الامام الكاظم عليه السلام سيّد بغداد

الشيخ علي الكوراني العاملي

الامام الكاظم عليه السلام سيّد بغداد

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بن أبي طالب مفروض الطاعة ؟ فقال هشام : نعم ، قال : فإن أمرك الذي بعده بالخروج بالسيف معه تفعل وتطيعه ؟ فقال هشام : لا يأمرني . قال : ولم إذا كانت طاعته مفروضه عليك وعليك أن تطيعه ؟ قال هشام : عد عن هذا فقد تبين فيه الجواب . قال سليمان : فلم يأمرك في حال تطيعه وفي حال لا تطيعه ؟

فقال هشام : ويحك لم أقل لك أني لا أطيعه فتقول إن طاعته مفروضة ، إنما قلت لك لا يأمرني ! قال سليمان : ليس أسألك إلا على سبيل سلطان الجدل ، ليس على الواجب أنه لا يأمرك . فقال هشام : كم تحول حول الحمى ، هل هو إلا أن أقول لك إن أمرني فعلت فتنقطع أقبح الانقطاع ، ولا يكون عندك زيادة ، وأنا أعلم بما تحت قولي وما إليه يؤول جوابي ! قال : فتمعر هارون ، وقال : قد أفصح !

وقام الناس ، واغتنمها هشام فخرج على وجهه إلى المدائن ! قال : فبلغنا أن هارون قال ليحيى : شُدَّ يدك بهذا وأصحابه !

وبعث إلى أبي الحسن موسى عليه‌السلام فحبسه ، فكان هذا سبب حبسه مع غيره من الأسباب ، وإنما أراد يحيى أن يهرب هشام فيموت مختفياً ما دام لهارون سلطان !

قال : ثم صار هشام إلى الكوفة وهو بعقب علته ومات في دار ابن شرف بالكوفة رحمه‌الله ! قال : فبلغ هذا المجلس محمد بن سليمان النوفلي وابن ميثم ، وهما في حبس هارون ، فقال النوفلي : ترى هشاماً ما استطاع أن يعتل ... الخ . » .

ورواه الصدوق رحمه‌الله في كمال الدين / ٣٦٢ ، بتفصيل ، وذكر فيه لزوم اختيار الإمام من النبي بأمر الله تعالى ، وذكر صفات الإمام ، وجاء فيه : « فعند ذلك قال ضرار : فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت ؟ فقال : صاحب القصر أمير المؤمنين ! وكان

٢٢١

هارون الرشيد قد سمع الكلام كله فقال عند ذلك : أعطانا والله من جراب النورة ! ( أي اتَّقَانَا وتكلم بدون مستند ) ويحك يا جعفر ، وكان جعفر بن يحيى جالساً معه في الستر : من يعني بهذا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين يعني به موسى بن جعفر ! قال : ما عنى بها غير أهلها ! ثم عض على شفتيه وقال : مثل هذا حيٌّ ويبقى لي ملكي ساعة واحدة ؟! فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف !

وعلم يحيى أن هشاماً قد أُتيَ ( أي قرر هارون قتله ) فدخل الستر فقال : يا عباسي ويحك من هذا الرجل ؟ فقال : يا أمير المؤمنين حسبك ، تكفى تكفى ! ( أي أنا أقتله ) .

ثم خرج إلى هشام فغمزه ، فعلم هشام أنه قد أتيَ ، فقام يريهم أنه يبول أو يقضي حاجة ، فلبس نعليه وانسل ، ومرَّ ببيته وأمرهم بالتواري ، وهرب ومرَّ من فوره نحو الكوفة ، فوافى الكوفة ونزل على بشير النبال ، وكان من حملة الحديث من أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام فأخبره الخبر ، ثم اعتل علة شديدة فقال له بشير : آتيك بطبيب ؟ قال : لا أنا ميت فلما حضره الموت قال لبشير : إذا فرغت من جهازي فاحملني في جوف الليل وضعني بالكناسة واكتب رقعة وقل : هذا هشام بن الحكم الذي يطلبه أمير المؤمنين ، مات حتف أنفه ! وكان هارون قد بعث إلى إخوانه وأصحابه فأخذ الخلق به ، فلما أصبح أهل الكوفة رأوه ، وحضر القاضي وصاحب المعونة والعامل والمعدلون بالكوفة ، وكتب إلى الرشيد بذلك فقال : الحمد لله الذي كفانا أمره فخلى عمن كان أُخذ به » !

ملاحظات :

١ ـ بلغ من اهتمام هارون بعقيدة الإمامة ، أنه أمر وزيره بعقد مجالس مناظرة في قصره ، وغرضه أن يسمع كلمة يستحل بها دم هشام ودم الإمام الكاظم عليه‌السلام !

٢٢٢

٢ ـ يرى هارون أن مجرد اعتقاد أحد بوجود إمام غيره فرض الله طاعته ، يحلل له دم القائل به ، حتى لو يقم بأي عمل ضده !

لذا حركه وزيره البرمكي ضد هشام بقوله : « يا أمير المؤمنين إني قد استبطنت أمر هشام فإذا هو يزعم أن لله في أرضه إماماً غيرك مفروض الطاعة ، قال : سبحان الله ! قال : نعم ، ويزعم أنه لو أمره بالخروج لخرج » !

ولو كان هارون عقلانياً لقال لوزيره : فليزعم هشام أن موسى بن جعفر إمام من الله ، فلا شغل لنا به ما دام لم يخرج علينا !

٣ ـ حاول بعض الرواة أن يبرئ يحيى البرمكي من التحريض على هشام رحمه‌الله أو على الإمام الكاظم عليه‌السلام ، لكن الصحيح أنه قام بذلك للإيقاع بالإمام وشيعته ، خاصة بوزيره جعفر بن الأشعث ، الذي جعل هارون ولده وولي عهده الأمين في حجره ، وقد نصت على ذلك مصادرنا .

٤ ـ مما يدل على التأثير القوي لمناظرات هشام ، وحساسية الخلافة منها ، أن الإمام الكاظم عليه‌السلام أمر هشام بن الحكم في زمن المهدي والد هارون ، بأن يمتنع عن المناظرة لخطورة الظرف ! « عن يونس قال : قلت لهشام : إنهم يزعمون أن أبا الحسن عليه‌السلام بعث إليك عبد الرحمن بن الحجاج يأمرك أن تسكت ولا تتكلم ، فأبيت أن تقبل رسالته فأخبرني كيف كان سبب هذا ، وهل أرسل إليك ينهاك عن الكلام أو لا ، وهل تكلمت بعد نهيه إياك ؟ فقال هشام : إنه لما كان أيام المهدي شدد علي أصحاب الأهواء ، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً ، ثم قرأ الكتاب على الناس فقال يونس : قد سمعت الكتاب يقرأ على

٢٢٣

الناس على باب الذهب بالمدينة ، ومرة أخرى بمدينة الوضاح فقال : إن ابن المفضل صنف لهم صنوف الفرق فرقة فرقة حتى قال في كتابه : وفرقة يقال لهم الزرارية ، وفرقة يقال لهم العمارية أصحاب عمار الساباطي ، وفرقة يقال لهم اليعفورية ، ومنهم فرقة أصحاب سليمان الأقطع ، وفرقة يقال له الجواليقية .

قال يونس : ولم يذكر يومئذ هشام بن الحكم ولا أصحابه ، فزعم هشام ليونس أن أبا الحسن عليه‌السلام بعث إليه فقال له : كفَّ هذه الأيام عن الكلام ، فإن الأمر شديد ! قال هشام : فكففت عن الكلام حتى مات المهدي وسكن الأمر ، فهذا الأمر الذي كان من أمره وانتهائي إلى قوله » . ( معجم السيد الخوئي : ٢٠ / ٣٠٥ ) .

٥ ـ اشتهر حديث الإمام الكاظم عليه‌السلام مع هشام حول مكانة العقل وقيمة الشخصية العقلانية . كما رويت لهشام مناظرات كثيرة مهمة ، ومن نماذجها :

« دخل ضرار بن عمرو الضبي على يحيى بن خالد البرمكي فقال له : يا أبا عمرو هل لك في مناظرة رجل هو ركن الشيعة ؟ فقال ضرار : هلم من شئت ، فبعث إلى هشام بن الحكم فأحضره فقال له : يا أبا محمد هذا ضرار وهو من قد علمت في الكلام والخلاف لك ، فكلمه في الإمامة ، فقال له : نعم ، ثم أقبل على ضرار ، فقال : يا أبا عمرو خبرني على ما تجب الولاية والبراءة أعلى الظاهر أم على الباطن ؟ فقال ضرار : بل على الظاهر فإن الباطن لا يدرك إلا بالوحي .

قال هشام : صدقت ، فأخبرني الآن أي الرجلين كان أذب عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسيف وأقتل لأعداء الله بين يديه ، وأكثر آثاراً في الجهاد ، أعلي بن أبي طالب أو أبو بكر ؟ فقال : بل علي بن أبي طالب ، ولكن أبا بكر كان أشد يقيناً !

٢٢٤

فقال هشام : هذا هو الباطن الذي قد تركنا الكلام فيه ، وقد اعترفت لعلي عليه‌السلام بظاهر عمله من الولاية وأنه يستحق بها من الولاية ما لم يجب لأبي بكر !

فقال ضرار : هذا هو الظاهر نعم . ثم قال له هشام : أفليس إذا كان الباطن مع الظاهر فهو الفضل الذي لا يدفع ؟ فقال له ضرار : بلى ، فقال له هشام : ألست تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ؟ قال ضرار : نعم . قال هشام : أفيجوز أن يقول له هذا القول إلا وهو عنده في الباطن مؤمن ؟ قال : لا . قال هشام : فقد صح لعلي عليه‌السلام ظاهره وباطنه ولم يصح لصاحبك لا ظاهر ولا باطن ، والحمد لله » . ( الفصول المختارة / ٢٨ ) .

٦ ـ يقصد بكلام هشام في العباس الذي أعجب هارون ، ما رواه الشريف المرتضى في الفصول المختارة / ٤٩ ، قال : « أخبرني الشيخ أدام الله عزه قال : سأل يحيى بن خالد البرمكي بحضرة هارون هشام بن الحكم رحمه‌الله فقال له : أخبرني يا هشام عن الحق هل يكون في جهتين مختلفتين ؟ قال هشام : لا ، قال فخبرني عن نفسين اختصما في حكم في الدين وتنازعا واختلفا ، هل يخلوان من أن يكونا محقين أو مبطلين ، أو يكون أحدهما مبطلاً والآخر محقاً ؟ فقال له هشام : لا يخلوان من ذلك وليس يجوز أن يكونا محقين على ما قدمت من الجواب . قال له يحيى بن خالد : فخبرني عن علي والعباس لما اختصما إلى أبي بكر في الميراث أيهما كان المحق من المبطل ، إذ كنت لا تقول إنهما كانا محقين ولا مبطلين ؟

قال هشام : فنظرت فإذا إنني إن قلت بأن علياً عليه‌السلام كان مبطلاً كفرت وخرجت عن مذهبي ، وإن قلت إن العباس كان مبطلاً ضرب الرشيد عنقي ! ووردت

٢٢٥

علي مسألة لم أكن سئلت عنها قبل ذلك الوقت ، ولا أعددت لها جواباً ، فذكرت قول أبي عبد الله عليه‌السلام وهو يقول لي : يا هشام لا تزال مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك ، فعلمت أني لا أخذل وعنَّ لي الجواب في الحال ، فقلت له : لم يكن من أحدهما خطأ وكانا جميعاً محقين ، ولهذا نظير قد نطق به القرآن في قصة داود عليه‌السلام حيث يقول الله جل اسمه : وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ .. فأي الملكين كان مخطئاً وأيهما كان مصيباً ، أم تقول إنهما كانا مخطئين ، فجوابك في ذلك جوابي بعينه ! فقال يحيى : لست أقول إن الملكين أخطآ بل أقول إنهما أصابا وذلك أنهما لم يختصما في الحقيقة ولا اختلفا في الحكم ، وإنما أظهرا ذلك لينبها داود عليه‌السلام على الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه ! قال فقلت له : كذلك علي والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة ، وإنما أظهرا الإختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على غلطه ويوقفاه على خطئه ويدلاه على ظلمه لهما في الميراث ، ولم يكونا في ريب من أمرهما وإنما كان ذلك منهما على حد ما كان من الملكين ! فلم يحر جواباً ، واستحسن ذلك الرشيد » .

٢٢٦

٤ ـ محاولات هارون قتل الإمام الكاظم عليه‌السلام

تصل محاولات هارون لقتل الإمام الكاظم عليه‌السلام الى عشر مرات ، وفي كل مرة كانت تظهر له كرامات الإمام عليه‌السلام وآياته فيتراجع ، لكنه كان يعود ويكرر محاولته !

وقد مرَّ بعضها في الموضوعات المتقدمة ، وهذا عدد آخر :

١ ـ قال الفضل بن الربيع : « كنت أحجب الرشيد فأقبل عليَّ يوماً غضباناً وبيده سيف يقلبه فقال لي : يا فضل بقرابتي من رسول الله لئن لم تأتني بابن عمي الآن لآخذن الذي فيه عيناك ! فقلت : بمن أجيؤك ؟فقال : بهذا الحجازي ! فقلت : وأي حجازي ؟ قال : موسى جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب .. الى أن قال : فقلت له : استعد للعقوبة يا أبا إبراهيم فقال عليه‌السلام : أليس معي من يملك الدنيا والآخرة ! لن يقدر اليوم على سوء بي إن شاء الله تعالى ! قال فضل بن الربيع فرأيته وقد أدار يده عليه‌السلام يلوح بها على رأسه ثلاث مرات ، فدخلت على الرشيد فإذا هو كأنه امرأة ثكلى ... فلما رآه وثب إليه قائماً وعانقه وقال له : مرحباً بابن عمي وأخي ... ثم أكرمه ، وذكر الدعاء الذي دعا به عليه‌السلام » .

٢ ـ « ومن ذلك الدعاء الذي علمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لموسى بن جعفر عليه‌السلام في السجن بإسناد صحيح عن عبد الله بن مالك الخزاعي قال : دعاني هارون الرشيد فقال : يا أبا عبد الله كيف أنت وموضع السر منك ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ما أنا الا عبد من عبيدك ، فقال : إمض إلى تلك الحجرة وخذ من فيها واحتفظ به إلى أن أسئلك عنه ، قال : فدخلت فوجدت موسى بن جعفر فلما رآني سلمت عليه وحملته على دابتي إلى منزلي ، فأدخلته داري وجعلته على حرمي ، وقفلت عليه

٢٢٧

والمفتاح معي وكنت أتولى خدمته . ومضت الأيام ، فلم أشعر إلا برسول الرشيد يقول : أجب أمير المؤمنين فنهضت ودخلت عليه ، وهو جالس وعن يمينه فراش وعن يساره فراش فسلمت عليه فلم يرد غير أنه قال : ما فعلت بالوديعة ؟ فكأني لم أفهم ما قال فقال : ما فعل صاحبك ؟ فقلت : صالح ، فقال : إمض إليه وادفع إليه ثلاثة آلاف درهم واصرفه إلى منزله وأهله ، فقمت وهممت بالإنصراف فقال : أتدري ما السبب في ذلك وما هو ؟ قلت : لا يا أمير المؤمنين قال : نمت على الفراش الذي عن يميني ، فرأيت في منامي قائلاً يقول لي : يا هارون أطلق موسى بن جعفر ، فانتبهت فقلت لعلها لما في نفسي منه ، فقمت إلى هذا الفراش الآخر فرأيت ذلك الشخص بعينه وهو يقول : يا هارون أمرتك أن تطلق موسى بن جعفر فلم تفعل ؟ فانتبهت وتعوذت من الشيطان ثم قمت إلى هذا الفراش الذي أنا عليه وإذا بذلك الشخص بعينه ، وبيده حربة كأن أولها بالمشرق وآخرها بالمغرب ، وقد أومأ إلي وهو يقول : والله يا هارون لئن لم تطلق موسى بن جعفر لأضعن هذه الحربة في صدرك وأطلعها من ظهرك ، فأرسلت إليك فامض فيما أمرتك به ولا تظهره إلى أحد فأقتلك فانظر لنفسك ! قال : فرجعت إلى منزلي وفتحت الحجرة ودخلت على موسى بن جعفر فوجدته قد نام في سجوده فجلست حتى استيقظ ورفع رأسه ، وقال : يا أبا عبد الله إفعل ما أمرت به ، فقلت له : يا مولاي سألتك بالله وبحق جدك رسول الله هل دعوت الله عز وجل في يومك هذا بالفرج ؟ فقال : أجل إني صليت المفروضة وسجدت وغفوت في سجودي فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا موسى أتحب أن تطلق ؟ فقلت : نعم يا

٢٢٨

رسول الله صلى الله عليك ، فقال : ادع بهذا الدعاء : يا سابغ النعم ، يا دافع النقم يا بارئ النسم ، يا مجلي الهمم ، يا مغشي الظلم ، يا كاشف الضر والألم ، يا ذا الجود والكرم ، ويا سامع كل صوت ، وما مدرك كل فوت ، ويا محيي العظام وهي رميم ، ومنشئها بعد الموت ، صل على محمد وآل محمد واجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً يا ذا الجلال والإكرام . فلقد دعوت به ورسول الله يلقننيه حتى سمعتك . فقلت : قد استجاب الله فيك ، ثم قلت له ما أمرني به الرشيد وأعطيته ذلك » . ( بحار الأنوار : ٩١ / ٣٣١ ، عن مهج الدعوات ) .

٣ ـ قال علي بن يقطين : « كنت واقفاً على رأس هارون الرشيد إذ دعا موسى بن جعفر عليه‌السلام وهو يتلظى عليه ! فلما دخل حرك شفتيه بشئ فأقبل هارون عليه ولاطفه وبره وأذن له في الرجوع ! فقلت له : يا ابن رسول الله جعلني الله فداك ، إنك دخلت على هارون وهو يتلظى عليك فلم أشك إلا أنه يأمر بقتلك فسلمك الله منه ! فما الذي كنت تحرك به شفتيك ؟ فقال عليه‌السلام : إني دعوت بدعائين أحدهما خاص والآخر عام فصرف الله شره عني ، فقلت : ماهما يا ابن رسول الله ؟ فقال : أما الخاص : اللهم إنك حفظت الغلامين لصلاح أبويهما فاحفظني لصلاح آبائي ، وأما العام : اللهم إنك تكفي من كل أحد ولا يكفي منك أحد ، فاكفنيه بما شئت وكيف شئت أنى شئت ، فكفاني الله شره » . ( البحار : ٩١ / ٣٣٩ ، ومهج الدعوات / ٣٦ ) .

٤ ـ « لما همَّ هارون الرشيد بقتل موسى بن جعفر عليه‌السلام دعا الفضل بن الربيع وقال له : قد وقعت لي إليك حاجة أسألك أن تقضيها ولك مائة ألف درهم قال : فخرَّ الفضل عند ذلك ساجداً وقال : أمر أم مسألة ؟ قال : بل مسألة ، ثم قال :

٢٢٩

أمرت بأن تحمل إلى دارك في هذه الساعة مائة ألف درهم ، وأسألك أن تصير إلى دار موسى بن جعفر وتأتيني برأسه ! قال الفضل : فذهبت إلى ذلك البيت فرأيت فيه موسى بن جعفر وهو قائم يصلي فجلست حتى قضى صلاته ، وأقبل إلي وتبسم وقال : عرفت لماذا حضرت أمهلني حتى أصلي ركعتين . قال : فأمهلته فقام وتوضأ فأسبغ الوضوء وصلى ركعتين وأتم الصلاة بحسن ركوعها وسجودها ، وقرأ خلف صلاته بهذا الحرز فاندرس وساخ في مكانه ! فلا أدري أأرض ابتلعته أم السماء اختطفته ! فذهبت إلى هارون وقصصت عليه القصة قال فبكى هارون ثم قال : قد أجاره الله مني » ( البحار : ٩١ / ٣٣٢ ، عن مهج الدعوات ) .

٥ ـ « لما أمر هارون موسى بن جعفر عليه‌السلام أن يحمل إليه أدخل عليه وعلي بن يقطين على رأسه متوكئ على سيفه ، فجعل يلاحظ موسى عليه‌السلام ليأمره فيضرب به هارون ففطن له هارون فقال : قد رأيت ذلك ! فقال : يا أمير المؤمنين سللت من سيفي شبراً رجاء أن تأمرني فيه بأمرك ! فنجا منه بهذه المقالة » . ( مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٤٢٣ ) .

٦ ـ « وروي أن الرشيد فكر في قتل موسى عليه‌السلام فدعا برطب فأكل منه ، ثم أخذ صينية فوضع فيها عشرين رطبة وأخذ سلكاً فتركه في السم ، وأدخله في الخياط وأخذ رطبة من ذلك الرطب وأقبل يردد السلك المسموم بذلك الخيط من رأس الرطبة إلى آخرها ، حتى علم أن السم قد تمكن فيها . واستكثر منه ثم ردها في الرطب وقال لخادم له : إحمل هذه الصينية إلى موسى وقل له : إن أمير المؤمنين أكل من هذا الرطب وتنغص لك ( اختار ) وهو يقسم عليك بحقه إلا ما أكلته عن آخره فإني اخترتها لك بيدي ، ولا تتركه حتى لا يبقي منه شيئاً ، ولا يطعم منه أحداً ،

٢٣٠

فأتاه بها الخادم وأبلغه الرسالة فقال له : إئتني بخلالة فناوله خلالة ، وقام بإزائه وهو يأكل الرطب ، وكان للرشيد كلبة أعز عليه من كل ما كان في مملكته ، فجرت نفسها وخرجت بسلاسل ذهب وفضة كانت في عنقها حتى حاذت موسى بن جعفر عليه‌السلام ، فبادر بالخلالة إلى الرطبة المسمومة فغرزها ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها ، فلم تلبث الكلبة أن ضربت بنفسها الأرض وعوت حتى تقطعت قطعاً قطعاً ، واستوفى عليه‌السلام باقي الرطب !

وحمل الغلام الصينية إلى الرشيد فقال له : أكل الرطب عن آخره ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين . قال : فكيف رأيته ؟ قال : ما أنكرت منه شيئاً يا أمير المؤمنين !

قال : ثم ورد خبر الكلبة وأنها قد تهرأت وماتت ، فقلق الرشيد لذلك قلقاً شديداً واستعظمه ، ومر على الكلبة فوجدها متهرئة بالسم ، فدعا الخادم ودعا بالسيف والنطع ، قال لتصدقني عن خبر الرطب وإلا قتلتك ! فقال : يا أمير المؤمنين إني حملت الرطب إليه وأبلغته رسالتك وقمت بإزائه فطلب خلالة فدفعت إليه خلالة ، فأقبل يغرز الرطبة بعد الرطبة يأكلها ، حتى مرت به الكلبة فغرز رطبة من ذلك الرطب ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها وأكل باقي الرطب فكان ما ترى ! فقال الرشيد : ما ربحنا من موسى إلا أنا أطعمناه جيد الرطب وضيعنا سُمَّنا وقتلنا كلبتنا » ! ( دلائل الإمامة للطبري / ٣١٦ ، والهداية الكبرى / ٢٦٤ ) .

٧ ـ « قال إبراهيم بن سعد : أدخل إلى موسى بن جعفر عليه‌السلام سباع لتأكله فجعلت تلوذ به وتبصبص له وتدعو له بالإمامة ، وتعوذ به من شر الرشيد ، فلما بلغ ذلك الرشيد أطلق عنه وقال : أخاف أن يفتنني ويفتن الناس ومن معي » !

٢٣١

٨ ـ « عن الأعمش قال : رأيت الكاظم عليه‌السلام عند الرشيد وقد خضع له فقال له عيسى بن أبان : يا أمير المؤمنين لم تخضع له ؟ قال : رأيت من ورائه أفعى تضرب بنابها وتقول : أجبه بالطاعة وإلا بلعتك ففزعت منها » . ( نوادر المعجزات / ١٦٣ ) .

٩ ـ « كان يتقدم الرشيد إلى خدمه إذا خرج موسى بن جعفر من عنده أن يقتلوه فكانوا يهمون به فيتداخلهم من الهيبة والزمع ! فلما طال ذلك أمر بتمثال من خشب وجعل له وجهاً مثل موسى بن جعفر وكانوا إذا سكروا أمرهم أن يذبحوه بالسكاكين ، فكانوا يفعلون ذلك أبداً ، فلما كان في بعض الأيام جمعهم في الموضع وهم سكارى ، وأخرج سيدي إليهم فلما بصروا به هموا به على رسم الصورة ، فلما علم منهم ما يريدون كلمهم بالخزرية والتركية ، فرموا من أيديهم السكاكين ووثبوا إلى قدميه فقبلوها .. » ( مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٤١٨ ) .

*  *

٢٣٢

الفصل الحادي عشر

إصرار هارون على قتل الإمام الكاظم عليه‌السلام

١ ـ حبسه في البصرة سنة ثم نقله الى بغداد

حبسه في البصرة عند واليها عيسى بن أبي جعفر بن المنصور سنة « ثم كتب إلى الرشيد أن خذه مني وسلمه إلى من شئت وإلا خَلَّيْتُ سبيله ، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة ، فما أقدر على ذلك حتى أني لأتسمع عليه إذا دعا لعله يدعو عليَّ أو عليك ، فما أسمعه يدعو إلا لنفسه يسأل الرحمة والمغفرة . فوجه من تسلمه منه » . ( غيبة الطوسي / ٢٣ ) .

وفي روضة الواعظين / ٢١٩ : « وكتب الرشيد في دمه ، فاستدعى عيسى بن جعفر المنصور بعض خاصته وثقاته ، فاستشارهم فيما كتب به الرشيد ، فأشاروا عليه بالتوقف عن ذلك والإستعفاء منه . وكتب عيسى بن جعفر إلى الرشيد يقول له : قد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي ، وقد اختبرت حاله ووضعت من يسمع منه ما يقول في دعائه ، فما دعا عليك ولا عليَّ وما ذكرنا بسوء ، وما يدعو لنفسه إلا بالمغفرة والرحمة ، وإن أنفذت إلى من يتسلمه مني وإلا خليت سبيله فإنني متحرجٌ من حبسه » !

٢٣٣

« فحبسه عنده سنة ثم كتب إليه الرشيد في دمه فاستعفى عيسى منه ، فوجه الرشيد من تسلمه منه ، وصيره إلى بغداد وسُلِّمَ إلى الفضل بن الربيع ، وبقي عنده مدة طويلة ، ثم أراده الرشيد على شئ من أمره فأبى ! فأمر بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فجعله في بعض دوره ووضع عليه الرصد ، فكان عليه‌السلام مشغولاً بالعبادة يُحيي الليل كله صلاة وقراءةً للقرآن ، ويصوم النهار في أكثر الأيام ولا يصرف وجهه عن المحراب ، فوسع عليه الفضل بن يحيى وأكرمه ، فبلغ ذلك الرشيد وهو بالرقة فكتب إليه يأمره بقتله فتوقف عن ذلك ! فاغتاظ الرشيد لذلك وتغير عليه » . ( إعلام الورى : ٢ / ٣٣ ، ومقاتل الطالبيين / ٣٣٤ ) .

« وكان تولى حبسه عيسى بن جعفر ، ثم الفضل بن الربيع ، ثم الفضل بن يحيى البرمكي ، ثم السندي بن شاهك ، وسقاه سماً في رطب أو طعام آخر ، ولبث ثلاثاً بعده موعوكاً ، ثم مات في اليوم الثالث ، وكانت وفاته في مسجد هارون الرشيد وهو المعروف بمسجد المسيب ، وهو في الجانب الغربي من باب الكوفة ، لأنه نقل إليه من دار تعرف بدار عمرويه » . ( مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٤٣٨ ) .

٢ ـ لماذا لم يعاقب هارون عيسى بن جعفر والفضل بن الربيع ؟

فقد رفض عيسى والي البصرة قتل الإمام الكاظم عليه‌السلام لأنه « تحرج من حبسه » ! وطلب من هارون نقله من عنده وإلا أطلقه ! فقبل هارون ولم يغضب عليه !

وكذلك فعل حاجبه الفضل بن الربيع ، فنقله هارون من عنده ولم يغضب عليه !

٢٣٤

بينما غضب على رئيس وزرائه يحيى بن خالد ، لأنه وسع على الإمام عليه‌السلام في حبسه ، ثم رفض أن يقتله !

والسبب أن والي البصرة عيسى بن جعفر بن المنصور ، أخ زبيدة زوجة هارون ( النهاية : ١٠ / ٢٢٨ ) وخال ولده الأمين ووالد زوجته العباسة ( الوافي : ١٦ / ٣٨٣ ) .

وكان من كبار شخصيات العباسيين ، وكان لفترة والي مكة وأمير الحج ( تاريخ بغداد : ١١ / ١٥٨ ) . وكان عزيزاً عند هارون حتى أنه لما سمن وكثر لحمه ، أرسل له هارون طبيبه وعالجه حتى نقص وزنه ! ( طبقات الأطباء / ٢١٧ ) .

ومن تناقض عيسى بن جعفر ، أنه كان يتأثم من قتل الإمام الكاظم عليه‌السلام ، لكنه كان يحث هارون على قتل ابنه الإمام الرضا عليه‌السلام لأنه ادعى الإمامة بعده !

فقد روى الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٢٤٦ ، أن عيسى بن جعفر قال لهارون : « حيث توجه من الرقة إلى مكة : أذكر يمينك التي حلفت بها في آل أبي طالب ، فإنك حلفت إن ادعى أحد بعد موسى الإمامة ضربت عنقه صبراً وهذا علي ابنه يدعي هذا الأمر ، ويقال فيه ما يقال في أبيه ! فنظر إليه مغضباً فقال : وما ترى ، تريد أن أقتلهم كلهم ! قال موسى بن مهران : فلما سمعت ذلك صرت إليه ( الإمام الرضا عليه‌السلام ) فأخبرته فقال : ما لي ولهم لا يقدرون إلي على شئ » !

أما وزيره الآخر الفضل بن الربيع ، فأبوه الربيع بن يونس غلامٌ اشتراه جده المنصور ، بإشارة عيسى بن أبان ، لما شكى له المنصور ضعف حجابه فقال له : « إستخدم قوماً وقاحاً ! قال : ومن هم ؟ قال : إشتر قوماً من اليمامة فإنهم يربون

٢٣٥

الملاقيط ( اللقطاء الذين لا آباء لهم ) ! فاشتراهم وجعل حجابه إليهم ، منهم الربيع الحاجب » . ( فهرست ابن النديم / ٢٨٥ ) .

وفي تاريخ بغداد : ٨ / ٤١٢ ، و٤١٣ : « هو الربيع بن يونس بن محمد بن أبي فروة ، قال واسم أبي فروة كيسان .. ذكروا أنه لم يُرَ في الحجابة أعرق من ربيع وولده ، وكان ربيع حاجب أبي جعفر ومولاه ، ثم صار وزيره ، ثم حجب المهدي ، وهو الذي بايع المهدي وخلع عيسى بن موسى . ومن ولده الفضل ، حجب هارون ومحمداً المخلوع .. ابن عياش كان يطعن في نسب الربيع طعناً قبيحاً ، ويقول للربيع : فيك شبه من المسيح » ! يقصد بلا أب ، فاستلقى المنصور من الضحك !

« كان الغالب على الرشيد يحيى بن خالد بن برمك وجعفر والفضل ابناه ، صدراً من خلافته حتى ما كان له معهم أمر ولا نهي ! فأقاموا على تلك الحال وأمور المملكة إليهم سبع عشرة سنة ! ثم كان الفضل يغلب عليه » ( اليعقوبي : ٢ / ٤٢٩ ) .

فهذا هو الربيع وابنه الفضل ، اللذان حكما الدولة الإسلامية مع الخليفة !

لذا كان هارون يعتبر الفضل ابنه ولا يخاف من تعاطفه مع الإمام الكاظم عليه‌السلام ، بل يفهم تخوفه من مباشرة قتله على أنه خوف من أن يلحقه ضرر بقتل ولي كتحرج ابن عمه عيسى ، لذا قبل منه ونقل الإمام عليه‌السلام من عهدته إلى عهدة وزيره الفضل بن يحيى ، وأمره أن يضيق عليه فلم يفعل ، ثم أمره أن يقتله فامتنع ، فغضب عليه ولعنه ، ثم توسط له أبوه يحيى وضمن لهارون أن ينفذ أمره بقتل الإمام عليه‌السلام ، فرفع عنه اللعن ورضي عنه !

وجاء أبوه يحيى من الرقة الى بغداد على البريد أي الخيل السريعة ، ونفذ أمر

٢٣٦

هارون ، ودبر قتل الإمام عليه‌السلام بالسم !

وفي الغيبة للطوسي / ٢٩ ، ومقاتل الطلبيين / ٣٣٦ : « فكتب بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فتسلمه منه ، وأراد ذلك منه ( أن يقتله ) فلم يفعل ، وبلغه أنه عنده في رفاهية وسعة ، وهو حينئذ بالرقة ، فأنفذ مسروراً الخادم إلى بغداد على البريد ، وأمره أن يدخل من فوره إلى موسى بن جعفر عليه‌السلام فيعرف خبره ، فإن كان الأمر على ما بلغه ، أوصل كتاباً منه إلى العباس بن محمد وأمره بامتثاله ، وأوصل كتاباً منه آخر إلى السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس ، فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيى لايدري أحد ما يريد ، ثم دخل على موسى بن جعفر عليه‌السلام فوجده على ما بلغ الرشيد ، فمضى من فوره إلى العباس بن محمد والسندي فأوصل الكتابين إليهما ، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض إلى الفضل بن يحيى فركب معه وخرج مشدوهاً دهشاً حتى دخل العباس فدعا بسياط وعقابين ( خشبة يربط بها لجلده ) فوجه ذلك إلى السندي وأمر بالفضل فجرد ثم ضربه مائة سوط ، وخرج متغير اللون خلاف ما دخل ، فأذهبت نخوته فجعل يسلم على الناس يميناً وشمالاً !

وكتب مسرور بالخبر إلى الرشيد فأمر بتسليم موسى عليه‌السلام إلى السندي بن شاهك وجلس مجلساً حافلاً ، وقال : أيها الناس إن الفضل بن يحيى قد عصاني وخالف طاعتي ورأيت أن ألعنه فالعنوه ! فلعنه الناس من كل ناحية حتى ارتج البيت والدار بلعنه ! وبلغ يحيى بن خالد فركب إلى الرشيد ودخل من غير الباب الذي يدخل الناس منه حتى جاءه من خلفه وهو لا يشعر ، ثم قال له : التفت إلي يا أمير المؤمنين ! فأصغى إليه فزعاً ، فقال له : إن الفضل حدث وأنا أكفيك ما تريد !

٢٣٧

فانطلق وجهه وسُرَّ . فقال له يحيى : يا أمير المؤمنين قد غضضت من الفضل بلعنك إياه فشرفه بإزالة ذلك ، فأقبل على الناس فقال : إن الفضل قد عصاني في شئ فلعنته وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولوه . فقالوا نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت وقد توليناه ! ثم خرج يحيى بن خالد بنفسه على البريد حتى أتى بغداد ، فماج الناس وأرجفوا بكل شئ فأظهر أنه ورد لتعديل السواد والنظر في أمر العمال ، وتشاغل ببعض ذلك ، ودعا السندي فأمره فيه بأمره ، فامتثله » !

٣ ـ لماذا غضب هارون على وزيره الفضل بن يحيى ؟

كان هارون يرى أن تعاطف وزيره الفضل بن يحيى مع الإمام الكاظم عليه‌السلام وامتناعه عن تنفيذ أمره في التضييق عليه ثم بقتله ، أمر خطير ، بل خيانة عظمى للنظام العباسي وشخص الخليفة ! وذلك بعكس مخالفة ابن عمه والي البصرة وبعكس مخالفة غلامه الفضل بن الربيع !

والسبب أن البرامكة بنفوذهم في الدولة ، بإمكانهم أن يقوموا بانقلاب ويقتلوا هاروناً ، ويبايعوا لموسى بن جعفر عليه‌السلام ، أو لأي عباسي ، أو علوي !

ومما زاد غضب هارون على الفضل ، أن أباه وأخاه جعفر كانا عدوين لدودين للإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، وما زالا يحركان هارون ضده ويعملان لقتله !

ولم يشفع للفضل أنه أخ هارون بالرضاعة ، فقد نشأ في بيت يحيى البرمكي ، وكان هارون يخاطب يحيى بن خالد : يا أبت ، ويخاطب ولده الفضل : يا أخي » . ( وفيات الأعيان : ٤ / ٢٧ ، وتاريخ بغداد : ١٢ / ٣٣٢ ، والطبري : ٦ / ٤٤١ ) .

٢٣٨

ولم تشفع له مكانته السياسية وتاريخه الذي قال عنه في تاريخ بغداد : ١٢ / ٣٣٢ : « الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي ، أخو جعفر وكان رضيع هارون الرشيد ، وولاه الرشيد أعمالاً جليلة بخراسان وغيرها ، وكان أندى كفاً من أخيه جعفر ، إلا أنه كان فيه كبر شديد ، وكان جعفر أطلق وجهاً وأظهر بشراً » .

وفي تاريخ بغداد : ١٢ / ٣٣٢ : « عن العتابي قال : كنا بباب الفضل بن يحيى البرمكي أربعة آلاف ، ما بين شاعر وزائر » . ( تاريخ بغداد : ١٢ / ٣٣٤ ) .

« ولما غضب هارون على البرامكة وقتل جعفراً ، وخلَّدَ الفضل في الحبس مع أبيه يحيى فلم يزالا محبوسين حتى ماتا في حبسهما » . تاريخ بغداد : ١٢ / ٣٣٢ ، والطبري : ٦ / ٤٤١ .

ومات يحيى وعمره ٤٥ سنة ، قبل هارون بخمسة أشهر . ( الطبري : ٦ / ٥٢٤ ) .

والسؤال هنا : لماذا رفض الفضل بن يحيى البرمكي أمر هارون له بالتضييق على الإمام الكاظم عليه‌السلام ثم بقتله ؟ وهل كان غضب هارون عليه بسبب ذلك ؟

والجواب : أنه لاتفسير لمخالفة الفضل لهارون ، إلا أنه رأى كرامات الإمام عليه‌السلام فتشيع أو لم يتشيع لكنه تحرَّج من تنفيذ أمر هارون ، وتحمل أن يُعَرِّض نفسه لغضبه !

ويوجد مؤشر على أن الفضل كان ترك شرب الخمر مع هارون ، توبةً أو أنفةً لأنه ينقص من مروءته ! ففي تاريخ الطبري : ٦ / ٤٨٩ : «كان الرشيد قد عتب على الفضل بن يحيى وثقل مكانه عليه لتركه الشرب معه ، فكان الفضل يقول : لو علمت أن الماء ينقص من مروتي ما شربته » !

والسؤال الثاني : هل يمكن القول إن سبب نقمة هارون على البرامكة ، أنهم فكروا بانقلاب على العباسيين لمصلحة العلويين ، أو أنهم تعاطفوا مع الإمام الكاظم عليه‌السلام في

٢٣٩

أواخر أيام سجنه ، وهل يؤيد ذلك أن هارون تعمد إبقاء سبب نقمته عليهم سراً ، وما رواه الطوسي في الغيبة / ٢٥ : « وكان يحيى يتولاه ، وهارون لا يعلم ذلك » ؟

والجواب : أن هذا الإحتمال لا ينهض مقابل ما يعارضه ، فقد روت مصادرنا عمل يحيى بن خالد البرمكي لقتل الإمام الكاظم عليه‌السلام وسعيه به الى هارون ، وتوظيفه بعض أقارب الإمام عليه‌السلام واستقدامهم ليشهدوا عليه عند هارون !

ولا ينهض مقابل أن الإمام الرضا عليه‌السلام كان يدعو عليهم في عرفات لأنهم سعوا في قتل أبيه ، قال عليه‌السلام : «إني كنت أدعو الله تعالى على البرامكة بما فعلوا بأبي ، فاستجاب الله لي اليوم فيهم ! فلما انصرف لم يلبث إلا يسيراً حتى بُطش بجعفر ويحيى ، وتغيرت أحوالهم » ( عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٢٤٥ ) .

فاليقين في أمرهم : إن الذي سعى بقتل الإمام الكاظم عليه‌السلام هو يحيى كما نصت أحاديثنا ، ويشير الحديث إلى أن ابنه جعفر معه ، لكن ابنه الفضل رفض إطاعة أوامر هارون ، ومعناه أنه كان يميل الى الإمام ويعتقد بأنه ولي ، أو إمام !

كما يظهر أن جعفر البرمكي كان أحب الى هارون من أخيه الفضل ، لأنه أخذ الوزارة والخاتم من الفضل وأعطاه لجعفر ، وذكر في شرح النهج ( ١٨ / ١٠٥ ) أن هاروناً كان « يحلف بالله أن جعفراً أفصح من قس بن ساعدة ، وأشجع من عامر بن الطفيل ، وأكتب من عبد الحميد بن يحيى ، وأسوس من عمر بن الخطاب ، وأحسن من مصعب بن الزبير ، وأنصح له من الحجاج لعبد الملك ، وأسمح من عبد الله بن جعفر ، وأعف من يوسف بن يعقوب ... ولم يكن أحد يجسر أن يرد على جعفر قولا ولا رأياً »

٢٤٠