الامام الكاظم عليه السلام سيّد بغداد

الشيخ علي الكوراني العاملي

الامام الكاظم عليه السلام سيّد بغداد

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

٦ ـ جعفر بن محمد بن الأشعث رئيس وزراء هارون

١ ـ محمد بن الأشعث الخزاعي غير محمد بن الأشعث بن قيس الكندي ، وقد خلط البعض بينهما ، وجعفر هنا هو الخزاعي وليس الكندي . وأبوه من قادة الثورة العباسية ، ففي تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٣٨٦ : « فولى أبو جعفر محمد بن الأشعث الخزاعي ، فقدم طرابلس » .

وفي فتوح البلاذري : ١ / ٢٧٥ : « ثم دخل محمد بن الأشعث الخزاعي إفريقية والياً عليها في آخر خلافة أبى العباس ، في سبعين ألفاً ويقال في أربعين ألفاً ، فوليها أربع سنين ، فرمَّ مدينة القيروان » . أي رممها وبنى فيها .

وفي أنساب السمعاني : ٤ / ٥٧٣ : « وقيل : بنى القيروان محمد بن الأشعث الخزاعي ، وتحت لوائه عشرون ومائة قائد » .

وفي تاريخ الذهبي : ٩ / ٢٦٢ : « محمد بن الأشعث بن يحيى الخزاعي الخراساني ، الأمير ، أحد قواد بني عباس . ولي دمشق للمنصور بعد صالح بن علي العباسي ثم ولاه إمرة الديار المصرية ، ودخل القيروان لحرب الإباضية ، وكان شجاعاً حازماً مهيباً ، هزم أبا الخطاب عبد الأعلى رأس الخوارج ، ثم ظفر به وقتله ، ومات ابن الأشعث هذا سنة تسع وأربعين ومائة » .

وكان جعفر بن محمد بن الأشعث قائداً كأبيه ، وذكره الطبري وذكر ابنه العباس فقال : ( ٦ / ٥٢٩ ، و٤٤٧ ) : « سنة ١٨٧ وفيها أقدم الرشيد جعفر بن محمد بن الأشعث من خراسان ، وولاها ابنه العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث » .

وكان هارون يستقدمه ليعطيه مسؤولية كبيرة كخاتم الخلافة أو الحرس

١٨١

الشخصي له . ( تاريخ خليفة / ٣٨٢ ) . وقد بلغت ثقة هارون بجعفر بن محمد بن الأشعث أنه جعل ابنه المأمون في حجره ليربيه ، فحسده البرامكة كما تقدم !

وورد ذكر ابنه العباس في غزو الروم أيضاً ، قال الطبري ( ٦ / ٥٠٠ ) : « دخل القاسم بن هارون أرض الروم في شعبان فأناخ على قرة وحاصرها ، ووجه العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث فأناخ على حصن سنان حتى جهدوا ، فبعثت إليه الروم تبذل له ثلاث مائة وعشرين رجلاً من أسارى المسلمين على أن يرحل عنهم ، فأجابهم إلى ذلك » .

« فوجه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة إلى مرو ، ومعه عبد الله بن مالك ، ويحيى بن معاذ ، وأسد بن يزيد بن مزيد ، والعباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث .. ثم اشتد بهارون الوجع حتى ضعف عن السير » . ( الطبري : ٦ / ٥٢٥ ) .

٢ ـ روى محمد بن الأشعث قصة تشيعهم ، فقال لمحمد بن أبي عمير : « أتدري ما كان سبب دخولنا في هذا الأمر ومعرفتنا به ، وما كان عندنا فيه ذكر ولا معرفة شئ مما عند الناس ؟ قال قلت : ما ذاك ؟ قال : إن أبا جعفر يعني أبا الدوانيق قال لأبي محمد الأشعث : يا محمد إبغ لي رجلاً له عقل يؤدي عني . فقال له : إني قد أصبته لك ، هذا فلان بن مهاجر خالي . قال : فأتني به . قال : فأتيته بخالي فقال له أبو جعفر : يا ابن مهاجر خذ هذا المال ، فأعطاه ألوف دنانير أو ما شاء الله من ذلك ، وائت المدينة والق عبد الله بن الحسن وعدة من أهل بيته فيهم جعفر بن محمد ، فقل لهم : إني رجل غريب من أهل خراسان ، وبها شيعة من شيعتكم وجهوا إليكم بهذا المال ، فادفع إلى كل واحد منهم على هذا

١٨٢

الشرط كذا وكذا ، فإذا قبضوا المال فقل إني رسول ، وأحب أن يكون معي خطوطكم بقبضكم ما قبضتم مني !

قال فأخذ المال وأتى المدينة ثم رجع إلى أبي جعفر ، وكان محمد بن الأشعث عنده فقال أبو جعفر : ما وراءك ؟ قال : أتيت القوم وفعلت ما أمرتني به ، وهذه خطوطهم بقبضهم ، خلا جعفر بن محمد فإني أتيته وهو يصلي في مسجد الرسول (ص) فجلست خلفه وقلت ينصرف فأذكر له ما ذكرت لأصحابه ، فعجل وانصرف ثم التفت إليَّ فقال : يا هذا إتق الله ولا تَغُرَّنَّ أهل بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقل لصاحبك إتق الله ولا تغرن أهل بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنهم قريبوا العهد بدولة بني مروان وكلهم محتاج !

قال فقلت : وماذا أصلحك الله ؟! فقال : أدن مني ، فأخبرني بجميع ما جرى بيني وبينك حتى كأنه كان ثالثنا !

قال فقال أبو جعفر : يا ابن مهاجر ، إعلم إنه ليس من أهل بيت نبوة إلا وفيهم محدث ، وإن جعفر بن محمد محدثنا اليوم ! فكان هذه دلالة أنا قلنا بهذا المقالة » ( بصائر الدرجات / ٢٦٥ ، والكافي : ١ / ٤٧٥ ) .

أقول : أراد المنصور أن يُزّوِّر ممسكاً على العلويين بأنهم يجمعون المال والأنصار للثورة عليه ، فيحبسهم لذلك أو يقتلهم ! وانطلت الحيلة على الحسنيين ، بينما كشفها الله تعالى للإمام الصادق عليه‌السلام فأخبر رسول المنصور ، فاندهش !

وتتعجب من قدرة المنصور على التزوير ، وأنه لم ينبهت عندما أخبره رسوله بما رأى بل غيَّر الموضوع وجعله فخراً له بالإمام الصادق عليه‌السلام لأنه من بني هاشم !

وتتعجب أكثر من أن المنصور مع شهادته بأن الإمام الصادق عليه‌السلام إمام تحدثه الملائكة

١٨٣

فهو لا يهتم بمقامه ولا بعلمه ، ولا بالملائكة ولا بالرسل ولا بربهم عز وجل ! بل يريد مستمسكاً على الإمام عليه‌السلام ليقتله ويبعد ضرره عن ملكه ! تماماً كما قال الله تعالى عنهم : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ !

وكانت هذه الحادثة سبب تشيع رسول المنصور ومحمد بن الأشعث ، ولا بد أنهم رأوا غيرها من الآيات فاعتقدوا بأن الإمام الصادق عليه‌السلام حجة الله تعالى على خلقه ، والإمام المفترض الطاعة ! لكنهم حافظوا على ثقة المنصور بهم واحتفظوا بمناصبهم ! ولا بد أن الإمام عليه‌السلام علمهم وعلم ابن يقطين كيف يتصرفون !

*  *

١٨٤

الفصل التاسع

هارون يعرف أن الكاظم عليه‌السلام إمام من الله تعالى

١ ـ يعرف أنه إمام رباني ويعاديه !

١. نقل المأمون اعتراف أبيه بأن الإمام الكاظم عليه‌السلام إمام من الله تعالى ، وأنه أحق من هارون ومن غيره بمقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الملك عقيم !

فقد قال سفيان بن نزار « كنت يوماً على رأس المأمون فقال : أتدرون من علمني التشيع ؟ فقال القوم جميعاً : لا والله ما نعلم ! قال : علمنيه الرشيد ! قيل له وكيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت ؟ قال : كان يقتلهم على الملك لأن الملك عقيم ، ولقد حججت معه سنةً فلما صار إلى المدينة تقدم إلى حجابه وقال : لا يدخلن عليَّ من أهل المدينة ومكة من أهل المهاجرين والأنصار وبني هاشم وساير بطون قريش إلا نسب نفسه ! وكان الرجل إذا دخل عليه قال : أنا فلان بن فلان ، ينتهى إلى جده من هاشمي أو قرشي أو مهاجري أو أنصاري ، فيصله من المال بخمسه آلاف دينار وما دونها ، إلى مأتي دينار على قدر شرفه وهجرة آبائه ، فأنا ذات يوم واقف إذ دخل الفضل بن الربيع ، فقال : يا أمير المؤمنين على الباب رجل يزعم أنه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . فأقبل علينا ونحن قيام على رأسه والأمين والمؤتمن وساير القواد فقال :

١٨٥

إحفظوا على أنفسكم ، ثم قال لآذنه : إئذن له ولا ينزل إلا على بساطي ! فإنا كذلك إذ دخل شيخ مسخد ( مصفر الوجه ) قد أنهكته العبادة ، كأنه شن بال ، قد كُلَمَ من السجود وجهه وأنفه ، فلما رأى الرشيد رمى بنفسه عن حمار كان راكبه فصاح الرشيد : لا والله إلا على بساطي ! فمنعه الحجاب من الترجل ، ونظرنا إليه بأجمعنا بالإجلال والإعظام ، فما زال يسير على حماره حتى صار إلى البساط والحجاب والقواد محدقون به ، فنزل فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط وقبل وجهه وعينيه وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس وأجلسه معه ، وجعل يحدثه ويقبل بوجهه عليه ويسأله عن أحواله ثم قال له : يا أبا الحسن ما عليك من العيال ؟ فقال : يزيدون على الخمس مأة . قال : أولاد كلهم ؟ قال : لا أكثرهم موالي وحشم . أما الولد فلي نيف وثلاثون والذكران منهم كذا والنسوان منهم كذا . قال : فلم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن وأكفائهن ؟ قال : اليد تقصر عن ذلك . قال : فما حال الضيعة ؟ قال : تعطى في وقت وتمنع في آخر . قال : فهل عليك دين ؟ قال : نعم قال : كم ؟ قال : نحو عشره آلاف دينار .

فقال الرشيد : يا ابن عم أنا أعطيك من المال ما تزوج الذكران والنسوان وتقضي الدين وتعمر الضياع .

فقال له : وصلتك رحم يا ابن عم وشكر الله لك هذه النية الجميلة والرحم ماسة والقرابة واشجة والنسب واحد ، والعباس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصنو أبيه ، وعم علي بن أبي طالب عليه‌السلام وصنو أبيه ، وما أبعدك الله من أن تفعل ، وقد بسط يدك وأكرم عنصرك وأعلى محتدك !

١٨٦

فقال : أفعل ذلك يا أبا الحسن وكرامة . فقال : يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد فرض على ولاة عهده أن ينعشوا فقراء الأمة ، ويقضوا عن الغارمين ، ويؤدوا عن المثقل ، ويكسوا العاري ، ويحسنوا إلى العاني ، فأنت أولى من يفعل ذلك فقال : أفعل يا أبا الحسن . ثم قام فقام الرشيد لقيامه وقبل عينيه ووجهه ، ثم أقبل عليَّ وعلى الأمين والمؤتمن فقال : يا عبد الله ويا محمد ويا إبراهيم إمشوا بين يدي عمكم وسيدكم ، خذوا بركابه وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله ، فأقبل عليَّ أبو الحسن موسى بن جعفر سراً بيني وبينه ، فبشرني بالخلافة فقال لي : إذا ملكت هذا الأمر فأحسن إلى وُلدي ، ثم انصرفنا .

وكنت أجرأ ولد أبي عليه ، فلما خلا المجلس قلت : يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد أعظمته وأجللته ، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته ، وأقعدته في صدر المجلس وجلست دونه ، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له ؟!

قال : هذا إمام الناس وحجة الله على خلقه وخليفته على عباده !

فقلت : يا أمير المؤمنين أوليست هذه الصفات كلها لك وفيك ؟

فقال : أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر ، وموسى بن جعفر إمام حق ! والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله (ص) مني ومن الخلق جميعاً . ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك ، فإن الملك عقيم !

فلما أراد الرحيل من المدينة إلى مكة ، أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار ، ثم أقبل على الفضل بن الربيع فقال له : إذهب بهذه إلى موسى بن جعفر وقل له : يقول لك أمير المؤمنين : نحن في ضيقه وسيأتيك برنا بعد الوقت .

١٨٧

فقمت في صدره فقلت : يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وساير قريش وبني هاشم ومن لا تعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار إلى ما دونها ، وتعطى موسى بن جعفر وقد أعظمته وأجللته مأتي دينار ، أخس عطيةٍ أعطيتها أحداً من الناس ! فقال : أسكت لا أم لك فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت أمنته أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه . وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم !

وفي رواية أن هارون قال : يا بني هذا وارث علم النبيين ، هذا موسى بن جعفر بن محمد ! إن أردت العلم الصحيح فعند هذا . قال المأمون : فحينئذ انغرس في قلبي محبتهم » . ( عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٨٤ ، والإحتجاج : ٢ / ١٦٥ ) .

وفي رواية الطبري : ٤ / ٦٥٠ ، أن الرشيد أعطى في تلك السفرة أهل مكة والمدينة ثلاثة أعطية : « فبلغ ذلك ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار » !

أقول : العجب من هارون يشهد على نفسه بأنه ظالم غاصب لمقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعجب منه كلام المأمون الذي يزعم أن الإعتراف والتشيع النظري للنبي وعترته المعصومين صلى‌الله‌عليه‌وآله يكفي للنجاة من النار ، وإن خالف ذلك في قوله وفعله ، وغصب منصب الإمامة وقتل الإمام الرباني !

*  *

١٨٨

٢ ـ حبس هارون للإمام الكاظم عليه‌السلام ـ المرة الأولى

كان هارون يعرف أن الإمام الكاظم عليه‌السلام إمام من الله تعالى ، بل كان كل ملوك بني أمية والعباس يعرفون جيداً أئمة أهل البيت عليهم‌السلام الذين عاصروهم . فهم حقاً كما قال الله تعالى : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا !

ومع علم هارون بمقام الإمام عليه‌السلام أحضره الى بغداد واحترمه في الظاهر ، وجلس معه عدة مجالس ، وحاول قتله مراراً فلم يتيسر له ذلك ، فأطلقه !

كان ذلك في أول خلافة هارون سنة ١٧٠ ، ففي تلك السنة ولد الأمين فوضعه في حجر جعفر بن الأشعث الشيعي ( الطبري : ٦ / ٤٤٤ ) ، وحسده يحيى بن خالد البرمكي ، وأخذ يعمل ضد ابن الأشعث وضد الإمام الكاظم عليه‌السلام

قال المسعودي في إثبات الوصية / ١٩٣ : « بويع لهارون الرشيد في شهر ربيع الأول في تلك السنة سنة سبعين ومائة في اثنتين وعشرين سنة من إمامة أبي الحسن ، فوجه في حمل أبي الحسن عليه‌السلام ، فلما وافاه الرسل دعا أبا الحسن الرضا عليه‌السلام وهو أكبر ولده فأوصى إليه بحضرة جماعة من خواصه ، وأمره بما احتاج إليه ، ونحله كنيته وتكنى بأبي إبراهيم ، ودفع إلى أم أحمد مالاً وكتباً وقال لها سراً : من أتاك فطلب منك ما دفعته إليك وأعطاك صفته فادفعيه إليه ، ودفع إليها رقعة مختومة وأمرها بأن تسلمها معها قبلها إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام إذا طلبها ، وأمر أبا الحسن أن يبيت في كل ليلة في دهليز داره أو على بابه أبداً ما دام حياً يعني نفسه » .

وفي مروج الذهب : ٢ / ٢ ، وط . مصر : ٢ / ٣٥٦ : « ذكر عبد الله بن مالك الخزاعي وكان على دار الرشيد وشرطته ، قال : أتاني رسول الرشيد في وقت ما جاءني فيه

١٨٩

قط فانتزعني من موضعي ومنعني من تغيير ثيابي ، فراعني ذلك منه ! فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم فعرَّفَ الرشيد خبري فأذن لي في الدخول عليه ، فدخلت فوجدته قاعداً على فراشه فسلمت ، فسكت ساعة فطار عقلي وتضاعَفَ الجزع عليَّ ، ثم قال لي : يا عبد الله أتدري لم طلبتك في هذا الوقت ؟

قلت : لا والله يا أمير المؤمنين ! قال : إني رأيت الساعة في منامي كأن حَبَشِيّاً قد أتاني ومعه حربة فقال لي : إن تُخَلِّ عن موسى بن جعفر الساعة ، وإلا نحرتك بهذه الحربة ! فاذهبْ فخلّ عنه !

فقلت : يا أمير المؤمنين أطلقُ موسى بن جعفر ؟! ثلاثاً ، قال : نعم ، إمض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر ، وأعطه ثلاثين ألف درهم ، وقل له : إن أحببت المقام قِبَلَنَا فلك عندي ما تحب ، وإن أحببت المضيَّ إلى المدينة ، فالإذن في ذلك إليك ! قال : فمضيت إلى الحبس لأخرجه ، فلما رآني موسى وثب إلي قائماً وظن إني قد أمرت فيه بمكروه ! فقلت : لا تخف ، وقد أمرني أمير المؤمنين بإطلاقك ، وأن أدفع إليك ثلاثين ألف درهم وهو يقول لك : إن أحببت المقام قبلنا فلك ما تحب ، وإن أحببت الإنصراف إلى المدينة فالأمر في ذلك مُطْلَقٌ إليك وأعطيته الثلاثين ألف درهم وخليت سبيله وقلت له : لقد رأيت من أمرك عجباً ! قال : فإني أخبرك : بينما أنا نائم إذ أتاني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا موسى حُبست مظلوماً فقل هذه الكلمات ، فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس ! فقلت : بأبي وأمي ما أقول ؟ فقال : قل يا سامع كل صوت ، ويا سابق الفوْت ، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت أسألك بأسمائك الحسنى ، وبإسمك الأعظم الأكبر المخزون

١٩٠

المكنون ، الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين ، يا حليماً ذا أناة لا يُقْوي على أناته يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ، ولا يُحْصَى عمداً ، فرِّجْ عني . فكان ما ترى » !

أقول : وروى نحوه في وفيات الأعيان : ٥ / ٣٠٨ ، وتأتي روايته من مصادرنا ، وهو يدل على أمور عديدة :

منها : عنف هارون وقسوته حتى أن كبار وزرائه وموظفيه يتوقع أحدهم أن يُحضره نصف الليل ويقتله ، دون أن يعرف السبب !

ومنها ، يدل تعجب رئيس الشرطة وسؤاله لهارون ثلاثاً عن أمره بإطلاق الإمام عليه‌السلام ، على أن هارون كان أحضره ليقتله !

ومنها ، أن ذلك كان في حياة والدته خيزران لأنها ماتت سنة ١٧٣ ، وأنها لم تتدخل لإطلاق الإمام عليه‌السلام ، وقد تكون وافقت على رأي يحيى البرمكي بضرورة قتل الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام .

كما تدل على أن الأمر بإطلاقه عليه‌السلام كان في الليالي الأولى لسجنه عليه‌السلام في تلك المرة وربما في الليلة الأولى ، ففي مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٤٢٢ : « لما حبس هارون الكاظم عليه‌السلام جَنَّ عليه الليل فجدد موسى طهوره ، فاستقبل بوجهه القبلة وصلى أربع ركعات ثم دعا فقال : يا سيدي نجني من حبس هارون وخلصني من يده ، يا مخلص الشجر من بين رمل وطين ، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر ، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم ، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم ، ويا مخلص الروح من بيت الأحشاء والأمعاء ، خلصني من يد هارون الرشيد ! قال : فرأى هارون رجلاً أسود بيده سيف قد سله ... الخ . »

١٩١

وفي عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ٨٧ : « لما حبس الرشيد موسى بن جعفر عليه‌السلام جَنَّ عليه الليل ، فخاف ناحية هارون أن يقتله ، فجدد موسى بن جعفر طهوره فاستقبل بوجهه القبلة وصلى لله عز وجل أربع ركعات ، ثم دعا بهذه الدعوات فقال : يا سيدي نجني من حبس هارون وخلصني من يده . يا مخلص الشجر من بين رمل وطين ، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم ، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم ، ويا مخلص النار من الحديد والحجر ، ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء ، خلصني من يد هارون . قال : فلما دعا موسى عليه‌السلام بهذه الدعوات أتى هارون رجل أسود في منامه ، وبيده سيف قد سله فوقف على رأس هارون وهو يقول : يا هارون أطلق موسى بن جعفر وإلا ضربت علاوتك بسيفي هذا ! فخاف هارون من هيبته ، ثم دعا الحاجب فجاء الحاجب فقال له : إذهب إلى السجن فأطلق عن موسى بن جعفر ! قال : فخرج الحاجب فقرع باب السجن فأجابه صاحب السجن فقال : من ذا ؟ قال : إن الخليفة يدعو موسى بن جعفر فأخرجه من سجنك وأطلق عنه ، فصاح السجان : يا موسى إن الخليفة يدعوك فقام موسى عليه‌السلام مذعوراً فزعاً وهو يقول : لا يدعوني في جوف هذا الليل إلا لشر يريده بي ، فقام باكياً حزيناً مغموماً آيسا من حياته ، فجاء هارون وهو ترتعد فرائصه ، فقال : سلام على هارون فرد عليه السلام ، ثم قال له هارون : ناشدتك بالله هل دعوت في جوف هذا الليل بدعوات ؟ فقال : نعم . قال : وما هن ؟ قال : جددت طهوراً وصليت لله عز وجل أربع ركعات ورفعت طرفي إلى السماء وقلت : يا سيدي خلصني من يد هارون وشره ، وذكر له ما كان من دعائه

١٩٢

فقال هارون : قد استجاب الله دعوتك ! يا حاجب أطلق عن هذا ، ثم دعا بخلع عليه ثلاثاً وحمله على فرسه وأكرمه وصيره نديماً لنفسه ، ثم قال : هات الكلمات فعلمه قال : فأطلق عنه وسلمه إلى الحاجب ليسلمه الدار ويكون معه فصار موسى بن جعفر عليه‌السلام كريماً شريفاً عند هارون ، وكان يدخل عليه في كل خميس ، إلى أن حبسه الثانية فلم يطلق عنه حتى سلمه إلى السندي شاهك وقتله بالسم » .

وروى الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ٧٣ ، والمفيد في الإختصاص / ٥٩ رواية مشابهة عن وزير الرشيد الفضل بن الربيع ، وأنه طلب من الإمام عليه‌السلام أن يعلمه الصلاة والدعاء اللذين علمه إياهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه .

٣ ـ خلط الرواة بين أخبار حبسه عليه‌السلام في المرة الأولى والثانية

ينبغي التنبيه على أن بعض الرواة خلطوا بين أحاديث سجن الإمام عليه‌السلام في المرتين ، وقد تخللهما فرض الإقامة الجبرية عليه في بغداد .

وعلامة المرة الأولى : أنها كانت في أول خلافة هارون كما نص المسعودي ، ولم يكن الفضل بن الربيع يومها وزيراً ، بل في المرة الأخيرة .

وعلامتها : أن هاروناً ناظر الإمام عليه‌السلام فيها في وصف أبناء علي وفاطمة عليهما‌السلام بأنهم أبناء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذريته ، فاستدل الإمام عليه‌السلام بآيات القرآن واقتنع هارون .

وبعد تسع سنين جاء هارون فسلم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم سلم عليه الإمام عليه‌السلام وقال : السلام عليك يا أبت ، فقال هارون : أشهد أنه أبوه حقاً ، وهو يدل على أن مناظرة الإمام عليه‌السلام معه في الموضوع كانت قبل ذلك .

١٩٣

وعلامتها : أن الإمام الكاظم عليه‌السلام دعا لما جن عليه الليل بالخلاص من سجن هارون ، فرأى هارون مناماً مرعباً وأطلقه ، ولم يرد ذلك في حبسه في المرة الثانية .

وعلامتها : أنها لم يرد فيها إسم الفضل بن الربيع ، وأمر هارون للإمام بثلاثين ألف درهم ، ووافق على طلبه أن يرجع الى المدينة ولم يرد ذلك في المرة الثانية .

وعلامتها : أن مدة فرض الإقامة الجبرية عليه ومدة سجنه كانت أقل من الثانية ، فقد قال هارون في آخر مناقشته للإمام عليه‌السلام كما سيأتي : « أحسنت يا موسى إرفع إلينا حوائجك ! فقلت له : إن أول حاجة لي أن تأذن لابن عمك أن يرجع إلى حرم جده وإلى عياله ! فقال : ننظر إن شاء الله » .

ومعنى « ننظر » أنه لم يأذن له وفرض عليه الإقامة الجبرية في بغداد ، وفرض عليه وأن يحضر مجلسه كل خميس ، فمكث عليه‌السلام مدة على ذلك ، ثم سجنه بقصد قتله ، فدعا الله تعالى فرأى هارون المنام المرعب وأطلقه .

وعلامة الثانية : أنه مدتها كانت نحو أربع سنوات ، منها نحو سنة في البصرة وثلاث سنوات في بغداد ، وكان الإمام عليه‌السلام في أكثرها في الإقامة الجبرية ، وكان ملزماً بالحضور في مجلس هارون كل يوم خميس أيضاً !

قال في الإرشاد : ٢ / ٢٤٠ ، يصف هذه المرة : « فوجه الرشيد من تسلمه من عيسى بن جعفر ، وصير به إلى بغداد ، فسلم إلى الفضل بن الربيع ، فبقي عنده مدة طويلة فأراده الرشيد على شئ من أمره فأبى ، فكتب إليه بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فتسلمه منه ... فوسع عليه الفضل بن يحيى وأكرمه ، فاتصل ذلك بالرشيد وهو بالرقة ، فكتب إليه ينكر عليه توسعته على موسى ويأمره بقتله ، فتوقف عن ذلك

١٩٤

ولم يقدم عليه ، فاغتاظ الرشيد لذلك ودعا مسروراً الخادم فقال له : أخرج على البريد في هذا الوقت إلى بغداد . الخ . » .

فقد كان في المرتين إقامة جبرية وسجن ، وكانت الثانية أطول ، وفي المرة الأولى أطلق سراحه عليه‌السلام وسمح له بالعودة الى المدينة ، وفي الثانية سجنه في آخرها وقتله وكان الفاصل بين المرتين تسع سنوات ، ومدة الثانية أربع سنوات .

وقد روي عن الإمام عليه‌السلام مجموعة أحاديث ومناظرات مع هارون ، والقاضي أبي يوسف ، والبرمكيين ، وأحاديث مع هشام بن الحكم ، وغيرهم ، وكانت في الفترتين اللتين أجبر فيهما الإمام عليه‌السلام على الإقامة في بغداد ، لكن يصعب التمييز بين ما كان منها في المرة الأولى والثانية ، خاصة وأن الرواة خلطوا بين أخبارهما .

وقد تعنت ابن تيمية فأنكر أن يكون الإمام عليه‌السلام مرَّ من أمام بيت بشر الحافي وتاب على يده ، بحجة أنه عليه‌السلام كان في بغداد محبوساً ! وهذا دأب ابن تيمية في مسارعته لإنكار أي فضيلة لأهل البيت عليهم‌السلام . ( راجع : شرح منهاج الكرامة : ١ / ١٧٦ ) .

*  *

١٩٥

٤ ـ الإمام الكاظم عليه‌السلام يصارح هارون !

نقلت الرواية التالية ( عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ٧٩ ، والإحتجاج : ٢ / ١٦١ ) مناظرة هارون للإمام الكاظم عليه‌السلام عندما أحضره الى بغداد قبل أن يسجنه ، وقد تضمنت مصارحة الإمام عليه‌السلام له وقرعه إياه بأقوى الحجج !

قال عليه‌السلام : « لما أدخلتُ على هارون سلمت عليه فرد عليَّ السلام ثم قال : يا موسى بن جعفر خليفتان يجئ إليهما الخراج ؟!

فقلت : يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تبوء بإثمي وإثمك ، فتقبل الباطل من أعدائنا علينا ، فقد علمت بأنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلم ذلك عندك ! فإن رأيت بقرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال : قد أذنت لك ، فقلت : أخبرني أي عن آبائه عن جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : إن الرحم إذا مست تحركت واضطربت ، فناولني يدك جعلني الله فداك !

قال : أدن مني ، فدنوت منه فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني طويلاً ، ثم تركني ، وقال : أجلس يا موسى ! فليس عليك بأس ، فنظرت إليه فإذا به قد دمعت عيناه فرجعت إلى نفسي ، فقال : صدقت وصدق جدك صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد تحرك دمي واضطربت عروقي حتى غلبت عليَّ الرقة وفاضت عيناي ، وأنا أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين ، لم أسأل عنها أحداً ، فإن أنت أجبتني عنها خليت عنك ولم أقبل قول أحد فيك ، وقد بلغني أنك لم تكذب قط ، فأصدقني فيما أسألك ما في قلبي !

١٩٦

فقلت : ما كان علمه عندي فإني مخبرك به إن أنت أمنتني ! قال : لك الأمان إن صدقتني وتركت التقية التي تعرفون بها معاشر بني فاطمة !

قلت ليسأل أمير المؤمنين عما يشاء . قال : أخبرني لم فضلتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة ، وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد ، إنا بنو عباس وأنتم ولد أبي طالب ، وهما عما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرابتهما منه سواء ؟

فقلت : نحن أقرب . قال : وكيف ذاك ؟ قلت : لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأم وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد الله ، ولا من أم أبي طالب .

قال : فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والعم يحجب ابن العم وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد توفي أبو طالب قبله ، والعباس عمه حي ؟!

فقلت له : إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة ، ويسألني عن كل باب سواه يريده ! فقال : لا ، أو تجيب ! فقلت : فآمني . قال : آمنتك قبل الكلام . فقلت : إن في قول علي بن أبي طالب عليه‌السلام : أنه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو أنثى لأحد سهم إلا الأبوين والزوج والزوجة ، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث ، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنة ، إلا أن تيماً وعدياً وبني أمية قالوا : العم والد ، رأياً منهم بلا حقيقة ، ولا أثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله !

ومن قال بقول علي عليه‌السلام من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء ، هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول علي عليه‌السلام وقد حكم به ، وقد ولاه أمير المؤمنين المصرين الكوفة والبصرة وقضى به ! فأْمُرْ بإحضاره وإحضار من يقول بخلاف قوله منهم : سفيان الثوري ، وإبراهيم المازني ، والفضيل بن عياض !

١٩٧

فأحضرهم فشهدوا أنه قول علي عليه‌السلام في هذه المسألة ، فقال لهم فيما بلغني بعض العلماء من أهل الحجاز : لم لاتفتون وقد قضى نوح بن دراج ؟ فقالوا : جَسُرَ وجَبُنَّا !

وقد أمضى أمير المؤمنين قضيته بقول قدماء العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : أقضاكم علي . وكذلك عمر بن الخطاب قال : علي أقضانا ، وهو إسم جامع لأن جميع ما مدح به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه من القرابة والفرائض والعلم داخل في القضاء ! قال : زدني يا موسى ! قلت : المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك ؟

فقال : لا بأس به . فقلت : إن النبي لم يورث من لم يهاجر ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر ! فقال : ما حجتك فيه ؟ قلت : قول الله تبارك وتعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيء حَتَّى يُهَاجِرُوا ، وإن عمي العباس لم يهاجر !

فقال لي : إني أسألك يا موسى هل أفتيت بذلك أحداً من أعدائنا ، أو أخبرت أحداً من الفقهاء في هذه المسألة بشئ ؟ فقلت : اللهم لا ، وما سألني عنها إلا أمير المؤمنين !

ثم قال لي : جوَّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله ويقولوا لكم : يا بني رسول الله ، وأنتم بنو علي ، وإنما ينسب المرء إلى أبيه وفاطمة إنما هي وعاء والنبي جدكم من قبل أمكم ؟!

فقلت : يا أمير المؤمنين لو أن النبي نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه ؟ قال : سبحان الله ولم لا أجبه بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك ؟ فقلت له : لكنه لا يخطب إلي ولا أزوجه ! فقال : ولم ؟ فقلت : لأنه ولدني ولم يلدك !

فقال : أحسنت يا موسى ! ثم قال : كيف قلتم إنا ذرية النبي والنبي لم يعقب ، وإنما العقب الذكر لا الأنثى ، وأنتم ولد الإبنة ولا يكون ولدها عقباً له !

فقلت : أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه ، إلا أعفيتني عن هذه المسألة !

١٩٨

فقال لا أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي ! وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم ، كذا أنهي إلي ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه ، حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله ، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شئ ألف ولا واو إلا تأويله عندكم ، واحتججتم بقوله عز وجل : مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيء ، واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم !

فقلت : تأذن لي في الجواب ؟ قال : هات ، فقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم : وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ . وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ .

مَن أبو عيسى يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ليس لعيسى أب . فقلت : إنما ألحقناه بذراري الأنبياء عليهم‌السلام من طريق مريم عليها‌السلام ، وكذلك ألحقنا بذراري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل أمنا فاطمة !

أزيدك يا أمير المؤمنين ؟ قال : هات . قلت : قول الله عز وجل : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . ولم يدَّع أحد أنه أدخله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلا علي بن أبي طالب عليه‌السلام وفاطمة والحسن والحسين . أبناؤنا الحسن والحسين ، ونسائنا فاطمة ، وأنفسنا علي بن أبي طالب . على أن العلماء قد أجمعوا على أن جبرئيل قال يوم أحد : يا محمد إن هذه لهي المواساة من علي قال : لأنه مني وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما يا رسول الله ، ثم قال : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ، فكان كما مدح الله عز وجل به

١٩٩

خليله عليه‌السلام إذ يقول : قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . إنا نفتخر بقول جبرئيل إنه منا .

فقال : أحسنت يا موسى إرفع إلينا حوائجك ! فقلت له : إن أول حاجة لي أن تأذن لابن عمك أن يرجع إلى حرم جده وإلى عياله ! فقال : ننظر إن شاء الله » .

فهذه المناقشة كانت في حبس الإمام أول مرة أوائل خلافة هارون ، لأن هارون حج بعد تسع سنوات ، وقال كما تقدم : أشهد أنه أبوه حقاً !

وفي تفسير العياشي : ٢ / ٢٩ ، أن هارون سأله : « حين أدخل عليه ما هذه الدار ؟ قال : هذه دار الفاسقين ! قال وقرأ : سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ! فقال له هارون : فدار من هي ؟ قال : هي لشيعتنا قرة ولغيرهم فتنة ! قال : فما بال صاحب الدار لا يأخذها ؟ قال : أخذت منه عامرة ، ولا يأخذها إلا معمورة . فقال : أين شيعتك ؟ فقرأ أبو الحسن : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ . قال له : فنحن كفار ؟ قال : لا ولكن كما قال الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ! فغضب عند ذلك وغلظ عليه » ! والاختصاص / ٢٦٢ .

٢٠٠