مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

ما كان عليه الأسلاف (١).

وإليك ما ورد في ذلك المجال :

١ ـ روى الكليني بسند صحيح عن صفوان بن يحيى قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق. قال : فقال : الإرادة من الخلق ، الضمير يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه ، لا غير ذلك لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه ، وهي صفات الخلق ، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك ، كما أنّه لا كيف له (٢).

٢ ـ وروي الشيخ الطوسي عن صفوان بن يحيى قال قلت لأبي الحسن : اخبرني عن الإرادة من الله تعالى قال : « إرادته احداثه الفعل لا غير ذلك لأنّه جلّ اسمه لا يهم ولا يتفكّر » (٣).

٣ ـ روي الكليني عن الحسن بن عبد الرحمان الحماني ، عن الامام الكاظم عليه‌السلام في رواية قال : « إنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق » (٤).

روى الطبرسي في الاحتجاج عن الإمام الكاظم عليه‌السلام قال : « فيكون بمشيئته من غير تردّد في نفس » (٥).

٤ ـ روى الكليني عن يعقوب بن جعفر ، عن الإمام الكاظم عليه‌السلام في حديث : « ولكن كما قال الله تعالى كن فيكون بمشيئته من غير تردّد في نفس » (٦).

__________________

(١) أوائل المقالات ص ١٩.

(٢) الكافي ج ١ باب الاراده الحديث ٣ ، ورواه البرقي في المحاسن ص ٢٤٤.

(٣) أمالي الطوسي ص ٢١٤.

(٤) الكافي ج ١ باب النهي عن الجسم والصورة الحديث ٦ ص ١٠٦.

(٥) الاحتجاج ج ٢ ص ١٥٦.

(٦) الكافي ج ١ باب الحركة والانتقال ص ١٢٥ الحديث ١.

٨١

والجواب : إنّ هذه الروايات وإن كانت صريحة في كون إرادته سبحانه فعله ، لكنّها ليست بصدد سلب كون الإرادة صفة الذات حتّى بالمعنى المناسب لذاته عنه على الاطلاق ، وانما هي بصدد أنّ الإرادة الإمكانية الموجودة في الإنسان لا تصلح لذاته سبحانه لأنّها تقترن بالتردّد والتروّي والتفكّر والهمّ والكلّ من سمات الامكان والحدوث وهو سبحانه منزّه عن ذلك.

وفرق بين نفي أصل الإرادة عن ذاته سبحانه ، ولو بمعنى غير مستلزم لكون ذاته معرضاً للحوادث ، والإرادة الموجودة في الإنسان والحيوان وبما أنّه كلّما أطلقت الإرادة لا يراد منها سوى المعنى المتعارف من التفكّر والهم ّوالقصد ، وصرّح الإمام بنفي الإرادة بذلك المعنى عن ذاته وارجاعها فيه سبحانه إلى صفة الفعل ، حتّى يصدر السائل عن حضوره بشيء مقنع وبما أنّ عقليّة بعض الرواة في ذلك العصر لا تتحمّل كثيراً من المعارف الدقيقة اقتنع الامام بتفهيم ما تتحمله عقليته ، وبما أنّ قسماً من الإرادة صفة للفعل ، وقسم منها صفة للذات كعلمه سبحانه ، فإنّ قسماً منه صفة للفعل ، وقسم منه صفة للذات ، اكتفى الامام ببيان أحد القسمين دون الآخر.

وهذا أصل مطرّد في باب المعارف ، فهم صلوات الله عليهم يكلّّمون الناس على قدر عقولهم ولا يكلّّفونهم بما هو خارج عن طاقة شعورهم.

هذا هو سيد الموحّدين علي عليه‌السلام ينهي عن الغور في القدر ويقول :

« طريق مظلم فلا تسلكوه ، وبحر عميق فلا تلجوه ، وسر الله فلا تتكلّفوه » (١).

ومع ذلك فهو صلوات الله عليه بحث عن القضاء والقدر ويشهد لذلك ما رواه الرضي في نفس نهج البلاغه (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة قسم الحكم الرقم ٢٨٧.

(٢) نهج البلاغة قسم الحكم الرقم ٧٨.

٨٢

والحاصل لمّا كان المتبادر في ذهن الراوي وأمثاله من الإرادة ، هو المعنى المعروف من الهم ّو التفكّر والعزم وكان جعل الإرادة من صفات الذات ـ في ذهن الراوي ـ مستلزماً لكون إرادته سبحانه مثل الإرادات الامكانية ، رأى الإمام أن يعلّمه أحد القسمين من إرادته وهو الإرادة الفعلية كالعلم الفعلي ، وأضرب عن القسم الآخر ، ويعرب عن ذلك قوله في الروايات الثلاث الأخيرة ، حيث قال :

« إنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته ، من غير كلام ولا تردّد في نفس ».

وهذا يعرب من انّ الإمام بصدد صيانة الراوي عن الوقوع في الخطأ في تفسير الرواية ، ولم يكن بصدد تفسير الإرادة بجميع مراتبها وأقسامها ، فلو كان هناك للإرادة قسما آخر يناسب ذاته سبحانه كما أوضحناه لما كانت هذه الروايات نافية لها.

هناك وجه آخر لجعل الإرادة من صفات الفعل وهو انّ الإرادة في الإنسان لا ينفك عن المراد ، فلو جعلت الإرادة فيه سبحانه من صفات الذات ربّما يستنتج الراوي منه قدم العالم ، فلأجل صيانة ذهن الراوي عن الخطأ فسّرت الإرادة بالأحداث والايجاد ، ويشهد على ذلك الوجه بعض الروايات :

١ ـ روى الصدوق في توحيده عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « المشيئة محدثة » (١).

٢ ـ روى الصدوق عن عاصم بن حميد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قلت له لم يزل الله مريداً » ؟! فقال : « إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه بل لم يزل عالماً قادراً ثم أراد » (٢).

٣ ـ روى الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري قال : قال الرضا عليه‌السلام : « المشيئة والإرادة من صفات الأفعال فمن زعم أنّ الله تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد » (٣).

__________________

(١) و (٢) و (٣) التوحيد للصدوق ص ٣٣٨ ـ ١٤٦ ـ ٣٣٦.

٨٣

وهذه الأحاديث تعرب من انّ جعل الإرادة صفة الفعل إنّما هو لأجل صيانة ذهن الراوي عن توهّم قدم العالم وانّه لم يزل كان مع الله سبحانه ، وإن شئت قلت : إنّ الإرادة التي سأل عنها الراوي كان يراد منها العزم على الفعل الذي لا ينفك عن المراد ، فاراد الإمام هدايته إلى أنّ الإرادة بهذا المعنى لا يوصف بها سبحانه لأنها تستلزم قدم المراد أو حدوث المريد ، ولأجل أن يتلقّى الراوي معنى صحيحاً للإرادة يناسب مستوى تفكيره ، فسّرها الامام بالمعنى الذي يجري عليه سبحانه في مقام الفعل ، وقال في جواب سؤال السائل :

« لم يزل الله مريداً ؟ : إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه ، لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد » (١).

عصر الإمام الكاظم عليه‌السلام والمذاهب الكلاميّة

كان عصر الإمام الكاظم عليه‌السلام ( ت ١٢٨ ـ م ١٨٣ ) عصر ازدهار المذاهب الكلامية وكانت الأمصار وحواضرها الكبرى ميداناً لمطارحات الفرق المختلفة.

فمن سلفيّ يقتصر في توصيفه سبحانه على الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ويأخذ بمعانيها الحرفية من دون امعان وتدبّر ، ويرفع عقيرته بأنّ لله يداً ووجها وأنّه مستو ومستقرّ على عرشه وأنّ له رجلاً و ...

إلى معتزلي يجعل للعقل قسطاً أوفر في مجال العقائد والمعارف ويتجاوز حدّه فيؤوّل الكتاب والسنّة فيما لا يوافق معتقده وعقليّته.

إلى مرجئيّ يكتفي في الإيمان بالقول ويقدّمه ويؤخّر العمل ، ولا يحكم على

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٠٩ ، باب الارادة.

٨٤

مرتكب الكبيرة بعقوبة.

إلى مُحكِّم يكفّر كلّ الطوائف الاسلامية غير أهل نحلته الذين يبغضون الخليفتين عثمان وعليّاً ويكفّرون الصدّيق الاعظم عليّاً عليه‌السلام.

إلى غير ذلك من المذاهب الإسلاميّة التي ظهرت في القرن الثاني.

ويعرب عن تشتت الفرق وتكثّرها ما رواه الكشّي عن محمد بن عيسى العبيدي ، عن يونس ، عن هشام ، إنّه لما كان أيّام المهدي ، شدّد على أصحاب الهوى ، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً ، ثمّ قرأ الكتاب على الناس ، فقال يونس :

قد سمعت الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة واُخرى بمدينة الوضّاح (١).

ولم يكن الخلاف مقتصراً على معتقدات الطوائف الماضية بل كان عصر الإمام يتّسم بموجات رهيبة من النزعات الشعوبية والاتجاهات التي لاتمت إلى الاسلام بصلة ، ولأجل ذلك يجب امعان النظر في الروايات الواردة عن الكاظم عليه‌السلام وغيره مع ملاحظة الظروف السائدة عليه ، فإذا كان هذا عصر الإمام والأئمّة بعده فلابدّ أن تكون رواياتهم متضمّنة ردّ أصحاب الأهواء ودعاة الضلال ، وأكثر ما ورد في المقام عن الإمامين الكاظم والرضا عليهما‌السلام حول الإرادة وأنّها صفة فعله سبحانه لا ذاته إنّما ورد في تلك الظروف المحرجة.

الإشكال الثالث : الإرادة يتوارد عليها النفي والاثبات

كيف نعد الإرادة من صفات الذات ؟ مع أنّ الملاك الذي ذكره الكليني لا ينطبق

__________________

(١) رجال الكشي : ترجمة هشام بن الحكم رقم ١٣١ ص ٢٢٧ ، ولعلّ هذا الكتاب أوّل ما اُلّف في المذاهب الاسلامية.

٨٥

عليه بل ينطبق على كونها من صفات الفعل وحاصله :

إنّ كلّ وصف يقع في اطار النفي والاثبات فهو من صفات الفعل مثل قولنا : يعطي ولا يعطى ، وما لا يقع في إطارهما ، بل يكون اُحادية التعلّق من صفات الذات فيقال « يعلم » ولا يقال « لا يعلم ».

وعلى ضوء هذا تكون الإرادة من صفات الفعل لأنّها ممّا يتوارد عليه النفي والاثبات. يقول سبحانه : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ( البقرة / ١٨٥ ).

والجواب على هذا السؤال بوجهين :

أحدهما : إنّ الإرادة التي يتوارد عليها النفي والاثبات هي الإرادة في مقام الفعل ، وأمّا الإرادة في مقام الذات التي فسّرناها بكمال الإرادة وهو الاختيار ، فلا تقع في إطار النفي والاثبات.

وثانيهما : ما أجاب به صدر المتألّهين قائلاً بأنّ لله سبحانه إرادة بسيطة مجهولة الكنه وإنّ الذي يتوارد عليه النفي والإثبات ، الإرادة العددية الجزئية المتحقّقة في مقام الفعل ، وأمّا أصل الإرادة البسيطة ، وكونه سبحانه فاعلاً عن إرادة لا عن اضطرار وايجاب ، فلا يجوز سلبه عن الله سبحانه ، وإنّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الإرادة البسيطة في مقام الذات التي لا تتعدّد ولا تتثنّى ، وبين الإرادة العددية المتحقّقة في مقام الفعل التي تتعدّد وتتثنّى ويرد عليها النفي والاثبات.

قال : « الفرق بين الإرادة التفصيلية العددية التي يقع تعلّقها بجزئي من اعداد طبيعية واحدة أو بكلّ واحد من طرفي المقدور ، كما في القادرين من الحيوانات ، وبين الإرادة ، البسيطة الحقّة الإلهية التي يكلّّ عن ادراكها عقول أكثر الحكماء فضلاً عن غيرهم » (١).

__________________

(١) الاسفار ج ٦ ص ٣٢٤.

٨٦

الإشكال الرابع : لو كانت الإرادة صفة للذات ، لزم قدم العالم

هذا هو الإشكال الرابع في طريق جعل الإرادة من صفات الذات وحاصله : إنّ صفات الذات متّحدة معها ، فلو كانت الإرادة صفة للذات ، يلزم قدم العالم لأنّ الإرادة لا تنفك عن مرادها فقدم الذات يلازم قدم الإرادة وهو يلازم قدم المعلول وهو العالم.

يلاحظ عليه أوّلاً : انّ الإشكال لا يختصّ بمن جعل الإرادة بمعناها الحقيقي وصفاً لذاته سبحانه ، بل الإشكال يتوجه أيضاً على من فسّر إرادته بالعلم بالأصلح ، لاستناد وجود الأشياء إلى العلم بالنظام الأتم الذي هو عين ذاته ، واستحالة انفكاك المعلوم عن العلّة أمر بيّن من غير فرق بين تسمية هذا العلم إرادة أو غيرها ، فلو كان النظام الأصلح معلولاً لعلمه ، والمفروض انّ علمه قديم ، لزم قدم النظام لقدم علّته.

وثانياً : إذا قلنا بأنّ إرادته سبحانه عبارة عن كونه مختاراً غير ملزم بواحد من الطرفين ، لا يلزم عندئذ قدم العالم إذا اختار ايجاد العالم متأخّراً عن ذاته.

وثالثاً : إنّ لصدر المتألّهين ومن حذا حذوه في الاعتقاد بالإرادة الذاتية البسيطة المجهولة الكنه ، أن يجيب بأنّ جهلنا بحقيقة هذه الإرادة وكيفيّة إعمالها ، يصدّنا عن البحث عن كيفيّة صدور فعله عنه ، وأنّه لماذا خلق العالم حادثاً ولم يخلقه قديماً ؟

وها هنا نكتة نعلّقها على هذا البحث بعد التنبيه على أمر وهو : انّ الزمان كمّ متّصل ينتزع من حركة الشيء وتغيّره من حال إلى حال ، ومن مكان إلى مكان ، ومن صورة نوعية إلى اُخرى ، فمقدار الحركة عبارة عن الزمان ، فلولا المادة وحركتها لما كان للزمان مفهوم حقيقي ، بل كان له مفهوم وهمي. هذا ما أثبتته الأبحاث العميقة في الزمان والحركة ، وقد كان القدماء يزعمون : إنّ الزمان يتولد من حركة

٨٧

الافلاك والنيّرين وغيرهما من الكواكب السيارة ، ولكن الحقيقة أن كلّ حركة حليفة الزمان وراسِمته ومولدته ، وإنّ التبدّلات عنصريّة كانت أو أثيرية ، مشتملة على أمرين :

الأوّل : حالة الانتقال من المبدأ إلى المنتهى ، سواء كان الانتقال في الوصف ، أو في الذات.

الثاني : كون ذلك الإنتقال على وجه التدريج والسيلان لا على نحو دفعي.

فباعتبار الأمر الأوّل توصف بالحركة ، وباعتبار الأمر الثاني توصف بالزمان ، فكأن شيئاً واحداً باسم التغير والتبدل والانتقال ، يكون مبدأ لانتزاع مفهومين منه ، لكن كلّ واحد منهما باعتبار خاص ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر انّ المادّة تتحقق على نحو النتدريج والتجزئة ولا يصحّ وقوعها بنحو جمعي ، لأنّ حقيقتها حقيقة سيّالة متدرّجة أشبه بسيلان الماء ، فكلّّ ظاهرة مادية تتحقق تلو سبب خاص ، وما هذا حاله يستحيل عليه التحقق الجمعي أو تقدّم جزء منه أو تأخّره بل لا مناص عن تحقّق كلّ جزء في ظرفه وموطنه ، وبهذا الاعتبار تشبه الأرقام والأعداد ، فالعدد مثل « الخمسة » ليس له موطن إلاّ الوقوع بين « الأربعة » و « الستة » وتقدّمه على موطنه كتأخّره عنه مستحيل ، وعلى ذلك فالأسباب والمسبّبات المترتبة بنظام خاص ، يستحيل عليها خروج أي جزء من أجزائها عن موطنه ومحله.

إذا عرفت هذا الأمر ، نرجع إلى بيان النكتة وهي ماذا يريد القائل من قوله « لو كانت الإرادة صفة ذاتية لله سبحانه ، يلزم قدم العالم ؟ » فان أراد أنّه يلزم تحقّق العالم في زمان قبله وفي فترة ماضية فهذا ساقط بحكم المطلب الأوّل ، لأنّ المفروض انّه لا زمان قبل عالم المادة لما عرفت من أنّ حركة المادة ترسم الزمان وتولّده.

وإن أراد لزوم تقديم بعض أجزائه على البعض الآخر أو على مجموع العالم

٨٨

فقد عرفت استحالته فإنّ اخراج كلّ جزء عن إطاره أمر مستحيل مستلزم لانعدامه.

ما هو المراد من الحدوث الزماني للعالم ؟

اتّفق الالهيّون على أنّ العالم حادث ذاتاً بمعنى أنّه مسبوق بعدم حقيقي وانّه لم يكن فكان والفاعل المتخلّل في قولنا : « لم يكن فكان » هو الفاصل بين الواجب والممكن نظير الفصل بين حركة اليد وحركة المفتاح ، فالحركتان واقعتان في زمان واحد غير أنّ الثانية متأخّرة عن الاُولى رتبة لأنّها ناشئة من الاُولى ، وحركة اليد نابعة من ذاتها ، وحركة المفتاح ناشئة من حركتها ، فهي في طول الحركة الاُولى.

نعم هنا فرق بين المثال والممثّل له ، فالعلّة والمعلول في المثال زمانيان دون الممثّل له فالعلّة هنا منزّهة عن الزمان والزماني وهذا مما لا شبهة فيه ، إنّما الكلام في اثبات حدوث آخر للعالم وهو الحدوث الزماني.

إنّ المتشرّعة تثبت للعالم وراء الحدوث الذاتي حدوثاً زمانياً بمعنى كونه مسبوقاً بعدم زماني واقعي مثلا كما أنّ حوادث اليوم مسبوقة بالعدم الزماني حيث إنها لم تكن قبل ذلك اليوم ثم حدث ، فهكذا العالم لم يكن في وقت ثم حدث. وهذه المسألة ممّا تصرّ عليها المتشرّعة حتى انّ الشيخ الأعظم الأنصاري في الفرائد عند البحث عن حجّية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة يقول : « أجمعت الشرايع السماويّة على انّ العالم حادث زماناً (١).

ولكن تصوير الحدوث الزماني لكلّ جزء من أجزاء العالم بالنسبة إلى الزمان المتقدّم عليه أمر سهل يصدّقه البرهان والحسّ ف‍ « زيد » المتولّد في هذا اليوم ، مسبوق بعدم زماني يوم أمس.

__________________

(١) الفرائد ، رسالة حجّية القطع.

٨٩

إنّما الكلام في اثبات الحدوث الزماني لمجموع العالم إذا أخذ صفقة واحدة ولوحظ شيئاً واحداً ، فإنّ اثبات الحدوث الزماني أمر لا يخلو من خفاء وذلك ببيانين :

١ ـ إنّ الزمان مقدار الحركة ، وكلّّ حركه تعانق زماناً ما يعدّ مقداراً لها ، وليس في العالم زمان واحد يتولّد من حركة الفلك أو الشمس والقمر بل كلّّ حركة مولد زماناً فيكون ذلك الزمان مقداراً لها كما حقّق في محلّه ، فإذا كان الزمان وليد الحركة ونتيجة سيلان المادّة إلى الغاية فكيف يمكن أن نقول بأنّه كان وقت حقيقي لم يكن العالم فيه ثمّ حدث ووجد ؟ لأنّ المفروض انّ هذا الوقت نتيجة حركة المادة التي لم تخلق بعد ، فلا يتصوّر شيء بمعنى الوقت والزمان قبل إيجاد العالم حتّى يتضمّن عدمه.

٢ ـ إنّه ينقل الكلام إلى نفس الزمان فهل هو حادث ذاتي وقديم زماناً أو لا ؟

فعلى الأوّل يجب الاعتراف بممكن حادث ذاتاً وقديم زماناً ، فلو كان القول بالقدم الزماني مقبولاً فيه فليكن مقبولاً في مجموع العالم إذا لوحظ شيئاً واحداً أو في الجزء الأوّل منه. وعلى الثاني يلزم أن يكون للزمان زمان حتّى يتضمّن الزمان الثاني عدم الزمان الأوّل في حاقّه ، وعندئذ إمّا يتوقّف تسلسل الزمان فيلزم كون الزمان الثاني قديماً زمانيّاً وإن لم يتوّقف يلزم التسلسل.

فلأجل هذين الوجهين يعسر التصديق بالحدوث الزماني لمجموع العالم ويكتفى بالحدوث الذاتي ، ثم إنّ الداعي إلى ذهابهم إلى الحدوث الزماني للعالم كلّّه أمران :

أ : التركيز على التوحيد ، وإنّه لا قديم سواه وإنّ كلّ ما في الكون فهو حادث زماني مسبوق بعدم زماني حقيقي ، فحصر القديم في الله سبحانه يصدّهم عن الاعتراف بقدم العالم زماناً والاكتفاء بالحدوث الذاتي.

٩٠

يلاحظ عليه : أنّ تنزيه الحق عن الشرك والنّد لا يتوقف على اثبات الحدوث الزماني للعالم ، بل يكفي هنا القول بأنّه سبحانه قديم بالذات وإنّ غيره حادث كذلك سواء أكان له حدوث زماني أو لا ، وبعبارة اُخرى التنزيه ونفي الشرك يحصل بحصر ضرورة الوجود في الله سبحانه وإنّ وجوده نابع من صميم ذاته بخلاف غيره فإنّ وجوده مستعار ومكتسب من جانبه سبحانه.

ب : ما ورد في الروايات من أنّه كان الله ولم يكن معه شيء مستظهراً بأنّ المراد من الكينونة لله سبحانه ، وعدم غيره ، هو كونه في وقت مقروناً بعدم كون شيء فيه.

يلاحظ عليه : انّ الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيت خصوصاً ما روي عن الإمام الكاظم عليه‌السلام وأبي جعفر عليه‌السلام يعرب من انّ المراد غير ذلك وأنّ ما يتبادر من هذه الجملة في الأذهان البسيطة غير مراد ، ويعلم ذلك بسرد الروايات عنهم صلوات الله عليهم :

١ ـ روى الصدوق عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهما‌السلام أنّه قال : إنّ الله تبارك وتعالى كان لم يزل ، بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان (١).

٢ ـ ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : إنّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره ، نوراً لا ظلام فيه ، وصادقاً لا كذب فيه ، وعالماً لا جهل فيه ، وحيّاً لا موت فيه ، وكذلك هو اليوم ، وكذلك لا يزال أبداً (٢).

٣ ـ ما ذكره الإمام الرضا عليه‌السلام في جواب عمران الصابئي حيث سأله الصابئي بقوله : أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق. قال الرضا عليه‌السلام سألت فافهم : « أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه ، بلا حدود ، ولا اعراض ، و

__________________

(١) مسند الامام الكاظم عليه‌السلام ج ١ ص ٢٧٠ ـ نقلاً عن توحيد الصدوق ص ١٧٨.

(٢) التوحيد للصدوق ـ باب صفات الذات وصفات الفعل ـ الحديث ٥ ص ١٤١.

٩١

لا يزال كذلك (١).

والذي يجب إمعان النظر فيه هو هذه الجمل التالية في حديث الإمام الكاظم عليه‌السلام وغيره.

أ : قوله في الحديث الاول : « وهو الآن كما كان ».

ب : قوله في رواية أبي جعفر عليه‌السلام : « وكذلك هو اليوم فكذلك لا يزال أبداً ».

ج : قوله في كلام الرضا عليه‌السلام : « ولا يزال كذلك ».

فهذه الأحاديث تعرب من أنّ توصيفه سبحانه بالجملة التالية : « كان الله ولم يكن معه شيء » لا يختص بالآزال قبل خلق العالم بل هذا الوصف مستمر له إلى الآن حتى بعد ما خلق العالم ، ومن المعلوم أنّه لو كان المراد من قوله : « كان الله ولم يكن معه شيء » إنّه كان وقت ، ولم يكن في ذلك الوقت شيء من الممكنات ، يجب ان يخصّص هذا الوصف بظرف خاص وهو قبل خلق العالم ، وأمّا بعده فلا يمكن أن يقال : إنّه مستمر إلى زماننا هذا لفرض تكوّن أشياء وتحقّقها مع تحقّق الله سبحانه.

وهذا يعرب : انّ المراد من أنّه سبحانه قد كان ولم يكن معه شيء مستمراً إلى زماننا هذا ، هو كونه سبحانه في درجة رفيعة من الوجود ورتبة متقدّمة على معلوله فهو في كلّ ظرف وزمان ، كائنٌ ، وليس معه في هذه الرتبة شيء من الممكنات من غير فرق بين مرحلة خلق العالم وقبله ، لأنّ العلّة لعلوّ مقامه وشموخ درجته على وجه لا يتجافى المعلول عن رتبته ، حتى يكون معه ، ولا شيء معه في هذا المقام مطلقاً سواء قبل خلق العالم أم بعده.

__________________

(١) التوحيد : باب ذكر مجلس الرضا (ع) ص ٤٣٠.

٩٢

والحاصل : انّ هذه الروايات تركّز على نكتة فلسفيّة تغيب عن أذهان المتوسّطين وهو انّه سبحانه واحد ليس معه شيء ، وانّ هذا التوحيد مستمر في جميع الأوقات والأزمان ومن المعلوم أنّ الاعتراف بهذا النوع من التوحيد والتنزيه ، ونفي أن يكون شيء معه لا يتم إلاّ بالاعتراف بالحدوث الذاتي للعالم ، وإنّ وجوده نابع من وجوده سبحانه ، فليس في ذلك المقام أثر من الإمكان من غير فرق بين قبل التجلّي وبعده ، فالمعلوم أقصر من أن يصل إلى مقام العلّة ويجتمع معها.

هذا ما وصلنا إليه بعد التدبّر في الروايات.

نعم ، إنّ صدر المتألّهين وتلامذة منهجه حاولوا في المقام أن يثبتوا للعالم حدوثاً زمانيّاً وراء الحدوث الذاتي ، فمن أراد التبسّط فعليه المراجعة إلى كلامهم (١) ولكنّهم وإن بذلوا جهوداً كبيرة في تصوير الحدوث الزماني لكنّه لا يثبت ما ترومه المتشرّعة إذ أقصى ما يثبت بيانهم إنّ كلّ جزء من العالم مسبوق بعدم زماني بالنسبة إلى الجزء المتقدّم ، وهو ليس موضع بحث ونقاش وإنّما البحث في اثبات الحدوث لجملة العالم.

ثمّ إنّ لبعض المحقّقين ممّن عاصرناه كلاماً في المقام لا يخلو من فائدة ، فنأتي به برمته ، قال :

« اعلم انّ الذي يظهر لي في هذا المقام العويص ، هو أن يقال : إنّ المراد من العالم ( بمعنى ما سوى الله ) إمّا يكون هو هذا العالم المشهود لنا من السماء والسماويّات والعنصر والعنصريّات ، وإمّا يكون مطلق ما سوى الله ممّا يتصوّر من عالم مادي أو مجرّد ، فالأوّل أعني هذا العالم المحسوس ، فالحق انّه ليس على قدمه دليل ، ولا في القول بحدوثه محذور بل هو حادث زماني أعني مسبوقاً بالعدم

__________________

(١) الاسفار ج ٦ ص ٣٦٨.

٩٣

الزماني العرضي ، ويكون وعاء عدمه زماناً منتزعاً من عالم قبله وهو أي العالم الذي قبله أيضاً حادث زماني مسبوق بعدمه ، الواقع في عالم ثالث قبل ذاك العالم الثاني ، وليس هذا شيء يخالفه العقل ، بل الهيئة الجديدة ناطقة بأنّ الامر كذلك ، إذ شمسنا التي تدور حولها أرضنا مع بقية الكواكب عندهم عالم من العوالم ، حادث ، مسبوق بعدم واقعي ، قد انقضى الأكثر من عمره وما بقي منه إلاّ صبابة كصبابة الاناء ، وهو مع جميع توابعه مسبوق بعدم واقعي متأخّر عن عالم متألّف من شمس اُخرى مع ما حولها من كواكبها ، وهكذا كلّ كوكب من الثوابت شمس وكم انقضى منها وكم لم يوجد بعد ، وكم من موجود منها لم نشاهده ذلك تقدير العزيز الحكيم.

هذا بالقياس إلى حكم العقل ولم يثبت في الشرع ما يدل على خلافه بل لعل فيه ما يدل على وفاقه من انّ قبل هذا الخلق خلق ، وقبل هذا العالم عوالم إلى ثلاثين ألف ، الكاشف عن كثرتها (١) وقول الحكماء بانحصار العالم المحسوس في هذا العالم من فلك الأفلاك إلى الأرض وقدم أفلاكه مادّة وصورة وأعراضاً حتى بالنسبة إلى أصل الحركة وأصل الوضع إلاّ في جزئيات الحركة والوضع ، قول محض لا شاهد عليه إلاّ حدسيات أبطلتها الهيئة الجديدة.

والثاني أعني مطلق العوالم وجملة ما سواه ، فالحق انّ حدوثه بهذا المعنى شيء لم يتّفق عليه الملّيون ولم يثبت له الحدوث بهذا المعنى في شرعنا المقدّس كيف وقد عرفت ورود ما يدل على وجود العوالم قبل عالمنا وكذا بعد خرابه ، وهو الموافق مع الحكمة ويطابقه العقل الصريح ويلائم مع كونه تعالى دائم الفضل على البريّة وباسط اليدين بالعطية ولا امساك له عن الفيض ، وعلى هذا فيمكن أن يكون

__________________

(١) قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : ولعلّك ترى أنّ الله تعالى إنّما خلق هذا العالم الواحد ، وترى أنّ الله تعالى لم يخلق بشراً غيركم بلى والله لقدخلق الله تعالى الف الف عالم ، وألف ألف آدم ، أنت في آخر تلك العوالم واُولئك الاُمّيين. قال الحكيم السبزواري بعد نقل الحديث : والمراد من العدد الكثرة. « شرح الأسماء الحسنى ص ٢٤٠ ».

٩٤

النزاع في حدوث العالم وقدمه لفظيّاً الاّ على قول الحكماء بقدم هذا العالم من أفلاكه وفلكياته وعناصره البسيطه حيث إنّ النزاع في قدمه وحدوثه معنوي كما لا يخفى.

وأمّا بالنسبة إلى ما سوى هذا العالم فالحكماء ينكرون أصل وجوده ، ويزعمون انحصار العالم في عالمنا ، ولو كان له وجود قبل عالمنا فلا محالة يكون عالمنا حادثاً بالحدوث الزماني المسبوق بالعدم الواقعي ، كما أنّ الاعتراف بوجود العقول وعالم الجبروت يساوق الاعتراف بوجود الممكن القديم بالزمان كما لا يخفى (١).

١٥ ـ تكلّمه وكلامه سبحانه

قد تعرّفت على أنّ صفة التكلّم ممّا وقع فيه الكلام وأنّه هل هو صفة فعل أو صفة ذات ، وقد أثارت هذه المسألة في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث ضجّة كبيرة بين المسلمين ، وأوجدت محنة في التاريخ سمّيت بمحنة أحمد ، وقد بالغت شيعة أحمد كإبن الجوزي في مناقبه في تحرير هذه المحنة وتحليلها فجاء بقصص وروايات لم يروها غيره وجعل منه بطلاً دينيّاً ، مجاهداً من أجل عقيدته وآرائه. وعلى كلّ تقدير فنحن نبحث عنها على ضوء البرهان وهدى الكتاب والسنّة.

أجمع المسلون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّّماً وقد شغلت هذه المسألة بال العلماء والمفكّرين في العصور المتقدّمة ووقع الجدال في موضعين :

الأوّل : ما هو المراد من هذا الوصف ؟

الثاني : هل كلامه ( القرآن ) حادث أو قديم ؟

__________________

(١) درر الفوائد : للمحقق الشيخ محمد تقي الآملي قدس‌سره ج ١ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٤.

٩٥

وقبل البحث في كلا الأمرين نقدّم النصوص القرآنية التي تضافرت الآيات على توصيفه به ، قال تعالى : ( مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ ) ( البقرة / ٢٥٣ ).

وقال تعالى : ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) ( النساء / ١٦٤ ).

وقال سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) ( الأعراف / ١٤٣ ).

وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى / ٥١ ).

وقد بيّن تعالى انّ تكليمه الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية :

١ ـ وحياً.

٢ ـ من وراء حجاب.

٣ ـ يرسل رسولاً.

فقد أشار بقوله : « إلاّ وحياً » إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء كما أشار بقوله : « أو من وراء حجاب » إلى الكلام المسموع لموسى عليه‌السلام في البقعة المباركة قال تعالى : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( القصص / ٣٠ ).

وأشار بقوله سبحانه : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) إلى الإلقاء الذي يتوسّط فيه ملك الوحي.

قال سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / ١٩٢ ـ ١٩٤ ).

ففي الحقيقة « الموحي » هو الله سبحانه وهو تارة يوحي بلا واسطة عن طريق الالقاء في الروع ، أو عن طريق التكلّم من وراء حجاب بحيث يسمع الصوت ولا يرى

٩٦

الموحي واُخرى بواسطة الرسول ، فهذه الأقسام الثلاثة هي الواردة في الآية المباركة.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّه اختلفت كلمة المتكلّمين والحكماء في حقيقة كلامه إلى نظريات :

١ ـ نظرية المعتزلة

قالت المعتزلة كلامه تعالى أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي. قال القاضي عبد الجبار :

« حقيقة الكلام : الحروف المنظومة والأصوات المقطعة وهذا كما يكون منعماً بنعمة توجد في غيره ، ورازقاً برزق يوجد في غيره ، فهكذا يكون متكلّما بايجاد الكلام في غيره وليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه فعلاً (١).

والظاهر أنّ كونه سبحانه متكلّما بهذا المعنى لا خلاف فيه إنّما الكلام في حصر التكلّم في هذا المعنى. قال السيد الشريف :

« هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره بل نحن نقوله ونسمّيه كلاماً لفظياً ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ولكن نثبت أمرا وراء ذلك » (٢).

ونزيد في الملاحظة : انّ تفسير كلامه سبحانه بايجاد الحروف والأصوات في الأشياء أو الالقاء في الروع إنّما يصحّ في ما إذا كان لكلامه سبحانه مخاطباً معيّناً كما في تكليمه الأنبياء وغيرهم كاُمّ موسى قال سبحانه :

( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ) ( القصص / ٧ ).

__________________

(١) شرح الاُصول الخمسة ص ٥٢٨ ، وشرح المواقف ج ٨ ، ص ٤٩٥.

(٢) شرح المواقف ج ٨ ص ٩٣.

٩٧

وقال سبحانه : ( فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ) ( مريم / ٢٤ و ٢٥ ).

وأمّا إذا لم يكن هناك مخاطب خاص لجهة الخطاب فلابد أن يكون كلامه سبحانه على وجه الاطلاق معنى آخر سنذكره فيما بعد.

٢ ـ نظريّة الحكماء

لا شك انّ الكلام في انظار عامّة الناس هو الحروف والأصوات الصادرة من المتكلّم القائمة به ، وهو يحصل من تموّج الهواء واهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج غاب الكلام عنه ، ولكن الإنسان الاجتماعي يتوسّع في اطلاقه فيطلقه على الخطبة المنقولة أو الشعر المروي عن شخص ، ويقول هذا كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو شعر اُمرئ القيس مع أنّ كلامهما قد زالا بزوال الموجات والاهتزازات ، وما هذا إلاّ من باب التوسّع في الاطلاق ومشاهدة ترتّب الأثر على المرويّ والمنقول وعلى هذا يتوسّع بأزيد من هذا ، فكلّ فعل من المتكلّم أفاد نفس الأثر الذي يفيده كلامه اللفظي يسمّيه كلاماً لاشتراكهما في ابراز ما يضمره المتكلّم في قرارة ذهنه من المعاني والحقائق ، وبذلك تكون اللوحة الفنيّة كلاماً لرسّامها حتى انّ البناء الشامخ كلام يعرب عن نبوغ البنّاء والمعمار والمهندس ، فلأجل ذلك نرى انّه سبحانه يصف عيسى بن مريم بأنّه كلمة الله ألقاها إلى مريم العذراء فيقول : ( يَا أهل الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) ( النساء / ١٧١ ).

وكيف لا يكون سيّدنا المسيح كلمة الله مع أنّه كاشف عن قدرته العظيمة على خلق الإنسان في الرحم من دون لقاح بين اُنثى وذكر ، ولأجل ذلك عدّ وجوده آية ومعجزة.

وفي ضوء هذا البيان يظهر وجه عدّ جميع ما في الكون كلمات الله سبحانه ،

٩٨

قال :

( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) ( الكهف / ١٠٩ ).

ويقول سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( لقمان / ٢٧ ).

فكلّ ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلامه وتخبر عمّا في المبدأ من كمال وجمال وعلم وقدرة ، وبذلك يكون العالم بموجوداته الكتاب التكويني.

وقال علي عليه‌السلام :

« يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفّظ ، ويريد ولا يضمر ، يحب ويرضى من غير رقّة ، ويبغض ويغضب من غير مشقّة يقول لمن أراد كونه ، « كن » فيكون ، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً » (١).

وعلى هذين المعنيين فالتكلّم من صفات فعله سبحانه لا من صفات الذات نعم ، حاولت الأشاعرة أن تجعل كلامه سبحانه صفة ذاته وجاءت بنظرية معقدة غير واضحة سمّتها بالكلام النفسي ، وإليك بيانها :

٣ ـ نظرية الأشاعرة

ذهبت الأشاعرة إلى كون التكلّم من صفات الذات بالقول بالكلام النفسي

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٨٤.

٩٩

القائم بذات المتكلّّم ، وهذه النظرية مع اشتهارها من الشيخ أبي الحسن الأشعري لم نجدها في « الإبانة » و « اللمع » وإنّما ركّز فيهما على البحث عن المسألة الثانية ، وهو كون كلامه حادثاً أو قديماً ، ولكن أتباعه المتأخّرين نقلوها عنه. قال « الشهرستاني » :

« وصار أبو الحسن الأشعري إلى أنّ للكلام معنى قائماً بالنفس الإنسانية وبذات المتكلّم وليس بحروف ولا أصوات وإنّما هو القول الذي يجده القائل في نفسه ويجيله في خلده » (١).

وقال الآمدي :

« ذهب أهل الحق من الإسلاميين إلى كون الباري تعالى متكلّما بكلام قديم أزلي نفساني أحدي الذات ، ليس بحروف ولا أصوات ، وهو مع ذلك مغاير للعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات » (٢).

وقال « الايجي » بعد نقل نظرية المعتزلة :

« وهذا لا ننكره لكنّا نثبت أمراً وراء ذلك ، وهو المعنى القائم بالنفس ونزعم انّه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام بل قد يدلّ عليه بالإشارة والكتابة ... إلى أن قال : « .... وهو غير العلم » (٣).

وقد حارت العقول في فهم المقصود من الكلام النفسي ، ولأجل ذلك قام رجال من الأشاعرة بتبيينه. فأوضحه « الشهرستاني » بقوله :

« العاقل إذا راجع نفسه وطالع ذهنه وجد من نفسه كلاماً وقولاً يجول في قلبه تارة اخباراً عن اُمور رآها على هيئة وجودها أو سمعها من مبتدئها إلى منتهاها على وفق ثبوتها ، وتارة حديثاً مع نفسه بأمر ونهي ووعد ووعيد لأشخاص على تقدير

__________________

(١) نهاية الاقدام : ص ٣٢٠.

(٢) غاية المرام : ص ٨٨.

(٣) المواقف : ص ٢٩٤.

١٠٠