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة : ٢ / ٩٣٢ : «وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج إلى الله ، وذلك لنجح قضاء حوائج المسلمين ، ونيل مطالبهم وبلوغ مآربهم وحصول مقاصدهم » .

وقال السيد الميلاني في شرح منهاج الكرامة : ١ / ١٧٠ : « وقال القرماني : هو الإمام الكبير الأوحد الحجة ، الساهر ليله قائماً القاطع نهاره صائماً ، المسمى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظماً ، وهو المعروف بباب الحوائج ، لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجته قط .

٩٢

وقال ابن حجر المكي : هو وارث أبيه علماً ومعرفةً وكمالاً وفضلاً ، سمي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه ، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله ، وكان أعبد أهل زمانه ، وأعلمهم وأسخاهم .

وقال ابن الجوزي : موسى بن جعفر ، كان يدعى العبد الصالح ، وكان حليماً كريماً ، إذا بلغه عن رجل ما يؤذيه بعث إليه بمال » .

وفي مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٤٢٢ : « وحكي أنه مُغص بعض الخلفاء فعجز بختيشوع النصراني عن دوائه ، وأخذ جليداً فأذابه بدواء ، ثم أخذ ماء وعقده بدواء ، وقال : هذا الطب ، إلا أن يكون مستجاب دعاء ذا منزلة عند الله يدعو لك !

فقال الخليفة : عليَّ بموسى بن جعفر ، فأتيَ به فسمع في الطريق أنينه فدعا الله سبحانه وزال مغص الخليفة ، فقال له : بحق جدك المصطفى أن تقول بمَ دعوت لي ؟ فقال عليه‌السلام : قلتُ : اللهم كما أريته ذل معصيته ، فأره عز طاعتي » !

٣ ـ مقتطف من تراجم أئمة علماء السنة للإمام الكاظم عليه‌السلام

١ ـ قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : ٦ / ٢٦٨ : « موسى الكاظم ، الإمام ، القدوة ، السيد أبو الحسن العلوي ، والد الإمام علي بن موسى الرضى مدني نزل بغداد .

ذكره أبو حاتم فقال : ثقة صدوق ، إمام من أئمة المسلمين . قلت له عند الترمذي وابن ماجة حديثان . قيل : إنه ولد سنة ثمان وعشرين ومئة بالمدينة . قال الخطيب : أقدمه المهدي بغداد ورده ، ثم قدمها وأقام ببغداد في أيام الرشيد ، قدم في صحبة الرشيد سنة تسع وسبعين ومئة ، وحبسه بها إلى أن توفي في محبسه .

٩٣

ثم قال الخطيب : كان موسى بن جعفر يدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده . روى أصحابنا أنه دخل مسجد رسول الله (ص) فسجد سجدة في أول الليل ، فسمع وهو يقول في سجوده : عظم الذنب عندي فليحسن العفو من عندك ، يا أهل التقوى ، ويا أهل المغفرة . فجعل يرددها حتى أصبح .

وكان سخياً كريماً ، يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار . وكان يصر الصرر بثلاث مئة دينار وأربع مئة ومئتين ثم يقسمها بالمدينة ، فمن جاءته صرة استغنى .

ثم قال يحيى : وذكر لي غير واحد أن رجلاً من آل عمر كان بالمدينة يؤذيه ويشتم علياً ، وكان قد قال له بعض حاشيته : دعنا نقتله فنهاهم وزجرهم .

وذكر له أن العمري يزدرع بأرض ، فركب إليه في مزرعته فوجده ، فدخل بحماره فصاح العمري لا توطئ زرعنا ، فوطئ بالحمار حتى وصل إليه فنزل عنده وضاحكه . وقال : كم غرمت في زرعك هذا ؟ قال : مئة دينار ، قال : فكم ترجو ؟ قال : لا أعلم الغيب وأرجو أن يجبيئني مئتا دينار ، فأعطاه ثلاث مئة دينار وقال : هذا زرعك على حاله . فقام العمري فقبل رأسه وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته ! وجعل يدعو له كل وقت .

فقال أبو الحسن لخاصته الذين أرادوا قتل العمري : أيما هو خير ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار ؟ قلت : إن صحت فهذا غاية الحلم والسماحة !

قال أبو عبد الله المحاملي ... عيسى بن محمد بن مغيث القرشي ، وبلغ تسعين سنة ، قال : زرعت بطيخاً وقثاء وقرعا بالجوانية ، فلما قرب الخير ، بيتني الجراد ،

٩٤

فأتى على الزرع كله . وكنت غرمت عليه وفي ثمن جملين مئة وعشرين ديناراً . فبينما أنا جالس طلع موسى بن جعفر فسلم ثم قال : أيش حالك ؟ فقلت : أصبحت كالصريم . قال : وكم غرمت فيه ؟ قلت : مئة وعشرين ديناراً مع ثمن الجملين . وقلت : يا مبارك ، ادخل وادع لي فيها ، فدخل ودعا ، وحدثني عن النبي (ص) أنه قال : تمسكوا ببقايا المصائب ، ثم علقت عليه الجملين وسقيته فجعل الله فيها البركة وزكت فبعت منها بعشرة آلاف !

الصولي : حدثنا عون بن محمد ، سمعت إسحاق الموصلي غير مرة يقول : حدثني الفضل بن الربيع ، عن أبيه قال : لما حبس المهدي موسى بن جعفر رأى في النوم علياً يقول : يا محمد : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ؟ قال الربيع : فأرسل إلى ليلاً فراعني ، فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية وكان أحسن الناس صوتاً ، وقال : عليَّ بموسى بن جعفر فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جنبه وقال : يا أبا الحسن : إني رأيت أمير المؤمنين يقرأ علي كذا ، فتؤمني أن تخرج علي أو على أحد من ولدي ؟ فقال : لا والله لا فعلت ذلك ، ولا هو من شأني . قال : صدقت . يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار ، ورده إلى أهله إلى المدينة . فأحكمت أمره ليلاً ، فما أصبح إلا وهو في الطريق خوف العوائق !

وقال الخطيب : حج الرشيد فأتى قبر النبي (ص) ومعه موسى بن جعفر فقال : السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم ، افتخاراً على من حوله فدنا موسى وقال : السلام عليك يا أبهْ ، فتغير وجه هارون ، وقال : هذا الفخر يا أبا الحسن حقاً ! قال يحيى بن الحسن العلوي حدثني عمار بن أبان قال : حبس موسى بن جعفر

٩٥

عند السندي بن شاهك فسألته أخته أن تولى حبسه وكانت تَدَيَّن ، ففعل ، فكانت على خدمته ، فحكي لنا أنها قالت : كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجده ودعاه ، فلم يزل كذلك حتى يزول الليل ، فإذا زال الليل قام يصلي حتى يصلي الصبح ، ثم يذكر حتى تطلع الشمس ، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى ، ثم يتهيأ ويستاك ويأكل ، ثم يرقد إلى قبل الزوال ، ثم يتوضأ ويصلي العصر ، ثم يذكر في القبلة حتى يصلي المغرب ، ثم يصلي ما بين المغرب إلى العتمة ! فكانت تقول : خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل ! وكان عبداً صالحاً .

وقيل : بعث موسى الكاظم إلى الرشيد برسالة من الحبس يقول : إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء ، حتى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون ! وعن عبد السلام بن السندي قال : كان موسى عندنا محبوساً ، فلما مات بعثنا إلى جماعة من العدول من الكرخ فأدخلناهم عليه فأشهدنا هم على موته ، ودفن في مقابر الشونيزية .

قلت : له مشهد عظيم مشهور ببغداد ، دفن معه فيه حفيده الجواد . ولولده علي بن موسى مشهد عظيم بطوس . وكانت وفاة موسى الكاظم في رجب سنة ثلاث وثمانين ومئة . عاش خمساً وخمسين سنة وخلف عدة أولاد ، الجميع من إماء : علي والعباس ، وإسماعيل ، وجعفر ، وهارون ، وحسن ، وأحمد ، ومحمد ، وعبيد الله وحمزة ، وزيد ، وإسحاق ، وعبد الله ، والحسين ، وفضل ، وسليمان . سوى البنات ، سمى الجميع الزبير في : النسب » .

٩٦

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام : ١٢ / ٤١٧ : « موسى الكاظم : هو الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر بن محمد بن علي .. قال أبو حاتم : ثقة إمام . وكان صالحاً عالماً عابداً متألهاً .. ولعل الرشيد ما حبسه إلا لقولته تلك : السلام عليك يا أبه ! فإن الخلفاء لا يحتملون مثل هذا » !

٢ ـ وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب : ١٠ / ٣٠٢ : « قال يحيى بن الحسن بن جعفر النسابة : كان موسى بن جعفر يدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده .

وقال الخطيب .. وأقدمه المهدي إلى بغداد ثم رده إلى المدينة ، وأقام بها إلى أيام الرشيد ، فقدم هارون منصرفاً من عمرة رمضان سنة تسع وسبعين ، فحمله معه إلى بغداد وحبسه بها إلى أن توفي في محبسه .. ومناقبه كثيرة » .

وقال في تقريب التهذيب ( ٢ / ٢٢١ ) : « الهاشمي المعروف بالكاظم ، صدوق عابد ، من السابعة ، مات سنة ثلاث وثمانين » .

٣ ـ وقال الخطيب في تاريخ بغداد : ١٣ / ٢٩ : « كان موسى بن جعفر يدعي العبد الصالح من عبادته واجتهاده .

روى أصحابنا أنه دخل مسجد رسول الله (ص) فسجد سجدة في أول الليل ، وسُمع وهو يقول في سجوده : عظيم الذنب عندي فليحسن العفو عندك . يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة ! فجعل يرددها حتى أصبح .

وروى له عليه‌السلام عدة قصص في كرمه وعبادته وتقدم بعضها ، ثم ذكر كرامته في المنام الذي رآه الخليفة المهدي عندما حبسه .

٩٧

٤ ـ وقال محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول في فضل آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله / ٤٤٦ :

« هو الإمام الكبير القدر ، العظيم الشأن ، الكبير المجتهد ، الجاد في الإجتهاد ، المشهور بالعبادة ، المواظب على الطاعات ، المشهود له بالكرامات ، يبيت الليل ساجداً وقائماً ، ويقطع النهار متصدقاً وصائماً ، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دعى كاظماً ، كان يجازى المسئ بإحسانه إليه ، ويقابل الجاني بعفوه عنه ، ولكثرة عبادته كان يسمى بالعبد الصالح ، ويعرف بالعراق باب الحوائج إلى الله لنجح مطالب المتوسلين إلى الله تعالى به ، كرامته تحار منها العقول ، وتقضي بأن له عند الله تعالى قدم صدق لا تزل ولا تزول .

وأما ولادته فبالأبواء سنة ثمان وعشرين ومائة للهجرة ، وقيل تسع وعشرين ومائة وأما نسبه أباً وأماً : فأبوه جعفر الصادق بن محمد الباقر ، وقد تقدم القول فيه . وأما أمه فأم ولد تسمى حميدة البربرية ، وقيل غير ذلك .

وأما إسمه فموسى وكنيته أبو الحسن ، وقيل أبو إسماعيل ، وكان له ألقاب كثيرة : الكاظم وهو أشهرها ، والصابر ، والصالح ، والأمين .

وأما مناقبه فكثيرة ، ولو لم يكن منها إلا العناية الربانية لكفاه ذلك منقبة . وقد نقل عن الفضل بن الربيع أنه أخبر عن أبيه أن المهدي لما حبس موسى بن جعفر ، ففي بعض الليالي رأى المهدي في منامه علي بن أبي طالب وهو يقول له : يا محمد : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ؟ قال الربيع : فأرسل إلي ليلاً فراعني .. الى آخر ما تقدم .

وقال هشام بن حاتم الأصم ، قال لي أبو حاتم ، قال لي شقيق البلخي : خرجت حاجاً في سنة تسع وأربعين ومائة ، فنزلت القادسية ، فبينا أنا أنظر إلى الناس في

٩٨

زينتهم وكثرتهم ، فنظرت إلى فتى حسن الوجه شديد السمرة ضعيف ، فوق ثيابه ثوب من صوف ، مشتمل بشملة ، في رجليه نعلان ، وقد جلس منفرداً فقلت في نفسي : هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلاً على الناس في طريقهم ، والله لأمضين إليه ولأوبخنه ! فدنوت منه فلما رآني مقبلاً قال : إِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، ثم تركني ومضى ! فقلت في نفسي : إن هذا لأمرٌ عظيم قد تكلم بما في نفسي ونطق باسمي ، وما هذا إلا عبدٌ صالح لألحقنه ولأسألنه أن يحالَّني ، فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني !

فلما نزلنا واقصة إذْ به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تجري فقلت : هذا صاحبي أمضي إليه واستحله ، فصبرت حتى جلس وأقبلت نحوه ، فلما رآني مقبلاً قال لي : يا شقيق أتل : وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى . ثم تركني ومضى ! فقلت : إن هذا الفتى لمن الأبدال ! لقد تكلم على سري مرتين . فلما نزلنا زُبَالة إذا بالفتى قائمٌ على البئر وبيده رَكْوَةٌ يريد أن يستقي ماء ، فسقطت الركوة من يده في البئر ، وأنا أنظر إليه فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول :

أنت ربي إذا ظمئتُ إلى الماء

وقُوتي إذا أردتُ الطعاما

اللهم سيدي مالي سواها فلا تحرمنيها ، قال شقيق : فوالله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها ، فمد يده فأخذ الركوة وملأها ماء ، فتوضأ وصلى أربع ركعات ، ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب . فأقبلت إليه وسلمت عليه فرد عليَّ السلام فقلت : أطعمني من فضل ما أنعم الله به عليك . فقال : يا شقيق لم تزل نعمه علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك . ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر ! فوالله ما شربت قط ألذَّ

٩٩

منه ولا أطيب ريحاً ، فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً !

ثم لم أره حتى دخلنا مكة فرأيته ليلة إلى جنب قُبَّة الشراب في نصف الليل قائماً يصلي بخضوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلما رأى الفجر جلس في مصلاه يسبح ، ثم قام فصلى الغداة ، وطاف بالبيت أسبوعاً وخرج ، فتبعته وإذا له غاشية وموالٍ ، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودارٌ به الناس من حوله يسلمون عليه ! فقلت لبعض من يقرب منه : من هذا الفتى ؟ فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . فقلت : قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد ! ولقد نظم بعض المتقدمين واقعة شقيق معه في أبيات طويلة ، اقتصرت على ذكر بعضها ، فقال :

سلْ شقيقَ البلخيّ عنه وما شا

هد منه وما الذي كان أبصرْ

قال لما حججت عاينتُ شخصاً

شاحب اللون ناحلَ الجسم أسمرْ

سائراً وحده وليس له زادٌ

فما زلت دائماً أتفكر

وتوهمتُ أنه يسأل الناس

ولم أدر أنه الحجُّ الاكبر

ثم عاينتهُ ونحنُ نزولٌ

دون فيدٍ على الكثيب الاحمر

يضع الرمل في الإناء ويشربْهُ

فناديته وعقلي محير

إسقني شربةً فناولني منه

فعاينته سَويقاً وسُكر

فسألت الحجيج من يكُ هذا

قيلَ هذا الإمام موسى بن جعفر

فهذه الكرامات العالية الأقدار الخارقة العوائد هي على التحقق جلية المناقب وزينة المزايا وغرر الصفات ، ولا يؤتاها إلا من فاضت عليه العناية الربانية أنوار التأييد ، ومرت له أخلاف التوفيق ، وأزلفته من مقام التقديس والتطهير وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ » .

١٠٠