مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

الاُستاذ « قدس الله سره » في تفسيره نأتي برمّته.

شاع بين الناس انّه اسم لفظي من أسماء الله سبحانه إذا دعي به استجيب ، ولا يشذ من أثره شيء ، غير أنّهم لمّا لم يجدوا هذه الخاصّة في شيء من الأسماء الحسنى المعروفة ولا في لفظ الجلالة ، اعتقدوا انّه مؤلّف من حروف مجهولة تأليفاً مجهولاً لنا ، لو عثرنا عليه أخضعنا به لإرادتنا كلّ شيء.

وفي مزعمة أصحاب العزائم والدعوات ، إنّ له لفظاً يدل عليه بطبعه لا بالوضع اللغوي ، غير ان حروفه وتأليفها تختلف باختلاف الحوائج والمطالب ، ولهم في الحصول عليه طرق خاصّة يستخرجون بها حروفه أوّلاً ، ثم يؤلّفونها ويدعون بها على ما يعرفه من راجع فنَّهم.

وفي بعض الروايات الواردة اشعار ما بذلك ، كما ورد انّ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ) أقرب إلى اسم الله الأعظم من بياض العين إلى سوادها ، وما ورد أنّه في آية الكرسي وأوّل سورة آل عمران ، وما ورد انّ حروفه متفرّقه في سورة الحمد يعرفها الإمام وإذا شاء ألّفها ودعا بها فاستجيب له.

وما ورد إنّ آصف بن برخيا وزير سليمان دعا بما عنده من حروف « اسم الله الاعظم » فاحضر عرش ملكة سبأ عند سليمان في أقل من طرفة عين ، وما ورد إنّ الاسم الأعظم على ثلاث وسبعين حرفاً قسّم الله بين أنبيائه اثنتين وسبعين منها ، واستأثر بواحدة منها عنده في علم الغيب ، إلى غير ذلك من الروايات المشعرة بأنّ له تأليفاً لفظيّاً.

والبحث الحقيقي عن العلّة والمعلول وخواصّها يدفع ذلك كلّه ، فإنّ التأثير الحقيقي يدور مدار وجود الأشياء في قوّته وضعفه ، والمسانخة بين المؤثّر ، والاسم اللفظي إذا اعتبر من جهة خصوص لفظه ، كان مجموعة أصوات مسموعة هي من الكيفيّات العرضيّة ، وإذا اعتبر من جهة معناه المتصوّر كان صورة ذهنيّة لا أثر لها من حيث نفسها في شيء البتة ، ومن المستحيل أن يكون صوت « أوجدناه من طريق

٦١

الحنجرة أو صورة خياليّة نصورها في ذهننا » يقهر بوجوده وجود كلّ شيء ، ويتصرّف فيما نريده على ما نريده فيقلب السماء أرضاً ، والأرض سماء ، ويحوّل الدنيا إلى الآخرة وبالعكس وهكذا ، وهو في نفسه معلول لارادتنا.

والأسماء الإلهية واسعة ، واسمه الأعظم خاصّة وان كانت مؤثّرة في الكون بوسائطه وأسبابه لنزول الفيض من الذات المتعاليّة في هذا العالم المشهود ، لكنّها إنّما تؤثر بحقائقها لا بالألفاظ الدالّة عليها ، ولا بمعانيها المفهومة من ألفاظها المتصوّرة في الأذهان ، ومعنى ذلك إنّ الله سبحانه هو الفاعل الموجد لكلّ شيء بماله من الصفة الكريمة المناسبة له التي يحويها الاسم المناسب لا تأثير اللفظ أو الصورة المفهومة في الذهن أو حقيقة اُخرى غير الذات المتعالية.

إلاّ انّ الله سبحانه وعد اجابة دعوة من دعاه كما في قوله : ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ( البقرة / ١٨٦ ) ، وهذا يتوقّف على دعاء وطلب حقيقي ، وأن يكون الدعاء والطلب منه تعالى لا من غيره ـ كما تقدّم في تفسير الاية ـ فمن انقطع عن كلّ سبب واتّصل بربّه لحاجة من حوائجه فقد اتّصل بحقيقة الاسم المناسب لحاجته فيؤثر الاسم بحقيقته ويستجاب له ، وذلك حقيقة الدعاء بالاسم ، فعلى حسب حال الاسم الذي انقطع إليه الداعي يكون حال التأثير خصوصاً وعموماً ، ولو كان هذا الاسم هو الاسم الأعظم لإنقاد لحقيقته كلّ شيء ، واستجيب للداعي به دعاؤه على الاطلاق. وعلى هذا يجب أن يحمل ما ورد من الروايات والأدعية في هذا الباب دون الاسم اللفظي أو مفهومه.

ومعنى تعليمه تعالى نبيّاً من أنبيائه أو عبداً من عباده اسماً من أسمائه أو شيئاً من الاسم الأعظم ، هو أن يفتح له طريق الانقطاع إليه تعالى باسمه ذلك في دعائه ومسألته ، فان كان هناك اسم لفظي وله معنى مفهوم فإنّما ذلك لأجل انّ الالفاظ ومعانيها وسائل وأسباب تحفظ بها الحقائق نوعاً من الحفظ فافهم ذلك.

واعلم أنّ الاسم الخاص ربّما يطلق على ما لا يسمّى به غير الله سبحانه كما

٦٢

قيل به في الاسمين : الله ، والرحمان.

أمّا لفظ الجلالة فهو علم له تعالى خاص به ليس اسماً بالمعنى الذي نبحث عنه.

وأمّا الرحمان فقد عرفت أنّ معناه مشترك بينه وبين غيره تعالى لما انّه من الأسماء الحسنى ، هذا من جهة البحث التفسيري ، وأمّا من حيث النظر الفقهي فهو خارج عن مبحثنا.

١٣ ـ صفاته عين ذاته لا زائدة عليه

قد عرفت عند البحث عن كثرة صفاته مع بساطة ذاته انّه يمكن انتزاع مفاهيم كثيرة عن البسيط غاية البساطة وانّ من منع ذلك فقد خلط بين التغاير المفهومي والمصداقي (١).

وليس المراد وحدة الصفات مفهوماً بل المراد وحدتها تحقّقاً ومصداقاً ، ولقد كان لهذا البحث صدى كبيراً في الأدوار السالفة وقد افترق فيه المسلمون إلى فرقتين فالقائلون بالاتّحاد سمّوا بنفاة الصفات ، كما انّ القائلين بالزيادة نوقشوا بالقول بالقدماء الثمانية ، فيجب علينا تحقيق الحق في ذلك المجال مضافاً إلى ما ذكرناه في البحث السابق.

إنّ كيفية اجراء صفاته سبحانه على ذاته أوجد هوّة سحيقة بين متكلّمي المعتزلة والأشاعرة ، فمشايخ الاعتزال لأجل حفظ التوحيد ، ورفض تعدد القديم ، وتنزية الخالق عن التشبيه ، ذهبوا إلى أنّ ملاك اجراء هذه الصفات هو الذات ، وليست هنا أية واقعيّة للصفات غير ذاته إلاّ ان عقيدتهم في ذلك المجال تقرّر بوجهين :

__________________

(١) سبق الكلام عن المقام عند البحث عن « بساطة ذاته وكثرة أسمائه » وقد عرفت انّ البحثين وجهان لعملة واحدة وهما متّحدان جوهراً ومختلفان حيثيّة.

٦٣

الأوّل : ما نسبه إليه خصمهم أبو الحسن الأشعري من انّ الله عالم ، قادر ، حي بنفسه ، لا بعلم وقدرة وحياة (١).

ومعنى هذا انّه ليس هناك حقيقة العلم والقدرة والحياة ، غير أنّ الآثار المترقّبة من الصفات مترتبة على الذات ، مثلاً خاصية العلم اتقان الفعل وهي تترتب على نفس ذاته بلا وجود وصف العلم فيه وقد اشتهر بينهم : « خذ الغايات واترك المبادئ » ، وهذا النظر ينسب إلى أبي علي وأبي هاشم الجبائيين ، وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الصفات ، ولا يخفى إنّ هذه النظرية لا يناسب ما تضافر عليه الكتاب من اثبات هذه الصفات عليه سبحانه بوضوح ، كما تصادمه البراهين الفلسفية من انّه لا يشذ عن حيطة وجوده أي كمال وانّه بسيط الحقيقة مع كونه جامعاً لكلّ الكمالات وأصحاب تلك النظرية وإن صاروا إليها لأجل حفظ التوحيد والتحرّز عن تعدد القدماء ، لكن عملهم هذا أشبه بعمل الهارب من المطر إلى الميزاب. أو من الرمضاء إلى النار ، أفيصح في منطق العقل إنكار هذه الكمالات لله سبحانه بحجّة انّ اثباتها يستلزم التركيب ؟ فلو كان أصحاب تلك النظرية غير قادرين على الجمع بين بساطة الذات واثبات الصفات كان اللازم عليهم الأخذ بالواضح المعلوم وهو كونه سبحانه عالماً قادراً حيّاً والسكوت عن كيفيّة اثباتها وإمرارها عليه ، واحالة العلم بكيفيتهما إلى الله سبحانه والراسخين في العلم.

الثاني : ما نقل عن أبي الهذيل العلاّف المعتزلي ، فقد ذهب إلى ما ذهبت إليه الاماميّة تبعاً لإمامهم سيد الموحّدين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فأثبت إنّ لله علماً وقدرة وحياة حقيقية ولكنّها في مقام التحقق والعينيّة نفس ذاته ، وإليك نص عبارته :

« هو عالم بعلم هو هو ، هو قادر بقدرة هي هو ، هو حي بحياة هي هو ، ـ إلى أن قال ـ إذا قلت : إنّ الله عالم ، أثبتّ له علماً هو الله ونفيت عن الله جهلاً ، ودللت على معلوم كان أو يكون ، وإذا قلت : قادر نفيت عن الله عجزاً ، وأثبتّ له

__________________

(١) مقالات الاسلاميين ج ١ ص ٢٢٤.

٦٤

قدرة هي الله سبحانه ودللت على مقدور ، فإذا قلت : « الله حي أثبتّ له حياةً وهي الله ونفيت عن الله موتاً » (١).

والفرق بين الرأيين جوهري ، فالرأي الأوّل يركز على أنّ الله عالم قادر حي بنفسه لا بعلم ولا قدرة ولا حياة ، وأمّا الثاني وهو يركز على كونه سبحانه موصوفاً بهذه الصفات وإنّه عالم بعلم ، وقادر بقدرة ، ولكنها تتّحد مع الذات في مقام الوجود والعينيّة.

هذا هو الذي فهمنا من عبارة أبي الهذيل العلاّف وإن أصرّ القاضي عبد الجبار على ارجاع مقالته إلى ما يفهم من عبارة أبي علي وابنه أبي هاشم ، وقال : إنّه لم تتلخص له العبارة ، وهذه النظرية هي المروية عن علي عليه‌السلام في خطبه وكلماته ، ونأتي منها بما يرتبط بالمقام :

١ ـ « كمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة انّها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف انّه غير الصفة » (٢).

٢ ـ « ولا تناله التجزئة والتبعيض » (٣). وقد مضى بعض الاحاديث التي تتعلق بهذا الشأن عند البحث عن بساطة الذات وكثرة الصفات.

وبذلك يعلم أنّ ما ردّ به أبو الحسن الأشعري نظرية وحدة الصفات مع ذات ، إنّما ينسجم مع نظرية النيابة لا مع نظرية أبي الهذيل : « قال إنّ الزنادقة قالوا : إنّ الله ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ، وقول من قال من المعتزله : إنّه لا علم لله ولا قدرة له ، معناه : إنّه ليس بعالم ولا قادر والتفاوت في الصراحة والكناية » (٤).

__________________

(١) شرح الاصول الخمسة : للقاضي عبد الجبار المعتزلي ص ١٨٣ ، ومقالات الاسلاميين ص ٢٢٥.

(٢) نهج البلاغة الخطبة ١ ـ طبع عبده ـ.

(٣) نهج البلاغة الخطبة٨١ ـ طبع عبده ـ.

(٤) الابانة : ص ١٠٨.

٦٥

و هذا النقد ـ لو سلم ـ فإنّما يتوجّه إلى النظرية الاُولى لا الثانية ، ومع ذلك يمكن لأصحاب النظرية الاُولى الدفاع عن أنفسهم أيضاً قائلين بالفرق بين قول الزنادقة وهذه النظرية ، فالزنادقة ينفون المبادئ على الاطلاق ، والمعتزله ينفون المبادئ لكن يقيمون الذات مقام الصفات في الأثر والغاية.

نعم ما أجاب به الأشعري عن النظرية الثانية ساقط جداً حيث قال لو كان علم الله هو الله يلزم ان يصح أن نقول يا علم الله اغفر لي وارحمني (١).

وهذا النقد يعرب عن عدم تفريق الشيخ بين الوحدة المفهوميّة والوحدة المصداقيّة والمعتزلة أعني أبا الهذيل ومن تبعه أو من سبقه لا يدّعون الوحدة المفهومية حتى يصحّ أن نقول : يا علم الله اغفر لي ، وإنّما يقولون بالوحدة المصداقية واتّحاد العلم مع الذات لا يسوّغ استعمال العلم في الذات.

أدلّة القائلين بعينيّة صفاته مع ذاته

القائلون بوحدة صفاته مع ذاته يستدلّون بدليلين واضحين :

أحدهما : إنّ القول بالزيادة يستلزم تركيب الذات مع الصفات ، والتركيب آية حاجة المركّب إلى كلّ واحد من الجزئين ، والحاجة حليف الامكان ، والممكن لا يكون واجباً.

ثانيهما : إنّ القول بالزيادة يستلزم تعدّد القدماء ، لأنّ المغايرة حقيقية واقعيّة لا مفهوميّة ، وأدلّة وحدة الواجب تضادها ، فلا محيص من القول بالتوحيد ، وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« وكمال الاخلاص له نفي الصفات ( الزائدة ) عنه لشهادة كلّ صفة انّها غير

__________________

(١) نفس المصدر ص ١٠٨.

٦٦

الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف انّه غير الصفة فمن وصف الله ( أي بوصف زائد على ذاته ) فقد قرنه ( أي قرن ذاته بشيء غيرها ) ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ومن جزّأه فقد جهله » (١).

وأي برهان أوضح من هذا البيان فإنّ القول بالاتّحاد يوجب تنزيهه عن التجزئة ونفي الحاجة عن ساحته ، ولكن إذا قلنا بالتعدّد والغيريّة ، فذلك يستلزم التركيب ويتولّد منه التثنيه ، والتركيب آية الحاجة والله الغني المطلق لا يحتاج إلى ما سواه.

قال الصادق عليه‌السلام : « لم يزل الله جلّ وعزّ ربّنا ، والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور » (٢).

هذا ويمكن الاستدلال على الوحدة بالذكر الحكيم ، نرى أنّه سبحانه يقول في سورة التوحيد : ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ويقول في آخرها : ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ).

فلو قلنا بأنّ الصدر ناظر إلى نفي المثليّة يلزم التكرار ، وأمّا لو قلنا بأنّه ناظر إلى بساطة الذات وعدم تركبه فعندئذ يكون الصدر دليلاً على نفي التركيب ، والذيل دليلاً على نفي المثليّة.

وهناك كلمة قيّمة لأميرالمؤمنين في جواب أعرابي يوم الجمل : فقال يا أمير المؤمنين أتقول انّ الله واحد ؟ قال ( الراوي ) ، فحمل الناس عليه قالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : دعوه ، فإنَّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ، ثم قال : يا أعرابي ، اِنَّ القول في انَّ الله واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ ، ووجهان يثبتان فيه ـ إلى أن قال ـ : « وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل : هو

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١.

(٢) التوحيد للصدوق ص ١٣٩.

٦٧

واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا. وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم. كذلك ربّنا » (١).

وهذا الحديث العلوي يركّز على البساطة ونفي توهّم الجزئية على الاطلاق سواء كان مبدأ التركيب هو زيادة الصفات على الذات أو غيرها كما هو الحال في تثليث المسيحيّين.

وأمّا أدلة القائلين بالزيادة فتبتني على أنّ واقعيّة الصفة هي البينونة ، فيجب أن يكون هناك ذات وعرض ينتزع من إتصاف الاُولى بالثاني ، عنوان العالم والقادر. فالعالم من له العلم ، والقادر من له القدرة ، لا من ذات نفسهما فيجب أن يفترض ذات غير الوصف (٢).

يلاحظ عليه : إنّ الشيخ الأشعري يريد اقتناص الحقائق الفلسفيّة عن طريق اللّغة فإنّه لا شك إنّ لفظ العالم والقادر ظاهر فيما ذكر إلاّ انّه يجب رفع اليد عن هذا الظاهر بالبرهان العقلي ، وعدم وقوف العرف على هذا المصداق من العالم والقادر لا يمنع من صحّة اطلاقهما عليه.

أضف إلى ذلك إنّ الفرق بين القول بالعينيّة والقول بالزيادة ، كالفرق بين قولنا زيد عدل وزيد عادل ، فالاُولى من القضيتين آكد في اثبات المبدأ من الآخر ولأجل ذلك كان القول بالعينية آكد في اثبات العلم له سبحانه من القول بالزيادة ، فلو بلغ وجود امكاني إلى مبلغ من الكمال ، بأن صار ذاته علماً وقدرة فهو اُولى بالاتّصاف بهما ممّن يغاير ذاتُه صفتَه ، وعدم وقوف العرف على هذا النوع من الصفات لا يضرّ بالاتّصاف.

__________________

(١) التوحيد للصدوق ص ٨٣ ـ ٨٤.

(٢) اللمع للشيخ الاشعري ص ٣٠ بتقرير منّا.

٦٨

مضاعفات القول بالزيادة

إذا كان في القول بعينيّة الصفات مع الذات ، نوع مخالفة لظاهر صيفة الفاعل اُعني العالم والقادر ، كان في القول بالزيادة مضاعفات ، لا يقبلها العقل السليم ، ونشير إلى بعضها :

١ ـ تعدّد القدماء بعدد الأوصاف الذاتيّة ، فلو كانت النصرانية قائلة بالتثليث ، فالقائلون بالزيادة يقولون بقدماء كثيرة.

نعم القائلون بالزيادة يتمحّلون في رفع الاشكال بأنّ « المراد من الزيادة هو أنّها ليست ذاته ولا غيرها » ولكنّك ترى أنّه كلام صوري ينتهي عند الدّقة إلى ارتفاع النقيضين.

إنّ القول بأنّ له سبحانه صفات زائدة على الذات ، قديمة مثله ، ممّا لا يجترئ عليه مسلم واع ، ولم يكن أحدٌ متفوّهاً بهذا الشرك من المسلمين غير الكلابية ، وعنهم أخذ الأشعري.

قال القاضي عبد الجبار : « وعند الكلاّبيّة أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزليّة وأراد بالأزليّ : القديم ، إلاّ أنّه لمّا رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع الله لم يتجاسر على اطلاق القول بذلك ، ثمّ نبغ الأشعري وأطلق القول : بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة ، لوقاحته وقلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين » (١).

__________________

(١) الاصول الخمسة : ص ١٨٣ ، ط مصر.

٦٩

٢ ـ إنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته ، يستلزم غناه في العلم بماوراء ذاته ، من غيره فيعلم بذاته كلّ الأشياء من دون حاجة إلى وراء الذات. وهذا بخلاف القول بالزيادة إذ عليه يعلم سبحانه بعلم سوى ذاته ، ويخلق بقدرة خارجة عن ذاته ، وكون هذه الصفات أزليّة ، لا يدفع الفقر والحاجة عن ساحته سبحانه ، مع أنّ وجوب الوجود يلازم الغنا عن كل شيء.

إنّ « الصفاتيّة » في علم الكلام وتاريخ العقائد هم الأشاعرة ومن لفّ لفّهم في القول بالاُوصاف الزائدة ، كما أنّ المعطّلة هم نفاة الصفات وهم المعتزلة ( حسب زعم الأشاعرة ) حيث عطّلوا الذات عن التوصيف بالأوصاف الكمالية ، وقالوا بالنيابة.

وقد عرفت أنّه ليس في القول بوحدة الصفات مع الذات « لا القول بالنيابة » أيّ تعطيل لتوصيف الذات بالصفات الكمالية.

إلى هنا انتهى البحث عن صفاته الثبوتية ووحدتها مع الذات ، بقي هنا بحثان :

الأوّل : البحث عن صفاته الفعلية وإنّ الإرادة والتكلّم هل هما من صفات الفعل أو من صفات الذات ؟

الثاني : عن كيفيّة حمل الصفات الخبرية عليه سبحانه ، وقد كان لهذا البحث دويّ في القرون الاولى الاسلامية ، وإليك بيان الأوّل ، ونؤخّر بيان الثاني إلى أن نفرغ عن تفسير أسمائه في القرآن.

٧٠

١٤ ـ الإرادة صفة الذات أو صفة الفعل ؟

قد تعرّفت على أنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى ذاتية وفعلية ، وعرفت الملاك فيهما غير أنّه وقع البحث في بعض الصفات وأنّها هل هي من صفات الذات أو من صفات الفعل ؟ ونخص بالذكر صفتي الإرادة والتكلّم فنقول :

الإرادة والكراهة كيفيّتان نفسانيّتان كسائر الكيفيّات النفسانيّة حاضرتان لدى النفس بلا توسيط شيء مثل اللّذة والألم فتكونان معلومتين للنفس بعلم حضوري لا حصولي كما هو الحال في كلّ الاُمور الوجدانية ، والمهم تبيين ماهية الإرادة في الإنسان ثم البحث عن إرادته سبحانه.

فنقول : إنّ في إرادة الإنسان آراء مختلفة نشير إليها (١).

أ ـ رأي المعتزلة في الإرادة

الإرادة عبارة عن اعتقاد النفع ، والكراهة عبارة عن اعتقاد الضرر ، ونسبة القدرة إلى طرفي الفعل والترك متساوية ، فإذا حصل في النفس الاعتقاد بالنفع في أحد الطرفين ، يرجّح بسببه ذلك الطرف ويصير الفاعل مؤثّراً فيه.

يلاحظ عليه : انّه تفسير للإرادة والكراهة ببعض مبادئهما فإنّ الإرادة تنبثق عن الاعتقاد بالنفع كما ان الكراهة تنبثق عن الاعتقاد بالضرر ، ولكن الاعتقاد غير الإرادة بشهادة انّ الاعتقاد بالنفع لا يستتبع إرادة في جميع المجالات.

ب ـ الإرادة : الشوق النفساني

يظهر من بعض المشايخ « إنّ الإرادة هو الشوق النفساني الحاصل في النفس من الاعتقاد بالنفع ».

__________________

(١) لاحظ : الوقوف على آراء المتكلمين في حقيقة الإرادة : شرح المواقف ج ٨ ص ٨١ ـ ٨٢.

٧١

يلاحظ عليه : أنّ تفسير الإرادة بالشوق تفسير ناقص إذ ربّما تتحقّق الإرادة ولا تكون هناك أيّة شوق كما في تناول الأدوية المرّة لأجل العلاج ، وربّما يتحقّق الشوق المؤكّد ولا تكون هناك إرادة كما في مورد المحرمات للرجل المتّقي فالنسبة بين الشوق والإرادة عموم وخصوص من وجه.

ج ـ الإرادة هي العزم والجزم

الإرادة لدى البعض عبارة عن كيفيّة نفسانيّة متخلّلة بين العلم الجازم والفعل ويعبر عنه بالقصد والعزم تارة ، وبالإجماع والتصميم اُخرى ، وليس القصد من مقولة الشوق كما انّه ليس من مقولة العلم ـ رغم حضوره لدى النفس كسائر الكيفيّات النفسانيّة ـ وبإختصار : الإرادة هي القصد وإجماع النفس على الفعل والعزم القاطع هذا هو حقيقة الإرادة في الإنسان.

الإرادة الامكانية تلازم الحدوث

وعلى كلّ تقدير الإرادة في الإنسان بأيّ معنى فسّرت ظاهرة تظهر في لوح النفس تدريجيّة فيتقدّمها اُمور من تصوّر الشيء والتصديق بما فيه من الفائدة ثمّ حصول الاشتياق إليه في موارد خاصّة ، ثمّ رفع الموانع عن طريق ايجاد الشيء وأخيراً حالة التصميم والقصد القطعي المحرّك للعضلات نحو المقصود.

وهذا أمر واضح يقف عليه الإنسان إذا تدبّر في حالات نفسه ، ومن المعلوم انّ الإرادة بهذا المعنى لا يمكن توصيفه سبحانه به لأنّه يستلزم كونه موجوداً مادياً يطرأ عليه التغير والتبدل ، والتكامل من النقص إلى الكمال ، ومن الفقدان إلى الوجدان وما هذا شأنه لا يليق بساحة البارئ.

الإرادة ملاك الاختيار

إنّ الإرادة ملاك الإختيار ، فالفعل إنّما يوصف بالاختيار إذا صدر عن مشيئة

٧٢

الفاعل وإرادته سواء أقلنا إنّ نفس الإرادة أيضاً أمر اختياري أو خارج عنه ، وهذا لا يهمنا في هذا البحث ، وإنّما المهم إناطة اختياريّة الفعل بسبق الإرادة عليها والفاعل المريد المختار أكمل من الفاعل غير المريد المختار ، وعلى ضوء ذلك لا يمكن سلب الإرادة والاختيار عنه سبحانه لأنّ فقدان الإرادة يستلزم أمرين :

١ ـ كونه فاعلاً غير مريد وبالتالي غير مختار.

٢ ـ كونه فاعلاً غير كامل لأنّ المريد أكمل من غيره وبالتالي المختار أفضل من غيره.

وإن شئت قلت : إنّه سبحانه أمّا ان يكون فاعلاً فاقداً للعلم.

أو يكون عالماً فاقداً للإرادة.

أو يكون عالماً ومريداً لكن عن كراهة لفعله لأجل جبر خارجي عليه يقهره على الإرادة.

أو يكون عالماً ومريداً وراضياً بفعله غير مكره.

والثلاثة الأوّل غير لائقة بساحته ، فيتعيّن كونه فاعلاً مريداً مالكاً لزمام فعله وعمله ، ولا يكون مقهوراً في الإيجاد والخلق ، لأجل وجود جبر قاهر عليه.

إذا وقفت على ذلك فالباحث عن إرادته سبحانه وكونها صفة الذات أو صفة الفعل واقع بين أمرين متخالفين :

فمن جهة إنّ حقيقة الإرادة لا تنفكّ عن الحدوث والتدريج يستحيل أن يكون ذاته سبحانه محلاً للحوادث ، لاستلزامه طروء الفعل والانفعال على ذاته سبحانه وهو محال ، ولأجل ذلك ذهب كثير من المتكلّمين إلى انّ الإرادة من صفات فعله ، فارادته هو إيجاده كما انّ خالقيته عبارة عن فعله وإيجاده ، ورازقيّته عبارة عن انعام الخلق بنعمه.

ومن جهة اُخرى انّ سلب الإرادة عن ذاته وحصر إرادته في الفعل والايجاد

٧٣

يستلزم كونه فاعلا غير مختار وتصور فاعل أكمل منه وهو لا يليق بساحته وإليك البيان.

هل الإرادة صفة الذات أو صفة الفعل ؟

إنّ الإرادة بما أنّها آية الاختيار تستلزم أن تعدّ من صفات الذات فإنّ سلبها عن مقام الذات يستلزم سلب كمال منها غير أن أمام هذا موانع تمنع عن عدّها من صفاتها وإليك بيانه :

١ ـ إنّ الإرادة لا تنفك عن الحدوث والتدريج ، فيستحيل أن تكون ذاته سبحانه محلاً للحوادث لاستلزامه طروء الفعل والانفعال على ذاته وهو محال.

٢ ـ إنّ الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام تفسّر الإرادة بنفس الفعل والايجاد ، وهذا يكشف عن كونها صفة الفعل. وسيوافيك بيان هذه الأحاديث.

٣ ـ إنّ الملاك الذي ذكره الكليني لتمييز صفة الذات عن صفة الفعل ، يستلزم عدّها من صفات الفعل لا من صفات الذات ، فإنّ صفات الفعل تقع تحت النفي والاثبات ويقال : « يَخلق ولا يُخلق » « يَغفر ولا يُغفر » بخلاف صفة الذات فإنّها تقع تحت الاثبات دون النفي ، يقال : « يعلم ويقدر » ولا يقال : « لا يعلم ولا يقدر » ، وعلى ضوء هذا فبما أنّه سبحانه يريد الحق ولا يريد الباطل ، يريد إيجاد شيء مطابق للحكمة ولا يريد إيجاد ما يخالفها ، فهي من صفات الفعل لا من صفات الذات (١).

٤ ـ لو كانت الإرادة نفس ذاته ; لزم قدم العالم لأنّها متّحدة مع الذات والذات موصوفة بها وهي لا تنفك عن المراد ، فيلزم أن لا ينفكّ العالم عن الذات.

فهذه هي الموانع الأربعة أمام عدّ الإرادة من صفات الذات فالقائل بكونها من

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٠٩.

٧٤

صفاتها يجب عليه حلّ عقدها ورفع مشاكلها ، ولأجل ذلك نطرحها على بساط البحث فنقول :

الاشكال الأوّل : الإرادة أمر تدريجي حادث

لو كانت الإرادة صفة الذات ، يلزم كون الذات محلاًّ للحوادث فنقول : قد اُجيب عن هذا الاشكال بامور نشير إليها :

أ ـ إرادته سبحانه ، علمه بالذات

إنّ إرادته سبحانه عبارة عن علمه بالنظام الأصلح والأتم والأكمل ، قال صدر المتألهين : « معنى كونه مريداً : إنّه سبحانه يعقل ذاته ، ويعقل نظام الخير الموجود في الكلّ من ذاته ، وإنّه كيف يكون ؟ وذلك النظام يكون لا محالة كائناً ومستفيضاً وهو غير مناف لذات المبدأ الأوّل » (١).

وقال أيضاً :

« إنّ إرادته سبحانه هي العلم بنظام الكلّ على الوجه الأتمّ وإذا كانت القدرة والعلم شيئاً واحداً مقتضياً لوجود الممكنات على النظام الأتمّ ، كانت القدرة والعلم والإرادة شيئاً واحداً في ذاته ، مختلفاً بالاعتبارات العقليّة (٢).

وقال الحكيم السبزواري : « الواجب جلّ مجده حيث يتعالى من أن يفعل بآلة ، ومن أن يكون له شوق إلى ما سواه ، إذ هو موجود غير فقيد ، لكونه تامّاً وفوق التمام ، ومن أن يكون علمه انفعاليّاً ، فإنّ علمه تعالى فعلي غير معلّل بالأغراض الزائدة فالداعي ، والإرادة ، والقدرة ، عين علمه العنائي وهو عين ذاته (٣).

__________________

(١) الأسفار الأربعة ج ٦ ص ٣١٦.

(٢) نفس المصدر ص ٣٣١.

(٣) شرح الأسماء الحسنى ص ٤٢.

٧٥

مناقشة هذه النظرية

لا شك انّه سبحانه عالم بذاته ، وعالم بالنظام الأكمل والأتم والأصلح ، ولكن تفسير الإرادة بالعلم ، يرجع إلى انكار حقيقة الإرادة فيه سبحانه ، فانكارها في مرتبة الذات ، مساوق لانكار كمال فيه ، إذ لا ريب أنّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد ، فلو فسّرنا إرادته سبحانه بعلمه بالنظام ، فقد نفينا ذلك الكمال عنه ، وعرّفناه فاعلاً يشبه الفاعل المضطر في فعله ، وبذلك يظهر النظر فيما أفاده صدر المتألّهين والسبزواري. حيث تصوّرا انّ الإرادة والعلم شيء واحد بذاته ، مختلف بالاعتبار ، ولأجل عدم صحّة هذا التفسير نرى أنّ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ينكرون تفسيرها بالعلم. قال بكير بن أعين : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : « علمه ومشيئته مختلفان أو متّفقان » ؟

فقال عليه‌السلام : « العلم ليس هو المشيئة ، ألا ترى أنّك تقول سأفعل كذا إن شاء الله ، ولا تقول سأفعل كذا إن علم الله » (١).

وإن شئت قلت : « إنّ الإرادة صفة مخصّصة لأحد المقدورين ، أي الفعل والترك ، وهي مغايرة للعلم والقدرة ، لأنّ خاصيّة القدرة صحّة الإيجاد واللا إيجاد ، وذلك بالنسبة إلى جميع الأوقات وإلى طرفي الفعل والترك على السواء ، فلا تكون نفس الإرادة التي من شأنها تخصيص أحد الطرفين ، واخراج القدرة عن كونها متساوية بالنسبة إليهما.

وأمّا العلم فهو من المبادئ البعيدة للإرادة ، والإرادة من المبادئ القريبة إلى الفعل ، فلا معنى لعدّهما شيئاً واحداً.

نعم ، كون علمه بالمصالح والمفاسد مخصّصاً لأحد الطرفين ، وإن كان أمراً معقولاً ، لكن لا تصحّ تسميته إرادةً وإن اشترك مع الإرادة في النتيجة وهي تخصيص

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٠٩ باب الارادة.

٧٦

الفاعل قدرته بأحد الطرفين ، إذ الاشتراك في النتيجة لا يوجب أن يقوم العلم مقام الإرادة ويكون كافياً لتوصيفه بذلك الكمال أي الإرادة.

ب ـ إرادته سبحانه ابتهاجه بفعله

إنّ إرادته سبحانه ابتهاج ذاته المقدّسة بفعلها ورضاها به ، وذلك لأنّه لمّا كانت ذاته سبحانه صرف الخير وتمامه ، فهو مبتهج بذاته أتمّ الابتهاج ، وينبعث من الابتهاج الذاتي ابتهاج في مرحلة الفعل ، فإنّ من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره ولوازمه ، وهذه المحبّة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل ، وهي التي وردت في الأخبار التي جعلت الإرادة من صفات فعله ، فللإرادة مرحلتان : إرادة في مقام الذات ، وإرادة في مقام الفعل ، فابتهاجه الذتي إرادة ذاتيّه ، ورضاه بفعله إرادة في مقام الفعل.

يلاحظ عليه : إنّ هذه النظرية كسابقتها لا ترجع إلى محصّل ، فإنّ حقيقة الإرادة غير حقيقة الرضا وغير حقيقة الابتهاج ، وتفسير أحدهما بالآخر إنكار لهذا الكمال في ذاته سبحانه ، وقد مرّ أنّ كون الفاعل مريداً ـ في مقابل كونه فاعلاً مضطراً موجباً ـ ، أفضل وأكمل فلا يمكن نفي هذا الكمال عن ذاته على الاطلاق.

ج ـ الإرادة : إعمال القدرة

وربّما تفسر إرادته سبحانه بإعمال القدرة كما عن بعضهم. قال قائل :

« إنّا لا نتصوّر لإرادته تعالى معنى غير إعمال القدرة والسلطنة ، ولمّا كانت سلطنته تعالى تامّة من جميع الجهات ، ولا يتصوّر فيه النقص أبداً فبطبيعة الحال يتحقّق الفعل في الخارج ، ويوجد بصرف إعمال القدرة من دون توقّفه على أيّة مقدّمة اُخرىٰ كما هو مقتضي قوله سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( يس / ٨٢ ) (١).

__________________

(١) المحاضرات ج ٢ ص ٣٨.

٧٧

يلاحظ عليه : إنّ إعمال القدرة والسلطنة إمّا فعل اختياري له سبحانه أو اضطراري ، ولا سبيل إلى الثاني لأنّه يستلزم أن يكون تعالى فاعلاً مضطراً ولا يصح توصيفه بالقدرة ولا تسميته بالقادر ، وعلى الأوّل فما هو ملاك كونه فاعلاً مختاراً ؟ لأنّه لابد أن يكون هناك قبل إعمال السلطنة وتنفيذ القدرة ، شيء يدور عليه كونه فاعلاً مختاراً ، فلا يصحّ الاكتفاء في مقام تفسير الإرادة ، بإعمال القدرة.

وباختصار : إنّ الاكتفاء باعمال القدرة من دون إثبات وصف الاختيار له في المقام بنحو من الأنحاء غير مفيد ، والمعروف انّ ملاك الاختيار هو الإرادة ، نعم لعلّ ما ذكره ( دام ظله ) يرجع إلى ما سنذكره.

د ـ إرادته ، كونه مختاراً بالذات

الحق إنّ الإرادة من الصفات الذاتية وتجري عليه سبحانه على التطوير الذي ذكره المحقّقون في توصيفه بالحياة ، ولأجل توضيح المطلب نأتي بكلمة جارية في جميع صفاته سبحانه وهي :

يجب على كلّ إلهي ـ في إجراء صفاته سبحانه عليه ـ تجريدها من شوائب النقص وسمات الإمكان ، وحملها عليه بالمعنى الذي يليق بساحته مع حفظ حقيقتها وواقعيّتها حتّى بعد التجريد.

مثلاً ، انّا نصفه سبحانه بالعلم ، ونجريه عليه مجرّداً عن الخصوصيّات والحدود الإمكانية ، ولكن مع حفظ واقعيّته ، وهو حضور المعلوم لدى العالم ، وأمّا كون علمه كيفاً نفسانيّاً أو إضافة بين العالم والمعلوم ، فهو منزّه عن هذه الخصوصيّات ، ومثل ذلك الإرادة ، فلا شك انّها وصف كمال له سبحانه وتجري عليه مجرّدة عن سمات الحدوث والطروء والتدرّج والانقضاء بعد حصول المراد ، فإنّ ذلك كلّه من خصائص الإرادة الامكانية وإنّما يراد من توصيفه بالإرادة كونه فاعلاً مختاراً في مقابل كونه فاعلاً مضطراً ، وهذا هو الأصل المتبع في إجراء صفاته سبحانه.

٧٨

إنّ الإرادة صفة كمال لا لأجل كونها حادثة طارئة منقضية بعد حدوث المراد ، وإنّما هي صفة كمال لكونها رمز الإختيار وسمة القاهريّة حتى أنّ الفاعل المريد المكره له قسط من الاختيار ، حيث يختار أحد طرفي الفعل على الآخر تلو محاسبات عقليّة فيرجّح الفعل على الضرر المتوعّد به ، فإذا كان الهدف والغاية من توصيف الفاعل بالإرادة هو اثبات الاختيار وعدم المقهوريّة فتوصيفه سبحانه بكونه مختاراً غير مقهور في سلطانه ، غير مجبور في إعمال قدرته ، كاف في جري الإرادة عليه ، لأنّ المختار واجد لكمال الإرادة على النحو الأتمّ والأكمل ، وقد مرّ أنّه يلزم في اجراء الصفات ترك المبادئ والأخذ بجهة الكمال ، فكمال الإرادة ليس في كونها طارئة زائلة عند حدوث المراد ، أو كون الفاعل خارجاً بها عن القوّة إلى الفعل ، أو من النقص إلى الكمال ، بل كمالها في كون صاحبها مختاراً ، مالكاً لفعله آخذاً بزمام عمله فلو كان هذا هو كمال الإرادة ، فالله سبحانه واجد له على النحو الاكمل إذ هو الفاعل المختار غير المقهور في سلطانه ، ( وَاللهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ ) ( يوسف / ٢١ ) ، وليس هذا بمعنى انّها وصف سلبي وهو كونه تعالى غير مغلوب ولا مستكره ، كما نقل عن النجّار (١) بل هي وصف وجودي هو نفس ذاته والتعبير عنه بوصف سلبي لا يجعله أمراً سلبياً كتفسير العلم بعدم الجهل ، والقدرة بعدم العجز.

إجابة عن سؤال :

ويمكن أن يقال : إنّ تفسير الإرادة بالاختيار يستلزم نفس ما يستلزمه تفسير الإرادة بالعلم فعلى كلا التفسيرين الإرادة بمفهومها الحقيقي منفيّة عن الذات الإلهية.

والإجابة عن هذا السؤال واضح بملاحظة ما قدّمناه من التحليل في تفسير صفاته سبحانه فإنّ الصفات الكماليّة تحمل على الله سبحانه بحذف نقائصها وزوائدها لا بالمفهوم الحرفي الابتدائي الذي يتبادر إلى الأذهان مثلاً إنّا نصفه سبحانه بالحياة وإنّه حي ، ومن المعلوم أنّ ما يتبادر من الحياة هو ما نعرفه في النبات بالدفع

__________________

(١) كشف المراد ص ١٧٧.

٧٩

والجذب وانتاج المثل ، وفي الحيوان بإضافه الحس والحركة ، وفي الإنسان بزيادة التعقل والتفكر ، ومن المعلوم انّ الحياة بهذا المعنى غير قابل للحمل على الله سبحانه لكونها نقصاً.

فكما أنّ تفسير الحياة في العلوم الطبيعية بما ذكرنا لا ينافي توصيفه سبحانه بالحياة لأنّه يؤخذ منه اللبّ ويحذف القشر ، فكونه سبحانه عالما قادراً أي درّاكاً ، فعّالاً ، يكفي في توصيفه بالحياة فهكذا توصيف الإرادة بالعزم والجزم الطارئين على النفس بعد مقدمات ، لا ينافي توصيفه سبحانه بالإرادة لكن على التحليل الذي بيّنّاه وهو طرد القشر والأخذ باللب ، فبما أنّ الإرادة آية الإختيار ، والإختيار جوهر الإرادة وروحها ، فيكفي في توصيفه بالإرادة ، تفسيره بالإختيار وأين هذا من تفسير الإرادة بالعلم الذي لا صلة بينهما إلاّ على وجه بعيد ؟

فكما أنّ ما ذكر من الخصائص للحياة من الحسّ والحركة وغيرهما ليس عنصراً مقوّماً للحياة ، وإنّما هي تجلّيات لوجود عنصر الحياة في الإنسان ، فهكذا الإرادة تجلّ لوجود عنصر الاختيار في الذات ، فإذا كان ما يتجلّى به غير لائق لتوصيفه سبحانه به ، ينحصر التوصيف باللب والتجلّي بالمفهوم وهو الاختيار.

إلى هنا تمّ البحث حول المانع الأوّل وبقي الكلام في الموانع الاُخرى.

الإشكال الثاني : الروايات تعدّ الإرادة من صفات الفعل

كيف تعدّ الإرادة من صفات الذات ، مع أنّ الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام تفسّره بالإيجاد مشيرة إلى أنّها من صفات الفعل كالخالقيّة والرازقيّة.

قال المفيد : إنّ إرادة الله تعالى لأفعاله هي نفس أفعاله ، وإرادته لأفعال خلقه ، أمره بالأفعال ، وبهذا جاءت الآثار عن أئمّة الهدى من آل محمد عليهم‌السلام وهو مذهب سائر الإماميّة إلاّ من شذّ منها عن قرب ، وفارق

٨٠